الفصل الرابع :
عــــادت إيلي إلى مكتبتها ، وأوصدت الباب من خلفها وهي تبكي بحرقة ومرارة قاسية ، ثم إنهارت بجسدها ، وجلست على ركبتيها على الأرضية الخشبية القديمة وهي تشهق عالياً من الآسى والحزن المرير .. لقد عاتبت إيلي قلبها بقسوة ، قلبها الذي ضعف وأحب من لم يكن لها يوماً ، قلبها الذي ظن أن الحب لا يعرف الفوارق ، قلبها الذي كان يؤمن بحلاوة الحب إلى أن تذوق عذابه وقسوته .. واليوم تعلمت درساً موجعاً ، لن يُمحى من عقلها أبداً .. لقد تعلمت أنه لا وجود للحب إلا في الروايات ..
بكت إيلي كما لم تبكي من قبل ، وتعالت شهقاتها لتخترق ذلك الصمت القاتل في أرجــاء مكتبتها العتيقة ، ثم نظرت بعينيها الدامعتين حول ، فكل ركن من أركــــان تلك المكتبة يُذكرها به ، فهنا جلسا سوياً ، وهنا تشاركا الحديث ، وهناك داعبها بمعسول الكلام ، وهنا تغزل في حسنها الآخـــاذ .. لقد سكنت روحه هذا المكان ، وأصبح جزءاً لا يتجزأ منه ، فإزداد نحيبها ، واغرورقت عينيها أكثر بالدموع ، بلى ، لقد أدركت أنها لن تتحمل التواجد مع ذكريات من أحبت بمفردها هنا ، وهو بصحبة غيرها ، فتراه يضمها إلى صدره ، ويحاوطها بذراعيه ، ويداعبها بكلماته العذبة كما داعبها من قبل ، ثم يتغزل في جمالها الذي خطف الألباب .. لقد إنهار كل شيء فجـــأة أمام عينيها ، وتبخرت أحلامها ، وتحطمت قصورها الوردية ، وانتهت حياتها مع طرفة عين ، لقد أصبحت المكتبة التي طالما احتوتها وأعطتها الدفء والحيوية في أشد الليالي قسوة باردة ، كئيبة ، تخنقها أكثر كلما تنفست ...
أطرقت إيلي رأسها في آسى .. ثم نظرت إلى يدها القابضة على المفكرة ، وتسمرت في مكانها للحظة تفكر في أمــر أخير ، ثم نهضت فجأة عن الأرضية ، وسارت بخطوات متعثرة ناحية الدرج ، حيث يوجد المكتب الجانبي الصغير ، وبحثت بعينها عن أحد الأقلام ، فوجدت قلماً موضوعاً بأحد الأدراج ، فأمسكت به ، ثم فتحت أخــر صفحة في مفكرتها ، وسطرت فيها بدموع مريرة خاطرتها الأخيرة قبل أن تترك هذا المكان للأبد ..
(( لم يعدْ لي مكان في حياته
فبرغم كل شيء أثرت الرحيل والنسيان ،
وأنا وحدي من سأعاني مرارة الفراق ،
ولوعة الاشتياق ،
فهكذا كنت في حياته ،
صفراً على اليسار ،
وحبي له ليس إلا حلم صعب المنــال ،
فأنا لم أكن له يوماً ،
وليس لي في حياته مكان .. ))
انهمرت مع كل كلمة تسطرها إيلي عبرات حارة ، فامتزج الحبر بالعبرات ، وتشوهت الكلمات كما تشوهت روحها النقية .. ثم أغلقت إيلي مفكرتها ، ونظرت إليها مرة أخيرة قبل أن تضعها على سطح المكتب ، وتبتعد بخطوات منكسرة - تاركة إياها على ذلك المكتب القديم – ثم توجهت إلى الدرج القريب منه ، وصعدت عليه لتتجه إلى غرفتها ، حيث بحثت عن حقيبة سفرها القديمة ، وقامت بجمع بعض من ثيابها على عجالة ، ودستهم بعدم اكتراث فيها ، ثم أغلقتها وتوجهت عائدة إلى الطابق السفلي ..
أنت تقرأ
كتاب الحب - قيثارة القيصر
Romanceنشرت تلك القصة القصيرة ضمن مجموعة قصصية تحت عنوان ( قيثارة القيصر ) الجزء الأول .. في جروب ريفيو ننقد لنرتقي .. ---------------------------------- القصة قائمة على تخيل لأحداث تقع ضمن قصيدة ما .. وقع اختياري حينها على قصيدة كتاب الحب لنزار قباني...