الفصل الرابع

32.2K 728 14
                                    

الفصل الرابع
**********

وقف بكل وقار يستقبل خطيبته ووالدها و لأول مرة يشعر بالخجل من تصرفات طفله الطائش
فمدّ أياد يده بترحيب : مش عارف أشكرك إزاي يا عبدالرحيم باشا علي قبولك لإعتذاري وضيافتي.
ليبتسم عبدالرحيم بمجاملة قد اكتسبها من سنين خبرته، وتقترب سالي بدورها قائلة بود قد تصنعته بصعوبه: سليم طفل صغير يا أياد، ولا إيه يا بابا؟
وتعود الابتسامه إلي وجه عبدالرحيم وهو يشك في حديث ابنته التي كانت تُقلب الدنيا قياماً قبل مجيئهم ولولا معرفتها بأحتياجهم لأموال أياد ومساندته حين تتزوجه لكانت حرقت كل شيء بنيران غضبها... فذلك الطفل اللعين قد دمر حفلتها وجعلها أضحوكة في أعين الجميع.
وألتفت بعينيها يميناً ويساراً قائلة بأمل أن يكون ذلك الطفل قد رحل لاي مكان: هو فين سليم حبيبي يا أياد؟
ليُطالعها أياد بسعادة ظناً منه أن سالي تفهمت طفله و أحبته: سليم مُعاقب في أوضته.
فظهرت علامة السرور علي وجه سالي فلم تُلاحظها غير حُسنيه التي وقفت بعيداً تُتابع الحديث بصمت.
...............................................................
تأملت ليلي ذلك الفستان بسعاده، وهي لا تُصدق بأنها أخيرا حصلت علي ثوب جديد ضمن أفراد خدم ذلك البيت.
ليقترب منها ياسين بعدما لاحظ إنشغال باقي الخدم بهداياهم ليتفرس جسدها بوقاحة لم تُلاحظها يوما، فكل ما تظنه أن هذا الرجل يحمل قلبا رحيماً علي الفقراء عكس زوجته المُتكبرة سليطة اللسان، لتنتبه ليلي له قائله بأمتنان: شكرا يا ياسين بيه.
ليتأملها ياسين بأبتسامة خبيثة لم تفهمها بعد: ده حقكم علينا يا ليلى، المهم الفستان يكون عجبك... ثم تابع قائلا: أنا واثق إنه هيكون عليكي...
ويبتر عبارته الوقحة عند دخول والده بهيبته المُعتادة مُستغربا من مُبادرة ولده... فياسين يقف وسط الخدم وفي المطبخ أيضا ويعطيهم الملابس.
وأقترب ياسين من والده بأحترام .. ليتنحنح الحج ناجي بخشونة فأنتبه الجميع لوجوده... وتتعالا أصوات الشكر والإمتنان له داعين الله بأن يرزق ولده ياسين الذرية الصالحة.
..................................................................
وقف للحظات يتأمل نظرات صديقه الهائمة في تلك السكرتيرة وهو يُمليها بعض المُلاحظات، فلمعت عيناه بشده وهو يري بريق حبهم المخفي عن الجميع ولكن هو لا بد أن يكشفه .. فحاتم الريان المُتخفي تحت قناع الطيبة والرحمة ليس إلا صائد فتيات...
فأنتبه طارق لوجوده، أمراً سكرتيرته بالإنصراف سريعا.
ليبتسم حاتم مُعلقا: بس البنت حلوه.
ثم اتجه ناحية إحدى الأرائك وجلس عليها واضعا ساق فوق أخرى و أخرج سيجارته من علبتها الأنيقة.
ليتكلم طارق بتوتر: قصدك إيه يا حاتم
فضحك حاتم بخبث وهو يري نيران الغضب علي وجه صديقه، وكاد طارق أن يعلق على حديثه... ولكن أبتسم حاتم سريعاً مُغيرا الموضوع: أخبار الشغل إيه يا صاحبي
.................................................................
