البارت الثالث

55 1 2
                                    


نظر خالد إلى جده مندهشا وكأنه لا يفهم شيئا حين دخل عليهما رجل عجوز
يقترب في سنه من جده.. وعلى الفور تحدث جده. وأشار إلى العجوز؛
- أعرفك بمجنون السرداب.. أكيد تعرفه..
نظر إليه خالد ؛ 
أيوة طبعا.. الحاج مصطفى أصلان!!
- مصطفى كان أول واحد فكر إنه ينزل السرداب من خمسين سنة.. وكنا مسمينه
مجنون السرداب.. وكان دايما يقول إن عنده معلومات محدش يعرفها عن
السرداب. ومستني اليوم اللي يقرر فيه حد ينزله.. بعد ما أبوك وأمك مرجعوش..
ثم تركهما ي يكملا حديثهما بمفردهما..
نظر خالد إلى هذا العجوز.. وتعجب مما قاله جده فإنه يعرفه منذ سنوات
عديدة.. ولم يعلم أنه مجنون السرداب الذي طالما سمع جده يتحدث عنه وهو
صغير.. حتى قطع صمته العجوز؛
- جدك حكى لي أد إيه انت عاوز تنزل سرداب فوريك.. وأنا اتأكدت دلوقت..
- أيوة.. بس أنا أول مرة أسمع إن السرداب اسمه سرداب فوريك..
تابع العجوز حديثه:
- هو ده الإسم الحقيقي للسرداب.. ولو بحثت عن الإسم ده في أي مكان استحالة
تلاقي أي معلومة عنه..
ثم تنهد وأكمل؛
- الناس بتفكرنا أنا وجدك في عداد المجانين لو اتكلمنا عن السرداب.. ومش
مصدقين إننا من خمسين سنة نزلناه فعلا.. بس دي عندهم حق فيها..
فسأله خالد:
•عندهم حق.. يعني إيه؟

فأجابه العجوز : أيوة.. عندهم حق، يمكن دي معلومة أنا الوحيد اللي أعرفها..
إن من خمسين سنة لما نزلنا احنا الآربعة.. منزلناش سرداب فوريك.. ويمكن عشان
كده طلبت من جدك إنه يسيبنا لوحدنا.. لأني مش عايز أحطم نقطة فخره
- أومال النفق اللي نزلتوه ده كان إيه؟
- النفق ده مجرد طريق لسرداب فوريك.. والدليل على كلامي إن النفق على عمق
مش كبير.. وله مسافة معينة. والدليل الأكبر إن لمبات الجاز انطفت بعد دقايق
من نزولنا..
أه.. العفاريت ..
فضحك الرجل؛
- لا. تقصد التهوية.. النفق غير السرداب.. الأكسجين في النفق قليل.. وتقريبا
ممكن ميكونش موجود لو باب النزول اتقفل.. ووقتها لما لمبات الجاز انطفت أنا
قلت عفريت.. والكل خاف وجري.. بس بعد كده اكتشفت إنه كان خيال حد فينا..
ومن جوايا كانت سعادتي ملهاش وصف.. لأني حسيت إني حطيت رجلي على أول
طريق السرداب.. وفضلت حاطط أمل لنفسي إني هوصل للسرداب في يوم.. بس
السنين فاتت. والمرض حاصرني. وفضلت مستني اليوم اللي ينزل فيه حد غيري
السرداب.. ويحقق حلمي.. ثم أخرج كتابا قديما من معه.. وأكمل؛
• الكتاب ده من نسخة واحدة.. اللي كتبه شخص نزل السرداب قبل كده.. لقيته
بالصدفة في كتب والدي لما كنت شاب.. لكن للأسف عامل الزمن كان أثر عليه
قبل ما ألاقيه.. فكان السليم منه تقريبا عشر ورقات بتتكلم عن سرداب فوريك..
ثم أعطى الكتاب لخالد.. وأشار إليه أن يقرا سطور الكتاب بصوت عال..

أخذ خالد الكتاب ليقرا وريقاته.. بينما جلس العجوز ليستمع إليه. ويحتسي كوب
الشاي الذي برد بالفعل.. وبدأ خالد في قراءة سطوره المكتوية بخط اليد.. والتي
تحدثت عن فوريك. أحد الأثرياء الذين تواجدوا في العصر المملوكي.. وكان يمتلك
تلك المنطقة التي توجد بها بلده، البهو فريك - التي كانت تسمى وقتها.. بيو فوريك..
وما يحيطها من بلدان. وقد أمر أن يتم حفر ذلك السرداب على عمق كبير كي
يكون ملاذا له ولأهل مدينته إن تعرضت بلاده لأي غزو.. واستغرق حفره وتشييده
أكثر من خمسة عشر عاما.. وخزنت به ثروات كثيرة من ذلك الزمن..
ثم تحدث من قام بكتابته عن رحلته للسرداب.. وعن ذلك النفق الذي لا توجد
به تهوية.. ولابد من تجاوزه في أسرع وقت إلى السلم الحقيقي للسرداب.. والذي
يمتد لأكثر من ثلاثين مترا تحت الأرض.. ومنذ تلك اللحظة فلن توجد أدنى مشكلة
بالتهوية.. فقد صمم هذا السرداب بكل براعة.. لا يعرف كيف تمت تهويته بتلك
الطريقة.. أما تعجب خالد فقد زاد حين قرا أن السرداب لايكون مظلما ليلا يوم
يكتمل البدر في السماء رغم وجوده تحت الأرض.. إنهم مهندسو الماضي.. يا لها من
براعة.. حتى انبهت العشر ورقات حين كتب صاحبه:
"كنت أظن أن الكنز الحقيقي هو الثروات التي خزنت به.. ولكنني اكتشفت ما هو
أثمن من ذلك كثيرا، وأعظم من كنوز فوريك.. إنني اكتشفت...
حتى انتهت العشر ورقات دون أن تكتمل الجملة..
نظر خالد إلى العجوز في لهفة؛
• اكتشف إيه؟
فأخبره العجوز أنه لا يعلم.. وأنه وجد الكتاب على تلك الحالة.. وظل سؤال ماذا
اكتشف صاحب هذا الكتاب يشغله طوال خمسين عاما.. ثم نظر إلى خالد؛
• لو كنت عاوز تكتشف اللي اكتشفه.. لازم تكون في السرداب الليلة دي..
- الليلة دي؟!!
- أيوة.. الليلة دي القمر بدر.. وده التوقيت اللي بيكون فيه السرداب منور حسب
كلام الكتاب..
فصمت خالد قليلا.. ثم نظر إليه:
- وأنا مستعد أنزل.. مستعد لفرصة حياتي..
كانت الساعة تقترب من السادسة حين تركه العجوز وغادر.. وترك معه هذا
الكتاب الذي تصفحه لأكثر من مرة.. ومع كل مرة تزداد رغبته في نزول السرداب..
يدفعه ذلك الفضول إلى معرفة ما اكتشفه كاتبه.. يشعر أنه يمتلك سرا من أسرار
الزمان.. ويسأل نفسه: هل اكتشف كنوزا لا حصر لها؟.. هل توجد آثار بالأسفل.
وأكون أنا مكتشف القرن الحادي والعشرين؟.. وظل هائما في أحلام اليقظة..
اقتربت الشمس من المغيب فصعد أعلى بيته.. ونظر إلى بلدته.. ينظر إلى أراضيها
الزراعية.. وإلى الأشجار العالية. والطيور التي تزينها.. ينظر إلى البيوت المجاورة
وكأنه يراها لآخر مرة.. يستنشق نسيم بلده العطر، ويتحدث إليها.. ربما يكون آخر
شهر لي هنا.. أتمنى ألا يكون.. ثم عاد إلى حجرته ليتم استعداده لرحلته..
مر الوقت، ودخل الليل. وزينت السماء بالبدر.. وها هو ينتظر حتى يسكن الهدوء
البلدة.. وهو يعلم أنه لن ينتظر كثيرا.. فعادة يدب الهدوء بلدته بحلول العاشرة
مساء على الأكثر.. لا يتأخر با سوى صديقه دكتور ماجد منير، والذي يغلق
صيدليته في وقت قد يتجاوز الثانية عشرة.. إنه لا يريد أن يراه أحد وهو متجه إلى
ذلك البيت المهجور في أطراف البلدة.. حتى دقت الساعة الواحدة صباحا..
واستعد للرحيل، ونظر إلى جده مبتسما مودعا له:
- إن شاء الله هرجع..
فابتسم جده؛
• أكيد هترجع إن شاء الله.. ثم طلب منه أن ينتظر لحظة.. وأخرج الصندوق
الخشبي.. ثم فتحه وأخرج منه (ألبوم) الصور القديم.. فسأله خالد؛
- إيه ده؟!!
فقام جده بتقليب بعض صفحاته ووقف على تلك الصورة التي توقف أمامها من
قبل، وتحدث إليه:
- عارف مين دول؟
فنظر إليها خالد ومازالت الدهشة تتملكه.. فأكمل جده؛
- دي صورة أبوك وأمك.. كانت آخر صورة لهم قبل ما يسيبوني.. ثم دمعت عيناه
فدمعت عينا خالد هو الآخر.. وظل متأملا بها:
- أول مرة أشوف صورتهم..
- كنت مستني اليوم ده.. وفضلت معذب نفسي عشان اليوم ده.. ثم أعطاه
الصورة. ومسح بيده دموعه. واحتضنه.. فهمس خالد في أذنه:
- هرجع لك يا عبده.. هرجع..
ثم غادر..
ان الهدوء يسود البلدة.. ولم يكن يسير بشوارعها أحد سوى خالد والذى كان
يحمل حقيبة كتفه . وما بها من طعام يكفيه لعدة أيام. ومصباح للإنارة. والكتاب
الذي أعطاه له العجوز. وبعض الأوراق والأقلام، اعتقادا منه أن هناك ما قد
يحتاج لتدوينه.. وقد وجد عدم حاجته ل (كاميرا ) تصوير فوجود هاتفه الخلوي
يغنيه عنها..
كان يسير مسرعا إلى أطراف البلدة حيث ذلك البيت المهجور.. وما إن اقترب منه
ومن سوره العالي حتى عزم على تجاوز ذلك السور..
أما جده فكان يجلس وحيدا يقرا في كتاب الله. ويدعو ربه أن يعود به سالما.. حتى
سمع طرقات على باب بيته.. وقد ظن أن خالدا عاد من جديد.. وما إن قام ليفتح
الباب حتى وجد منى في وجهه.. وقد اندهش حين وجدها أمامه في ذلك الوقت
المتأخر من الليل.. حتى سألته؛
- فين خالد..؟!! ومش بيرد على تليفونه ليه؟!
- ليه؟!
أجابت منى في فرحة:
- خلاص يا جدو.. قدرت أقنع بابا إننا نتجوز أنا وخالد.. ومش قادرة استنى للصبح
عشان أقوله.. خايفة يكون لسه زعلان من الصبح..
فابتسم العجوز ثم صمت..
تجاوز خالد سور البيت المهجور.. وأنار مصباحه حين وصل إلى مكان الصخرة
الذي وصفه له جده بالتفصيل.. والتي كان يصعب أن يصل إليها دون وصف جده
له.. ثم حاول إزاحتها فلم يستطع في البداية رغم قوته البدنية.. فحاول مرة أخرى
دون أن يستطيع.. فصاح بنفسه أنه لن يستسلم.. وعاد للمحاولة مرة ثم مرة ثم
مرة.. وقد انساب العرق من جبينه. ولكن دون جدوى..
