رواية نهايات مفتوحة

1 0 0
                                    

وقف (عادل) أمام المرآة يتابع وجهه بفتور...

بشرته قمحية اللون، وشعره الأسود مفروق من الجانب، وعيناه السوداوتان حزينتان تبادلانه النظر عبر لوح الزجاج البارد أمامه.

أحكم ربطة عنقه الزرقاء المزركشة. تبدو جيدة فوق قميصه الأبيض وحلته الرمادية. رفع نظراته مرة اخرى يطالع وجهه الحليق وملامحه المرهقة...

صحافي أعزب، في النصف الثاني من الثلاثينيات، مدمن للعمل، وتعيس أغلب الوقت!

ولد في (طنطا) لأبوين بسيطين. الأب موظف حكوميّ، والأم ربة منزل. كان وحيد أبويه... وأفنى الاثنان عمريهما ليربياه كأفضل ما يكون...

كبر (عادل) وصار صبيًا مليحًا هادئًا... كان يحلم ان يكون شيئًا هامًا عندما يكبر. مرات يحلم بأن يكون طبيبًا.. ومرات يتمنى لو يصبح طيارًا... وكثيرًا ما رغب في أن يكون عاشقًا!

ابتسامته الصافية وقلبه الطيب فتحا له كثيرًا من الأبواب الموصدة. لكن بعضها بقى محكم الإغلاق... فالنوايا الحسنة بمفردها لا تكفي في بعض الأحيان!

بعد أن نجح في الشهادة الثانوية سافر الى القاهرة والتحق بكلية الإعلام.... وها هو الآن صحافيًا مجتهدًا في بدايات طريق النجاح...

عاد منذ نصف ساعة فقط من عمله بالجريدة، وبعد أن أكل شطيرة جبن مع كوب من الشاي الساخن، معتبرًا أن تلك هي وجبة الغذاء، بدّل ملابسه ليستعد للخروج مرة أخرى. عليه أن يجري مقابلة مع واحد من الروائيين المشهورين.

كل أسبوع كان (عادل) يقابل أديبًا مرموقًا ليجرى معه حوارًا يتصدر الصفحة الأدبية بالعدد الأسبوعي للجريدة.

هذا الأسبوع سيقابل (جلال كامل) الذي أصدر عدة روايات طويلة كانت مبيعاتها قياسية في الماضي البعيد، ثم توقف عن الكتابة منذ سنوات حتى ذهب البعض في الإعتقاد بأنه فقد مخزونه الأدبي وبات غير قادر على الكتابة مجددًا...

قرأ له روايتين. الأولى مبهرة بحق، والثانية أقل كثيرًا في المحتوى الأدبي حتى أنه لم يتحمس لشراء الرواية الثالثة والأخيرة!

تنهد مبتئسًا واتجه الى الكومود المنزوي بجوار فراشه. إلتقط علبة سجائره والولاعة الفضية الثقيلة ودسهما في جيب حلته، وبيده الأخرى أخذ زجاجة العطر وبخ منها في راحة يديه قبل ان يمسح بهما وجهه علّ ذلك يعيد اليه بعضًا من وعيه المتداعي...

اكيد سيصدّع (جلال كامل) رأسه بآرائة الفكرية العبقرية ونظرته الثاقبة لبواطن الأمور، وسيضطر هو أن يبقي فمه مبتسمًا لساعات، وأن يتصنع الإنبهار بكفاحه وصلابته في مواجهة كل القوي الكونية الشريرة التي أرادت الإطاحة به ظلمًا وعدوانًا...

خرج (عادل) من غرفته، ومشي عبر ممر صغير يفضي الى غرفة المعيشة الرحبة، ومنها دلف الى اليسار حيث يقع المطبخ. فتح الثلاجة فغمرته برودة هادئة وضوء أبيض باهت. شعر ببعض النشاط يسرى على استحياء في عروقه. التقط زجاجة عصير وأخذ يجرع منها في نهم. لقد كاد الظمأ أن يهشم حلقه!

عاد الى غرفة المعيشة وألقى بجسده المتعب فوق الأريكة. أشعل لفافة تبغ ثم طالع بعينيه الجدران من حوله. المنزل الخالي بارد ومقبض، تنقصه اللمسة الأنثوية، تنقصه لمسة (أميرة).

المنزل الحزين المشتاق تنقصه ضحكتها السعيدة، وأنفاسها الحارة. المنزل البائس ينقصه حضورها الملائكي الخلاب.

(أميرة) حبيبة العمر. قصة عشق ثمينة ونقية كحجر ألماس ضخم بلا شوائب. بدأت منذ سبعة أعوام عندما ذهب ليغطي حدثًا هامًا بمقر الجامعة العربية وقابلها هناك. تحادثا عدة مرات في خلال الأسبوعين التاليين، ثم بدأت العلاقة تتوهج وتنضج وتبدو رائحتها الزكية مع مرور الأيام...

ورغم صدق النوايا وتوافرالحب والمشاعر الفيّاضة لم تكلل العلاقة بالنجاح. ورغم الوعود الموؤودة والأحلام المبتورة والصعاب ما زالت صامدة شامخة لم تنحن!

تقدم لأبيها الدبلوماسي الثري يطلب يدها للزواج، ولكنه رُفض لنفس الأسباب المكررة الباهتة. المستوي الاجتماعي، والوظيفة المؤقتة، والمستقبل الغير مضمون... وبنات الناس كثُر وانت ألف من تتمناك!

(يا سيدي الفاضل أنا لا أريد من الألف سوى واحدة... لا أريد من بنات الناس سوى أميرتهم...)

لكن الأب الصارم لم يأبه... كان صلداً كحائط رخام جبلي...

شعر (عادل) بأنه لم يرُق لأبيها منذ الوهلة الأولى للقائهما. لم تتفق عيناهما. قرأ (عادل) فيهما الرفض قبل حتى أن يفتح والدها فمه بالتحية! بدا لعادل أنه يعرف أبيها منذ أمد طويل ولكن في عالم آخر. عالم لم يكونا فيه على وفاق وكانت بينهما أشواط طويلة من الكراهية!

وبعد تثبيت الوظيفة في الجريدة والحصول على شقة بحي راق ما زال الأب العنيد غير عابئ وباردًا كلوح من الثلج. وتحول الأمربين أبيها وبينه إلى ما يشبه ثأرًا شخصيًا. تولد لديه يقين بأن الرجل يمقته وأنه بموافقته على الزواج سيخسر معركته معه. كان أمراً عجيباً حقاً!

ما زال لقاءهما الأخير مضببًا غير واضح المعالم في عقله. كان لقاءًا انفعاليًا ومليئًا بالصراخ والإتهامات والإنهيارات.

تنهد (عادل) وهو يهز رأسه ليوقف سيل الذكريات المنهمر على ذهنه وحانت منه التفاتة إلى ساعة الحائط المعلقة هناك على الحائط المقابل. الخامسة والنصف مساءاً. تبقت ساعة على الموعد مع مضيفه. سوف يتقابلا في منزل الأديب، بحي (الزمالك)، لمزيد من الهدوء والخصوصية... هكذا قال له (جلال) عبر الهاتف...

لقد حان وقت الذهاب.

سحق رأس لفافة التبغ في المطفأة الكريستال الموضوعة امامه على الطاولة ثم نهض والتقط سلسلة مفاتيحه وانسل بهدوء الى الخارج وبداخله تصميم على أن ينتهي من لقائه الأدبي السمج هذ اويعود الي فراشه بعد ساعتين على الأكثر!


You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Aug 14, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

نهايات مفتوحةWhere stories live. Discover now