لا يستحق

10.3K 221 1
                                    


غابرييل قادر على إفقادها سيطرتها على نفسها, وعلى مشاعرها. هذا ما اكتشفته, وقد صعقها الأمر.
لاحظ غابرييل تبدل المشاعر على وجهها, فهي لم تستعد بعد رباطة جأشها؛ لذا ظهرت مشاعرها جلية على وجهها.
حاول تفسير ما بدا على وجهها, ولا حظ بأنها تتقوقع تدريجيا على نفسها وتبعده عنها, فشتم في سره.
ابتعدت ريانون عنه تسوي شعرها.
قال وهو يحاول منع نفسه من ضمها مجددا بين ذراعيه:" لا, لا تهربي مني مجددا. لا تحلي هذه المسألة كما حللت مشاكلك السابقة. . . بالهرب!".
رفعت ريانون ذقنها إلى الأعلى:" أنا لا أهرب".
لم تكن تهرب جسديا بل فكريا. كاد يرى الأبواب تقفل في وجهه, الواحد تلو الآخر, ما يمنعه من الدخول.
لن يسمح بهذا, لا يستطيع السماح بهذا, فقال:" لا يمكننا الادعاء أن شيئا لم يحصل بيننا".
شعر باضطرابها حين وضع يده على وجهها الناعم وضغط عليه. أدرك ما كان يفعله فأبعد يده.
-تحدثي إلي!!.
لكنها ابتعدت عنه بعناد وراحت تحدق إلى اللوحة المعلقة على الحائط.
توجهت إلى الباب لتخرج, فاعترض طريقها بسرعة.
كانت عيناها تبرقان كجوهرة ثمينة. لقد ابتعدت عنه ما فطر قلبه كالعادة.
قالت:" ما جرى غلطة فادحة. أنت لا تملك أدنى فكرة عن الطريقة التي عالجت فيها مشاكلي! وكم عانيت لأتمكن من صنع كيان طبيعي لنفسي".
وفي أقل من ثانية, اتخذ غابرييل قراره. فأمامه خياران, إما أن يعتذر منها ويجعله تعود مجددا إلى قوقعتها, وإما يستفيد من فقدانها لرباطة جأشها ويجرها للكشف عن المزيد من أسرارها, أسرار تجيد حراستها.
قرر سلوك الطريق الخطر. فكرر بازدراء:" كيان؟ الحياة التي تحيينها ليست حياة".
-إنها حياتي! وهكذا أريدها أن تكون!.
-كنت تريدينني, ومازلت! منذ لحظات كنت تردينني!.
لم يمنع نبرة الانتصار من الظهور في صوته, فاصفر وجهها وشعر بالقلق الكبير.
سأل بنبرة ملؤها القلق:" لم تنكرين؟ لما تسمحين لما حدث في الماضي بأن يمنعك من تأسيس مستقبل؟".
-أنالا أفعل, ولم أفعل يوما.
-هذا ما يبدو لي.
-وما أدراك؟.
-تبا, أنا لا أدري شيئا لأنك لا تخبرينني شيئا.
فاجأه ارتفاع صوته. لم يكن يعي أنه غاضب إلى هذا الحد. إنه غاضب وحانق أيضا.
رفت عيناها وشحب وجهها لكنها لم تتراجع, فأعجبه أنها لا تخاف منه. لعلها مشغولة بغضبها, وقالت:" أخبرتك ما جرة مع الدكتور دود".
-كنت مصدومة, ولم تستطيعي إخفاء صدمتك. لما كنت تستشيرينه أصلا؟.
لاحظ أنه أثار نقطة حساسة, إذ اتسعت عيناها وجمدت ملامح وجهها. أما هو فاسودت ملامحه, وعجز عن التنفس بشكل طبيعي. إلى أي حد أثر فيها ما حدث إذ لاحظ أن وجهها استحال أبيض. بدت خدرة وعاجزة عن التفوه بأي كلمة.
أيقن أنه لن يستطيع الضغط عليها أكثر, فعاد إلى الموضوع السابق, وقال:" ماذا تنوين أن تفعلي الآن؟".
-أفعل؟.
رفت عيناها مجددا. كان صوتها خافتا لكنها تكلمت على الأقل, وقد عاد اللون إلى وجنتيها وشفتيها.
-ماذا تعني؟.
-لم تفعلي شيئا في السابق, لكنه هاجم الآن فتيات أخريات.
اتسعت عيناها.
-الذنب ليس ذنبي!.
-لم أقل هذا. ولكن غيرك من النساء تقدمن بشكوى, وسيتحمل مسؤولية أعماله الآن. باتت الفرصة متاحة لك للتقدم بشكوى وإسماع صوتك.
تقوقعت على نفسها.
-أتقدم بشكوى إلى القضاء؟ لا, ثمة شاهدتان فما من داع لذلك.
-هذا لمصلحتك.
-لا أحتاج إلى الانتقام منه.
بدت واثقة من نفسها, لكنه لا يزال يشكك في كلامها. لعله رأى علامات الشك في وجهها. قالت وقد عادت ملامح وجهها إلى طبيعتها:" كما أنني لا أحتاج إلى نصيحتك".
وفجأة, اتجهت إلى الطاولة وبدأت تضع الصحون الفارغة في الكيس ويداها ترتجفان. أراد أن يصرخ في وجهها ويدفعها إلى الإفصاح عن مشاعرها, والبوح بأشباح ماضيها كي يساعدها.
لكن إن تصرف بهذا الشكل, فستعود حتما إلى قوقعتها التي تدعي أنها خرجت منها.
وضع غابرييل يده على جبينه, واتجه إلى الطاولة وسكب لنفسه كوب ماء شربه دفعة واحدة.
-دعي هذا, ستتكفل سكرتيرتي به.
استقامت.
-شكرا لك.
-أنت على الرحب والسعة في أي وقت.
-سأعود إلى العمل, أستطيع إنهاء الجزء الأخير بنفسي.
تعود إلى العمل؟ رفت عيناه, ثم ضحك ضحكة مرة. هذه طريقتها في محو ما جرى بينهما, إنها تحاول نسيان ما جرى عبر إغراق نفسها في العمل.
بدا جليا أنها تهرب منه, فجاراها في لعبتها.
-أعلميني إن احتجت إلى مساعدة, فسأبقى في المكتب لأنجز بعض الأعمال العالقة.
ولإثبات القول بالفعل, اتجه إلى مكتبه, وبعثر بعض الأوراق. استدارت نحوه:
-شكرا، أنا ممتنة جدا.
حدق غابرييل بمرارة إلى الباب الذي أغلقته خلفها. إنها ممتنة لأنه لن يبقى بجوارها يلهيها ويشتت تركيزها عن قطع البلاط القاسية الباردة, لا بل المكسورة.
أبعد الأوراق عن مكتبه, وجلس على الكرسي وهو يمرر يده في شعره تماما كما فعلت ريانون منذ قليل. وأحس من جديد بدفء عناقها فارتعش جسمه.
استقام بسرعة وضغط على زر التشغيل في الكومبيوتر. قرر أن يعمل إن كانت ريانون قادرة على العمل, فهو أيضا قادر على ذلك. لطالما تمكن من تركيز تفكيره على العمل مهما كان ما يشغل باله, ولم تمنعه امرأة قط من التركيز على عمله.
راح يتذكر عناقها وعادت كلماتها إلى ذهنه.
صحيح أن الطبيب آذاها لكنه لم يعتد عليها, وهي تقول إنها ليست خبيرة في العلاقات الحميمة.
إنها بريئة!
لم يكن يجدر به أن يعانقها. صحيح أنه لم يلحق بها الأذى, لكنه حاول التقرب منها كما فعل الدكتور دود.
امتعض لمجرد التفكير بأنه تصرف كذاك الطبيب السافل.
قال في سره: الأمر مختلف! الأمر مختلف طبعا. فهو لم يشأ استغلالها بل عانقها ليعزيها ويريحها ويواسيها.
سحرته ابتسامتها وموهبتها, وحماسها للعمل, وفهمها لفنها, وضحكتها النادرة, والدفء الذي تعامل به بيري و ميك وبعض زبائنها أيضا, وتبخل به عليه.
أراد تحريرها من تلك القيود التي تمنعها من إظهار الجزء المخفي من شخصيتها. أراد تحريرها من مخاوف الماضي التي تطاردها.
لم يكن يريد عناقها فحسب, بل أراد طرد الأشباح التي تلاحقها, أراد حمايتها من الرجال الأنذال والانتهازيين أمثال جيرالد دود. ووضع وجهه بين يديه, إنه يريد حمايتها من نفسه أيضا.
أراد إسعادها, وإبقائها سعيدة طيلة أيام حياتها.
لقد حسم الأمر. إنه يريد ريانون, يريدها أن تكون جزءا من حياته, لذا عليه أن يعمل جاهدا ليصل إلى ذلك.
بعد حوالي نصف ساعة, رافقها إلى خارج المبنى. قالت: " يمكنك طلب إزالة السقالة. إن احتجت إلى تصحيح شيء في القسم الأعلى, فيسعني استخدام سلم. ما من ضرورة لسد الممر الرئيسي لوقت طويل".
-سأطلب إزالته.
قالت على عجل وهو يفتح باب المدخل:" شكرا على مساعدتك, سيارتي مركونة هناك, سأكون بخير".
أمسك بذراعها:" ريانون, أنا آسف, استغليت الوضع, وما كان علي ذلك".
-لا تعتذر. فقد عانقتك بملء إرادتي, وأنت لم تجبرني على ذلك.
يفترض بكلامها أن يشعره بالتحسن, لكنه لم يفعل بل زاد من شعوره بالذنب.
رفعت رأسها, ونظرت إليه:" الذنب ليس ذنبك".
حدق إلى وجهها, وقد ظهر العزم وقليل من الحزن عليه. بدت وكأنها تتخلى عن شيء ترغب فيه بشدة. وشعر أنها تضع مسافة عاطفية بينهما.
-إن كنت تظن أنك استغليتني, فقد استغليتك بدوري.
-استغليتني؟!
-أردت شيئا. . . شخصا أستند إليه, وقد كنت حاضرا.
-لا يهمني! يمكنك الاستناد إلي ساعة تشائين فبوسعي الاحتمال.
-أنا لا.
-ماذا تعنين بكلامك هذا؟ فكل إنسان بحاجة إلى سند من وقت إلى آخر.
-كل إنسان؟
نظرت إليه, ثم تابعت:" أعلمني متى يزيلون السقالة, حتى أحضر و أنهى العمل".
وراقبها تصعد إلى سيارتها, وتغادر.
في اليوم التالي, وبعد إغلاق صالة العرض, عادت ريانون إلى المنزل.
تناولت العشاء مع جانيت, ثم شغلت تلك الأخيرة التلفاز, فيما أخذت ريانون كتابا وتقوقعت على الكنبة, تطالعه علها تنسى أحداث ليلة أمس, إلى أن دوى اسم جيرالد دود في أذنيها كطلقة رصاص.
رفعت رأسها بسرعة, وحدقت إلى التلفاز, فاقشعر بدنها عندما ظهرت صورته مبتسما.
وذهلت عندما قال مقدم البرنامج:" . . . أنكر التهم الموجهة إليه بالاعتداء الجنسي على مريضاته. الليلة, نستقبل الرجل الذي يدعي بأن المدعيتين نصبتا له فخا".
رجعت ريانون إلى الوراء ببطء, وقد احمرت وجنتاها سخطا. لم تسمع المقدمة بل راحت تتذكر غرفة مكتبه التي تعرفها تماما والتي تجري فيها المقابلة.
لم تتغير الغرفة, كما لم يتغير هو أيضا. تحدث بأسف عن امرأة مريضة, دفعت صديقتها إلى زيارته وتلفيق التهم الباطلة له. بدا جذابا, ساحرا, متعاطفا, وشدد على أن الاتهامات (( مرضية وسخيفة)) وعلى أن المرأتين رفعتا شكوى للحصول على تعويض مالي. وتساءلت ريانون كيف يستطيع أي إنسان أن يشكك بالصدق والبراءة الباديتين في عينيه.
سألت ريانون جانيت:" هل تصدقينه؟".
-إنه مقنع. يبدو منافقا قليلا, لكنه سينجو بفعلته على الأرجح فما من دليل قاطع سوى كلامه مقابل كلامهما, ويبدو أنهما صديقتان سيصعب إثبات الأمر.
تمتمت ريانون:" لا يستحق أن ينجو بفعلته".
ثم أضافت بصوت مرتفع:" لا يستحق!!!".

روايات عبير / دقات على باب القدر Where stories live. Discover now