الفصل الواحد والثلاثون

ابدأ من البداية
                                    

.........
-إنت أهبل.... فيوزات مخك ضربت ع الآخر..!
يصيح أكرم بتلك الكلمات من بين أسنانه هو ينزل الدرجات المتبقية بتعثر خطواته ولازال النعاس يداهم خلايا عقله، ولا يعلم بتلك اللحظة كيف ارتدى ثيابه..
وصل إليه واقترب منه يقلص المسافة الفاصلة بينهما، يقف يوازيه طولًا رأسه برأس الحانق أمامه.. يتابع بنبرة حادة
-عمك إيه اللي عايز تروحله الساعة 2..!!
غامت عينا قاسم، وقد اغضبته لهجته..
-لو هتقعد تقطمني خلاص سيبيني أدخله لوحدي..
جز أكرم على نواجزه، يشيح بوجهه عنه يحاول جلب الهدوء لذاته من أجل إحتواء الموقف.. تنفس بعمق قبل أن يهتف بهدوء مصطنع
-يابني افهم مش كمال قالك...
ولم يعطه فرصة لاستكمال حديثه أوقفة في خشونة قاطعًا أي حديث
-مليش دعوة بكمال.. كل واحد فيكو نايم في حضن مراته ومحدش حاسس بيا..
اتسعت حدقتي أكرم من وقاحته، نهره بانفعال
-ولاه.. بطل قلة أدب ولم نفسك..
ثم زفر بحنق محدثًا نفسه وهو يرمق الآخر بسخط "وأنا أقول الدنيا واقفة معايا ليه!!"
قاطعه قاسم بنفاذ صبر..
- اخلص هتدخل معايا ولا لأ..!
تنهد أكرم بقلة حيلة.. حيث أن نصف المرار ولا المرار كُله.. غمغم بغير رضا
-هدخل وأمري لله..
.. سبقه قاسم بخطوة واسعة دون تراجع، جسده متحفز ينوي عراك وملامح وجهه لاتنذر بالخير..
أوقفه من ساعده يسأله بقلق من بين عيناه..
-ناوي تقوله إيه..؟
تجهم قاسم.. ومفاجأته بانت على وجهه، يردف دون هدى يحرك يديه بحيرة..
- مش عارف بالظبط.. مكنش ف دماغي حاجه محددة.. بس الأكيد إني ههزأه..
-الله يخربيتك، ماتتكلمش وسيبني أنا أتكلم..
أومأ برأسه مرغمًا، ينفث أنفاس غاضبة من أنفه، يسير خطوة فيستوقفه أكرم مرة أخرى وقد نال منه التوتر..
-استنى.. معاك سيجارة؟!
فتش قاسم بجيوب سرواله الخفيف، حتى أخرج علبة تكاد تكون فارغة عدا من واحدة، أخرجها وألقى بالعلبة الورقية بعيدًا
- آخر واحدة..
أخذها أكرم منه، يضعها بين شفتيه ريثما اخرج قاسم قداحة كانت بجيبه مع العُلبة، وأشعل اللفافة المستقرة بطرف ثغر أخيه..
يسحب نفسًا طويلًا ثم ينفثه على مهل بالأجواء، ليتابع بعدة أنفاس قبل أن ينفث النفس الأخير بوجه أخيه..
يهتف من بين أنفاسه المعبقة بدخان تبغه..
-انت عارف انك مجنون صح!!
فيميل شدق الآخر باستمتاع.. يُقر بحقيقة أمرهما
- مش أجن منك... عشان كدة كلمتك..
وتبادلا النطرات بينهما بصمت، وابتسامة ماكرة تزين محيا الاثنين..
يلقى أكرم بلفافة التبغ أرضًا قبل أن يدهسها بقدمه..
تبع أخيه ليقفا أمام باب بيت جده، حيث عمه يقبع بالداخل.. يرفع قاسم يده ويضغط جرس الباب دون توقف تحت أنظار أكرم المراقبة، يركز بهيئة قاسم ولم يرضيه مايرتديه بـ هاته اللحظة.. بنطال من الكاروه الخفيف وقميص قطني بلون كحلي "ثياب بيتية للنوم"
-هتقابل عمك ببنطلون البيجاما..!!!
قالها أكرم بأنف مشمئز ونظراته تزداد أمتعاضًا، وللتو انتبه قاسم لما يرتديه لثانية شعر بالحرج ولكن بعدها لم يهتم.. رفع رأسه يقيم بنظرات ثاقبة شقيقه، حيث ثيابه هو الآخر كارثة لا تقل عن كارثة هيئته
امتقع وجه قاسم هو الآخر وامتعض، يسخر بنبرته
-شياكتك مقوية قلبك..
هز رأسه بيأس من حالهما، وقاسم السبب لولاه ماكان إرتدي ثيابه بعشوائية هكذا.. ينتظران الرد.. أن يفتح أحدهم الباب..
ولم يطل انتظارهما وهما يسمعان صوت خطوات بالداخل.. وقبل أن تقترب الخطوات المتثاقلة من الباب..
زفر أكرم بقوة قبل أن يميل على كتف قاسم ويهمس بخفوت..
- أنا عايز أقولك حاجة مهمة... كمال بكرة هينفخناا...
.. وفُتح الباب بزاوية صغيرة، وكان من فتح هو العم.. يقف أمامهما يحجب عنهما رؤية الداخل..
يتسائل بعينيه، والقلق بلغ أقصاه وظهر على قسماته.. ينظر إلى أكرم باستفهام يوزعه بينه وبين قاسم، وملامح قاسم ووقفته المتأهبة لا تعجبه ولا تطمئن قلبه فيستقر بنظره على أكرم، أكرم الذي تسمرت مقلتاه بذهول، فعمه يرتدي مئزر من الساتان..!!
سألهم بأعصاب منفلتة..
- في إيه ياولاد.. قلقتوني..!!
وتدارك أكرم ذهوله.. هتف بجدية بنبرة أجشة
-ممكن نتكلم مع حضرتك شوية..
نظر إليهما باستنكار، يشير لتأخر الوقت
-دلوقتى..!!
وقد شعر بغباء ماقام به، وحماقة أخيه وأنه سار وراؤه كالأبله ولكن لا وقت للتراجع.. الأمر حدث وسينتهي..
يردف بشبه رجاء..
-معلش ضروري..
ابتعد عمهما عن الباب، يسمح لهما بالدخول ..
- اتفضلو...
أغلق الباب فور دخولهما، وسبقهما للداخل وتبعاه هما يلحقان به لصالة البيت.. جلس العم على الأريكة وبدورهما جلسا بالمقابل على أريكتين منفصلتين..
ران صمت ثقيل على جلستهم، يتبادلون فيها النظرات اللائمة.. والعاتبة، والحانقة، ولم يقوى أيهما على بدء الكلام، ولكن أنفاس عمهما الضجرة وعقدة حاجباه.. جعلت أكرم يتدارك الموقف
يبتسم بزيف، يغمغم بأي شيء في اللاشيء
-أخبار صحة حضرتك إيه؟!
يسخر وقد فاق ضيقه الحدود
- أكيد مش جايين الساعة 2ونص عشان تسألو عن صحة حضرتي..!!!
لم يتمالك قاسم نفسه.. لم يستطع كبح جماح لسانه، يهتف باندفاع..
-أنا اللي جايلك ياعمي مش أكرم.. عاتب عليك ازاي تتكلم عن عريس لبنتك وانا موجود أودامك وعايزها...
طالعه عمه بصدمة وفاهٍ فاغرٍ بعد أن جحظت عيناه، يشعر بأن الدم يضرب برأسه.. وأكرم لايقل عنه بشيء يُخفي بكفه وجهه من الحرج.. يبتلع ريقه بتوتر وهو يرى ملامح عمه المكفهرة وعيناه المتسعة غضبًا على آخرها..
كاد عمه أن يرد، أن يقف ويركله بكل قوته خارج البيت، ولكن مجيء حنين قطع ماكان ينتوي فعله وأنقذ الموقف..
تخرج من غرفتها وتترك بابها موارب دون عناء غلقه ، تقترب من جلستهما بتساؤل قَلِق دون كلام.. راقب قاسم خطوات اقترابها دون شعور منه وقلبه يتضخم وكأنه يتشبع وجودها، يرتكز بنظراته على سترة منامتها ذات السحاب الطويل المغلق لآخر عنقها..
أشاح بوجهه وعينيه وهو يستمع لصوت أبيها المستاء
-حنين.. صحيتي ليه؟
-قلقت من صوت الجرس..
ثم جلست على طرف أريكة تجاور أكرم وملامحها شاحبة من القلق، سألت قاسم دونهما، تخصه بالنظرة..
- فيه إيه؟!
