الفصل الأول

ابدأ من البداية
                                    

سارا منكسين... حتى الدار الكبيرة التي أصبحت يمثل لكليهما سجنًا لذكريات ستؤرقهما إلى ما لا نهاية.... دخلا ليجدا النسوة مازلن ملتفات حول والدته....واللاتي أسرعن لتغطية وجوههن ما أن دلفا... تمتم عمه بشيءٍ لم يهتم لتبايُنه... وعرج إلى حيث يؤدي مكتبه، وقبل أن ينزل بنظراته  ويستدير مغادرا رآها....كانت ترتدي البيجامة المغيظة اللون والشكل، تلفُ رأسها بوشاحٍ لم يسيطر على غجرية شعرها، الذي التف حول وجهها بإزعاجٍ، و ابنه تحيطه على ظهرها بوشاح آخر، وهو غارق في نومه، بينما رجليه تتدليان على جانبي خصرها، وآثار الحمى باديةٌ عليه تجعله غير مدرك أن جده قد وارته التراب بجانب والدته ... كانت متعبة...واقفة على باب المطبخ، لتمُد يدها تُمسك بصينيه مملوءة بأكواب القهوة...حاولت موازنتها بيدٍ و باليدِ الأخرَى كانت تمسح العرق عن بشرتها التي غدت حمراء من حرارة المطبخ التقليدي الكبير ...ثم انهمكت بآلية في تقديم القهوة للنسوة اللاتي اتخذن العزاء كمناسبة للثرثرة...دون الاهتمام الفعلي بمشاعر الفقد الذي تعيشها عائلته...عيونه مرت بغضبٍ على الموجودات... كان يتمنى لو يستطيع أن يطردهن...ليحضن تلك الهشة التي تنظر بصدمة و خوف نحوهن، تُحاول البحث عن لمحة من المواساة في ملامحهن، لكن في نفس الوقت تخشَى أن تكون وحيدة إن غادرنها ليحتل مكان صخبهن؛ صمتٌ يُجبرها أن تُواجه حقيقة أنه مات...الشيخ الكبير مات.... كانت تائهة بدون زوجها...تحس بالضياع وقد تركها.... نظرتها تحمل حزنًا عميقًا وتخبطًا...وكأنها فقدت مجاذيفها في وسط عاصفة بحرية هوجاء... كاد أن يتقدم ليُبعد الملتفات حولها وعويلهن الذي يجعلها تفزع أكثر... ليحضنها بقوة كما كانت تحضنه يوما بعد كل قسوةٍ يتلقاها من والده، لكن هذه المرة سيبكي كما لم يبكي عندما كان صغيرًا...سيبكي في حضنها الفقد...ويبعد الخوف من عيونها التي انطفأت فجأة... لكنه تراجع.... مكانته ك " شيخ " القبيلة تمنعه من ذلك.... " بيت الشيخ... هو بيت الكل" عبارة رددها والده حيًّا... ولن يكسرها ميتًا.

رفع انظاره عن والدتها...لتقع عليها، تنظر إليه برهبة.... لا تخلو من لمعة حزنٍ، ليشير بيده أن تتبعه...ليُولي الأدبار مغادراً بثقة وهو يعلم أن كل ما يحتاجه هو إشارة فقط لتأتيه مسرعة.

كامرأة صالحة بمفهوم مجتمعها...لم تُخيب ظنه ... في ثانية كانت تلبي أمر إشارته وتتبعه حيث دخل، بينما عيونٌ حاسدة وأخرى حقودة كانت تتبعها بدورها... وجدته يتخلص من السلهام الأبيض من الصوف الثقيل الذي كان يوما لوالده، والذي ساعدت بحياكته كأغلب فتيات القرية...لتمسكه وتضعه على ساعدها كي تعلقه في المشجب المخصص له...التفتت ناحيته.... تسأله برهبة ممزوجة بشفقة وأخيرا استطاعت أن تنفرد به بعد كل ما حدث:
-" هل أنتَ بخير؟!"

دون أن يجيبها كان يعانقها بقوة...يحتاج حضنا يُقاسمه حزنه...وهي كانت تهتم...نظراتها أخبرته انها تهتم...!

تململ ابنه بعدم ارتياح...لكن والده لم يهتم ...أو ربما لم يكن يعي انه يُزعجه...كان ثقيلا وهو يرتكز بكل ثقل جسده على جسدها الهش المتعب...وابنه على ظهرها يجعلها تريد أن تئن وجعًا...لكنها سكتت وسكنت تنتظر ابتعاده.

جرح وشم الروح! ملاك علي.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن