"السيَّد فادي؟"، سألتهُ الفتاة، "هل أنتَ هُنَا للمقابلة؟"، قالت لهُ بابتسامةٍ مشرقة ولهجة متواضعة، وكأنَّها تتحدَّثُ إلى شخصٍ رفيعِ المقام. وكان باب المصعدِ قد انفتح لتوِّه، ولم يحصُل بعدُ على أيِّ فُرْصةٍ لمراقبة المكان من حوله والاستعداد للاستقبالات الخياليَّة الصَّعبة التي كان بانتظارها. إلا أنَّ ابتسامتها نحوهُ كانت كفيلةً بأن توقف كُلَّ أفكاره السَّخيفة عن التدفّق إلى رأسه والرّجوع إلى اللحظة الحاضرة. "أنا هو"، قال فادي، "أين أذهب؟". "من هُنَا رجاءً"، قالت له، ومن ثمَّ تبعها إلى الباب ودخل عدداً من المرَّات، وتجاوزَ الكثير من المكاتب والطاولات والجمهرات الصَّغيرة المُتحلِّقة مع أكوابٍ من القهوة والنسكافيه، وقد اعتقدَ أن هؤلاء ألقوا نحوه عِدَّة نظراتٍ مستهزئة، وأما ضحكاتهم المرتفعةُ فقد ظلَّ في حالةٍ من الشكّ فيها، فقد تبيَّن لهُ أنَّ الجزمَ بالعلاقة بينَ ضحكاتهم وبين بقعة الحبر التي على معطفه ليسَ بالسّهولة التي تخيَّلها في ذهنه سابقاً.

لم يكُن فادي قد دخل من قبلُ مقراً بهذا الحجم. وقد وجدَ المكان غريباً جداً: فكيف يوجد ما يكفي من الناس لملئ كُلِّ هذه المكاتب، وكيف يتجوَّلُ العاملون بكُلّ حُريَّة بين هذا المكان وذاك وبأيديهم القهوة والمشروبات، وكيف لهُمْ بالدردشة والضّحك مع زملائهم في هذه الزاوية وتلك وكأنَّهُم في مقهى؟ وقد انتظرَ في جزءٍ من لاوعيه أن يصمتَ هؤلاء الضَّاحِكون ويهربوا في كُلّ اتجاهٍ، عائدين إلى مكاتبهم، حالَ رؤية الفتاة التي ترافقهُ، أو أن تبدرَ منها كلمةٌ تلفتُ نظرهم إلى ما يفعلون. ومن ثمَّ ساروا بجانبهم وتابعوا طريقهم بصمتٍ، لم تتخلَّلهُ سوى أسئلةٌ من كلمتين أو ثلاثة على الأكثر، حتى بلوغهم الغرفة الزجاجية.

"ومتى تستطيعُ زوجتك أن تحظى بالرَّاحة؟"، قالت فتاة ضئيلة الحجم جلست بارتياحٍ على الأريكة، "يصعبُ عليَّ تخيّل مشاعرها. لا بُدَّ أنها تضيقُ ذرعاً منك". "إنَّها محظوظة"، قال المُتحدِّثُ السمين مقهقهاً، "فهي لم تلتقِ بي بعد". "لهذا تستطيعُ البقاء في المنزل إذاً"، قالت الفتاة، "كنتُ أتساءل عمَّن يتولَّى اصطحابَها إلى الأسواق والمراكز التجارية". "لا أفهمُ سذاجة المتزوّجين"، قال السَّمين، "لقد انتظرتُ نصف عمري كَيْ لا أحتاج لتلقِّي الطلبات والأوامر من أحد، فلماذا أبحثُ لنفسي عن شخصٍ جديدٍ يُلْقِي هذه الأوامر؟". نفثت الفتاةُ الهواء من فمها وكتَّفت ذراعَيْها حول نفسها. ارتدت معطفاً أنيقاً يدلُّ على طبقةٍ مرتاحةٍ مادياً، وكانت تبدو في بداية الثلاثينيات، ليست جميلةً تماماً وليست قبيحةً كذلك، فهي صغيرةُ السنِّ ولكنَّها خاضت ما يكفي من التجارب السَّابقة لتكون مسترخيةً حيالَ وجودها هنا، فهي -على الأرجح- موهوبة في مهنتها.

لم يُعِرْ المُتحدِّثُ السَّمينُ اهتماماً كبيراً لانزعاج الفتاة. لا زالت دفَّة الحديث في يده. ولم يكُن راغباً بإفلاتها الآن، فلا بُدَّ أنَّهُ قضى وقتاً طويلاً في هذه الغرفة الزجاجية بحيثُ أنَّه باتَ مُتعطِّشاً لأيّ فرصةٍ للثرثرة. "تخيَّلوا لو كنتُ متزوِّجاً الآن"، قال السَّمين، "هل تتوقَّعُون أن تروا مظهري هكذا؟ كنتُ سأبدأُ صباحي الجميلَ بتلقِّي محاضرةٍ عن حُسْن المظهر واللّباس. كانت ستجبرني تلك المتحذلقة على خلع سترتي الصوفية المريحة وقصِّ شعري الجميل وحَلْق لحيتي، ومعها رجولتي، لأحشرَ نفسي في بذلةٍ سوداء خانقةٍ مثل هؤلاء المُتملِّقين، ثُمَّ أتظاهرَ بأنِّي رجلٌ راقٍ يعملُ في بنكٍ أو ناطحة سحابٍ بوسط المدينة. ارحموني. أنا في بذلة؟ لم أرى هذا المشهدَ منذُ المدرسة الثانوية. بذلاتٌ سخيفة. لا عليكَ يا فتى، لم أكُن أقصِدُك. لا تنزعج منِّي هكذا". وألقى براحة يده العملاقة على كتف فادي -وكأنَّه يرغبُ بضربهِ- ومسَّد بذلتهُ السوداء الفارهة مُمازِحاً. ولم يبتسم فادي. بل كان ينظرُ من طرفِ عينهِ نحو الحاضرين الآخرين في الغرفة، امرأتان ورجل ثانٍ. لم يرتدِ أحدٌ منهُم بذلة. ولم تكُن هذه أوَّل مرَّةٍ لاحظَ فيها ذلك، وكان واثقاً أيضاً أنَّها ليست أول مرَّة يلاحظونَ ملابسهُ هوَ فيها.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Dec 03, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

المقابلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن