4

5.9K 170 0
                                    

4- رغبة الأنتقام
بعد مرور ثلاثة أسابيع , تم الزواج بين فلورا وألان , في كنيسة القرية الصغيرة , التي كانت شاهدة على طفولة فلورا وأصبحت بعد ذلك محور حياتها , لم ترتد لهذه المناسبة الثوب الأبيض الطويل . ولم تحمل باقة الزهور المعطرة , ولم تضع نقاب العروس , بل كانت ترتدي بذلة بيضاء قصيرة, وقبعة عادية متناسقة , وتحمل بين يديها كتاب الصلاة المغلف بالعاج, لكنها لاحظت رغم أضطرابها أن الكنيسة كانت مزينة بمختلف أنواع الزهور ذات الرائحة العطرة والألوان الزاهية , تلمع على الأثاث المصنوع من خشب الجوز الداكن , أبتسمت وهي تعرف جيدا أن والدتها هي التي قامت بتزيين الكنيسة , أنها مبادرة تمردية ضد قرار ألان القاطع بالأمتناع عن أقامة عرس أحتفالي.
كانت فلورا شاكرة لوالديها لطفهما وجهدهما الكبير في أخفاء قلقهما العميق أتجاه مستقبل أبنتهما الوحيدة .
لم تكن تحدث أي صوت وهي تتقدم في بطء متأبطة ذراع سير فرانك , لكنها رأت ألان يرفع رأسه كأنه سمعها تقترب, ويلتفت نحوها , كان يبدو عليه الأرتياح في الظاهر , مد يده وشبكها بيدها , أي أنسان لا بد أن يدهش لدى رؤية تصرفات ألان الواثقة , لكن فلورا رأت أرتعاشة عصبية في زوايا شفتيه تدل على محاولته كبت غضبه , فلم تندم لتخليها عن الأحتفال والبذخ المألوف في مثل هذه المناسبات , من أجل تجنيبه هذه المحنة الطويلة.
كان ا؟لأحتفال بسيطا وقصيرا , ذهب الجميع الى القاعة الملحقة بالكنيسة لتناول الغداء , جنيفر التي كانت شاهدة زواجهما , مع سير فرانك , كانت الوحيدة التي أعربت عن فرحها , وساعدت ثرثرتها على أضفاء جو البهجة على الأحتفال , وبرغم توتره أظهر ألان لطفه أمام الحاضرين , لكن عندما حان الوقت للذهاب الى المطار , ترك نفسه ينزلق في مقعد السيارة التي وضعها سير فرانك تحت تصرفهما , وهمس قائلا:
" يا ألهي, أنني سعيد أن كل شيء أنتهى! لم أعد قادرا على الصبر دقيقة واحدة أخرى!".
لم ترد فلورا , أنها الآن وحدها مع الرجل الذي وعدت, منذ ساعات قليلة , بأن تحبه , وتحترمه وتتبعه , فجأة تملكها الذعر , محبسها الذهبي الثقيل كان بمثابة سلسلة تربطها به مدى الحياة , كانت ترغب في سحبه من أصبعها ورميه من نافذة السيارة.
لا بد أن ألان شعر بعصبيتها وحالتها النفسية , فراح يحدثها في هدوء ويقول بلطف:
" قريبا نصبح في طريقنا الى فرنسا, أني متأكد من أن الرحلة ستعجبك, هل قلت لك أن هناك طائرة خاصة تحت تصرفنا؟".
لم تستطع النطق , فأكتفت بهز كتفيها , فتابع ألان حديثه:
" عندما أتصلت بوالدتي هاتفيا لأعلمها أننا سوف نسافر عندما تتوفر لنا أماكن في الرحلات العادية , أخبرتني بعرض قدّمه جيراني بأن يضعوا طائرتهم الخاصة تحت تصرفي".
قالت فلورا في صوت خفيض:
" لجيرانك طائرة خاصة؟".
" نعم , أنهم أصحاب مصانع كبرى , يملكون قصرا بالقرب من قصرنا, يقطنونه أشهرا قليلة خلال السنة كلها , وقد بنوا مدرجا وأشتروا طائرة , وهكذا يستطيعون السفر متى أرادوا وبالسرعة المرجوة , لكن السيد شيسينيه يستعمل الطائرة من أجل القيام بأعماله العديدة , وهذا يعني أن أمتلاكهم لطائرة , ليس ترفا كما ظننت ".
تنهدت فلورا:
" آه , أنني أفهم الآن, أنها تلائمهم وتريحهم".
أعتبر ألان أن جوابها ساخر , فعاد الى صمته وأستعاد نظرته الداكنة ولم يقم بأي جهد ليسري عنها من جديد.
