أشِقّاء

By lood999

76.5K 7.3K 2.6K

في حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعل... More

١) يُحكى أنه كـان وحيدًا.
٢) الليلــةُ الماطِـرة.
٣) سِجــن.
٤) غَــرق.
٥) بصيـص أمـل.
٦) تِلـك الفتـاة.
٧) الرحيــل.
٨) ذكريات حلمٍ قديم.
٩) حــديقةٌ وفتـاة.
١٠) مَحَلُّ الأقمشـة.
١١) ماهــر.
١٢) تجاوز المُهلـة.
١٣) دمـوعٌ ومطر.
١٤) الأخُ الكبير.
١٥) صـديق.
١٦) أشبـاح.
١٧) الصـراحة.
١٨) آباء.
١٩) غضـب.
٢٠) وداع.
٢١) اِختفـاء.
٢٢) مُمتن.
٢٣) بقايـا.
٢٤) نَبـش.
٢٥) عِـش.
٢٦) المُفكـرة.
٢٧) الحياةُ المسلوبـة.
٢٨) أروى.
٢٩) أطـلال.
٣١) مُفاوضات.
٣٢) إنقــاذ.
٣٣) إحيــاء|الخاتمـة.
فصل إضافي|فَجْــر: كل الطرقِ تؤدي إليك.
فصل إضافي ٢|ندى: لن أنساك أبدًا.
فصل إضافي ٣|سأعـود.
فصل إضافي ٤|لأنك ولِـدت.

٣٠) لِقـاء.

1.1K 154 26
By lood999


..
..

احتضنت الطاولة سبعة كراسٍ، امتدت على طول غرفة الاجتماعات ذات الحوائط البيضاء والسقف المرتفع الذي تصطف على جوانبه المصابيح ساطعة الإضاءة، يجلس على الست كراسٍ المتقابلة كل من رئيس قسم العمال، والصيانة، والرقابة، والتمويل، والتسويق، والمدير التنفيذي، ويجلس على الكرسي السابع في صدر الطاولة مُشرف الاجتماع، المدير العام.. مروان فادي.
 
"مرت خمس سنوات على دخول العالم للألفية الثالثة، ونحن ما زلنا نستعمل الحواسب القديمة في تسيير شؤون العمل..".
 
قال غيث رئيس قسم التمويل بانفعال يرافقه في كل نقاشٍ يخوضه.
 
"ما يزال مصنعنا في مراحل نموه، لدينا أولويات قصوى في هذه المرحلة..".
 
قال رئيس العمال برصانة فعقب غيث على كلامه:
 
"أفهم من كلامك يا نبيل أنك توافق المدير على اقتطاع جزء من الإيرادات لتقديم التبرعات رغم أن المصنع أولى بها..".
 
"أنت تعلم أنه يعوض الخسائر بماله الخاص..".
 
"ما الجدوى من هذه الفوضى إن كان يمكن تأجيلها حتى يقف المصنع على قدميه..".
 
"المدير يعرف ما الذي يفعله، يكفي أنه كسر القاعدة التي تقتضي بفصل الملكية عن الإدارة واستطاع أن يدير أملاكه إدارةً ناجحة..".
 
أنهى المدير التنفيذي فارس ذلك النقاش التشاؤمي الذي قطع غيث به حلقة الحديث عن خطة عمل الأقسام في الموسم المُقبل.
 
تنحنح بدر رئيس قسم التسويق وقال وهو يفرز الأوراق أمامه:
 
"المشكلة الرئيسية التي ينبغي علينا مواجهتها هي رفع قيمة العرض بزيادة الإنتاجية لتكافئ الطلب الذي تزايد مؤخرًا..".
 
"علينا التعامل أولًا مع مشكلة التخزين، المستودع الجنوبي في حالةٍ يُرثى لها..".
 
قال رائد رئيس الصيانة وانغمس البقية في الحديث عن عدم كفاية المستودعات ونقص المتاجر الحاضنة للسلع، ولم يلحظوا أن مديرهم مغيَّب العقل.
 
كنت عاقدًا يدي إلى صدري ومسندًا ظهري إلى الخلف، من يراني يحسَبُني أحلل كلام مرؤوسيَّ وأفكر بإجاباتٍ وحلولٍ واحتمالات.
 
لكن الواقع أن عقلي كان مأخوذًا باللقاء الذي سيجمعني بها بعد ساعات، لم أتهيأ له روحًا ولا جسدًا، كنتُ أرغب بالهرب لناحيةٍ أخرى من العالم، جُبنًا وخوفًا وهلعًا، كي لا تراني وترمقني بالنظرات التي رمقتني بها البارحة.
 
ذهبتُ الليلة الماضية لحيِّها كما خططت، أوقفتُ سيارتي بجانب إحدى الأرصفة، وسرتُ على الرصيف منخرطًا في ضجيج الحي، أراقب الأطفال يلعبون في الشوارع والجارات يتحدثن أمام الأبواب وكبار السن جالسون على جنبات الطريق، يراقبون الحياة بأعين توشك أن تنطفئ منها الحياة.
 
أوشكت الشمس على مغادرة السماء وقلت الضوضاء في الشوارع تدريجيًا، وقفتُ قرب إحدى المنعطفات وباب بيتها على مرمى بصري، لن تتكرر المصادفة التي حصلت قبل أسبوع وأنا واقف عند ذات المنعطف، استدرت لأعود وأنا أندب غبائي الذي جلبني، كيف اعتقدتُ أنني سأتحقق من شكوكي؟ هل اعتقدتُ أن الحياة تسير على هوى الصدف؟
 
سمعتُ صوتًا مألوفًا وأنا أمضي عائدًا، انقاد بصري لصاحب الصوت الذي كان على بعد بضع خطوات أمامي، هذا الطفل! صاحب الحلوى، مصادفةٌ أخرى قادتني للأخ الأصغر هذه المرة، كان يسير ممسكًا يد أمه.
 
لحظة! أمـه؟
 
انتبه لي الصبي وأشار نحوي بسبابته اليمنى وهز بيده الأخرى يد أمه التي تعانق يده، أرجـوكَ لا..
 
"ماما ماما، إنه الرجل الذي حدثتكِ عنه..".
 
نظرت المعنيَّةُ إلي، ونظرتُ إليها، إنها هي، عيناي لا تُخطئانها أينما كانت، وأيَّـما باعدت السنون بين وداعنا ولقائنا، لم تتغير، عدا أن عينيها صارتا أضيَق، ووجهها أنحل، ومسحة حزنٍ عميقٍ تهيم على وجهها، رمقتني بحرجٍ من إلحاح ابنها وهو يشير إلي وهمهمَت له بكلماتٍ فسكت، ولكن عيناه بقيتا محدقتين فيَّ ووجهه مُحمَرٌّ من الانفعال، كيف لم أنتبه! كم كان يشبهها!
 
"أعذر فظاظة ابني أيها السيد..".
 
قالت بأسفٍ وهي تحني رأسها، أصبحَت قصيرةً جدًا، أم أنني من صار فارع الطول، أتجاوز الرقاب فلا يراني أحد..
 
وثَّقت إمساكها بيد ابنها وسارت هامة بالعبور من جانبي.
 
"ماما أنا متأكدٌ أنه هو..".
 
"يكفي يا مُهند..".
 
مرت مثل مرورها من جانب غريبٍ قاطع سَيرها.
 
لم تعرفني، لم تجدني، ماذا بقيَ مني؟
 
"جُمان..".
 
أفلت اسمها من لساني الخائن واستدرنا نحن الاثنين في آنٍ معًا، هي ترمقني بريبة، وأنا أبحث عن بقايا نفسي الضائعة في عينيها.
 
"هل.. أعرفك؟".
 
"هل غيرتني السنوات العشر لهذه الدرجة؟".
 
اتسعت حدقتاها وغارت مقلتاها وتمتمت دون تصديق:
 
"مـ مروان!".
 
هتفت ثانيةً وكأن لفظها لاسمي زاد دهشتها وأيقظ في قلبها ذكرى فتى السابعة عشرة:
 
"هل هذا أنتَ يا مروان؟".
 
تبادلنا نظرات الحنين والصمت المقيت يلفنا، كل واحدٍ فينا يبحث عن بقايا نفسه في عينيّ الآخر، ماذا غيّرت الأيام فينا؟ هل ما زلتِ تلك الفتاة البشوش رغم كل شيء؟ وهل بقي شيءٌ من ذلك الفتى سريع الانفعال والخجل؟ أم أن الأيام أفرغته، فبات ممتلئًا بهم، وخاويًا من نفسه.

رفعت إبهامها مشيرةً إلى مكان بيتها وقالت:
 
"بيتي قريبٌ من هنا، ما رأيك أن تأتي لنتحدث قليلًا؟".
 
هل الأمر بهذه البساطة!
 
"آسف.. لدي عمل..".
 
متى صرت تجيد الكذب!
 
"هل ستكون متفرغًا في الغد؟".
 
مع أن جدولي ما كان ليسمح بهذا اللقاء إلا أنني وافقت!
 
"تعال في السادسة إذًا.. اتفقنا؟".
 
"فليكُن..".
 
استأذنتني واستدارت عائدةً وهي تمسك يد ابنها الذي لم تفارق الحيرة عينيه وهو ينقل بصره بيننا.
 
"حضرة المدير..".
 
قاطع شرودي صوت نبيل، فانتبهتُ أن أولئك الستة ينظرون إلي بريبة، اعتدلتُ في جلستي وشبكتُ أصابعي وقلت:
 
"أين كنا؟".
 
"نناقش ميزانيات الأقسام أيها المديــر".
 
قال غيث مشددًا على الكلمة الأخيرة، فأفلتت ضحكة ساخرة قصيرة من فمي وقلت له:
 
"تستطيع يا غيث أن ترفع هذه الكلفة السخيفة بيننا".
 
لم يكن غيث ولا نبيل ولا رائد ولا فارس ولا بدر ولا سمير إلا رفاقًا تعرفتُ عليهم حين كنتُ أدرس في معهد للإدارة قبل سبع سنوات، أعمارنا وخبراتنا متقاربة، أنشأنا هذا المصنع سويًّا، بقيادتي وتمويلي، وتضخم عامًا بعد عامٍ في صورةٍ غير مسبوقة، فكانت خطط التنمية التي نعدها مكثفة لتسارع نمو المصنع وتزايد الموظفين وارتقاء سمعته بجودة إنتاجه.
 
انخرطنا في مناقشة تفاصيل استغرقت منا ساعتين إضافيتين وخلصنا إلى عدة نتائج، شراء آلات حديثة وزيادة اليد العاملة والتعاقد مع مستودعات جديدة.
 
ما يعني أن الفترة المقبلة سأكون فيها منخرطًا في العمل، ومتى لم أكن منخرطًا فيه؟ منذ إنشائي للمصنع صار يأخذ كل وقتي، فلا أختلي بنفسي إلا في ساعات الليل، أبحث عن نفسي في عتمة المساء المنعكسة على روحي الذابلة، ولا أجد سوى بقاياي.
 
تأخذني ذاكرتي أحيانًا لتلك الحياة التي رأيتها في حلمي، وأتخيل صورةً فوتوجرافية لم تُلتقط أبدًا، يقف فيها خمسة أشخاصٍ مملوؤون بالحياة، تحيط ذراع فادي كتفيّ نائلة ويرسمان على شفتيهما ابتسامات شبابهما الأبديّ، ويقف أمامهما أبناؤهما الثلاث، أنا في الثالثة عشرة، وأخي في الثامنة، وفجر ذات السنوات الخمس تقف بين أخويها بابتسامةٍ واسعة، لأي قدرٍ امتلأت تلك الطفلة بالحياة رغم أن الحياة لم تدب فيها قط، تلك الطفلة تجسيد لعائلتي وحياتي وسعادتي المغمورة.
 
.....
 
عدت للبيت وبدلت زي العمل بقميص أسود وبدلة رمادية، تلونت كل ملابسي بهذين اللونين، لا أعرف متى بت أحبهما، يقول عماد أن الرمادي يليق بي، إلا أنني لا أثق بذوقه.
 
نظرت لانعكاسي في المرآة، لا عجب أنها لم تعرفني، لم يكن الفتى الذي عرفته يملك هذه اللحية والشوارب، ولم تكن عيناه هامدتَين، ولم تعد البشاشة تعرف دربًا لقسماته، ابتساماته بلا لون، وضحكته لا تكون إلا ساخرة أو مستهترة، ما الذي تريد قوله لي يا ترى!
 
انتعلتُ حذائي الأسود وخرجت من البيت بطيء الخطى، يدفعني الشوق وتردني الخشية، ركبت سيارتي وانطلقت لحيها، وعلى طول الطريق رافقتني أيامنا القديمة، أحاديثنا السخيفة، ومشاعري الملتهبة التي أخمدتها الأيام، أوقفتُ السيارة عند المنعطف الذي يؤدي لبيتها، أخذت من مقعد الراكب ذلك الشيء المغلف، وترجلت من السيارة، كان الشارع شبه خالٍ لحسن حظي، ألقيتُ نظرةً لساعة يدي فرأيت عقاربها تشير للخامسة والنصف، جئتُ أبكر بنصف ساعة، اعتدتُ الإبكار في المواعيد من عملي، فآتي قبل الموعد بأزيَد من نصف ساعةٍ عادةً.
 
طرقت باب البيت ولم تمض نصف دقيقةٍ حتى فُتح الباب، واستقبلني خلفه ابنها الأكبر، لا أعرف كيف وجدت ابتسامتي سبيلًا لتظهر أمامه، مددت له الشيء الذي جلبته معي وقلت له:
 
"لا يمكنك رفضها، فهي تخصك..".
 
نقل بصره بيني وبين ما أحمله وأخذها بتردد، كانت المظلة التي أسقطها في تلك الليلة الماطرة، عادت لصاحبها أخيرًا.
 
"تفضَّل..".
 
قال وهو يفسح لي لأدخل، أغلق الباب وقال وهو يسير بجانبي:
 
"أمي لم تأت بعد، يمكنك انتظارها في غرفة الجلوس..".
 
أرشدني لغرفة الجلوس بتهذيب وهمَّ بالمغادرة لكني استبقيته.
 
"هلَّا بقيتَ لنتحدث قليلًا؟".
 
تردد للحظات ثم جلس بجانبي وهو ينظر ليديه اللتين ما زالتا ممسكتين بالمظلة، بدا خجولًا وهادئًا جدًا على نقيض المرة الأولى التي قابلته فيها.
 
"أعتذر على ما قلته لك المرة الماضية.".
 
قال بخفوت مطرق الرأس.
 
"ليس عليك أن تعتذر، كنت مصيبًا فيما فعلت".

"سيدي، هل أنت تعرف أمي؟".
 
"نادِني مروان، وارفع رأسك حين تتحدث معي..".
 
رفع رأسه بخجل وكرر سؤاله، فأجبت سؤاله بسؤال:
 
"هل مجيئي يُضايقك؟".
 
"لا، لم أقصد، ولكن...".
 
خمنت ما كان يفكر فيه، لكني لم أرِد إحراجه أكثر فقلت:
 
"نحن أصدقاء قدامى".
 
بدا على وجهه الارتياح فبادرت بسؤاله:
 
"لقد قدمتُ نفسي، أليس من العدل أن أعرف اسمك أيضًا؟".
 
ابتسم ابتسامةً قصيرةً وأجاب:
 
"اسمي حُسام..".
 
"جميل، من سمَّاك به؟".
 
"أبي".
 
قال بابتسامةٍ واسعة، ثم خيَّم على وجهه الحزن، فقلتُ مغيرًا الموضوع:
 
"أين هو أخوك؟".
 
"خرج مع أمي، إنه متعلق بها مثل طفلٍ مدلل".
 
قال بجفاء، فقلتُ مبررًا:
 
"إنه صغير، ليس غريبًا أن يتعلق بها..".
 
"إنه مجرد طفل مزعج، لا يمكنني التعامل معه..".
 
نظرةٌ خاطفةٌ لملامحهِ المُغتاظة كانت تكفيني لأفهم أنه يمر بمعضلةِ الأخِ الأكبر الذي لا يستطيع التوافق مع أخيه، قلتُ له بنبرةٍ ناصحةٍ لشخصٍ تعلم التعامل مع شقيقه متأخرًا:
 
"تكلم معه، افهمه، إنه يريد اهتمامك لكنه لا يفصح عن ذلك..".
 
"الإخوة الصغار مزعجون".
 
"لا يجب على الأخ الكبير أن يتذمر من إخوته".
 
نظر لي وسأل:
 
"هل لديكَ إخوةٌ صغار؟".
 
رسمتُ على شفتي ابتسامةً استعرتها من نفسي القديمة، وقلتُ غامرًا صوتي دِفئًا:
 
"كان لي شقيقٌ صغير، كان متعلقًا بي في طفولته لأننا عشنا يتيما الأبوين، وحين كبرنا انشغلتُ عنه فأصبح ينأى عني ولا يبوح لي بما في نفسه، حتى تحدثت معه ذات يوم، وتحول حديثنا لشجار مُضحك لكننا بتنا متوافقين بعدها، ولكن ليس سهلًا أن يكون لديك أخٌ فريد، التعامل معه صعب، ومهما اعتقدت أنك تفهمُه، لن تفهمَه، استطاع فهم الجميع لكن أحدًا لم يفهمه..".
 
"فريد؟ لا أظن أن مهند من هذا النوع..".
 
قال بثقة، فلم أتمالك ضحكة أفلتت مني وقلت له:
 
"إذًا سارع بالتقرب منه قبل أن....
 
لم أكمل جملتي إذ شعرتُ بحضورٍ ثالثٍ في المكان، وقف حسام وقال موجهًا أنظاره للباب:
 
"أمي.. لقد حضر الضيف..".
 
غادر ودخلت هي، وقفت أمامي فرفعت رأسي إليها، كانت مرتدية جلابية لازوردية فضفاضة وحجابا أبيض، وترسم ابتسامة تشبه ابتسامتها القديمة، ولكنها أنضج.
 
وقفتُ فبان فارق الطول الكبير بيننا، رفعت رأسها عاليًا باحثةً عن عينيَّ البعيدتين، وقالت بصوتٍ هامسٍ يملؤه الحنين:
 
"كيف حالك؟".
 
"أيُّ جوابٍ تريدين سماعه؟".
 
"الحقيقي، بخيرٍ أم لا؟".
 
"متى يكون المرء بخير؟".
 
"يا له من سؤال!".
 
"ليس أصعب من سؤالك".
 
ضحكَت بخفوت، وجلست على أريكة قريبة فجلستُ بدَوري.
 
"هل قال حسام شيئًا غريبًا؟".
 
"لا، كان مهذبًا".
 
"إنه متأثرٌ بأبيه".
 
قالت بحزن واستطردت موجهةً كلامها لي:
 
"أعذرني، لم أتعرف عليك البارحة، لا أعرف لمَ كانت صورتك في ذهني لا تتعدى ذلك الفتى الذي لا يتجاوز طوله طولي، واعتقدتُ بحماقةٍ أنك لم تتغير، لكنك تغيرت، تغيرتَ كثيرًا..".
 
"لا شيءَ في الحياةِ يبقى على حاله".
 
قالت بحزن:
 
"يبدو أن ما حصل لفراس وعائلته لم يكن سهلًا عليك..".
 
"هل علمتِ بذلك؟".
 
"نعم، ضجت وسائل الإعلام في أنحاء البلاد بقصته تلك الأيام، تأثرتُ وبكيتُ كثيرًا، لم تستحق عائلته هذا البؤس..".
 
أومأت وقلت مطبطبًا على بقايا حزنها:
 
"ما زلتُ على تواصل مع خاله مالك، علمتُ مؤخرًا أن رائف يدرس الجراحة وسامر سيلتحق بكلية الحقوق، لقد مهَّد الطريق لأخويه ورحل..".
 
"وأمه؟".
 
"إنها تتعافى بمرور السنوات، ولكن ندبتها لا يمكن أن تزول..".
 
"لا ألومها، أكبر كابوس للأم هو فقدان أحد أبنائها..".
 
صمتنا هنيهةً نقتفي آثار الماضي الذي كان حلقة الوصل الوحيدة بيننا، استرقتُ نظرةً إليها فرأيتها توشك على الكلام لكني بادرتُها بسؤالٍ قبل أن تُباغتني به:
 
"كيف كانت سنواتك الماضية؟".
 
بهُتت لثوانٍ ثم قالت بهدوء:
 
"تغير سالم كثيرًا منذ حبلي بحسام، أظنه تأثر بك..".
 
"بي أنا؟".
 
"نعم، لقد تركتَ أثرًا عميقًا في نفسه، سيبدو غريبًا أن أشكرك بعد كل هذه السنوات..".
 
بدأت بسرد ماضيها الذي لم أكن جزءًا منه، منذ تركها للعاصمة حيث عرفتها وحتى مجيئها للمدينة الساحلية، صحيحٌ أن سالم لم يعد يعتدي عليها، إلا أن جفاءه لم يتغير، ومع أنه كان يحبها، لم يُظهر حبه بأي شكلٍ كان، أنجبت حسام وأنجبت مهند بعده بثلاث سنوات، وحاولت التأقلم على حياتها الجديدة، زوجٌ بارد لا يمكن التعامل معه، وطفلان صغيران انشغلت بهما فلم تفكر بإكمال دراستها وحتى لو فكرت ما كان زوجها ليرضى، فوظيفة المرأة في نظره تقتصر على تربية الأولاد والبقاء في البيت مثل نصبٍ أثريّ، لكن رغم كل مساوئه، لم يكن أبًا سيئًا لطفلَيه، مع أنه ورث من أبيه القساوة إلا أنه لم يورثها لأبنائه، لأنه يعلم يقينًا أنهما لن يسامحاه ولن يحتفظا بذكرى حسنة عنه، وكان حسام الأقرب له، عاش في ظل أبيه فخورًا به، وتأمل أن يجعله فخورًا به يومًا، لكن قصر آماله تهدَّم..
 
علمَت أن والدها توفي ولم تمضِ بضعة أشهرٍ حتى توفيت والدتها أيضًا، لم تذرف عليهما دمعةً واحدة، كانا بالنسبة لها مجرد ماضٍ آيلٍ للنسيان، ماضٍ قادها لحاضرٍ تعيس، فلمَ البكاء؟
 
عاشت حياتها بهدوء حتى جاءت تلك الليلة المقمرة، كان طفلاها نائمين في غرفتهما، اطمأنت أنهما خلدا للنوم وذهبت لغرفتها، لكنها سمعت صوت جلبةٍ في المطبخ، ذهبت لتقصي مصدر الجلبة فهاجمها أحدهم وطرحها أرضًا، ابتلعت صرختها كي لا يصحو ولدَيها ويلقيا مصيرها، هل هذه النهاية؟ تموت على يد مُقتحِم؟ نهايةٌ تليق ببائسةٍ مثلها، ولكن أحدهم جاء وأبعده عنها، زوجها، رأت في قسماته غضبًا مسعورًا لم ترَه فيه منذ زمن، رفع يده ليهوي بقبضته على من تجرأ على لمس زوجته، فباغته ذلك اللص وغرس نصله في صدره وولى هاربًا، هرعت لزوجها مدفوعةً بغريزتها، ولم تُقاوم دموعها حين رأت الدماء تفيض من صدره وتلون ملابسه ووجهه يتعرق بشدة وأنفاسه تزداد حدة، همّت بطلب الإسعاف لكنه أبقاها بجانبه، نظر لها بأسفٍ عميق وقال بصوتٍ يلتهمه الموت: "سامحيني يا جمانة"، لم تعرف لمَ بكت بحرقةٍ ونادته باسمه ترجوه أن لا يذهب، ستكون راضيةً بحياتها، لن تندب حظها، ستعيش معه قريرة العين، ولكن آمالها البالية تحطمت حين لفظ آخر أنفاسه أمامها.
 
تركت تلك المدينة بعد أشهرٍ من وفاته وعادت لمدينتها، إلى منزل والديها الذي اعتنى به الجيران، دخلت البيت القديم العابق بذكرى طفولتها وصباها، بعد فراقٍ دام اثنا عشرة سنة، لم يتغير شيء في البيت القديم الذي بقي منتظرًا أصحابه الذين لن يعودوا، أما التي عادت فلم تكن تمت للصبية التي غادرته بِصلة، نيَّمت أبناءها وذهبت للفناء الخلفي، وقفت أمام حوضها القديم، حوض الياسمين الذي اعتنت به في طفولتها، بقي الحوض، واختفت الأزهار، مثلما بقي البيت، واختفى أصحابه، جلست على حافة الحوض وضمت ركبتيها لصدرها وغمرت وجهها فيهما وبكت بحسرة، بكت عمرها الضائع، وماضيها المُزهر كالياسمين، الذي صار مثل هذا الحوض الفارغ.
 
"لم أجنِ من سنواتي الماضية سوى حُسام ومهند، كلما رأيتهما تهون آلامي..".
 
"ولكنكِ ما تزالين شابةً وبصحةٍ جيدة، الحياةُ أمامك..".
 
نظرت إلي نظرةً عميقة وقالت ما كنت أخشى سماعه:
 
"أنت تقول هذا رغم أن من يراك يجزم أن حالك أسوأ من حالي، ما الذي أهمد عينيك؟".
 
أطلقت تنهيدة طويلة، ولم أحر جوابًا لسؤالها المُلغم، قالت بحزن:
 
"أنت أصغر مني بعام ولكني أشعر أنك تكبرني بأعوام.. منذ رأيتك البارحة وأنا أتساءل عمَّا غيرك..".
 
قالت بقلق حين طال صمتي:
 
"هل أخوك بخير؟".
 
لا أعرف أي تعبير ذاك الذي جثم على ملامحي ليتغير لونها وتهتف بجزع:
 
"لا.. لا تقُل لي..".
 
أظلم وجهها مع ازدياد يقينها وهي تفتش في عينيّ عن إجاباتٍ لأسئلةٍ لم تجد الشجاعة لطرحها، لكن عينيَّ الخاويتين لم تُشبِعا أسئلتها، أو ربما كان خواؤهما إجابةً وافيةً على كل أسئلتها. أطرقت وهي تنشد التماسك الذي ضل السبيل إلى يديها المرتعشتين، هل تتذكرينه الآن؟ ذلك الطفل اللطيف الذي قرصتِ خدَّيه في لقائك الأول به، كنتِ تظنينه مجرد طفلٍ ملتصقٍ بأخيه، لم يسعكِ الوقت القليل الذي قضيتِه معنا لتفهمي أنه كان أكبر وأنضج مني ومنكِ، ونحن السذج الأطفال، لكم كنا طفلَين أمامه!
 
 انفرجت شفتيها قليلًا وهي ما تزال مطرقة، وأفلت من فمها سؤالَ واحد مقتضب، سؤالٌ لم تجد إجابته في عينيّ:
 
"متى؟".
 
أجبت سؤالها إجابة لا تفهمها إلا الأمهات:
 
"حين أضحى حسام قادرًا على السير على قدميه".
 
انتهى لقاؤنا عند ذاك الجواب، قمتُ وهربَت من فمي تحيةٌ مترنحة، وسرتُ نحو الباب بفؤادٍ لا يقل ترنحًا، وأنا أخشى أن منظرها المكتئب سيسلبني النوم لأيام، غادرتُ بيتها ووضعتُ يدي مكان قلبي أتحسَّسُه، هل عاد قلبي المسلوب إلى مكانه؟ أم أن القلوبَ المسروقةَ لا تعود!
 
ابتسمتُ بسخرية وأنا أخطو لسيارتي، وشعرتُ أثناء سَيري بنظراتٍ مترصِّدةٍ تُطاردني، رمقتُ بطرف عيني ثلاثة نساءٍ واقفاتٍ أمام باب إحدى البيوت، ينظرن للدرب الذي قطعته من بيتها، رجلٌ غريبٌ يُغادر بيتَ أرملة!
 
تنهدتُ بتعب، لا تقلقن، لن تروا هذا المنظر المُريبَ ثانيةً.
 
..
..

Continue Reading

You'll Also Like

43.4K 4.4K 54
يريد تقبل العالم كما هو يريد ان يعيش مع الجميع بشدة تلك اللحظات التي رسمت بعقله جعلته ملحا ليتعلم اكثر .. لكن "هل سيحدث العكس؟ .. هل سيتقبله العالم...
1.1M 89K 77
‏لَا السَّيفُ يَفعَلُ بِي مَا أَنتِ فَاعِلَةٌ وَلَا لِقَاءُ عَدُوِّيَ مِثلَ لُقيَاكِ لَو بَاتَ سَهمٌ مِنَ الأَعدَاءِ فِي كَبِدِي مَا نَالَ مِنَّيَ م...
14.8K 1.1K 18
ماذا لو ان كل شئ بخير؟ (هذا الكتاب يحوي شخصيات كتاب بِلَا نَسَبْ)
413K 24.5K 43
تدور أحداث القصه في عالم أصبح فيه أصحاب القوى الخارقة هم الطبقه الأهم وتم ترتيب العائلات حسب قوتها واحدى أقوى هذه عائله أنجبت زوجه ابنهم الأصغر 3 تو...