الفصل السابع

26.1K 1.5K 104
                                    

الفصل السابع...

وضع زيدان قدحه الخاص فوق رخام المطبخ ينتظر نضوج القهوة بعد أن قام بإعدادها في تروٍ بسبب صداع حاد لازمه منذ الأمس حتى الصباح رغم تناوله لبعض الأدوية إلا أنه كان بشع لدرجة أنه حظى بساعات قليلة من النوم بسبب أحلامه المتراقصة ما بين عاطفة جياشة منحصرة في بعض اللقطات لمليكة وظهور غامض لنهى أمامه من العدم.
لن يتوارى عن مشاعره الثقيلة في الصباح عندما فتح عينيه يستقبل نور الصباح والشغف يتسلل منه كـ كهل ينتظر الموت كل يوم ولا يأتيه.
أعاد بصره للقهوة ينتظرها بملل، وتفكيره المضني يرفض تركه حتى في أبسط الأمور، قلب رأسه يمينًا ويسارًا عله ينسى أمر مليكة ونهى... وهنا توقف مبتسمًا معترفًا بداخله أن أمر نهى يمكن التغاضي عنه مؤقتًا ولكن مليكة كيف ومتى وهي حبيسة أفكاره، سجينة قلبه حتى في غيابها..
أقلقه حالة الشحوب التي رآها بها في الأمس حينما خرجت خلف الطبيب الذي لم يعجبه هيئته إطلاقًا وبسببه طرق الشك أبواب قلبه بعنف ولكن لمعرفته بشخصيتها وخصالها القوية الشريفة التي تجعلها مختلفة عن بقية الفتيات، يكاد يقسم أنها أكبر من أي انحدار أخلاقي قد تقع فيه.

-مليكة لا يمكن تعمل كدا أبدًا، دي غير أي بنت.

همس بها لنفسه وتوسعت ابتسامته برضا حتى في فراقهما لا يزال يراها ملكة فريدة في عصرها، ورغم تجاربه العاطفية التي أغرق نفسه بها بعد ابتعادهما إلا أنه دومًا يراها الأنسب والأفضل والأجمل، ورغم أن تلك التجارب لم تكن سوى إلهاء له للخروج من شرنقتها لكنه فشل وبجدارة وكأنها ألقت عليه سحر أمازيغي كي تبقى في قلبه كل تلك السنين.

-ست سنين ومش عارف أهرب من حبك.

عاد مجددًا ليحاكي نفسه الملتاعة بنيران الهوى، وكأنه اعتاد على محاكاة قلبه ليواسيه في غيابها، قبض فوق حافة المطبخ بعنف يحارب مشاعره التي تدفعه للجنون بسبب اشتياقه الدائم لها، تدفعه للحاق بها في كل مكان دون سبب أو رابط بينهما، أصبح كالمراهق من جديد بمجرد ظهورها وكأن قلبه كُتب عليه الشقاء في عشقها.
فارت القهوة وفاضت بسخاء كحال مشاعره التي تفيض حنينًا لها، فأجفل من شروده على صوت ساخر خلفه يعلق بشفقة:

-حرام حالتك صعبة خالص.

التفتت زيدان يرمق أخاه المستند بجانب جسده على المبرد يمرر بصره عليه في سخرية أزعجته، فصاح بنزق وهو يبتعد:

-ابعد عني أحسنلك.

ترك زيدان كل شيء خلفه مبعثرًا كحال مشاعره الآن بعد نظرة الشفقة المصوبة نحوه، دخل غرفته يهرب من أي حديث قد يتطرق لقلبه المجروح، يبحث عن أي شيء يُلهي به نفسه حتى لو كانت ملابسه التي بدأ في شدها بعنف ثم إعادة طيها وترتيبها دون هدف، الأهم أنه لا يعود لذكرى قسمت قلبه لشطرين وكانت هي نقطة الوداع.
وبعد عدة دقائق خارت يداه بجانبه تزامنًا مع إخراجه لعدة أنفاس ملتهبة وهو يعلن استسلامه، سامحًا لنفسه بخوض ذكرى كانت الدافع لفراقهما...
                               **
دخل زيدان مكتبه بعد أن قضى ليلة أمس في مهمة كبيرة أفضت بنتائج عظيمة وقد يسمو إلى ترقية مبكرة، من المفترض أن يسعد لأمر كهذا ولكن الحزن خيم عليه منذ صباح الأمس حينما حاول الاتصال بها مرارًا وتكرارًا وهاتفها مغلق، لقد تلفظ حينها بأقذر الألفاظ، وفقد أعصابه محترقًا بسبب غيابها ليلة كاملة عنه لا تُجيب على اتصالاته وبالأخير أغلقت الهاتف بكل تبجح، لقد أطلق وعودًا بعدم مسامحتها بعد ما مر به من قلق في حين أن مشاعره المضطربة تقابلت مع غضب عصف بذاته لتعلقه الزائد بها واهتمامه المبالغ بها بينما في المقابل هو لا يحظى بربع ذلك الاهتمام وكأن العلاقة أصبحت بعد سبعة أشهر من طرف واحد، لقد سئم من تحفظها في مشاعرها، وبرودها الدائم نحوه، وكأنه شحاذ يطلب جرعات من الغرام والحب ليس من حقه وإن تكرمت ومنت عليه تكون بخيلة.
جلس فوق أريكة جلدية مريحة وأراح جسده المنهك بينما يده كانت تفتح صندوق يخرج منه هاتف جديد بعد أن فقد أعصابه بالأمس وكسر هاتفه بعصبية مفرطة، وضع شريحته بالهاتف الجديد ثم قام بتشغيله منتظرًا اتصالات عائلته للاطمئنان عليه، وقد أصابه اليأس منها، معترفًا أنها لن تتنازل من برجها العالي وتتكرم للاطمئنان عليه!
رن هاتفه بأرقام يعرفها جيدًا، لقد خدعت ظنه هذه المرة وأجرت اتصالاً به قبل عائلته، مد أنامله للرد ولكنه تراجع بغضب سافر متذكرًا ما عانى به بالأمس، رفض الرد وغضبه يتفاقم بشراسة قاصدًا إثارة قلقها عليه هو الأخر..انتهى اتصالها وقد شعر براحة تعتلي صدره الملتاع شوقًا، مقررًا ألا يرد عليها اليوم وأن يعاملها مثل ما تعامله، ترك هاتفه فوق الطاولة ناظرًا إليه بتحدٍ وابتسامة شرسة تلتصق بفمه، مرت الدقائق وهو على نفس الحالة لا يصدق ما تفعله لقد اكتفت باتصال واحد.. واحد فقط لتطمئن عليه، ربما لا يكون اطمئنانًا وكانت مجاملة عابرة لكثرة اتصالاته بها بالأمس، تهدجت أنفاسه بلهيب مستعر وأمسك الهاتف بقبضته القوية، مقررًا هدم قرارته من أجل مواجهتها لمعرفة سبب جسور الجفاء بينهما.
قفز بغيظ مجريًا اتصالا بها حتى انقطع الرنين وجاء ردها الناعم أخيرًا:

 رواية منكَ وإليكَ اِهتديتُWhere stories live. Discover now