شظايا (قصة قصيرة)

95 26 47
                                    

بعد كل غارة يقوم بها طيران العدو، كنّا أول من يحضر إلى المنطقة التي قُصفت وإلى محيطها،

ليس لإنقاذ الجرحى أو تفقد الخسائر كبقية القادمين، فنحن لم نكن نهتم بذلك،

كان هدفنا الحصول على أكبر كمية ممكنة من الشظايا.

التي كان يحمل كلّ منا جعبةً مليئة منها جمعها من المرات السابقة التي تم فيها قصف مواقع مختلفة أو ربحها في رهانات "الطرة والنقش" التي كنا نمارسها في المدرسة في أثناء فترات الفرص بين الدروس وفي الحارة حتى حلول المساء،

ولهذا فالقصف الذي يثير الرعب في نفوس الجميع ويتسبب في إثارة أعمدة الدخان وغيوم الغبار ويكسر زجاج نوافذنا ويوفّر ل "زمور الخطر" فرصة العمل،

كان بالنسبة إلينا، بعد انقشاع حالة الخوف وتلاشي أصوات الطائرات، مصدراً للفرح، حيث كنا ننطلق راكضين بكلّ ما أوتينا من سرعة إلى مكان القصف لنجمع ما نستطيع من الشظايا.

كان كل من نبيل وتيسير أوفرنا حظّاً في جمع الشظايا، لأن كلّاً منهما كان يملك دراجة هوائية،

ولذلك فقد كانوا يصلون إلى موقع القصف قبلنا بوقت لا بأس به مما يسمح لهم بانتقاء أفضل الشظايا،

فليست كل الشظايا بالمستوى نفسه لدى لاعبي "الطرّة والنقش"، كانت هناك شظايا كبيرة تصل إلى حجم راحة الكفّ أحياناً وربّما أكبر، وبعضها بحجم الإصبع،

هذه كانت لها قيمة خاصّة لدينا، وكان واحدنا عندما يشرف على الإفلاس يستبدل الشظية التي بحجم الكف بخمس شظايا بحجم الإصبع، حتى أن بعضنا كان يسمّيها (خمسة أو عشرة) مُقارناً إياها بالخمسة والعشرة قروش.

نبيل وتيسير كانا دائماً محطّ حسد الجميع. وأعتقد جازماً أن قسماً كبيراً منّا كان يكرههما ويعتبرهما سبب حرماننا من فرصة الحصول على شظايا قيِّمة بسبب امتلاكهما للدرّاجتين.

وحدث أكثر من مرّة أن قام مجهول بثقب إطار درّاجة أحدهما لكي لا يتمكّن من الوصول قبلنا إلى المكان، ولا أنكر أنني في إحدى المرّات كنت ذلك المجهول،

حيث قمت باستغلال فرصة اختباء تيسير والجميع المنشغلين من داخل مخابئهم بمراقبة القنابل التي كانت تُلقي بها الطائرات والتي تهيّأ لنا أنها ستسقط علينا،

وقمت بثقب إطار الدرّاجة، لم يشعر تيسير بذلك إلا بعد أن قطع قرابة مئةمتر، ولذلك ترك درّاجته وركض معنا. وقد كان لذلك نتائج جيدة، فقد تمكّنا من جمع شظايا جديرة بالاحترام وقتها.

آخر مرة ذهبنا فيها لجمع الشظايا كانت بعد قصف موقع يبعد عن المدينة أكثر من عشرة كيلومترات،

ولذلك فقد سبقنا نبيل وتيسير بمسافة طويلة؛ فعندما كنا ما نزال في منصف الطريق إلى الموقع كان تيسير ونبيل عائدين وخلف كل منهما على المقعد الخلفي للدراجة خُرج مليء بالشظايا،

وكان نبيل في حالة من التباهي ينساب بدرّاجته التي ترك مقودها حُرّاً، رافعاً بكلتا يديه إلى فوق رأسه قنبلةً لم تنفجر.

توقّف قربنا وناولها لتيسير الذي توقف هو الآخر، قائلاً له :
- دورك.

ثم روى لنا والفرح يقطر من جميع مساماته، القصة التي تتلخص في أنهما، هو وتيسير، عثرا على القنبلة معاً، وأنهما سيأخذانها إلى البيت وسيقومان باستضافتها بالتناوب،

ويبدأ ذلك بمن يربح الرهان في "الطرّة والنقش" التي طلبا منا أن نكون الحُكام والشهود فيها.

وقد بحثنا وقتها عن قطعة نقدية في جيوبنا فلم نجد ولذلك قمنا بإجراء قرعة أخرى عبر إخفاء حصاة في إحدى اليدين يفوز فيها من يحزر في أي يدٍ هي،

وقد فاز فيها تيسير بتواطئٍ من هاني الذي غمز له بعينه اليُسرى، فأدرك تيسير في أيّ يدٍ هي، وفاز في الرهان الذي تقرر بعده أن تبيت القنبلة ليلتها الأولى عنده.

سمح لنا تيسير ونبيل بالإمساك بتلك القنبلة؛ فكنّا نتناقلها كلاعبي فريق لكرة القدم فازوا بالبطولة وأخذوا يتناقلون كأس البطولة بين أيديهم.

وكم شعرت بالسعادة وأنا أحتضنها ! وتمنّيت أن تبقى بين يديّ أكثر؛

ولكن تيسير سحبها من بين يديّ كما لو أنه كان يخشى أن تقع حبيبته في هواي،

بينما كان نبيل لا يزال مستمراً في شرح المشاعر التي انتابته في اللحظات الأولى التي عثر فيها على القنبلة.

تابع الاثنان طريقهما على الدرّاجتين، وكان أحدهما يغنّي أغنية لم أتمكن من سماع كلماتها جيداً،

وتابعنا نحن الركض إلى موقع القصف، ولم تمضي لحظات قليلة على افتراقنا حين سمعنا خلفنا دويّ انفجارٍ رهيب جعلنا نتوقف لاهثين لالتقاط الأنفاس ونلتفت إلى الخلف بحالة تشوبها الصدمة،

حيث شاهدنا غيمة من الدخان في طريقها إلى التبدد، ولم نكن في حاجة لبذل الكثير من التفكير لندرك أن الانفجار كان سببه تلك القنبلة

التي كان كل منا قبل لحظات فقط يتمنى أن يضعها تحت إبطه ويولّي بها الأدبار كما لو أنه يخطف أميرة من قصر أبيها.

ركضنا مسرعين إلى مكان الانفجار، ولكننا في هذه المرة لم نجمع الشظايا، كانت المرة الأولى في تلك الحرب التي جمعنا فيها الأشلاء.

____________

.
.
.
.
🔴




You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Apr 14, 2021 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

STR || ممدوح حمادة Where stories live. Discover now