الفصل الخامس / اتهام

6.6K 340 185
                                    


منزل بإطلالة ريفية عتيقة بالرغم من حداثة تأسيسه، بوابة من خشب الموسكي الاصفر تفتحُ الطريق لفناء واسع يحوي حديقة بشتول حديثة الصُنع وورود بيضاء وأُخرى زهرية وصفراء على جوانب النوافذ، وبالرغم من بساطة المكان كانت المساحة وفيرة كسائر مساحات منازل الريف، أُستُثمِر جُزء منها في بناء اربعة غُرفة وصالتان ومطبخ وغُرفة مكتب صغيرة.

جلست زينات على الصوفا السوداء بداخل الصالة المطلّة على الحديقة والتقطت فنجان قهوتها لتتناولهُ بشرود بينما اختفى صوت الصغار بعد ان طلبت من الخادمة بجعلهما يأخُذان قيلولتهُما النهاريّة وبعد صمتٍ حزينٍ بينها وبين نفسها إثر هدوء المكان عادت ذاكرتها الى حياتها القديمة حيثُ كانت أُم ريفية بسيطة كعادة نساء ذاك الزمان ولكن لسوء حظّها لم تكُن مِثلهُنّ في كُلّ الصلاحيات؛ فقد كانت امرأة العُمدة عليّ الساهر الرجُل الأكثرُ تعصُّبًا في الكون.

زوجها الذي فرضتهُ عليها العادات نظرًا لكونه ابن عمّها جعلها أميرة قصره وسيّدة حياته ولكن تلك الحدود التي وضعها لها جعلت من قلبها حزينًا الى درجة القسوة، ورُغمًا عنها وكطفلةٍ صغيرة تطبّعت بطباعة واخذت منهُ صرامة الحضور وشدّة التعامُل حتى مع اقرب الأقربين ودون ان تدري وجدت انّها تصنعُ من نفسها مثالًا للجبروت حتى على فلذات اكبادها، ربّت ابنائها على ان يكونوا رجالًا منذُ طفولتهم وقتلت بداخلهم براءة الاطفال لتدفع الثمن غالِيًا جِدًّا.

قطع شرودها صوت عامر وهو يهمِسُ برفض:
- لا يا اياس، سنذهبُ وحدنا وأعدُكُم ان نستمتع سويًّا.
هتف الصغير بمشاكسة وهو يركُضُ للخارج:
- ايلول ستذهب معنا.
تأفف بانزعاج لتتسائل عن سبب خروجهم فأخبرها:
- الاطفال يُريدون الذهاب لحقول العنب ولكنهم مُصرّين على ذهاب ايلول معنا.
قبّلت حفيدتها التي يحملها ابيها وقالت مُبتسمة:
- دعها تذهب معكُم؛ الفتاة طيبة وتُحبّ ابنائك كثيرًا.
اخبرها انّهُ مُحرج من عائلتها ولا يستطيع الطلب منها ان ترافق الصغار فأقنعتهُ انّها ستذهبُ ايضًا وستدعوها بنفسها.

بعد ساعةٍ من الزمن كانت ايلول ووالدتها وعامر وزينات يجلِسون اسفل احد الاشجار الخضراء الكبيرة بينما الصغيران مع ايوان الذي يقطِفُ لهُم العنب، كانت السيدتان تتحدثان جانبًا بينما كُلّ من عامر وايلول يجلسون بذات المكان، تنظُرُ ايلول الى البعيد بشرود بينما يتسلل نسيم مطلع الشتاء الى وجهها فيُثير خُصلاتها النافرة من شالها الصوفيّ الازرق لتراقص الهواء ببراعة، ثوبها الريفي الابيض يليقُ تمامًا بها ولكن ذلك الحُزن يجعلُ منها فتاةً من ورق، فهذه ليست هي، ايلول الحقيقية مرحة، ثرثارة، مُبتسمة دائمًا، متى يا تُرى ستعودُ الى طبيعتها؟!

نظر لها ايوان بحُزن وجلس بجانبها بعد ان جلب لها عنقودًا من العنب، وضعهُ امامها واشار للصغيرين بالقدوم وكلاهُما يحملُ المزيد من العنب، وضعوه امامها وقالت ميسون ذات الثلاثة اعوام بحروفٍ مُتلعثمة:
- هيا ايلا، تناوليه؛ انه حلو كثيرًا.
لم تكُن شهيتها مفتوحة للأكل ولكنّها تناولت حبّة عنب من ميسون التي صفّقت بسعادة وعانقتها، نهض عامر مُبتعِدًا وبداخله الكثير من الحُزن فلأول مرّة منذُ زمنٍ طويل يرى ابنائهُ بهذه السعادة وهذا يعني انّهُ لم يكُن يعتني بهم بصورة جيدة او رُبما مشاعره لا تكفي لرسم البسمة على شفاههم، هل يا تُرى حديث جدّته صحيح؟! هل الاطفال يحتاجون لأُم اكثر من احتياجهم له؟

عناقيد مُرّةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن