باقة الأوركيديا

Start from the beginning
                                    

على الأقل ، غريبة تماماً عن الفتاة التي حاولت دائماً ان تكونها ،الفتاة الرابطة الجأش ، والخالية القلب .
هل تحبه ؟ اغمضت عينيها وارتخت كتفاها على ظهر المقعد . كلا ، لا يمكنها أن تحبه ، لا يجب ان تحبه.
فتحت عينيها فآذاهما وخج الشمس الساطع ثم نظرت حولها فرأت المشاهد تتبدل وهو يهبطون سلسلة منعطفات قوية في اتجاه الوادي الذي يخترقه نهر عريض . الريف هنا اكثر خضرة وأكثف تشجيراً ، وبدأت تظهر للعيان ، بيدوت ذات شرفات مظللة تتدلى من عليها متسلقات تتفتح براعمها بأجمل الألوان وأزهاها . وبرغم ضجيج المحرك استطاعت سوريل أن تسمع بوضوح صوت الموسيقى وايقاع الطبول المنتظمة وألحان الزمارات الهندية العنيفة . وحين عبروا طريقاً جانبياً آخر لمحت اناساً مقنعين في ثياب عجيبة الأشكال والألوان كانوا يهتزون ويدورون في رقصة جماعية تتقدم الى شارع أوسع . ثم مروا على طريق جانبية ثالثة فرأت موكباً دينياً حافلاً يتميز بشموع مضاءة وباقات ضخمة من الزهور الحمراء و البيضاء. لدى بلوغهم مفترق الطرق التالي سلك بانشو درباً انحدارياً يخترق بيوتاً منخفضة ذات شرفات صغيرة ، ومروا بمجموعة من الأولاد يقومون باستعراض خاص بهم . في نهاية الدرب برزت الجدران العالية التي تحيط مدرجاً مستديراً وتحمل ملصقات مزركشة لماعة تعلن عن مصارعات الثيران.
قد بانشو الشاحنة عبر بوابة عريضة ثم أوقفها الى جانب شاحنة كبيرة لنقل المواشي مكتوب عليها بالدهان ، مزرعة رينالدا . فتح خوان الباب وترجل، وسرعان ما أحاط به الرجال الذين جاؤوا بالثيران . وحتى بانشو ترك الشاحنة وهرول راكضاً لينضم الى المجموعة المثرثرة بلهفة وانفعال.
وفكرت سوريل أن الفرصة سانحة لتنسحب بهدوء وبدون أن ينتبه لها أحد.
أمسكت حقيبتها ودفعت جسمها الى حافة المقعد لتقفز الى الارض لكنها فوجئت بخوان يسد طريقها ، وقال واضعاً يديه على ردفيه :
-المطعم فوقك مباشرة . لقد تأخر موعد الافطار وعساك لا تمانعين في تناول الغداء بدلاً منه . لا اريدك أن تصابي بالاغماء من جراء الجوع .
ترجلت من الشاحنة فبادر هو الى صفق الباب صارخاً ببعض التعليمات الى بانشو ، ثم امسكها من كوعها وساقها على أرض الساحة المتوهجة بنور الشمس الحار ، وعبرا ابواب البناء الزجاجية الدوارة .
كانت طاولات المطعم مكسوة بأغطية ذات مربعات بيضاء وحمراء ، ومصفوفة بمحاذاة الجدران بين مقاعد منجدة مستطيلة ذات ظهور خشبية عالية. رأت اناسا كثيرين يتناولون وجبة الغذاء وهم يضحكون ويتسامرون، وبعض الرجال حيا خوان بصوت عال وهو يرسل نظرات جريئة وفضولية في اتجاة سوريل. جلسا الى طاولة منزوية حيث حجبهما المقعدان العاليا الظهر عن النظرات الحشرية. جاءتهما المضيفة التي بدا انها تعرف خوان اذ راحت تثرثر معه بمرح وهي تسجل طلبه لشرحات لحم مشوية، بطاطا حلوة وخضار. ثم احضرت لهما فنجانين كبيرين من القهوة ورجعت الى المطبخ لتأتي بالطعام.
اخذت سوريل ترشف القهوة الساخنة وهي تحس توترا متزايدا لوجودهما منفردين في عزلتهما النسبية. وفاجأها سائلا اياها بالانكليزية:
-لماذا صفعتني؟
اضطرت الى اجابته فغمغمت من دون ان تنظر اليه:
-لم يرق لي قولك انني ارغب فيك.
-لم تكن تلك الحقيقة.
-لمن اكن امثل دورا.
-اذن كنت بارعة في تمثيل ذلك الدور. لقد خدعتني بالفعل وجعلتني اعتقد...
-وهل اغضبك ذكر الحقيقة؟
حدقت اليه بغضب عبر الطاولة، ثم مالبثت ان شهقت وغطت فمها بكفها اذ ادركت انها قد ناقضت نفسها بنفسها. وحين رأته يبتسم ساخرا، اردفت متأوهة:
-اوه، الحق عليك! انت الذي ارغمتني.
-اذن انا لست سوى وغد اسود القلب اجبرتك على عناقي، لكن لم يكن بوسعي ان اثير فيك ذلك التجاوب لو لم تكن في داخلك شرارة تنتظر من ينفخ فيها.
زفر متضايقا ومرر اصابعه في شعره ثم انتفض عضل في خده كما لو انه يصر على اسنانه ليكبح عاطفة قوية تتأجج في كيانه، قال بصوت متقلص:
-والله انت قاسية، اتعلمين ذلك؟ لو انك لم تصفعيني وتهربي ، لكنا اصبحنا حبيبين هذا الصباح.
صراحته المتناهية هزتها في الصميم، فهمست:
-كلا، كلا ، لم يكن ذلك ليحدث.
-بل كان سيحدث لاننا انجذبنا الى بعضنا البعض منذ لقائنا الاول،
لكنك ترفضين الاعتراف بهذا. انك ترفضين الانصياع لمشاعرك لانك عندما تتوقفين لتفكري بعقلك تقرين بانني لست من النوع الجدير بحبك...
انت تنعتينني بالااخلاقية لاني اتصرف بالطرق التي تنسجم مع مبادئك الخلقية... تصيفنني بالانحطاط لاني اصارع الثيران من اجل كسب عيشي... ثم تصفعينني لاني اشعر بانجذاب اليك.
حدجها بنظرة وقحة جارفة اجفلتها وتابع يقول:
-لقد غلطت هذا الصباح لاني اتحت لك مجالا للتفكير. كان يجب ان اقفل فمي واحصل على ما عرضته علي، حتى لو كان من دون حب آلمتها مرارته بشكل فاق احتمالها فصرخت تحتج بعنف:
-لم اعرض عليك شيئا!
-هذا ماتقولينه باستمرار ولست مضطرا الى تصديقك
جاءت المضيفة بطعامهما حيث وضعت الطبقين امامهما وسكبت لهما مزيدا من القهوة ثم ابتعدت. شرع خوان ياكل على الفور،فيما اخذت سوريل تراقبه بحسد. كانت ماتزال منذهلة من عنف هجومه، اما هو، فبدا ان عصبيته لم تؤثر بتاتا على شهيته. في الاخير بدأت تأكل لعلمها بانها اذا لم تفعل فسوف تندم على ذلك في مابعد.
امتد الصمت بينهما اثناء الطعام وزاد توتره ضجيج الاصوات المنبعثه من الطاولات الاخرى. احست سوريل انها تأكل تبنا لكنها ارغمت نفسها على ازدراد اللقم الجافة وهي تفكر على الرغم منها في مصارعة الثيران الوشيكة وفي ماقد يحدث خلالها للرجل الجالس امامها. من الجائز ان يقتل ، اذن كيف يمكنها ان تفارقه غاضبة؟ كيف يمكنها ان تدع علاقتهما القصيرة والحميمة تنتهي بكلمات جارحة ومرة؟ عجزت عن اكمال طعامها. جرعت مزيدا من القهوة ثم نظرت اليه ومدت يدها نحوه وقالت بصوت اجش:
-خوان... يؤسفني اني لا استطيع ان اكون ما تريدني ان اكون.
-كيف لك ان تعرفي ما اريدك ان تكونيه وانت لم تدعيني اخبرك اياه ابدا؟ لقد امضيت الوقت القصير الذي قضيناه معا تقفزين الى استنتاجات زائفة، وتنسجين افتراضات مغلوطة عني وتحكمين علي بما يروق لك. ما الذي تحاولين فعله بحق السماء؟ان تعاقبيني على ذنب اقترفه رجل اخر بحقك؟
لسعتها قسوته فردت باختصار:
-لا. انا لا اعاقبك.
نهضت واقفة على قدميها وقد نسيت رغبتها في ان تفارقه وديا، ثم اختطفت حقيبتها ودارت حول الطاولة لتجده يسد الطريق قائلا:
-اين تظنين نفسك ذاهبة؟

روايات احلام / مصارع الثيرانWhere stories live. Discover now