أخذ ينفث دخان سيجارته وهو يُفكر في تلك الفتاه التي قد أطاحت بعقله بجمالها الهادئ وعيونها ال التي تمزج بين لوني العسلي والاخضر... ليقطع شروده اقتراب زوجته تتلمس بيديها صدره العاري لينتفض جسده فزعاً على أثر لمستها ونظر الي هيئتها طويلا ثم تسائل: مالك يا هبه فيكي حاجه
لتُطالعه بغرابه وهي لا تعلم كيف ترضيه، فهي تفعل كل ما يطلبه منها...يريدها أنثي مغرية دوماً تتفنن في إظهار جمالها..... وتتأمل معالم وجهه الجامدة: إنت لسه زعلان مني يا هاشم .. أنا عارفه إن طلبات أهلي كتير بس غصب عني....
ليقطع هاشم استرسالها في الحديث الذي اصبح محور حياتهم دوما .. فهي تعتذر عن أفعال والديها .. ثم تعود تطلب منه كما يأمروها..فهو لا يكره أن يُدفق عليها الأموال هي وعائلتها ولكن ما أصبح يكرهه أن زوجته أصبحت لا تختم أي لحظه حب بينهم أو علاقة حميمة ألا بطلب لأهلها وكأنها تُرضيه لتأخذ منه ما تُريد.
هاشم : هبه أنا تعبان وعايز أنام .. إطفي النور
تصبحي علي خير.
ودون أن ينتظر نقاش منها، أعطاها ظهره وهو يُفكر في اللعبة التي أغرته... ويريد أن يتسلي بها فكيف سيترك لعبته بعدما أصبحت تحت رحمته.
...................................................................
ظل زين يدور وسط عُماله، وهو يري نظرات الخوف من أعينهم بسبب قدومه المفاجئ .. ليتذكر تلك النظره التي كانت دائما تحتل عينيه عندما كان مثلهم عامل.
ووقف فجأة يتأمل السيارات من حوله، حتي لفت نظره شاب يغمره الشحم ومازال مُنبطح علي ظهره أرضاً، فعاد به شريط ذكرياته عندما سافر الي ألمانيا وسط الكثير من الشباب علي إحدى المراكب الغير شرعيه... ليأخذ البحر أناساً لا ذنب لهم سوي أنهم هربوا من الفقر ليسقطوا في حفرة الموت .. ليتبقي منهم ثلاثون فردا من مائتي وكان هو من بينهم هارباً من حياته القديمه باحثا عن حياه أخرى ...
ويعود من ذكرياته على صوت مُدير مصنعه الذي ظل مسترسلا في الحديث يحثه علي أن يُلقي نظرة علي القسم الأخر من السيارات التي أعُدت هيكلتها بأحدث التقنيات.
.................................................................
أخذ حاتم يرتشف من مشروبه الكحولي والعرق يتناثر علي وجهه بغزاره وهو يُشاهد أجساد الفتيات التي عراهم بالكامل كي يُشبع رغبته في رؤيتهم هكذا... لينتهي ذلك المقطع... فيبحث عن أسطوانة أخري كي يُشاهد برغبة لا تُخمد.
ليقاطعه رنين هاتفه لينظر للمتصل قليلا قبل أن يُجيبه متسائلا: إمتى هنكمل فتح المقبره؟
..................................................................
يومان بأكملهم لم يسمع لصغيره صوتاً .. فمنذ أن عاقبه وأخبره بتخليه عنه وتركه في مدرسة داخليه... وصغيره أصبح منعزلا تماماً وهادئ وكأنه ليس سليم ابنه الذي يعلم مدي شقاوته و حركاته.
ليسير ناحية غرفة صغيره وهو لا يعلم كيف صدقه بأنه سوف يتركه .. ويمسك مقبض الباب ويفتحه وهو يهتف: إبني الحلو بيعمل إيه؟
فرفع سليم وجهه عن رسوماته ، وترك قلم التلوين سريعا .. واتجه نحو فراشه الصغير ليتمدد عليه ثم غطي نفسه وكأنه يرفض قدوم والده.
فأقترب منه أياد قائلا بأسي: زعلان مني عشان بعاقبك، طب ليه أنا مش بزعل لما بتتشاقى؟
فرمى سليم الغطاء و نظر لوالده بألم... ليكمل أياد بحنان: تعرف أنا بحبك أد إيه.
ليُحرك سليم رأسه مُعترضاً: إنت مش بتحبني، ماما لو كانت عايشه كانت هتحبني أكتر منك... إنت هتجبلي واحدة تضربني وتخليني أنام علي الأرض.
فأنصدم أياد من حديث طفله فيما تابع هو مُعلنا: أنا مش بحبك يا بابا.
فحل الصمت بينهم للحظات، وأياد لا يعرف كيف لأبنه أن يكرهه لتلك الدرجة... ليسرد سليم قائلا: الست اللي في التليفزيون كانت بتحرق رجل الولد كل يوم عشان مش بيسمع كلامها، وباباه مكنش بيقول حاجه كان بيسيبها تضربه وكان هو كمان بيضربه.
فكست الدهشة وجهه وهو لا يُصدق بأن صغيره، أصبح يُشاهد تلك المسلسلات التي تحكي عن تعذيب زوجة الأب!
لكنه سريعا ما نظر لصغيره وهو يُتمتم: سالي وحشه ومش بتحبني!
.................................................................
مُنذ وفاة والدها من أسبوعاً وهي كل يوم تقف أمام تلك النتيجة الورقيه تنظر الي التاريخ الذي يُخبرها بأن وقت خروجهم من ذلك البيت الذي أواهم لسنين قد حان.
وتسمع صوت والدتها البائس: مش هتنزلي شغلك ياحنين؟
فتُطالع هي ساعة يدها البسيطة لتري بأن وقت خروجها قد أتي، وأن توبيخ مُديرها لم تعد تتحمله وحتي تفكيرها في ترك تلك الوظيفه كما كانت تفكر من قبل اصبح مُستحيلا، فهي ووالدتها لم يعد ليديهم سوي راتبها ..حتي وظيفة والدها اكتشفت بأنهم قد فصلوه عن عمله في يوم سقوطه علي أرض أحد المواني التي يعمل بها كموظف جمركي، لتتنهد بعمق وهي تُقبل يد والدتها المسكينة: ادعيلي يا ماما
فتتابعها دعوات والدتها التي لم يعد بمقدورها سوى الدعاء بأن يستر الله ابنتها قبل أن تترك الدنيا راحلة إلي أحبابها.
...................................................................
وقفت بجانبه بسعاده وهي تري الأضواء مسلطه عليهم .. من كل مكان
وكيف لا تُصوب عليهم الأضوء وهي زوجة لرجلا تتمناه الكثير
ليقترب منهم أحدهم وهو يرحب بهم : اهلا بزين باشا نورت الحفله
فيبتسم اليه زين بأبتسامة مُجامله ويلتف الي زوجته التي تعبث بخصلات شعرها ..فيٌحاوطها بيده من خصرها بتملك
لتبتسم اليه بهدوء .. وهي تعلم ان كل هذا التملك والحب لا يحدث سوي في عالمهم الخارجي
فزين لم ولن يُحبها يوم رغم عشقها له
.....................................................................
أخذت تبحث كالمجنونة بين طيات ملابسها عن راتبها الذي أخذته اليوم، لتُحرك رأسها بيأس وهي تعلم أنها لم تضعه سوي في محفظتها الصغيرة... لتعود لمحفظتها التي نفضتها عشرات المرات بيأس ورغم أنها لا تستحق كل هذا فكيف لمحفظه مثلها أن تبتلع خمسمائة جنيهاً لتسمع صوت أخيها صائحا: فين الفلوس يا ليلي؟
فألتفت نحوه بخوف، ونظرات أمها تُراقبها بلا حول و لا قوة لتتنهد الأم بأسى: ربنا يعوض علينا يا بنتي.
ليدلف محمود إليهم وعيونه تتأمل الغرفه التي لا تُدل إلا علي الفقر،مُزمجرا بغضب: ضيعتي الفلوس يا فالحه؟
وجذبها سريعاً من حجابها ليجرح ذلك الدبوس اللعين عنقها... وصفعة تلو الأخرى إلى أن سقطت تحت قدميه متوسلة: ارحمني يا محمود حرام عليك، ضاعوا غصب عني....
بينما تُطالعهم والدتهم بيأس وهي غير قادرة بأن تُحرك جسدها، لتنهمر دموعها وهي تصرخ بدعاء لأول مرة: ربنا ينتقم منك يا محمود، سيب أختك حرام عليك.
فنفض بذراعيه دون رحمة تلك المسكينة، وصار ناحية والدته ليصرخ بها: بتدعي عليا يا ست إنتي، وجذبها من ذراعها دون رحمه... ومن ثم جرها من فراشها أرضاً... لتشهق ليلي بضعف وهي تري والدتها المشلوله مُنبطحه أرضاً لا تقوي علي الحركه وأخيها يُطالعهما وكأنه شيطاناً قد تلبسه.
...................................................................
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}
عندما توفق الشيخ الذي يقف بجواره أمام قبر زوجته عن تلاوة بعض الأيات التي تطيب بها النفس.
اقترب منه أياد و أخرج بعض الأموال من جيب سُترته .. ليشكره، فأنصرف الشيخ سريعا داعياً الله له بالصبر.
ليُحرر أخيراً دموعه وهو يتأمل قبر زوجته: وحشتيني أوي يا سلوى.
وتعصف به رياح الماضي ويتذكر أول لقاء بينهما... فقد كان في العاصمة البرازيليه يُنهي بعض أعماله وهي كانت تتجول في شوارع المدينة بدراجتها .. ليجمعهم القدر بذلك الصدام الذي حدث بين سيارته ودراجتها وأدي لكسر أحدي ذراعيها .. وتبدأ من هناك قصة حبهم. فحبيبته كانت مثله والديها توفيا في صغرها، وتعيش معا خالها المُغترب مُنذ سنين طويلة......
ليفيق من شروده قائلا بحنين : أنا وسليم بقينا محاتجينك أووي .. وتابع حديثه الذي يخنقه: متزعليش مني يا سلوي عشان فكرت أتجوز سالي، سليم بقي محتاج لأم تراعيه!
...................................................................
كان يقف يتطلع بعينيه للاسفل حيث الساحة الواسعة المُهيأة لاستراحة موظفيه، ورغم أنه لا يأتي إلي مقر شركته هذه غير يومان في الأسبوع يطمئن فيهم علي سير العمل،فهو يُحب أن يتواجد في مصانع تصليح السيارات التي يعشقها وكانت سببا في نجاحه... ليتأمل ملامح تلك الجالسة بشرود وترتدي ملابس سوداء دون قصد منه كما أصبح يفعل في الأوان الأخيرة حين يأتي هنا.
لينتبه علي صوت أحدهم يُحدثه: زين بيه ..في عقود محتاجه تتمضي من حضرتك.
فنزع زين يديه من جيب بنطاله و ألتف ليتأمل الملف الذي ينتظر إمضاءه...
في تلك اللحظة رفعت حنين وجهها لأعلي تتأمل كل ركن من أركان ذلك المكان وهي تُفكر في حالها... وموعد تركها لشقتهم وأيضا الأموال التي مضت عليها بشيك من أجل التسديد كما وصاها والدها...
قطع شرودها صديقتها : بيقولوا صاحب الشركة هنا، وأشارت بأصبعها للأعلى حيث يقف شخص لا يظهر منه سوي ظهره العريض وتابعت بدعابة: يا سلام يا بت يا حنين لو أتجوز واحد زيه .. ده الحظ يبقي لعب ليا.
فأبتسمت حنين بصعوبة لدعابة صديقتها المحببة لقلبها... لتُكمل صديقتها المرحة التي تُدعي خديجة: أيوه كده خلي الشمس تنور، افتحي شبابيك الأمل ياشيخة.
فطالعتها حنين بألم، لتعود و تخفض رأسها أرضا وهي لا تقوي أن تُسيطر علي دموعها التي تخفيها عن والدتها: أنا تعبانة أووي يا خديجة.
ليعود بعينيه في تلك اللحظة إلى القابعة أمام مشروبها الساخن وقد أنضمت اليها رفيقتها... فتأملها للحظات وهو يُتمتم: إنت إيه اللي بتعمله ده يا زين
ويسرع بخطاه بعيدا عن ذلك المكان .. مغادرا الشركة بأكملها.

و سقطت الاقنعة .(سهام صادق)Where stories live. Discover now