7_لاتذهبي

5.8K 125 2
                                    

وصلا الى مركز المؤتمر في بناية دالز وقت الظهر. كان البناء ضخماً مبنياً من الحجارة الصلبة وبه العديد من الاقواس الزخرفية التي كانت سائدة في عصر النهضة. كانت هذه الاقواس متنافرة مع بقية البناء ذي الهندسة العصرية، والذي تحيط به حدائق واسعة. وكان الممر المفضي الى المدخل الرئيسي مظللاً باشجار باسقة.
منتديات ليلاس
قالت لين بدهشة:
-ما اجمل هذا المكان... موقع المؤتمر خلاب ومدهش.
حمل كريس حقيبتها وقرع الجرس في مكتب الاستعلامات. وعلى الفور حضرت شابة سألت لين عن اسمها قائلة:
-هل حجزت لطعام الغداء ظهر هذا اليوم؟ (اجابتها لين بالموافقة). حسناً. اليك مفتاح الغرفة رقم 26 يا آنسة هيوليت. هل تستطيعين نقل حقيبتك بنفسك؟
قال كريس على الفور:
-سأحملها لك يا لين لو انتظرتني دقيقة واحدة. (ونظر الى الشابة وسألها) هل استطيع ان ارى الاستاذ يونغ منظم المؤتمر؟ انا كريستوفر يورك واشترك كمحاضر في المؤتمر. سأقدم محاضرتي صباح يوم الثلاثاء. ارغب في لقائه لفترة قصيرة اذا كان موجوداً.
-اتبعني يا استاذ يورك وسأجده لك... هل هو الاستاذ يونغ في طريقه الينا.
عرفه كريس بنفسه بينما وقفت لين ترقبهما عن بعد وتود ان لا تتدخل في شؤونهما. اقترب شاب منها نظر اليها نظرة اعجاب وسألها:-هل تنتظرين احداً يا آنستي؟ هل تسمحين لي بمساعدتك في نقل حقيبتك؟ ما رقم غرفتك؟
-شكراً. انك لطيف.
بدأت لين تمشي برفقة الشاب الذي حمل حقيبتها باتجاه السلالم حين سمعت صوتاً خشناً يناديها بقساوة:
-وداعاً يا لين.
التفتت وراءها تعتذر ثم قالت:
-وداعاً يا كريس.
بدا كريس منزعجاً وهو يراقبها تبتعد برفقة هذا الشاب الغريب. نظر اليها الشاب وسألها:
-اسف. لم الحظ انكما سوية. هل هو صديقك؟
-لا. لقد تكرم وحملني معه بسيارته الى المؤتمر.
اخبرها الشاب وهما في طريقهما الى الغرفة انه يمثل مدرسة ثانوية في جنوب ميلدنلد قال انه حضر الى المؤتمر بلا مبالاة ولكن شعوره بعد ان التقاها بدأ يختلف. واضاف مبتسماً:
-اتمنى ان نلتقي في ساعات فراغنا.
وعدته لين بأن تفتش عنه ثم شكرته لمساعدته واغلقت باب غرفتها. ومشت الى النافذة لترى كريس قبل مغادرته المبنى. شعرت بكآبة عارمة تغمرها وحزن عميق يلف حناياها.
وقفت خلف الستائر ترقب خروج كريس من مبنى دالز. وبالفعل خرج ثم توقف ونظر الى اعلى يفتش عنها. بقيت دون حراك في موقفها خلف الستائر. وشاهدته وهو يمشي بعد ان خاب امله في رؤيتها. ثم دخل سيارته وانطلق بها مسرعاً.التفتت لين الى الغرفة التي ستعيش فيها ايامها القليلة المقبلة. اثاثها من الطراز الحديث والانارة في كل مكان: فوق السرير وطاولة الزينة والمغسلة. وهناك مرآة كبيرة مثبتة فوق الحائط تستطيع ان ترى فيها طولها كاملاً. وهناك راديو صغير قرب السرير ذي الفراش الناعم الوثير. استلقت لين فوقه وراقها اتساعه. تحركت فوقه يمنة ويسرى وسرت لتجربتها وقالت في نفسها: كيفما كانت نتيجة المؤتمر... ناجحة ام فاشلة... فالغرفة مريحة جداً وافضل بكثير مما توقعت.
اخرجت لين ثيابها واغراضها من حقيبتها. ثم وضعت ملابسها ورتبت نفسها ونزلت لتتناول الغداء.
حين وصلت لين الى نهاية السلالم وجدت الشاب الذي حمل لها حقيبتها يقف بانتظارها. قال وهو يصافحها بحرارة:
-اريد ان اعرفك بنفسي. اسمي جون هلويك. ما اسمك؟
-لين هيوليت.دعاها لتشاركه الطعام.
-شكراً يا جون. انا لا اعرف احداً هنا والحقيقة انني احضر اول مؤتمر في حياتي ولا اعرف صراحة ماذا افعل.
ضحكا سوية ثم قال:
-هذا هو ثاني مؤتمر احضره وعليك ان تلازمني واعدك بالمساعدة.
ثرثرا كثيراً وهما يتناولان طعامهما. ثم دخلا قاعة الاجتماعات لأن المؤتمر سيفتتح بعد قليل.
سرت برفقة جون كثيراً. لقد ابعد عنها الشعور بالوحدة بعد غياب كريس. تذكرت انها ستنتظر الساعات الطويلة قبل ان تراه من جديد. وقد وجود ساعد جون معها وثرثرته في ابعاد خواطرها المضطربة ولو لبعض الوقت عن كريس.
سر جون برفقة الحسناء الجميلة لين. وظنها حرة من اي ارتباط عاطفي مثله، فأخذ يبني بعض الآمال الوردية في خياله.
منتديات ليلاس
جلسا متقاربين في قاعة المحاضرات واستمعا الى المناقشات التي دارت، ثم تناولا طعام العشاء وقاما بنزهة بعد ذلك حول المركز استعرضا خلالها احداث المؤتمر، ما تقدم منه وما تأخر.
اخبرته لين عن همومها في مدرستها. وشرحت له محاولتها في استعمال وسائل تربوية حديثة في تعليمها، وكيف انها فشلت واجبرت على التخلي عنها بفضل العقلية الرجعية المتغلغلة في عقول زملائها الاساتذة وبعض اهالي الطلاب. ثم اخبرته بالنهاية المؤسفة حين تدخل مفتش اللغة الانكليزية (اغفلت ان تذكر له انها حضرت برفقته الى المؤتمر) وتآزر مع مدير المدرسة في حياكة مؤامرة ضدها فأجبرها على التخلي عن حلمها وحماسها.
شعرت لين انها ضخمت الحقائق اكثر مما يجب. ولكنها اسكتت ضميرها واقتنعت نفسها بانها الحقيقة...
علق جون على حديثها قائلاً:-افكارك الجديدة ممتازة. ولكنني اعتقد انك جريئة جداً في هذه المحاولة الجديدة. انت شجاعة جداً واعترف لك انه ليس باستطاعتي ان افعل مثلك...
اشفقت لين عليه، فبالرغم من كونه اكبر سناً منها الا انه قليل النضوج في اعماله وتفكيره، اذا ما قورن بكريس (وجدت لين ان كريس اصبح مثالها وهي تقارن به كل رجل تلتقيه). ان جون برأيها فتى غرير... وربما لن ينضج ابداً.
كان يوم السبت يوم محاضرات ومناقشات. وفي المساء ستقام حفلة راقصة للمشتركين. وابتهجت لين حين دعاها جون لمرافقته وقالت:
-سيساعدنا الرقص في التخلص من بعض الضجر والجمود. سننفس عن انفسنا...
-ربما ستتعجبين اذا عرفت انني احب الرقص مع انني ابدو جاداً في حياتي. لقد تعلمت الرقص لأن اصحابي الشباب يحبون الرقص وانا مسرور الآن لأنني فعلت ذلك.
رقصا سوية طوال الحفلة الساهرة. ولحظ الجميع انسجامهما وتقاربهما. كانت لين تدور في حلبة الرقص كالفراشة الطائرة وهي تفكر بيوم الغد... يوم اللقاء مع كريس من جديد...
نظر اليها جون باعجاب وقال:
-دعينا نسترح قليلاً يا لين.
امسك بيدها وقادها الى مقعد بالقرب من النافذة. وجلسا يرقبان الحديقة الجميلة حولهما. شد جون بلطف على يدها وشعرت لين برعشة وتساءلت في نفسها مذعورة: يا آلهي! كيف اخرج الآن من هذه الورطة. ربما يسيء فهم تصرفاتي وينجرف وراء احاسيس مضللة....
التفتت لين تفتش عن مخرج لائق ورأت السكرتيرة الشابة تتجه نحوها وهي تقول لها:
-لديك مكالمة هاتفية يا آنسة هيوليت. إذهبي الى المكتب.
سحبت لين يدها بلطف من بين يدي جون واعتذرت بسرعة. ركضت وقلبها يخفق بشدة. وعرفت المتكلم قبل ان تسمع صوته.
-انا لين هيوليت.
-هاللو لين. مرحباً يا لين. هل تذكرينني؟ انا الشاب الذي تكرم واحضرك الى المؤتمر بسيارته.ضحكت لين كثيراً. واكمل كريس حديثه قائلاً:
-رأيت ان اتصل بك واذكرك بموعدنا في الغد. كيف حالك يا حبيبتي؟ استساغت اسلوبه في التقرب منها ولكنها ارتبكت كثيراً وقالت:
-شكراً.
-هل تمضين وقتاً طيباً في المؤتمر؟
-نعم ولكن المؤتمر متعب للغاية ومضجر كذلك. ننتظر محاضرتك يوم الثلاثاء لتزيل عنا الضجر...
-ولكنك لا تبدين ضجرة؟
-صحيح. هذا بفضل صديق جديد تعرفت اليه وهو يساعدني في قتل الضجر والترفيه عني وقت الفراغ.
-وكيف ذلك؟ ومن هو؟
-انه الشاب الذي حمل حقيبتي يوم وصولي.
-اذكره جيداً. لقد انقض عليك كما تنقض الهرة على كرة الصوف.
ضحكت لين لدعابته ثم قالت:
-اسمه جون هلويك. انه شاب لطيف للغاية وكنا نتناقش سوية في مواضيع المحاضرات وهو رفيقي الليلة في الحفلة الراقصة....
صمت كريس قليلاً ثم عاود الحديث بانفعال وقال:
-لين... هل ترتدين لهذه الحفلة الفستان الابيض الخلاب الذي صنعته لك امك؟
-لا.
-الحمدلله...
-كريس. هل انت وحدك في المنزل؟
-نعم. والدتي خارج البيت ووالدي مسافر في رحلة عمل وانا اشعر بوحدة قاتلة يا لين.
تألمت من اجله وتمنت ان تقول له: وانا ايضاً وحيدة واشتاق اليك وافضل ان اكون قربك اكثر من اي شيء آخر. ولكنها قالت له:
-هل قابلت الآنسة كاستللا؟
-انجيلا؟ للأسف لا. انها في رحلة عمل خارج المنزل. ولقد اخبرتني والدتي انها ستعود في الغد وانا انتظر عودتها. منتديات ليلاس
-علي ان اقفل الخط يا كريس. لقد حضر جون يفتش عني.
-افهم (بدا غاضباً جداً) سأمر عليك غداً في الثانية والربع بعد الظهر. طبت مساء.
قطع كريس الخط بسرعة وقبل ان يسمع تكملة حديثها نظرت لين الى الهاتف وقالت في نفسها: لو استطيع ان اتصل به من جديد لأقول له ولو مرة واحدة انني احبه واحبه كثيراً...
مشت دون هدف وافكارها مضطربة... مشت تفتش عن رفيقها الجديد، لأنه لم يحضر ليفتش عنها كما ادعت.انتهت جلسة المؤتمر لصباح يوم الأحد. وبعد الغداء ارتدت لين بنطلوناً ازرق مع بلوزة بيضاء ولبست فوقهما سترة واقية من المطر لونها ازرق ايضاً. وانتعلت جزمة مريحة للمشي في الطرقات الجبلية.
نزلت تنتظر وصول كريس في المدخل الرئيسي للبناية وقد حملت معها حقيبة صغيرة تضم بعض الثياب التي تحتاجها. وفي تمام الثانية والربع حضر كريس وقفز السلالم في اتجاه المدخل الرئيسي. دخل فجأة ووضع يديه فوق خصرها وجذبها اليه بقوة وابتسم وهو يقول بصوت مرتفع:
-اهلاً يا حبيبتي. (نظر خلفها وكأنه مع شخص آخر)... مع السلامة.
ثم التفتت الى لين ونظر اليها قائلاً:
-هل انت جاهزة يا حبيبتي؟
حمل حقيبتها وامسك بيدها ليقودها. واستدارت لين خلفها فرأت جون هلويك يقف حزيناً محطماً كأنه لا يصدق ما يرى او يسمع.
تنهدت لين بعمق وقالت مذعورة:
-يا الهي! لقد اخبرته انك لست صديقاً.
-اعرف ذلك (كان لا يزال يبتسم مرتاحاً) لقد سمعتك.
-ولكنها الحقيقة.
-الحقيقة؟ (رماها بنظرة ساخرة ثم عاود ابتسامته التي تنم عن الرضى).
سحبت لين يدها من بين يديه وقد امتلأت مآقيها بالدموع. دخلت السيارة ونظرت خلقها من جديد تبحث عن جون كان لا يزال على حاله: حزيناً وكئيباً.
قالت:
-مسكين جون. لقد تركته محطماً.
قال كريس متهكماً:
-سيكتشف قريباً ان هناك اسماكاً كثيرة في البحر. هناك حل واحد لمشكلتك هذه: عند عودتك عليك ان تخبريه انني لست صديقك بل زوجك.
بان الغضب عليها واستدارت قائلة:
-لو لم تكن تقود السيارة لضربتك.
ضحك كريس بصوت مرتفع طويلاً وقال:
-هذا مثير. تخامرني الرغبة في ان اتوقف لأرى ماذا ستفعلين.
صرخت لين وقد انزعجت من سخريته ومزاحه. هل من المعقول ان تصبح زوجته؟ ران صمت بينهما ثم قال:
-لين؟-نعم.
-اعطيني يدك.
فاجابت طلبه دون تردد. امسك بيدها وقبلها بحنان وقال:
-اصدقاء؟
-نعم. اصدقاء.
بدأت السيارة طريق الصعود. وابتعدت عن الابنية الحجرية القديمة فبدأت تدخل الريف واراضي المستنقعات الشعبية المخضوضرة. بدأت الطريق تضيق تدريجياً وتلف وتدور في انحناءات وتعرجات عديدة. تسلقت السيارة التلال واحست لين بشعور غريب كاسح من البهجة والانشراح. كانت تعب من المناظر الخلابة حولها قائلة:
-ان المكان ساحر.
منتديات ليلاس
تنفست باطمئنان وراحة وابتسم كريس مسروراً لشعورها. سره اعجابها بجمال الريف. كانت الطريق خالية تماماً من السيارات او السكان. والماشية ترافقهما وقد انتشرت في كل مكان. وكانت حين تسمع محرك السيارة يقترب منها تفوع وتركض هاربة دون وعي. حاول كريس ان يقود السيارة بتأن فائق حتى لا يصطدم بأحد منها.
قال كريس:
-سأتوقف قريباً فوق ارض مسطحة لنرتاح.
وصلا الى قمة التلة. واوقف كريس سيارته قرب ساقية تترقرق فيها المياه الصافية وهي تنحدر فوق الحصى الناعمة. نزلا من السيارة وقالت لين:
-ارغب ان امشي حافية في مياه الساقية.
قال كريس مازحاً:
-هيا افعلي ما يحلو لك.
ولكن لين قررت ان تغسل يديها فقط. ابتسم كريس من تصرفاتها الطفولية البريئة. وحمل معه زاده وابريق الشاي وقال يخاطبها وهو يمشي قربها:
-تعالي يا صغيرتي لنصعد مشياً على الاقدام. كانا يتوقفان من حين لآخر ليرتاحا او ليمتعا نظرهما بالمناظر الخلابة في اسفل المنحدر. واخيراً وصلا الى اعلى قمة ووقفا ملياً بما يحيط بهما من جمال طبيعي خلاب. الاخضرار يلفهما من كل حدب وصوب، الطقس صاف بديع والسماء زرقاء خالية من الضباب. كانت الطبيعة في احلى زينتها وجمالها.
قالت لين وهي تتنفس ملء رئتيها والسرور يغمرها -لم اكن لأصدق ان هناك اماكن بهذا الجمال الطبيعي النادر في انكلترا. الانكليز شعب محظوظ. ولماذا يتراكضون الى الخارج لتمضية عطلهم؟ لماذا لا يحضرون الى هذه الأماكن التي تشبه الجنة؟
بدأ كريس يتناول الزاد من سلة الطعام وهو يقول:
-لا تخبري احداً يا لين ارجوك. سيختفي الجمال الطبيعي وسط ازدحام الناس واقبالهم. ربما اكون انانياً في تفكيري، ولكن جمال هذه المنطقة يكمن في كونها منعزلة وبعيدة عن متناول الناس. لنبقها على حالها قدر المستطاع.
اكلا الساندويشات وشربا الشاي الذي جلبه كريس معه، ثم تمددا فوق العشب الاخضر في استرخاء كلي. خلع كريس سترته الصوفية ولفها على شكل وسادة وضعها تحت رأس لين ثم خلع كنزته الصوفية وجعلها وسادة تحت رأسه. احست لين براحة كبيرة وغرقت في نشوة عارمة. لقد تنشقت رائحته من سترته تحت رأسها... اليست رائحة الرجل الذي تحبه...
قال كريس بلطف:
-ابقي صامتة يا لين واستمعي الى السكون من حولك. لقد اخبرتك عنه في السابق. هل تتذكرين؟ ان السكون هنا كثيف وثقيل ويمكنك ان تلمسيه. شعور لا مثيل له الا في اماكن مشابهة.
اغمضت لين عينيها وبقيت هادئة دون حراك. كانت تحس وجود الرجل الذي تحبه قربها وتسمع انفاسه العميقة وبالرغم من ذلك استطاعت ان تحس السكون يغمرها ويصل الى قلبها وعظامها وحواسها... بقيا على هذه الحال فترة من الزمن... كل منهما يتأمل...تحرك كريس اولاً وفتحت لين عينيها لتجده يحدق فيها بعد ان اسند جذعه الى ذراعه وقال:
-ما هو شعورك الآن يا لين؟
-شعور لذيذ للغاية.
-اخبريني يا لين. (مر باصبعه فوق حاجبها وعلى شفتيها الحمراوين) هناك امر يعذبني ويمزقني منذ ليلة الحفلة الموسيقية. لقد سألتك من قبل ولكنك لم تجيبي: عندما انتهيت من عزف مقطوعة بيتهوفن الموسيقية لماذا لم تصفقي لي مع الآخرين يا لين؟
استدارت نحوه والقت بكل ثقلها على جنبها وهي تبعث باصابعها في العشب الاخضر. وتمتمت كالمذهولة:
-لقد اثرت المقطوعة الموسيقية في كثيراً حتى انني بكيت بدلاً من ان اصفق. بدا لي التصفيق تدنيساً لحرمة هذه المقطوعة البديعة.
امسك كريس رأسها بلطف وجعلها تنظر اليه وقال:
-هل هذا صحيح؟ (هزت رأسها موافقة) اذن لماذا لم تخبريني ذلك من قبل؟ لماذا...
-ولماذا اخبرك؟
-يا عزيزتي الغالية لين. لقد عزفت تلك المقطوعة لك خاصة. رغبت ان اعتذر لك بها عما بدر مني من وقاحة في معاملتك. اعتذر من تصرفاتي الشائنة معك في غرفة الموسيقى... وحين لم تصفقي لي اعتبرت انك ترفضين قبول اعتذاري.
-حتماً لم اكن لأرفض اعتذارك... ولم اعن ذلك مطلقاً يا كريس. مر بأنامله فوق شفتيها بسرعة ثم نهض واقفاً وقال: منتديات ليلاس
-عندما نصل مساء لزيارة والدتي ارجوك ان لا تتعجبي من ردة فعلها وهي تتعرف اليك. لقد اخبرتها انك معلمة مدرسة تكرسين وقتك لعملك، وقد تخليت عن قسم من عطلتك لتحضري مؤتمراً تربوياً يفيدك في مهنتك. انها تنتظر امرأة متوسطة العمر ممتلئة الجسم، محتشمة اللباس وناضجة التصرف. ويسرني ان ارى خيبة املها حين تقابلك.
سرت لين لمزاحه وقالت:
-وانا ايضاً اخبرت والدي انك مفتش في وزارة التربية. وهذا يجعلك في عمر قريب من سن التقاعد. انهما لم يعارضا سفري برفقتك...ضحكا طويلاً ثم سألته لين:
-كريس. عم ستتكلم في المؤتمر؟
-انه سر. عليك ان تنتظري يوم الثلاثاء.
-وجود المؤتمر في مكان خلاب يساعد الحاضرين كثيراً. كلما ضجرتمن سماع المحاضرات انظر عبر النافذة وامتع ناظري بجمال الطبيعة الخلاب. ولقد حفظت هذه المناظر جيداً.