وتفاجأ بأنها اختصته بالسؤال، رغم الحرب المشتعلة بداخله إلا أنها خمدت وهو يراقب شفتيها الناعمتين وهي تسأله وتخصه بحديثها.. للحظة انتشى داخله بغرور ذكوري، وأعاد التأمل وتلك المرة بشغف وشوق كبيران رغم حفاظه على ملامحه المتجهمة، منامتها القطنية المحتشمة بأكمام تتجاوز المرفقين وخصلات منسدلة على أكتافها بفوضى وقد عاد اللون البندقي لخصلاتها ثانيةً وزحف احمرار صبغتها إلى الأطراف..يتنهد وهو ينزل بنظراته لأسفل تحديدًا عند قدميها الحافيتين...!
كاد أن يفتح فمه ويجيبها، ولكن ضغطة قاسم على ساعده أوقفته يحذره بعينيه، يأمره بالسكوت فزفر بقنوط ، وحين انصاع مكرهًا، تكلم أكرم بعد أن اعتدل بجلسته بحمائية الأخ الكبير، والوضع كارثي
-الموضوع باختصار ياعمي.. إن قاسم طالب إيد حنين منك..
عقد العم حاجباه بضيق.. يستنكر الموقف كله.. يرسل لهما نظرات ممتعضة عم يرتدو أمامه
-جاي يطلب ايديها الساعة 2 بعد الفجر!!
احتدت نبرة قاسم متعجبًا
-هي مشكلتك الساعة 2..يعني لو جيتلك العصر هتوافق..!!
وتجاهل عمه وقاحته وعدم تهذيبه، ولسانه المنفلت.. يتجاهله عن عمد ويوجه كلامه لأكرم..
-مشكلتي إن أنا أديت للراجل كلمة.. وهما مستنين رد حنين..
حينها توجهت عيناه صوبها فاحتقنت خجلًا ولكنه لم يراعِ سألها باندفاع لم يستطع كبته
- وانتِ ردك ايه ياحنين هانم..!!
أسبلت بأهدابها، تمتم بنبرة رقيقة
-ردي ع إيه ياقاسم..
تتابع وهي تطأطأ رأسها وقد تضرجت وجنتيها بحمرة قانية حلوة كحلاوة قسماتها بـ هاته اللحظة..
- بصراحة يابابا أنا وقاسم متفقين ع الخطوبة من حوالي أسبوعين ..
ترفع رأسها ببطء وبتمهل، فتصطدم بعينا قاسم التي ترمقها بذهول أشبه لصدمة أصابت جهاز النطق عنده، فتحيد بعينيها لأكرم فترى أنه يشبهه بتلك اللحظة، فملامحهما وقت الصدمة والمفاجأة واحدة..
تستكمل وهي تفرك كفيها بتوتر.. تعض على شفتها بخحل.. تستكمل ببراءة
- وكنا خلاص هنكلم جدي بس مجية حضرتك خلتنا نأجل الموضوع..
وأول من تجاوز حيز الصدمة كان أكرم، مال على كتف أخيه بعدما اقترب منه بجزعه، يهمس بصوت بالكاد مسموع لقاسم فقط..؛
- ولاه.. إنت بتشتغلني ومعلق مع البنت من ورايا..!
نطق قاسم بلسان ثقيل يدافع، ينفي عن نفسه التهمة
-والله العظيم ماحصل..
استجمع والدها شتات نفسه، يحاول كبح غضبه.. يسأل هادرًا وسؤاله للجميع
-ولما أنتوا متفقين... ليه لما قولت ع العريس متكلمتوش وعرفتوني.. ..!
وتكفلت هي بالرد مشكورة، أسبلت أهدابها لتهمس مرة أخرى
- مرضتش أحرج حضرتك أودامهم يابابا..
تهكم الأب بنزق
- وانتِ خليتي فيها حضرتك..
يوزع نظراته الحانقة بينهما بشك وريبة، والصدمة والذهول على وجه قاسم جعلاه يشعر بخطأ ما.. ولكنه قرر إنهاء الموقف وفض الجلسة، يسألها بنبرة مشتدة
-يعني إنتِ عايزة قاسم..!
تجمد جسد قاسم ينتظر ردها.. ودقات قلبه بلغت العنان، ورغم المؤشرات الأولية كانت إيجابية، ولكن نسبة قلق بسيطة لازالت تسكن قلبه.. رغم صدمته بحديثها وعبثها.. تقريبًا أجمل صدمة مرت عليه طوال سنوات حياته، وستكون الأجمل أيضًا لمستقبله كله..
ترفع نظرتها الرائقة ببريق العسل لتواجه ذوبان البن بمقلتيه.. تثبت النظرة بالنظرة لاتحيد عنها.. تتكلم بثبات وثقة بصوت واضح ومسموع..
- آه.. أنا بحبه....

بيت القاسم للكاتبة ريهام محمود "مكتملة" حيث تعيش القصص. اكتشف الآن