ال١٣

2.4K 171 0
                                    

الفصل الثالث عشر.
انشغل "عمر" و"غيث" بإقامة حفل استقبال مشترك للأطفال، فمر أسبوعاً كاملًا ومازال يستعد كلاً منهم لذلك،بعدما اختاروا أن يقام الحفل في أحد الفنادق الراقية، وفي تلك الفترة لم تتركهم "لوجين" فكانت تقوم بمساعدة "إيمان" و"عائشة"بالإشراف على الديكور، وهدايا الأطفال، كانت البهجة تعم عليهما جميعاً وبالأخص "عائشة" التي تبدل كره حماتها إليها لحبٍ غريب، وخاصة حينما أصرت على "غيث" أن يعود بها من المشفى إلى منزلها، لتتمكن من رعايتها، وطوال هذا الأسبوع كانت قريبة منها ومن صغيرها، فنشأت علاقة ترابط بينهما، وبدت الحرب تتقهقهر حتى باتت لا وجود إليها، وهي الآن لجوارهم وتساعدهم بحبٍ في وضع البلون الملون بأحد الأركان، وما أن إنطفئ ضوء الشمس ليعم الليل بظلامه، حتى صعدت الفتيات للغرفة المخصصة إليهن، فبدأت كلاً منهن بالإستعداد للحفل.
أما بالأسفل.
وقف "غيث" "وعمر" على باب القاعة الصغيرة، ليمنح كل طفل يحضر بصحبةٍ أبيه قناع باللون الأزرق الساحر، والفتيات قناع باللون الوردي، وعصا سحرية تحمل نجمة بإسم المولود، التف "غيث" تجاه الدرج، فوجدها تقترب منه بفستانها السماوي، تعلقت عينيه به لثوانٍ، وكأنه يحارب هواجسه بأنها المرة الأولى التي يراها بها، فترقبها حتى أصبحت قريبة منه، فأمسك يدها وهو يحرك إبهامه بحركاتٍ دائرية على جلدها الرقيق:
_أيه الجمال ده بس، أنا حاسس إن النهاردة فرحنا مش سبوع ابننا.
منحته ابتسامة أشرقت حدقتيه التي تتأملها، وخاصة وعينيها تستكشف ما يرتدي، فقالت على استحياءٍ:
_وأنت كمان النهاردة شكلك مختلف.
رفع حاجبيه وهو يسألها بمكرٍ:
_مفهمتش مختلف يعني حلو ولا لا؟
أسرعت بالحديث لتخبره بمقصدها:
_لا طبعاً أنت طول عمرك شكلك منظم وجميل.
منحها ابتسامة صغيرة، ليتبعها همسه الخبيث:
_أنا بقول نسيب الواد مع ماما ونخلع إحنا.
ابعدت رأسها عنه، ثم حملت طرف فستانها لتستكمل طريقها للأسفل سريعاً:
_دي حفلتي أنا وابني ومستحيل هسيبها.
راقبها وهي تركض للأسفل، ببسمةٍ توهجها العشق على وجه ذاك الوسيم المتعصب، فعدل جرافاته ثم هبط ليستقبل ضيوفه،  أما "عمر" فأسرع تجاه "إيمان" فحمل عنها الصغير الذي يعيق حركتها بالفستان الطويل، فتمكنت من حمل أطرافه بين يدها، ثم قالت بامتنانٍ:
_شكراً يا حبيبي.
ضيق عينيه وهو يردد بدهشةٍ:
_حبيبك!  إنتي كويسة؟
وضعت يدها على كتفيه تستند عليه وهي تحاول إغلاق رباط حذائها، فكادت بالتعثر بطرفه فأسرع "عمر" باحتضانها ليمنعها من السقوط أعلى الدرج، كان تصرفه تلقائي لحمايتها، لفت "إيمان" يدها حوله فتعجب من تصرفها، فهي بطبعها خجولة للغاية، والدرج يقع بمنتصف القاعة على مرأى الجميع، وجدها تتشبث به واشرأبت بعنقها تجاهه فقالت بعشقٍ أرادت أن يصل إليه في تلك اللحظة:
_حبيبي وجوزي وكل حاجة في دنيتي، الكتف اللي بتسند عليه دايمًا، واللي عمري في وجوده ما حسيت إني يتيمة الأم والأب، أنت أعظم اختياري يا "عمر".
أغلق عينيه بقوةٍ يحتمل ما يستمعه من كلماتٍ خطيرة تستهدف جوارحه ورغباته تجاهها، فشدد من ضمها لصدره وهو يهمس لها بحبٍ:
_بأحبك.
تلون وجهها بلون حبات الكرز، فابتعدت عنه ونظراتها تحاكيه تغريدات عشق مخصصة إليه هو، فقدم لها يديه لتحتضن أصابعها أصابعه، وكأنه يمنحها دعماً ومساندة حتى وصلت للطابق السفلي.
                     *********
في قربك أناشد أحلامي ويطرب نبض وتيني، فمهما غبت عن عيني يأتي بطيفك وتزهر الروابي في مجرى شراييني، فرشت الشغاف لك مهداً وثيراً لتتكىء عليه طوال سنيني ، فليس غيرك يهدهد أنَّاتي، ويهبني ملاذاً من العالم يحميني، ليتك تعلم كيف اشتياق إليك كلما ضمتني تحتويني، فأبدو بقربك كالطفلة ألهو، وبين ذراعيك أعلم أن هداياك سوف تأتيني، فبحثت عنك بين الوجوه شوقاً لرؤياك، فعصف قلبي لغيابك الملحوظ لجوارحي.
اهتدت نظراتها الحائرة حينما تعلقت به،  يدخل من باب القاعة الخشبي المزخرف بالنقوش الأطفالية، هيبته تستحضر فور دخوله لأى مكان، راقبته وهو يدنو من" غيث" ليضمه وهو يهنئه بسعادةٍ،  لا تعلم ما الذي أصابها فباتت تتخيله يحتضنها هي، كان يرتدي بذلة من اللون الأسود، جعلته وسيمًا للغاية، شعره المصفف بعناية كما يجب أن يكون، جبينه الذي تجعد مع انعقاد حاجبين ظللًا لعينين صقريتين تتوهجان كشهابين من نار، فوجدت خطواتها تنجذب إليه كالمغيبة، حتى باتت تقف أمامه، انتقلت عينيه لفستانها الأسود المنقوش بورود من اللون الأبيض، شعرها الذي يتدلى على كتفيها جعله منزعج من أن يرأه أحداً غيره، يروق له لبسها المحتشم مع أنها لا ترتدي الحجاب ولكنه يود لو يغطيها من رأسها حتى أخمص القدم، تحرر لسانها المقيد لتسأله باستياءٍ:
_جاي متأخر ليه؟
حك طرف أنفه وهو يجيبها ببرودٍ:
_كان عندي شغل كتير ولسه مخلص من شوية.
رفعت حاجبها وهي تمتم بسخطٍ:
_حججك دايمًا حاضرة.
همس بخشونة صوته التي تمزج سحر رجولته بدفء حنانه:
_مش محتاج أتحجج على فكرة،  لو حابب أروح مكان مفيش حاجة بتمنعني.
وكأنها أمسكت به متلبساً:
_يعني أنت اللي قاصد تتأخر وتيجي زي الغريب.
ضم شفتيه معًا بغيظ:
_هي ملهاش عندك غير المفهوم ده! 
دنت منه ثم اشرأبت بعنقها لتخبره بصوتٍ يكاد يكون مسموع:
_متقلقش مش هقولهم حاجة احنا بقينا تيم واحد.
وغمزت له بمشاكسةٍ قبل أن تغادر من أمام عينيه، فابتسم وهو يردد بسخريةٍ:
_مجنونة..
واستكمل طريقه لينضم "لغيث"، وبالرغم من انشغاله بمناقشة بعض الأمور المتعلقة بالعمل الا أن عينيه لم تتركها، كانت ملتصقة بها طوال الوقت، فصفن بابتسامتها البريئة وهي تقدم الهدايا للاطفال بروحٍ مرحة وتلقائية، وجد الابتسامة تتسلق لتتمسك بشفتيه وكأنها مرتبطة بتعويذة رؤياها، لاحظ"عمر" شروده فقال ممازحاً إياه:
_الفرح بعد اسبوعين يا غالي، اتجدعن بقى وهاتلنا عروسة تخلق المشاكل بين الولدين.
حدجه بنظرةٍ جافة، فشاركه "غيث" حديثه المشاكس حينما قال:
_وليه المشاكل بس يا زميلي الأفضل يجيب بنتين ونحل المشكلة قبل ما تبدأ.
وضع "عاصي" كأس العصير عن يديه، ليرد عليهم ساخراً:
_ليه جاني على نفسي عشان أناسب المتهور والمجنون!
وتركهم وإتجه ليجلس جوار خالته حتى انتهى الحفل وعاد لقصره بسلام يشعر به بعدما صممت "إيمان" على أن تقيم "لوجين" بصحبتها لحين موعد الزفاف، فبدل ملابسه ثم أسرع لفراشه هامساً بسرورٍ:
_أخيراً هنام بهدوء بعد وقت طويل.
قطع نومه المريح صوت صفارة مزعجة تأتي من أسفل شرفته، فنهض ليرى من هناك؟  ، ليتفاجأ بعمر يشير له بأن يفتح الباب، وهبط للطابق السفلي مسرعاً، فما أن فتح الباب حتى تساءل بقلقٍ:
_خير يا عمر، إيمان والولد بخير؟
منحه نظرة نمت عن تعصبه الشديد، وخاصة حينما أغلق الباب ليصدر صوتاً مزعجاً، ثم رد عليه بتذمرٍ:
_أختك المحترمة طردت جوزها في نص الليل، المرادي طرد وكل يوم تقفل الباب بالمفتاح من جوه وتسبني برة بالساعات لما الجيران بقت مشفقة عليا، أنت لازم تشوفلك حل معاها مهو أنا عندي طاقة صبر وبتنفذ زي أي بشر.
مرر "عاصي" يديه على وجهه بانفعالٍ، ثم كورهما حتى ابيضت أصابعه:
_يعني أنت جايلي في نص الليل عشان تشتكيلي منها!
رفع كتفيه بقلة حيلة:
_لا بس ملقتش مكان تاني أروحله تاني، ولا عاجبك أنام في الشارع وأنت قاعد في قصر شرح وبرح زي ده!
كز على أسنانه بحدةٍ:
_لا طبعاً ميصحش.
ثم أشار بيديه على أحد الغرف بتأففٍ:
_نام الوقتي وبكره هنشوف حل.
ضحك بصوتٍ مستفز، ومن ثم أسرع بإبلاغه بما سيشغل جنونه:
_لا مش بكره،  أنا مطرود طول المدة اللي عروستك هتقضيها هناك،  يعني قعدتي هتطول هنا.
أغلق عينيه بقوةٍ، وكأنه يستمع لشيئًا صاخب، فتركه وصعد لغرفته، ومن ثم ألقى بثقل جسده على الفراش وهو يدعو الله أن يمر الأسبوعين بسرعة الصاروخ.
                     ********
أشاح الليل بجلبابه المعتم، لتشرق شمس يوماً جديد، فانطلق الانذار من المنبه ليوقظ "غيث" في موعده المحدد كل ليلة، فمرر يديه على الطرف الأخر من الفراش، ففتح عينيه بانزعاجٍ حينما لم يجدها،  فرفع صوته وهو يناديها:
_عائشـــــة!
تعجب حينما لم يأتيه ردها، فنهض ليبحث عنها بالشقة بأكملها، فلم يجدها هي وابنه، ارتدى "غيث" ملابسه على عجلة، ومن ثم هبط للطابق السفلي ثم أخرج من جيبه مفتاح شقة والدته، فولج للداخل يبحث عنها بلهفةٍ، وقف على باب المطبخ يتأمل ما يحدث بفرحةٍ أحاطته، وهو يرى زوجته تعاون والدته في تحضير طعام إفطار خصيصاً إليه، فجذبت منها "عائشة" الأطباق لتضعهما على الصينية وهي تخبرها بحبٍ:
_عنك يا ماما.
وقفت "سمية" محلها تراقبها بنظرةٍ سكنها الدمع والندم بآنٍ واحد، فربتت بيدها على ظهرها ثم قالت ببكاءٍ:
_حقك عليا يا بنتي، كان بأيدي اديكي ولو فرصة واحدة أعاشرك فيها وأشوف طباعك بس مكنتش شايفة غير الوحش اللي زرعته فيكي.
ثم رفعت أصابعها لتزيح دمعاتها، وجاهدت لرسم ابتسامة صغيرة:
_عنده حق ابني يختارلك زوجة ليه.
ترقرق عين "عائشة" بالدموع، لا تعلم ماذا يغلبها سعادة أم حزن، فاحتضنتها وبنبرة حنونة قالت:
_اللي فات كله نسيته والله يا ماما، كفايا تعبك واهتمامك بيا طول الفترة اللي فاتت.
واستطردت بتردد مما ستقوله:
_أنا كان نفسي يكونلي أم واتحرمت من النعمة دي بس في الكام يوم دول حسيت إن حضرتك أمي.
ابتسمت من وسط سيل دموعها، وضمتها لصدرها وهي تخبرها:
_يا حبيبتي يا بنتي، ربنا يعلم اني بحاول وهحاول أكونلك أم.
أدمعت عينيه وهو يراقبهما، فأزاح العالق بأهدابه قبل أن يمزق صفحته المطولة بالصمت:
_أنا حاسس كده إني هغير من علاقتكم دي، بس جوايا جزء بيتمنى إن علاقتكم الجميلة دي تدوم ونعيش في حالة سلام.
تطلعت كلاً منهن للأخرى، فضمتها "سمية" لصدرها مجدداً ثم قالت:
_هتدوم بينا المحبة على طول بإذن الله، اطلع إنت بس منها.
جذب أحد مقاعد الطاولة المستديرة الموضوعة في أحد أركان المطبخ، ثم جذب الطبق أمامه:
_أنا بعيد أهو، بس المهم هتفطروني ولا أنزل!
جذبت"عائشة" الأطباق، ثم وضعتها أمامه، فبدأ في تناوله طعامه بشهيةٍ مفتوحة، فما الذي يريده أكثر من طبق يجمع بين طعام صنع بيد والدته وزوجته، شعر أخيراً بأن أمنيتها تحققت حتى وإن كانت بعد عذاب، انتهى "غيث" من تناول طعامه، ثم كاد بالنهوض، فوجد والدته تقترب منه بكوب القهوة الذي يعشقه من يدها، حمله منها ثم انحنى ليطبع قبلة عميقة على كف يدها الحنون، فرفعت رأسه إليها ثم احتضنته بحبٍ، فاستأذن بالإنصراف وغادر لعمله وهو يشعر بطاقة غريبة تهيئه لعملٍ طويل شاق.
                       *********
هبط "عاصي" في موعده المحدد لتناول طعام الافطار، فجلس على مقعد الطاولة الضخمة الرئيسي، ثم شرع بتناول الطعام، فما أن اقتربت الخادمة حتى تسكب له كوب العصير، سألها وهو يتفحص الردهة باستغرابٍ:
_عمر لسه نايم ولا أيه؟
أومأت برأسها وهي تجيبه باحترامٍ:
_أستاذ عمر لسه في أوضته، تحب أبلغه بحاجة!
هز رأسه نافياً، وهو يؤمرها:
_لا، روحي انتي شوفي شغلك.
غادرت من أمامه، فبعد المقعد عنه ثم نهض ليتجه لغرفته، طرق على بابه عدة مرات وحينما لم يستمع لأذنه بالدخول، حرر مقبض الباب وولج للداخل، فوجده يسبح بنومٍ ثقيل، حك بيديه ذقنه النابتة وهو يحاول السيطرة على غضبه الذي سيبده لا محالة، فهز يديه وهو يصيح:
_عمـر، أنت يا ابني!
تقلب بفراشه وصوته الناعس يردد بانزعاجٍ:
_مش هقوم الوقتي.. اخرج وخد اختك معاك.
رفع حاجبيه باستنكارٍ، وكاد بركله ولكن جذب انتباهه صوت قرع جرس الباب، ليتفاجأ بغيث يدنو منه، فوزع نظراته بينه وبين من يحتضن الفراش، متسائلاً بدهشةٍ:
_بيعمل أيه هنا ده؟
بابتسامةٍ شبه ساخرة أجابه:
_زي ما أنت شايف، مطرود وبجح كمان.
