بعد موت والدي لم أكن أتخيل، أن أحد الأيام سيأتي زائرا حاملا على أكتافه نفس الألَم .
25/5/2023
مرت خمس سنوات على رحيل والدي، كل الأيام التي قضيتها كانت بنفس الطعم، لا تتغير أبدا، ينتهي شهر ويبدأ آخر وأنا لا أعلم أي تاريخ كان بالأمس، حتى طرق بابي ضيف، على طرقاته قلبي رقص.
أتاني عمي ليلة البُهْر، أجاء لي كما ضوء القمر؟ أجلسته أعددت له القهوة والشاي، سألني عن الأحوال، أجبته بخير والحمد لله، لدي وظيفة تكفيني وتسد حاجتي. ظنتت أنه يسألني إن كنت أحتاج مالا لذلك كنت سأقول نفس الجواب حتى و إلم يكن كذلك.
_ كيف تقضي يومك؟
_ صلاة، عمل، صلاة، أكمل العمل لساعتين ثم أخرج، صلاة، أمارس الرياضة، صلاة، أعمال روتينية بسيطة، كغسيل الملابس، وتنظيف البيت وهكذا، صلاة، أجلس بض الوقت أمام التلفاز، ثم أخلد إلى النوم، هذا كل شيء، الأمر طبيعي ومريح جدا.
_ ألا تظن أن حياتك تحتاج لنوع من التغيير؟
_ لم أفهم، هل تقصد..( ابتسم وسرعان ما خمدت ابتسامته عندما أكملت) أن أغير نوع الرياضة مثلا، أو أجرب أشياء جديدة.
ضرب بيده على جبينه،
_حالتك مصتعصية للغاية.
_ ماذا هل أخطأت في شيء، هل أغير وظيفتي إذا؟
_ حمد، اسمع، يبدو أن التمهيد لا ينفع معك، ركز فيما سأقوله لك،.. يالله ماهذا الموقف الغريب الذي أنا فيه!. والدك قبل رحيله أمنني عليك وكان يتمنى أمنية واحدة، ولكن في وقتها لم تكن مستعدا، بني والدك قبل خمس سنوات طلب مني يد ابنتي لتكون زوجة لك، أخبرته حينها، إن نما وقسا عوده، وبظهره تشد عزائم، وغدا رجلا بطيب يذكر، وعن طيب الذكر لا يقطع، فإني زوجته، ولو لم يملك من المال شيئا. أتعلم مذا قال لي حينها؟ إذا فلتعقد قرانه.
وها أنت ذا..
_ أتقصد..
لم أكمل جملتي حتى أردف قائلا :
_ نعم، سأدعك تفكر بالأمر مليا، لن آخذ منك أي إجابة في الوقت الراهن، ولكن سأنتظر.. أما الآن فأذن لي بالرحيل لنا لقاء آخر بإذن الله.
رحل، ولكن كلماته بقية عالقة تأبى الرحيل، أخذت أفكر وأفكر حتى غلبني النعاس.
من بعد تلك الليلة بدأت أتذوق للحياة طعما آخر.
أخبرت عمي بعد ما استخرت في أمري، بموافقتي.
تم عقد القران والحمد لله، أقام عمي العرس، وكانت تلك الليالي من أسعد الأوقات في حياتي، و بعد ستة أشهر، كُتبت لي فيها حياة جديدة، حياة تريد من اليوم ألا ينتهي لجماله، ومن الغد أن يأتي لتعلم ما يخبئ في طياته، حملت زوجتي.
سعدت كثيرا بهذا الخبر، سنرزق بطفل يزيد أيامنا جمالا على جمالها. توالت الساعات والأيام، كادت عقارب الزمن أن تنطبق على بعضها ليرن جرس الفرح، ولكن زوجتي عثرت وهي تصعد الدرج وهوت إلى الخلف، لتسقط على الأرض مضرجة بالدماء.
ذهبت بها إلى المشفى، أخبرني الأطباء أن نسبة نجاتها ضعيفة، وأن محاولة توليدها في حالتها هذه سيؤدي بشكل أكبر إلى موتها، وموت الطفل أيضا.
أسندت ظهري على الجدار، لم أكن أتخيل يوما أن دموعي ستنهمر على أحد غير أمي وأبي، قبل سنة لم يكن ذلك ممكنا، ولكن الآن قلبي يعتصر ألما، نفس الضيقة التي ألمت بي ذلك اليوم أتت الآن لتحل ضيفا ثقيلا على صدري،
إلهي ضاقت بي الدنيا بضيوفها، و ثقلت على صدري همومها فلم يعد يستطيع حملها، إلهي فإني استودعتك زوجي وطفلي، فردهما إلى ردا جميلا.
بكيت وبكيت، حتى غفيت، لأفتح عيني على صرخات و عويل، وبجانبي شاب يقول، لم نكن نستطيع فعل شيء حينها!
لمحات من الماضي أمامي تسير، كنا في المشفى، لأجل أمي، تعرضت لحادث،
وكانت تحتاج إلى زراعة عضو أو جزء، ألا وهو الكبد، لم يستطيعو العثور على متبرع، أو عضو متاح للزراعة، فخضع أبي للفحوصات، وبعد فترة أصبح كلا والدي في غرفة العمليات، أحدهم يتبرع بجزء من كبده، والآخر يستقبله.
لم يقبل أبي حينها أن أذهب بحجة أنني طفل، فذهبا وتركا خلفهما طفلا يبكي في ساحات المشفى.
أصارع في هذه اللحظة نفس الألم، ذات الخوف من الفراق، ألا أملك حلا، انغلقت في دائرة من الأمور السوداوية، كلها تنتهي بموتهم، ولكن لمرة واحدة أضاء عقلي وهدأ قلبي، لم أعلم لماذا، أخذت أقرأ ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وأخذت أرددها مرارا وتكرارا، شعرت بيد تزيل عني كل الهم والألم، وبصوت حنون، زرع الأمل،
_ الحمد لله على سلامتهم .
نظرت إليه، و لم أعلم أي شعور أبديه، سجدت لله، وهللت وكبرت.
الحمد لك يا الله، شكرا لك يا الله.
داخل إحدى غرف المشفى، أنتظر زوجتي كي تستيقظ من آثار المخدر، ممسكا بيدها بقوة، لا أريد أن تفلت مني لأي ظرف كان، قربتُ رأسي من كفها ثم غفوت.
همس ضعيف يطرق مسمعي.. مع صوت مناغاة طفل.
_حمد، حمد انهض.
أفقت، إذ بي أرى زوجتي، وبحضنها طفلنا، والبسمة تعلو محياها، ما أزال قابضا على يدها بقوة لم أصدق ضننت أنه حلم.
قالت لي بصوت متعب حنون،
_ لن أذهب إلى أي مكان، سأبقا معك. والآن ما رأيك أن تخف قبضتك قليلا.
انتبهت حينها لمدى القوة التي صببتها
_ آسف يا عزيزتي، أرجو ألا أكون قد آلمتك.
أخذت أتأملها وهي تلاعب ابننا، كانت تلك اللحظة من أجمل ما رأيت بحياتي، ضحكتها البيضاء، تمايلها كوردة تلاعبها الرياح،
التفتت إلي..
_ ألا تريد أن تحمله؟
_ بلى.
حملته بعد توجيهات وتحذيرات كثيرة، قربت مسمعه مني..
_ الله أكبر الله أكبر.
أذنت في أذنه اليمنى، وكنت مع كل جزئية أذكرها ينهمر دمعي على خدي، يسابق ذكرياتي وحياتي، يسردها أمام عيني، كم هي الحياة لحظة، وبقيت على هذا الحال مع الإقامة أيضا، حتى انتهيت، نظرت إلى زوجتي، وأنا أقول..
_اللهم اجعله بارا بوالدته، فقد تعبت وصبرت على حمله.
ما نسميه؟
_ ما رأيك أنت؟
_ أريد أن أسميه محمد، ربما يكون له حافظا رادعا بعد الله سبحانه وتعالى.
_ ونعم ماخترت.
وبقينا نتجاذب أطراف الحديث، حتى أسدل الليل ستاره، وبقيت كما كنت أريد من اليوم ألا ينتهي لجماله، ومن الغد أن يأتي لأعلم ما يخبئ في طياته.
النهاية...
( مشاركة في مسابقة الخيال الحر لفريق النقد )
YOU ARE READING
زائر
Short Storyبعد موت والدي لم أكن أتخيل، أن أحد الأيام سيأتي زائرا حاملا على أكتافه نفس الألَم.