نظر كريس اليها نظرة عاتبة ساخرة وقال:
-اياك ان تنظري عبر النافذة يوم الثلاثاء وانا القي محاضرتي. وان ضبطتك تفعلين ذلك سأقتص منك على انفراد... بالمناسبة سأصحبك يوم الثلاثاء معي في طريق العودة الى الجنوب. ابتسمت لين واحمر وجهها خجلاً وقالت:
-هذا صحيح. انا لم افكر ابداً بطريق العودة.
-سآخذك الى اي مكان تريدين وعن اي طريق ترغبين. مفهوم؟ سأتناول طعام الغداء مع بعض المحاضرين الكرام ولن استطيع ان اتناول طعامي برفقتك يا حبيبتي كما كنت افضل. ولكنني سألقاك في المدخل الرئيسي فور انتهاء الغداء. سنذهب دون توقف في طريق العودة.
ابتسمت لين من جديد وقالت:
-سأفكر بالأمر وسأعلمك قراري فيما بعد. ربما افضل العودة وحدي في القطار.
قال حانقاً:
-اذا كنت تحاولين اثارة غضبي يا فتاة فلقد نجحت حتماً.
انحنى فوقها وعانقها بحنان لفترة طويلة. لقد توقف الزمن حولهما. تذكرت في تلك اللحظة انه ليس ملكاً لها، وحاولت ان تتراجع وتبتعد عنه وتفلت من عناقه. احس بحركتها وعلى الفور تراجع وهو يتمتم:
-اعذريني يا لين. انني آسف يا حبيبتي. ارجوك ان تعذريني.
ولماذا يطلب الصفح عن تلك اللحظات من النشوة؟ عناقه لها حطم كل مقاومة عندها. انها تحبه دون قيد او شرط. لقد امتلكها الى الأبد. لن يكون بينه وبينها اي حاجز.
احست لين انه يبعدها قسراً، وانه يحاول بناء الحاجز بنفسه. استغربت الوضع. احتارت. ماذاتفعل؟بدأت تستعيد في ذاكرتها تفاصيل جلستهما معاً في الريف. انها غبية جداً. لقد احبت رجلاً يعتبرها رمزاً للجاذبية. انها مغرية وهو يشتهيها كاللقمة السائغة. كما وانه يرتبط بفتاة غيرها ولكن بعض الاسباب الخاصة تمنعه من تأكيد علاقته او ارتباطه بها. وهي ايضاً ترتبط بكين. علاقتهما به تختلف كلياً عما يظن الآخرون. انه صديق. وهي واثقة الآن من عواطفها نحوه. انها لا تحبه ولن تتزوج منه ابداً ومهما حصل.
احس كريس بشرودها. بقي في مكانه وابتسم. وامسك بيديها فقبلهما بلطف واعتذار وهو يقول:
-علينا ان نعود الآن.
منتديات ليلاس
نهضا. لبس كنزته وسترته وحمل الزاد وابريق الشاي في سلة الطعام وتمتم كمن يكلم نفسه:
-يجب ان ارى انجيلا هذه الليلة.
احست لين ان انجيلا دائماً تقف حائلاً بينهما. حتى الآن وبعد هذه اللحظات العارمة من النشوة. افكاره وآماله مرتبطة بانجيلا. حزنت لين ووبخت نفسها لقبولها دعوته. كان عليها ان تتوقع مثل هذه النتائج قبل خروجها معه.
نزلا التلة مشياً وهما صامتان. وحين اقتربا من السيارة قالت له لين بخجل:
-كريس. هل لديك مانع في ان اغير ثيابي داخل السيارة قبل عودتنا؟ لا استطيع ان ازور والدتك بهذه الثياب.
نظر اليها كريس وابتسم قائلاً:
-ولكنك جميلة للغاية. ولكن لا بأس من ذلك اذا رغبت. سأتجول بعيداً حتى تنتهي من تبديل ثيابك.
وبسرعة فائقة استبدلت لين ثيابها وارتدت التايور الازرق والبلوزرة البيضاء قبل ان يعود كريس من جولته القصيرة. حمل حقيبة ثيابها الصغيرة ووضعها في مؤخرة السيارة. وانطلقت بهما من جديد في طريق العودة الى المدينة.كان الحديث متقطعاً بينهما في طريق العودة. شعور بالتشنج اخذ يلفهما م جديد. وقبل ان يصلا الى المنزل العائلي تكلم كريس:
-تهللي يا لين. لماذا العبوس؟ الم اعتذر لك عن تصرفاتي الشائنة؟
هزت لين رأسها علامة النفي:
-ليس الأمر كما تظن.