تعالت ضحكاته، فاقترب منه ليلكزه بقوةٍ وقوله المستهزأ يتبعه:
_مش مكسوف من نفسك ولا أيه ونايم ولا همك الدنيا!
ألقى الغطاء عن جسده بعنفٍ، ثم اعتدل بجلسته لمنحهما نظرة شرسة قبل أن يقول:
_واتكسف ليه، شايفني قاعد على نصية الشارع بندب ولا بشكي أحزاني على النت.
ورفع يديه ينصب لوحة وهمية وهو يقرأ ما فيها:
_«شاهد ما فعلته شقيقة الاربعيني الأعزب رجل الأعمال الشهير بزوجها المسكين!»
ضحك "غيث" ثم قال بنفس نبرته:
_الاعزب أيه بقى ما خلاص هيدخل عش الزوجية وبرجله.
احتضن "عاصي" مقدمة أنفه بضيقٍ، ثم ازاح يديه ليشير لهما بحدةٍ:
_أنا معنديش طاقة لحواراتكم دي وبالذات النهاردة.
ثم أشار على باب الغرفة وهو يسترسل:
_انا رايح أكمل فطاري، اللي حابب يفطر معايا يحصلني.
وتركهما وغادر للخارج، ليتبعه كلاً منهما، فجلس "عمر" جواره ثم جذب أحد الأطباق ليضع بها القليل من الجبن والخضروات ثم شرع بتناولها، أما "غيث" فجذب كوب من العصير يرتشفه بتلذذٍ عن قصد، ثم قال بعنجهيةٍ:
_أنا فطرت من بدري ماما وعائشة بنفسهم محضرنلي أجمل فطار.
ابتسم "عمر" ثم غمز له بمشاكسةٍ:
_أيوه يا عم ولعة معاك، طب مش كنت ترنلي أجي أفطر معاك بدل جو أكل العيانين الصحي ده!
منحه عاصي نظرة حملت الغضب بين طياتها، فشغل الاخير نفسه بتناول الطعام حتى يتفادها، فانتقلت نظراته تجاه ابن خالته ثم قال بصوته الرخيم:
_ربنا يهدي الأمور بينهم دايمًا.
بتمني ردد:
_يا ررب.
ثم نهض ليجذب أحد الملفات من حقيبته السوداء ليضعها أمامه، وهو يشير اليه على مكان التوقيع، فرفع "عاصي" الشوكة تجاهه:
_أنا لسه بفطر على فكرة.
أجابه ببرودٍ وابتسامة استفزته:
_مضطر لاني اتاخرت وحضرتك مش جاي النهاردة.
جذب المنديل ليجفف يديه، ثم انتشل القلم منه ليوقعه سريعاً، فحمل "غيث" الملف، ثم قال بجديةٍ:
_انت صحيح ناوي تعمل أيه مع قاسم؟
رد عليه ببسمةٍ خبيثة:
_والله لو نفذ الشرط اللي قولتله عليه ساعتها أفكر في موضوع الصفقة  .
هز الاخير رأسه بعدم تصديق، ثم قال:
_انت محدش يتوقعك.
تناول ما بيديه وهو يمنحه ابتسامة ماكرة، فحمل الاخير حقيبته ثم غادر للشركة على الفور.
                        ********
بشقة "إيمان"
كانت مهمة "لوجين" تتكفل على حمل الصغير لحين أن تنتهي الاخيرة من اعداد غداء مخصص لعاصي وعمر، فحملته أكثر من ثلاث ساعات ومع ذلك كان لا يهدأ أبداً، فما أن استنزف طاقتها، حتى اتجهت للمطبخ، فجذبت "إيمان" من أمام  النيران، لتضع ابنها بين يدها، لتمنحها ابتسامة واسعة مصطنعة:
_كده كفايا أوي، انتي تاخدي ابنك العسل ده وتقعدي بيه بره وأنا هكمل بقيت الغدا.
ضحكت بصوتٍ مسموع ثم قالت:
_شكله كده خرجك عن شعورك.
تمتمت بكلماتٍ غير مسموعة:
_شعوري بس!
تعالت ضحكاتها، فجلست على المقعد الجانبي، ثم قالت بسخريةٍ:
_لا اجمدي كده أمال بعد الجواز هتعملي أيه؟
أجابتها بهيامٍ بما سيحدث فيما بعد:
_لا ورايا حاجات كتيرة أوي، زي مثلًا إني مش هسيب عاصي خالص وهروح معاه الشركة واجتماعاته كلها، يعني هكون ليه زوجة وسكرتيرة خاصة.
ضحكت إيمان مجدداً ثم قالت بصعوبةٍ:
_لا يبقى متعرفهوش كويس.
توقفت عن تقليب شرائح البصل في الزيت الساخن، لتسألها بجديةٍ:
_ليه هند مكنتش بتروحله الشركة خالص؟
خيمت عليه غيمة حزن فور ذكرها لزوجة أخيها، فاجابتها بنبرة لمست الاخيرة بها حزنها  :
_هند مكنتش بتفارق أوضتها يا لوجين وده بسبب تعبها، عاصي اللي كان بيقضي معاها أغلب الوقت، كأنه يا قلبي كان حاسس إنه هيتحرم منها قريب.
وأزاحت بطرف أصابعها دمعاتها، ثم قالت بعد صمت أطال بتفكيرها حول ما ستخبرها به:
_أنا مش عارفة اذا كان عاصي هيقدر يتجاوز كل ده ولا لا، بس واثقة إنك هتساعديه يا لوجين صح؟
خبأت حزنها جيداً قبل أن تجيبها:
_أكيد هحاول.
ثم عادت لتستكمل ما تفعله قبل أن يصل أي منهما.
وبالفعل بعد مرور ساعة أخرى، فتح "عمر" باب شقته ثم التفت للخلف ليخبره بفرحةٍ:
_حظك حلو يابو نسب أول مرة أختك متقفلش الباب.
دفعه للداخل وهو يخبره على مضضٍ:
_انتوا عايزين واحد فاضي ليكم ولمشاكلكم اللي مبتنتهيش.
أتت "إيمان" مسرعة للترحاب بأخيها، ثم اصطحبته لغرفة السفرة، فجلس هو و"عمر" الذي قال بضيقٍ:
_وأنا ليه ماليش مقابلة خاصة زي دي!
حدجته بنظرةٍ مشتعلة، ثم قالت:
_لما تحترم قواعد البيت ده يا سيد نبقى نرحب بجنابك.
كز على أسنانه بغيظٍ وخاصة حينما ضحك "عاصي" على حربهما الباردة، تجاهلته "إيمان" حينما رفعت صوتها قليلًا:
_هاتي الشوربة وتعالي يا لوجين.
استمعت إليها من تقف بالمطبخ ترتب باقي الطعام، فحملت الإناء ثم دنت للداخل، فتوقفت محلها وهي تراقبه ببسمةٍ أشرقت شمسها المختبئة بأهدابها، شعر بنظراتها تجاهه، فرفع عينيه ليجدها صافنة به وابتسامة رقيقة مرسومة على شفتيها.
_حطيها هنا يا لوجي.
صوتها جعلها تفيق من غفلتها، فاقتربت من الطاولة ثم وضعت ما تحمله، واتجهت لتجلس على المقعد المقابل له، كانت تتناول طعامها وعينيها تراقبه، فما أن يمسك بها تتطلع تجاهه كانت تخفض نظراتها عنه بخجلٍ، وحينما انتهوا من تناول طعامهم، حتى خرج "عاصي" للشرفة المعتاد عليه الوقوف بها حينما يأتي لشقيقته، انشغلت "لوجين" بحمل الاطباق مع إيمان وعمر، فجذبت إيمان الطبق من يدها ثم وضعت كوب من العصير به، لتشير لها على الشرفة وهي تهمس لها بتتبعه، فانصاعت إليها واتجهت للخارج والأخرى تراقبها بسعادة، فقال عمر بمزحٍ:
_أيه جو أم العروسة ده!
ضحكت على كلمته ثم قالت:
_أمال أيه عايزين الدنيا تحلو كده وعاصي يحب البت.
جذب تفاحة من طبق الفاكهة، ليلتهمها قبل أن يرد على ما قالته:
_متقلقيش هيحبها بس هياخد وقت.
رفعت يدها للسماء متناسية الطبق الذي تحمله  :
_يـــــا رب.
فزع الاخير وهو يتأمل الطبق محطم أسفل قدميه، فوضع التفاحة بين يدها ثم قال بانزعاجٍ:
_صديتي نفسي.. أنتي مش راجعة الا لما تقطعيلي خلفي.
وتركها وغادر وهي هائمة بمراقبة أخيها، وكأن شيئًا لم يحدث...
                        *******
كان شارداً بما يتأمله، وجسده كان مستلقى على سور الشرفة، وقفت لوجين لجواره ثم مدت يدها إليه بما تحمله فتناوله منها وهو يرسم ابتسامة صغيرة:
_تسلم ايدك.
بادلته الابتسامة ثم وقفت جواره تتأمل ما يتطلع اليه، فعم خيوط الصمت عليهما، والارتباك يتراقص على كلا الأوتار، إلى أن قطعه عاصي حينما قال بحيرة لما سيفتتح به حديثه:
_عجبتك القعدة هنا؟
سعدت بمجاهدته لفتح حديث يجمعهما، فأجابته ويدها تبعد خصلاتها المتمردة على عينيها:
_جدًا، إيمان تتحب بجد وقعدتها محدش يمل منها.
هز رأسه وهو يتمتم بجملته المعتادة:
_عظيم.
عاد الصمت ليخيم عليهما مجدداً،  فقالت لوجين تلك المرة بتوترٍ:
_أنا كنت عايزة أقولك على حاجة.
استدار بجسده تجاهها، ليسألها باهتمامٍ:
_حاجة أيه؟
فركت أصابعها بارتباكٍ، فسحبت نفساً عميق قبل أن تزفره على مهلٍ:
_أنا مقدرة علاقتك بهند كانت عاملة ازاي يا عاصي،  عشان كده أنا مش متضايقة ولا هيضايق بوجودها في حياتنا..
وعادت لتعيد خصلاتها التي تبعثرت بفعل الهواء لخلف أذنيها وهي تستطرد بتوترٍ:
_يعني مقدرش أطالبك تنسي ذكرياتها اللي بتجمعك بيها، أنا متقبلة وجودها ومش هيزعجني بالعكس.
ود لو لمس شعرها بين يديه، لو أنه من أعاد شعرها لخلف أذنيها بنفسه، ومع ذلك أعجب بحديثها التي بدت أكثر ارتباكاً بقوله، فمنحها ابتسامة مهلكة لوسامته التي تطل حينما يبتسم، ثم قال بنبرته الرجولية المميزة بالنسبة لها عن باقي الرجال:
_وأنا مش عايز حاجة تانية أكتر من كده،  بس خليكي واثقة إن في مكانة خاصة ليكي جوايا واحترام كبير.
ثم مرر يديه على خصلات شعره، وكأنه يمشطه ليتابع ما قال وهو يدنو ليصبح قريباً منها:
_مش عارف إذا كنت هقدر أحبك بنفس الطريقة اللي بتحبيني بيها ولا لا، بس أوعدك إني هحاول.
رغم ألم قلبها النازف ولكنه على الأقل كان صريحاً معها،  احترمته "لوجين" كثيراً، فتوتر لصمتها المطول ظناً بأن ما قاله أحزنها، ولكنه وجدها تمنحه ابتسامة أشرقت عتمته، ثم قالت:
_كفايا انك هتكون جنبي يا عاصي.
نطقها لاسمه جعل قلبه يخفق بإنذار خطر يراسل مشاعره، فباتت هناك رغبة غريبة بالحصول عليها، شعر وكأنه على وشك السقوط للهاوية، فباتت عدوة حبها تنتقل إليه رويدًا رويدًا،  شعر وكأن تلك الفتاة ستفوز بقلبه وتبدد كل وجعاً اختبره يوماً!
    ********_________********

رواية الأربعيني الأعزب كاملة Where stories live. Discover now