وبعد ساعتين , عرفت فلورا للمرة الأولى في حياتها ما يمكن أن تعنيه كلمة ترف , ساعدهما سائق سير فرانك لأنجاز الأجراءات , ثم عهد بهما الى قبطان الطائرة , وهو شاب فرنسي , فراح يدلهما على الطريق التي تأخذهما الى المدرج حيث رأت فلورا طائرة, عنابية اللون ذات شكل متناسق , وراحت تتساءل كيف يملك هذه الطائرة أنسان واحد , وقامت مضيفة بمساعدة ألان على تسلق سلم الطائرة وأدخلتهما بعد ذلك الى غرفة فاخرة وواسعة في ذات الوقت , تسع ثمانية أشخاص , مقاعدها من الجلد الثمين , وفي الأرض سجادة عنابية سميكة , وبعد أن أطلق زفرة أرتياح , سقط ألان في مقعده وأمر المضيفة:
"عندما تقلع الطائرة , أحضري لي شيئا أشربه".
" بكل تأكيد يا سيدي , وهل ترغب السيدة في شيء هي أيضا؟".
السيدة! الصدمة أفقدت فلورا النطق , ولأول مرة فهمت أنها دخلت الى حياة ألان بصورة نهائية , كانت المضيفة تنتظر بصبر, لكن صوت ألان الملح , أنتزع المرأة من حلم اليقظة الذي تعيشه وسألها طالبا منها جوابا سريعا:
" فلورا؟ أين أنت؟ لماذا لا تردين؟".
" أني هنا بقربك يا ألان , كما سأظل دائما".
وراء النظارات السوداء تصعب قراءة ما في عينيه , لكن عندما بدأ يسترخي في مقعده , رأت فلورا أبتسامة ترتسم على شفتيه.
وبدورها أسترخت , وحل مكان القلق الذي يعتريها نوع من الأرتياح , أنها سفرتها الأولى وأطلالتها الأولى على عالم جديد يبدو مليئا بالوعود المدهشة والساحرة , وخلال الرحلة كانت تحدق من خلال نافذة الطائرة بين سماء جامدة وبحر هائج , لكن للأسف , بينما كانت تنتظر بفارغ صبر أكتشاف فرنسا , تكدست الغيوم أمام عينيها ,ولمدة طويلة لم تكن قادرة على رؤية المنظر المعروض تحت أجنحة الطائرة.
وعندما جاءت المضيفة لتقدم لها الطعام اللذيذ , قالت لفلورا , أن الطائرة تحلق الآن فوق ساحل البحر األأبيض المتوسط وقالت لها بأن الغيوم ستختفي بعد قليل وسيكون في أستطاعتها أكتشاف أجمل مناظر المنطقة , ألان ظل صامتا , لا يتدخل في الحديث , كما رفض مد يده الى الطعام وأكتفى بأحتساء القهوة , وبدأ يتوتر شيئا فشيئا مع مرور الوقت , أخيرا , عندما أعلن الطيار قائلا:
" نستعد للهبوط , سيدي الكونت".
شدت قبضة ألان على الفنجان في قوة جعلته يتحطم في يده .
" ألان ! هل جرحت؟".
أنحنت فلورا لترى عن كثب ماذا حل بيده , لكنه ترك حطام الزجاج يتناثر ثم وضع يده المتشنجة داخل جيب سترته , وهو يقول بلهجة آمرة :
" لا شيء".
كان وجهه خاليا من أي لون والعرق يتصبب على جبينه:
" أرجوك لا تتصرفي في تكلف".
لم يكن لديها الوقت للمناقشة , أذ وصلت المضيفة لتتأكد بنفسها من وضع أحزمة الأمان , لكن قلب فلورا هبط بسرعة مع هبوط الطائرة التي ستعيدهم الى الأرض من جديد.
كانت على وشك الأنهيار فلم تنتبه الى حديقة البناء الأنيق حيث هبطت الطائرة , لكنها شاهدته من بعيد وقالت لنفسها أن مالكي هذا المكان أشخاص محظوظون وأثرياء , ثم جلست مع ألان في المقعد الخلفي لسيارة ليموزين فخمة, وكانت السيارة تسير بسرعة كبيرة من خلال المناظر الخلابة التي لم ترها من قبل الا على شاشة السينما , الى يسارها , وبعيدا وحتى الأفق, تنتصب الجبال المغطاة بالثلوج, والى يمينها البحر الأزرق , وكانت الطلايق تتعرج بين التلال المزروعة صعترا ووزالا ومردقوشا وأكليل الزهر , منازل صغيرة مختبئة حتى سقفها داخل غابات الصنوبر ومجاري المياه الضيقة تسيل في أعماق الوديان , ومجموعة متناسقة لتؤلف أريجا لا يمكن أن يصنعه أحد.