-وما الأمر اذن يا اعز مخلوق عندي؟ الا تستطيعين اخباري؟
فهزت لين رأسها من جديد.
واخيراً وصلا الى مدخل منزل العائلة. انه منزل حديث البناء يقع فوق مستوى الطريق العام وتحيط به الحدائق الغناء.
نظرت لين الى المنزل من الخارج بينما كان كريس يقفل سيارته. قالت:
-المنزل حجري مع انه حديث البناء.
-البناء الحجري في هذه المناطق الشمالية يحمي من البرودة القارسة في فصل الشتاء.
ثم امسك كريس بيدها وقادها الى الداخل قائلاً:
-تعالي. سأعرفك بوالدتي.
فتح الباب الخارجي ودخل واياها الى القاعة وصرخ:
-اماه. لقد وصلنا.
وعلى الفور ظهرت والدته. وجهها مستدير صغير وشعرها ومادي، في الخمسينات من عمرها وتلبس الثياب السوداء لتخفي امتلاء جسمها.
عيناها حادتان كعيني كريس ولها ابتسامة ساحرة. وتقلصت ابتسامتها قليلاً وهي ترى لين لأول مرة.
-انت الآنسة هيوليت.
لاحظت الوالدة تماسك ايديهما. وتفحصت وجه لين جيداً ثم التفتت الى ابنها وقالت باستغراب:
-وصفك لها يا بني لم يكن دقيقاً!
شد كريس على يد لين برفق ثم تبادلا نظرات فرحة. مدت الوالدة يدها ترحب بها قائلة:
-يسرني لقاؤك يا آنسة هيوليت. ادخلي. هل استطيع ان اناديك لين؟
دخل الجميع الى قاعة الجلوس. ونظرت لين حولها قائلة:
-ما اجمل هذه الغرفة.
-نعم انها مريحة يا صغيرتي. الشمس تدخلها معظم ساعات النهار ونوافذها الكبيرة تطل على الحديقة الجميلة. اجلسي يا لين. قولي لي، هل استمتعتما بالرحلة؟
قال كريس
-نعم يا اماه. ونشكرك على الزاد والشاي.
جلست لين على طرف كرسي وقد بدت قلقة مرتبكة في حضور والدته.
-اشكرك يا سيدة يورك على دعوتك للعشاء.
-لا حاجة للشكر (ونظرت الى كريس) لقد اتصلت بانجيلا البارحة في غيابك ودعوتها لتناول العشاء معنا. هل يسرك حضورها؟
-نعم يا اماه. انني مسرور للغاية. واخيراً عادت. هل لديك علم كم سيطول بقاؤها هنا؟
-ستبقى بضعة اسابيع لترتاح قليلاً قبل ان تعاود ترحالها. ستراها كثيراً قبل عودتك الى الجنوب.
-نعم ولكنني سأعود الثلاثاء يا اماه. لن ابقى طويلاً هذه المرة. وستعود لين برفقتي. اليس كذلك يا لين؟
نظر كريس الى لين مستطلعاً وكان عليها ان تهز رأسها موافقة.
بدأت تشعر بانقباض وعدم حبور لوجود انجيلا معهم على مائدة العشاء. لقد بدا كريس تواقاً لرؤيتها والاجتماع بها وظهر الحبور على وجهه واضحاً. التفتت لين حولها تتشاغل بالنظر الى محتويات غرفة الجلوس، واحس كريس بنظراتها التائهة فقال:
-تعالي اريك البيانو الذي يخصني. انه فرحتي وفخري.
منتديات ليلاس
مشت لين بصحبته ناحية البيانو الكبير. كان لونه ابيض ويحمل ماركة احد مشاهير الصناع. مر كريس باصابعه فوقه فخرجت بعض الانغام الجميلة.
قالت لين:
-صوته بديع.
فقال كريس:
-عندما انشئ منزلاً لي سأجلبه الى الجنوب.
وقالت الوالدة:
-ااي عندما عندما يتزوج. ارجو ان لايكون ذلك بعيداً. اليس كذلك يا كريس؟
-نعم يا اماه. سيكون قريباً باذن الله.
كان صوته هادئاً وشعرت لين انه لا يرغب بالخوض في التفاصيل. نظرت حولها من جديد ولفتت نظرها صورة لانجيلا في اطار جميل. قالت السيدة يورك تعلق:
-انها فتاة جميلة. لقد عرفناها وعرفنا والديها منذ سنين عديدة.
بدت والدة كريس مرتاحة لكون انجيلا زوجة المستقبل لابنها الوحيد. ونظرت السيدة يورك الى ساعتها واعتذرت منهما قائلة:
-اعذراني. علي ان ادخل المطبخ قليلاً لاهيء الطعام.
بقي كريس ولين وحدهما في غرفة الجلوس. جلس كريس فوق مقعد البيانو وخاطبها قائلاً:
-تعالي يا لين واجلسي قربي.
فسارت نحوه دون اعتراض.
قال وهو ينظر اليها بحنان ومحبة واضحة:
-استمعي يا لين الى هذه المقطوعة الموسيقية.
وبدأ يعزف لها. راقبت اصابعه ترقص بلطف وبمهارة وتخرج اجمل الألحان واعذبها. اثرت فيها الألحان وسحرتها كلياً.
-سأخبرك يا لين عن هذه المقطوعة.
امسك بيدها بين يديه واضاف:
-انها اغنية جديدة مؤلفها من القرن العشرين ويدعى ريتشارد هاغمان. كلماتها للشاعر الهندي الشهير طاغور هل سمعت عنه؟هزت لين رأسها موافقة.
-اسمعي اذن كلمات الأغنية وقد ملأت عقلي وحواسي في المدة الاخيرة.
تقول الأغنية:
لا تذهبي يا حبيبتي دون ان تخبريني
لقد سهرت الليل بطوله
والآن ثقلت جفوني بالنعاس
واخشى ان افتقدك ان غفوت
لا تذهبي يا حبيبتي دون ان تخبريني
اصحو وامد يدي لألمسك
واسأل نفسي: هل انا احلم؟
هل استطيع ان اضع قلبي تحت قدميك
واضمها بقوة الى صدري؟
لا تذهبي يا حبيبتي دون ان تخبريني.
نظر كريس اليها وتمتم قائلاً من جديد ومردداً كلمات الأغنية:
-لا تذهبي يا حبيبتي دون ان تخبريني.
وبينما هما على هذه الحال شعرت لين بخيط رفيع من الدمع ينساب على وجنتيها من رقة وعذوبة كلماته وحنان صوته. لف يديه حول وجهها ولكنها ابتعدت عنه برفق وحذر وهربت الى النافذة. قال:
-لين! هل ترغبين ان اريك المنزل؟
-لا بأس. اذا كنت تريد ذلك.
صعدا السلالم سوية ثم قال:
-تعالي اريك غرفتي اولاً. انها ليست مثالية الترتيب.
دخلا الغرفة واحست لين كأنها تعرفت الى نفسية كريس الباطنية. الكتب موجودة بكثرة وفي كل زاوية. كنب في الموسيقى وكتب في اللغة الانكليزية. مقالات وأوراق نوتة مبعثرة فوق الرفوف وعلى المكتب. ورأت صورة له مع انجيلا قرب مخدعه. كان يجلس امام البيانو الكبير بينما وقفت انجيلا في فستان للسهرة بكل اناقة ورشاقة. قال:
-اخذت هذه الصورة منذ سنين عديدة. كلانا قد كبر الآن. كنت ارافقها على البيانو عندما تغني. لقد درسنا معاً في كلية الموسيقى.
اينما ذهبت لين تصطدم بهذه المرأة. تأثيرها كبير في حياة كريس وتفكيره. ما هو دورها؟
واخيراً وصلا الى غرفة الضيوف الكبيرة. اقتربت لين من النافذة لتتفحص الحديقة الخلابة والمناظر البديعة التي تشرف على المنحدرات والتلال ومنظر الريف والسبائخ. وسمعت صوت محرك السيارة تدخل المدخل الرئيسي بسرعة هادرة. قال كريس:
-انها انجيلا... لقد وصلت اخيراً.
وقفز على السلالم بسرعة وقد نسي لين وراءه في غرفة الضيوف.

كيف ينتهي الحلم  الكاتبة: ليليان بيكWhere stories live. Discover now