حقبةٌ من النزيف.

167 18 11
                                    

عبرت اللحظات والهنيهات مَمشى الزّمن، وتكالبَت الدقائق فوق بعضها حتى مرّت نصفُ ساعةٍ لم يشعر سيدونا بها أبدًا. فقد كان يشعر أن الوقت قد توقّف في لحظةٍ ما عن المضي، وصار سرمديًا لا يمضي ولا يرتد. أحسّ بتلك الدقائق تتكرّر من حَوله بلا توقّف، تلك الدقائق التي صرفها مع انتهار سيدريك، والمواجع التي أخرجها من أحشاء الماضي فتقيأها على جراحه.

بقيَ جامدًا في موضعه بعد رحيل سيدريك، بقيَ مكانه كما لو أنّه ثقُل بمشاعر تزن أطنانًا حتى ما عاد يستطيع الحراك. وبما أنّه كان يجلس أرضًا من البداية بعد سحبه لجالاهاد وسقوطه إثرها، تمدّد على العشب المبلّل بالمطر، فهبطت بعض خصلاته فوق الأرض لينكشف وجهه المضرّج بالبكاء الأبكم.

تأمّل السماء فوقه بعينين مخضلّتين بالدمُوع، وسكن مكانه إلى أن هدأت أنفاسه فما عاد يُرى علو صدره من أثر التنفس. كانت عيناه آنذاك بلونِ الغرق، بلونٍ يضاهي السماء في لونها. أزرقٌ باهتٌ يميل للبياضِ حتى كأنّه الأبيض نفسُه. بدرجةّ من تدرّجات النحيب. بل من تدرّجات الهلاك.

عاد كلامُ سيدريك يعبث في ذاكرته، ذاكرته التي سخِر منها سيدريك نفسه، ذاكرته التي تتذكر كل حرفٍ نطق به بكل تفاصيله رغم وصف سيدريك لها بالنقيض. فراحَ يستمع لكلامه الذي يتردّد في أُذنيه كأنّه ما زال يصرخ به. كان يشعر بالعجزِ المزعج لكونه لا يستطيع الفرار من هذا الكابوس الذي سيتلبّسه في الأيام القادمة، وكانت هذه الفكرة وحدها كفيلةً بأن تبعث المرارةَ في قلبه.

كيف له أن يكون بكلّ تلك الأنانيّة؟ كيف له أن يكون أكثر شرًا من الشيطان عَينه؟ كيف له أن يعبث بجراحه المتفتّقة دون أدنى ندم؟ كيف له أن يقول كل ما قاله، دون أن يرفّ له جفن؟

خَلجَته تلك التساؤلات، وشعر على حين فجأةٍ بالقنوط المطلق، تصلّبت أوصاله مع سَيرِ هَبّةٍ من الرياح على طول جسده الغَضّ الممدّد، وارتجفت دواخله كما لو أنّها تحظى بنحيبِها الخاص، حتى فاضَ قلبه أخيرًا، واندفعت سيول دموعه خارجًا عقِب شهقةٍ خرجت بعد  أن كانت تسدّ هذا الفائض الغزير من الأدمُع.

أحسّ به جالاهاد الممدّد إلى جانبه، أحسّ ببكائه فقام يأنّ وهو يمسح رأسه في جيده، وراح يهزّه محاولًا التخفيف عنه، هذا الكائن الذي يُقال عنه أنّه وحشٌ وشيطان، يبدو أنّه لو نطق لحمل عنه نصف همومه وأحزانه فوق كونه يحملها الآن بصمتِه.

التفت إليه سيدونا وهو ينشقُ الهواء إلى داخل أنفِه المسدود من النحيب، ومرّر يده فوق رأس ذئبه في هوادةٍ بينما يقاوم رغبة البكاء الملحّة التي تتعاظم في داخله. نظرَ عينَي جالاهاد الزرقاوينِ الداكنتين، وتمنى لو أنه ترك له مطلق اليدِ في التعامل مع سيدريك. نعم. إنه نادمٌ وبشدة لأنّه ترك ذلك الإنسان المؤذي يكسّر قلبه حتى بات كسيحًا لا يقوَ على الهرب أبعد عن مشاعره الحارقة.

‏«صَه» همس لجالاهاد كي يسكُن مكانه معه دون أية حركة، فقد رغب في شدةٍ ببعض الهدوء، فقط بعض الهدوء الذي ربّما يعيد كل شيءٍ في دخيلته إلى نِصابه. أغلق على عينيه الحارّتين وتنهّد تنهيدةً بوزنِ الرياح، ثمّ شعر بحاجةٍ للدخول إلى المنزل، لأنّ أطرافه باتت تتخدّر شيئًا فشيئًا مع مرور الوقت.

نهضَ بمساعدةِ جالاهاد، ثمّ سار إلى المنزلِ وولجه. كان أوّل ما قام به عند دخوله هو توجهّه صوب المدفأةِ كي يشعلها، تناول بعض الحشائش الصغيرة ووضعها فوق الجمرِ الساخن فاشتعلت نارٌ صغيرة. سرعان ما وضع قطع الخشبِ المقطوعة السميكةِ فوقها، فظهرت شرارةٌ صغيرة وانتظر بعض الوقتِ كي تلتهمها النار وتتزايد في بطء.

أسندَ ظهره على الكنبةِ المتواضعة بينما صعد جالاهاد ونام في حضنه، قبّله بضع مرّاتٍ كما لو كان أمّه الحنون، ولمّا رآه يرتخي مع السخونةِ المنبعثة من المدفأة، أخذ يمسح عليه بكفه النحيلةِ في خفة كي يشعره بالأمان.

راقب النيران المشتعلة منذ لحظةِ أضرمَها، حتى شعر على حين فجأةٍ بكون عينيه قد انصهرتا مع ذلك الرمادِ المترسّب في الأسفل، لقد كان يشعر بحرّ الألمِ كما يشعر بدفءِ هذه النيران.

تعالى أجيجُ النيران عاليًا، وأرخى الهدوء والدفءُ سدوله على أرجاء الغرفةِ المتوسطة شبه المُعتمة، فقد كانت النوافذ مقفلةً ومختبئةً خلف الستائر التي تقف حاجزًا للنور الذي بالكاد تسلّل إلى الداخل.

جفّت ثيابه المبلّلة من تمدّده على العشب الرطب بسبب النيران، لكنّ أضلاعه التي لُفحت بالصقيع من أوّلها إلى آخرها لم يطُلها أيٌ من هذا الدفء. كان يشعر بقلبه المرهفِ الصغير يتلظّى كالخشبِ المحترق، ويلتهب أشدّ من النيران في المدفأة.

ترك ما تبقى من فيضان دموعه يسيلُ على خدّيه، حتى إذا ما لامست وجهَه، شعر بها تحرقه من كثرةِ الدموع التي سكبها. تناوله نشيجٌ خانقٌ سدّ أنفاسه، إلى أن خرج كشهقةٍ عاليةٍ زفرها زفراتٍ متقطعة مؤلمة، فارتجف على إثرها كما ترتجف أغصان الأشجارِ بعد زفرةٍ ريحيّة.

لم يستطِع تخطّي ذلك الكلام المؤذي، لم يستطِع ذلك مهما حاول الكذب على نفسه، لن يقدِر يومًا على تخطّي السهام التي تصيبُ موضع آلامه، ولن يقدِر حتى عندما لا تصيب تلك السهام ذلك الموضع بالضبط، إنّ كل نفخةٍ صغيرةٍ على جراحه تجعلها تلتهب في غمضةِ عين، فكيف له أن يتخطّى خنجرًا مغموسًا في السم طَعنه في منتصف صدره؟

لم يستطِع تخطّي ذلك الكلام المؤذي، لم يستطِع ذلك مهما حاول الكذب على نفسه، لن يقدِر يومًا على تخطّي السهام التي تصيبُ موضع آلامه، ولن يقدِر حتى عندما لا تصيب تلك السهام ذلك الموضع بالضبط، إنّ كل نفخةٍ صغيرةٍ على جراحه تجعلها تلتهب في غمضةِ عين، فك...

Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.
محبرةُ الأرواح.Where stories live. Discover now