حتى وجد لوحا قديما من الخشب ففكر أن يكون وسيلة لإزاحة الصخرة.. وبدأ
يحاول من جديد، ويصرخ مجددا لن أستسلم.. ويدفع بقوة، ويضغط أسنانه
ببعضها.. ويدفع اللوح الخشي.. ويصيح، ويدفع.. حتى تحركت الصخرة بعض
الشيء تبعها سقوطه على الأرض..
ما إن تحركت الصخرة تلك الحركة الضئيلة.. حتى سهل تحريكها بعد ذلك..
ودفعها رويدا رويدا.. بعيدا عن باب حديدي كان يرقد أسفلها.. حتى سقط على
ركبتيه.. وازدادت ضريات قلبه. وتسارعت أنفاسه.. وقال مبتسما لنفسه:
• إجمد يا بطل.. إحنا لسه في البداية..
بعدها نظر إلى الباب الحديدي الذي احتل مربعا من الأرضية.. وسمى الله.. وقام
بفتحه. فلم يكن موصدا بأي نوع من الأقفال سوى الصخرة.. وما إن فتحه حتى
أحدث صريرا دل على غلقه لمدة طويلة.. ثم وجه ضوء مصباحه بداخله فوجد
سلما عموديا إلى الأسفل.. فتحدث إلى نفسه مشجعا لها:
- بسم الله نبدأ طريقنا للسرداب..
بعدها بلحظات بدا نزول ذلك السلم.. وما إن نزل حتى اغلق الباب مجددا.. وكأنه
حبس.. فعلم أن اللوح الخشبي الذي كان يدعم فتح الباب قد كسر.. فلم يهتم
بذلك.. ما شغل باله هو تجاوز النفق في أسرع وقت.. وتابع نزوله دون أن ينظر
لأسفل.. يخطو درجة وراء الأخرى.. حتى وجد نفسه داخل نفق مظلم.. لا يوجد به
ضوء سوى ضوء مصباحه.. فتحرك بضع خطوات يتحسس طريقه.. يمسك
المصباح بيده اليمنى. ويزيح شباك العنكبوت الكثيفة بيده اليسرى.. حتى سار
لعدة أمتار فبدا يشعر بسرعة ضريات قلبه.. يحاول أن يرى نهاية ذلك النفق..
ولكن دون جدوى بعدما حالت شباك العنكبوت دون ذلك..
تقدم خالد في الظلام أكثر وأكثر.. يبحث عن سلم السرداب الذي أخبره به
العجوز.. وأسرع في تحركه بعدما شعر بضيق صدره الذي ازداد حين قل الهواء
بصورة شديدة.. وبدأ يضع يده على رقبته من الاختناق.. ويتحرك، ولا يجد ذلك
الطريق إلى السرداب.. يجري كالمجنون وقد خرت قواه.. يتحسس حوائط النفق
بيده.. يبحث عن أي فجوة بها.. ولكن دون جدوى.. يسأل نفسه لاهثا: أين أنت أيها
الطريق؟.. يعلم أنه لن يستطيع حتى العودة إلى سلم النفق.. سيموت مختنقا قبل
أن يعود.. يسرع في طريقه إلى الأمام.. يبحث في كل مكان.. على الجانبين وأعلى
وأسفل.. ولكنه لم يجد شيئا.. حتى سقط على الأرض.. وسقط بجانبه مصباحه.
وصرخ بصوت واهن؛
- لا يوجد سرداب.. لا يوجد..
ثم صمت.. وأمال رأسه جانبا.. وكاد يغمض عينيه مستسلما.. قبل أن ينظر بعيدا
إلى بقعة أضاءها مصباحه الملقى بجواره.. فابتسم ابتسامة شابها إعياء شديد.
وتحدث:
- سرداب فوريك.. ثم أغمض عينيه للحظات حتى فتحهما مرة أخرى.. ونظر
مجددا إلى ألواح خشبية متراصة ظهرت في بقعة الضوء. وكأنها باب صغير يوجد
بأحد جانبي النفق..

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Feb 11, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

ارض زيكولا Where stories live. Discover now