أنها بحق كالجنة بما تحمله الكلمة من معنى , وكانت السيارة تمر من وقت الى آخر , أمام فيلات جميلة مبنية في وسط الحدائق الرائعة حيث أشجار النخيل والزهور الغريبة , وفي كل مكان أشجار السرو والشربين , تنتصب عالية كأنها تلتصق بالسماء.
كانت فلورا ترغب في الصراخ من فرط أعجابها أمام كل منظر جديد, لكن ألان يبدو كئيبا , متوترا , مما أثبط من عزيمتها وحيويتها , فظلت ساكتة , مكتوفة اليدين , تحتفظ لنفسها بتأثير المناظر الساحرة عليها.
وما أن خفت سرعة السيارة لتدخل بين جدارين من الحجارة الثقيلة المشبكة بقضبان الحديد, حتى عادت فلورا الى الواقع في عنف جعل قلبها يقفز من مكانه , هل هذا حقا منزل ألان... البناء الضخم الذي يترايى لها من بعيد يوحي بأنه قلعة , ومع مرور الزمن أكتسبت أسواره لونا عسليا , لكنه لم يفقد شيئا من عظمته , القسم المتوسط المستطيل , يلتصق بالزوايا الأربع لأبراج متصلة , ولن تستغرب فلورا أذا رأت الحراس في بذلاتهم الرسمية يرفعون أسلحتهم , أو أذا سمعت طلقات المدفع تحيي وصولهما , ولما أقتربت السيارة راحت فلورا تميز مجموعة من الناس مجتمعين في الساحة المتوسطة وعلى بعد بضعة أمتار حاجزان من الرجال يحملون أبواقا , وما أن ظهرت السيارة حتى أعطيت الأشارة , وأذا بالرجال يعزفون لحنا حماسيا على شرف الكونت وزوجته الشابة, كان هذا الأحتفال كبيرا وتقليديا لدرجة أن فلورا أعتقدت أنها أنتقلت الى القرن الثاني عشر , لم تعد تستغرب تصرفات ألان, أن تعجرفه اللاواعي ليس ناتجا عن غروره , أنما هو نتيجة طبيعية لتربيته.
أصوات الأبواق جعلت ألان ينتصب , راح يشد على فكيه ويحاول أستعادة برودة أعصابه أمام هذه التجربة التي تنتظره , منذ سنتين وهو يصر على عدم العودة قبل أستعادة بصره , لكنه قرر في النهاية التخلي عن أمنيته وكبريائه , كان قلب لورا ينزف شفقة عليه , لكنها رفضت أظهار أنفعالاتها , لأنها لم تنس الأهانة التي تعرضت لها في الماضي , لذلك كبتت قلقها وقالت بهدوء:
" ما هذا الأستقبال يا ألان! أنه لشيء عظيم أن ينتظر عودتك هذا الجمع الغفير من الناس".
لاحظت مجموعة صغيرة تقف على درج مدخل القصر.
" أعتقد أنني أرى والدتك , تبدو نافذة الصبر ومتلهفة".
" ومن معها؟".
طرح هذا السؤال في صوت مبحوح , فحدقت فلورا جيدا في هذه المجموعة الصغيرة , وقرب شبح المرأة المسنة النحيلة , وقف رجل يصغر ألان بسنوات قليلة وفتاة شابة, فلورا على وشك وصفهم لزوجها عندما خففت السيارة سرعتها , وتوقفت , قفز السائق من مقعده ليساعدهما على النزول.
صرخة كبيرة تعبر عن الفرحة خرجت من الحضور , وفي أحترام وضعت فلورا يدها تحت أبط ألان لتساعده في الدخول الى المنزل , وفوجئت لقبوله مساعدتها من غير أن يكفهر وجهه أو يقطب حاجبيه , وللمرة الأولى فضّل تحمل تدخلها بدلا من أثارة السخرية أذا تعثرت قدماه أمام هذا الجمهور الغفير.
وأندفع الموجودون نحوه , لنساء والفتيات , معظمهن يرتدين الثياب السوداء والمناديل أتقاء لحرارة شمس ذلك اليوم , الأولاد ذو البشرة السمراء يمسكون بأيدي آبائهم , العجائز يخلعون قبعاتهم أحتراما للكونت الشاب , الذي لا شك أن الجميع يحبونه.

روايات احلام/ عبير: قالت الزهره اهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن