أشِقّاء

Por lood999

76.5K 7.3K 2.6K

في حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعل... Mais

١) يُحكى أنه كـان وحيدًا.
٢) الليلــةُ الماطِـرة.
٣) سِجــن.
٤) غَــرق.
٥) بصيـص أمـل.
٦) تِلـك الفتـاة.
٧) الرحيــل.
٨) ذكريات حلمٍ قديم.
٩) حــديقةٌ وفتـاة.
١٠) مَحَلُّ الأقمشـة.
١١) ماهــر.
١٢) تجاوز المُهلـة.
١٣) دمـوعٌ ومطر.
١٤) الأخُ الكبير.
١٥) صـديق.
١٦) أشبـاح.
١٧) الصـراحة.
١٨) آباء.
١٩) غضـب.
٢٠) وداع.
٢١) اِختفـاء.
٢٢) مُمتن.
٢٣) بقايـا.
٢٤) نَبـش.
٢٥) عِـش.
٢٦) المُفكـرة.
٢٧) الحياةُ المسلوبـة.
٢٩) أطـلال.
٣٠) لِقـاء.
٣١) مُفاوضات.
٣٢) إنقــاذ.
٣٣) إحيــاء|الخاتمـة.
فصل إضافي|فَجْــر: كل الطرقِ تؤدي إليك.
فصل إضافي ٢|ندى: لن أنساك أبدًا.
فصل إضافي ٣|سأعـود.
فصل إضافي ٤|لأنك ولِـدت.

٢٨) أروى.

1.1K 146 46
Por lood999

..
..

الحياة تسلبنا وتُعطينا، تُسقطنا وتوقفنا، تُبكينا وتُضحكنا، لكن هل الجميع يضحك في النهاية؟ هل للنفق المظلم نهاية؟ هل تزهر جميع براعم البستان؟ هل تتحقق الأحلام؟ أم تتحول للعنات! 
 
يولد الأطفال ويولد معهم الحب، فيعطونه بسخاء، يعطونه دون مردود، فإما يستمر عطاؤهم، وإما يضمحل. 
 
تعلمت تلك الطفلة أن تُحب دون معلمين، أعطت الحب الذي كان يفيض بداخلها لكل شيء، لألعابها وأزهارها والأطفال من حولها. 
 
لكن حبها الفائض تحول لكراهية، والضياء الذي كانت تتطلع له استحال لظلامٍ ابتلعها وابتلع أحلامها، لقد ماتت لكنها على قيد الحياة باقية. 
 
لم تعترض على القدر الذي حتَّم عليها أن تعيش طفولتها يتيمة الأبوين، كان شقيقها الذي يكبرها بعشر سنوات يرعاها، لكن الحياة أشغلته عن عنايته المشروطة بأخته الوحيدة، لم تشكُ تلك الطفلة بقاءها وحيدة، بل عاشت مكتفيةً بنفسها، ممتلئةً بالأحلام، كانت تحب الأطفال والحيوانات والقصص، فأصبحت تكتب القصص عن الحيوانات للأطفال، الثعلب الماكر والفيل الطيب والكلب الوفي، كبرت وحبها للقصص وللأطفال يزداد، لم تكن أروى بالغة الجمال، ولم تكن شخصيتها تأسر الناس، كانت عادية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مثل زهرة بنفسج وسط حقلٍ يفيض بأزهار البنفسج، لا تلفت الأنظار ولا تسترعي الفضول، مثل كل شيء، وأي أحد. 
 
كانت في الخامسة عشرة حين انتبه الناس فجأةً لوجودها، ليس وكأنها حاولت لفت الأنظار إليها أو رغبت بذلك، لكن الأنظار انساقت نحوها حين أصبحت موضعًا للمقارنة، بعد زواج شقيقها من فتاةٍ خطفت القلوب، "نائلـة" التي نالت كل شيء، نالت كل الحب الذي لم تنله أروى، ونالت الجمال الذي فقدته أروى، ونالت الفصاحة التي لم تجد طريقًا لأروى، نالت نائلة كل شيء، ولم تنَل أروى شيئًا. 
 
في تلك البيئة متلاصقة الأبنية، يجد الناس متنفسهم في الهمز واللمز والنميمة، ووجدت أروى نفسها لقمةً سائغةً في أفواه أناسٍ لا تعرفهم، تنال نظرات الشفقة منهم لأنها مسكينة، تفتقر لمقوماتٍ عديدة، لا شك أنها تغار من زوجة أخيها، وتتمنى بِضعًا مما عندها، ولكن المسكينة لن تستطيع نيل شيء. 
 
من قال هذا لهم؟ متى شكت حالها لهم؟ من قال أنها تعرف الغيرة؟ إنها مجرد فتاةٍ حالمة، تعيش على كتابة القصص، وأحلام اليقظة، وتزيين غرفتها بورد الفل والريحان الذي ينمو على جنبات الطريق، لم تنظر لنائلة على أنها مميزة، كانت مجرد فردٍ من العائلة، وعلى أروى أن تتأقلم على الحياة معها بهدوء. 
 
كانت نائلة لطيفةً وودودة، تشاركتا كل شيء، البيت والطعام والكلام، وكان غياب زوجها إياد المتواصل يُتيح لهما قضاء أوقاتٍ طويلةٍ مع بعضهما، دعمت نائلة أروى لتنشر قصصها، ووعدتها أنها ستُقنع زوجها كي لا يرفض نشر قصصها المعنونة باسمها، فانتشار اسم امرأةٍ في تلك الحقبة ليس مقبولًا، فنشرت أولى قصصها وهي في السادسة عشرة، وهي تأمل أن يُحبها الأطفال.
 
كتبت ونشرت العديد من القصص على امتداد أربعة سنوات أخرى، مُتناسيةً ما يقوله الناس عنها، حتى حل ذلك اليوم المظلم، كانت هي ونائلة في البيت وحدهما، حين جاء المخاض لهذه الأخيرة. 
 
لم تكن وسائل الاتصال متوفرةً في ذلك الزمان، كان الناس يتواصلون بزيارة بعضهم البعض والكلام وجهًا إلى وجه، فلم يكن أمام أروى خيار إلا الإسراع لطلب المساعدة من نساء الجيران، كان الوقت متأخرًا والناس نائمون حين تعالت صرخات نائلة، كانت خائفة من الوحدة والظلمة وتلك الآلام التي اعتصرت جسدها المُنهك، فلم تسمح لأروى بتركها والذهاب، ضغطت بيدها على ساعد أروى لإبقائها، رجتها أن لا تتركها وهي تعصر ساعدها حتى تركت آثارًا عليها، فلم تستطع أروى تركها بهذا الرجاء الذي يعلو عينيها، فبقيت وساندتها بما تستطيع، ولكن نائلة التي نالت كل شيء، لم تنَل القوة الجسدية، فأنهكتها آلام المخاض، وانطفأ بريق عينيها أمام أنظار أروى، فأنجبت طفلةً وتركتها رهينة الخذلان. 
 
جاء الصباح، وحياة نائلة استُبدلت بتلك الرضيعة التي أخذت من أمها كل شيء، جمالها وبريقها وحياتها، تأثر إياد برحيل زوجته الحبيبة، وتعلق قلبه بابنته الصغيرة التي ورثت من أمها كل شيء، فسمَّاها نائلة. 
 
أما أروى فتحولت من غيورة إلى قاتلة، تراشقت عليها التهم الباطلة، ووصلت ادعاءات الناس إلى أنها أوصدت الأبواب وتركت زوجة أخيها لتموت في مخاضها، لم تستطع أروى تجنب كلامهم الذي وصل لأخيها إياد، فتشربه، وبات مثل البقية، يلومها على كل ما لم تفعله، تشوهت سُمعتها بين الناس، ومن تتشوه سُمعتها ويلوك الناس اسمها لن يكون لها مستقبل، ولن يتزوجها أحد، لن تكون أكثر من سلعةٍ بائرة، ونالت أروى من بُد كل شيءٍ هذا المصير. 
 
منعها أخوها من نشر قصصها، ووقع عقدًا باسمها ليسحب كل منشوراتها من المكتبات نكايةً بما فعلته بزوجته، تحطم قلب أروى، وتهشمت روحها المتوهجة، صارت حبيسة غرفتها، تكتب قصصًا بنهاياتٍ تعيسة، كتبت كل جراحها على الورق المُندى بدموعها، ذبلت الأزهار التي كانت تزدان بها غرفتها، وجف حبر أقلامها، وصارت ناقمةً على كل شيء، وعلى نائلة قبل أي شيء. 
 
وعلى النقيض منها كانت نائلة، كانت طفلةً مرحة، مشرقةً كالشمس، وينالها كلام الإعجاب والإطراء من الجميع، لأنها ابنةُ أمها، ووجودها يُحيي ذكرى أمها الراحلة. 
 
ماتت نائلة ووُلدت نائلة، زالت لعنة وحلّت محلّها أخرى لترافق أروى لبقية حياتها التعيسة. 
 
"عمتي.. عمتي، العبي معي..". 
 
قالتها طفلة السنوات الخمس لعمتها التي لا تبارح غرفتها إلا نادرًا، رمقتها ببرود وجاء صوت أخيها من عند الباب: 
 
"نائلة! ماذا تفعلين عندها!..". 
 
"أبي.. أريدها أن تلعب معــ .. 
 
اختفى صوتها حين أغلق أبوها الباب بعد أن أبعدها عن أخته المختلة، عادت أروى بأنظارها للنافذة، وهي لا ترى غير السواد يُلون كل شيء، تلك الطفلة تتظاهر بالبراءة، لكنها تأتي إليها لتسخر من أوجاعها، تلك الطفلة هي السبب، هي وأمها من جعلاها مهمشةً مكروهةً ملعونةً من الجميع. 
 
كبرت نائلة وأصبحت في الخامسة عشرة، وأروى تراقبها كم تُزهر عامًا بعد عام، وهي تذبل عامًا بعد عام، تنال كل الحب، وهي لا تنال غير الكره، تنال كل شيء، وهي لا تنال أي شيء. 
 
زار حيهم فتى في الثامنة عشرة، تعلقت به أنظار وقلوب فتيات الحي، لم يروا من قبل شابًا أكثر وسامةً ولا أناقةً ولا لطفًا منه. 
 
انقاد قلب الفتى فادي لنائلة التي تصغره بثلاث سنوات، أحبها بصدق، وبادلته هي الحب، فصار يزور حيهم لينال منها كلمةً أو التفاتة، كبر حبهما الذي غدا مضرب الأمثال، وأروى تراقب حبهما الذي يكبر عامًا بعد عامٍ بعد عام، حتى تقدم لخطبتها فوافقت وتزوجته وهي ابنة ثماني عشرة سنة. 
 
انتقلت معه نائلة بعد زواجها ليسكنا في شقة بسيطة، لم يكن فادي يقبل المال من عمه الثري، كان يعمل بنفسه ويأكل من عرق جبينه، عاش الاثنان في تلك الشقة الصغيرة مثل طائرَي كناري في قفصٍ مرصعٍ بالحب. 
 
تفاجأت أروى حين جاءها عرض للزواج، وهي في التاسعة والثلاثين من ابن عم زوج نائلة، بعد عامٍ من زواج الأخيرة. 
 
كان بهاء أكبر منها بأكثر من عشر سنوات، سبق له الزواج مرتين، ولكن زيجاته لم تستمر طويلًا، لم يكن من النوع الذي ينال إعجاب النساء، لكن أروى لم تجد سببًا لترفض، خاصةً أن شقيقها توفي، وليس لديها أحدٌ ولا سببٌ لتعيش من أجله. 
 
مر عام على زواجها حين عاد لقلبها المظلم الأمل، والنور، والحب، حين حملت في أحشائها طفلًا، ترقرقت الدموع في عينيها حين علمت أن أحلامها لم تذهب كلها أدراج الرياح، وأنها في عامها الأربعين ستنجب طفلًا وتتحقق إحدى أحلامها التي ظنتها مستحيلة. 
 
بعد أشهرٍ من ولادة أملها، سقط جنينها، وسقطت معه آخر رغباتها في الحياة، قال لها الأطباء أنها لن تستطيع الإنجاب ثانيةً، فأفل آخرُ بصيص أملٍ لاح لها، ودُفنت آخر آمالها مع طفلها. 
 
سمعت أن نائلة أنجبت طفلًا، وها هي تنال شيئًا آخر، لن تستطيع أروى نيله أبدًا، فعاشت سنواتها التالية تندب حظها وأحلامها ونفسها، قضت ليالٍ عديدة تبكي وتبكي، لم يمحُ دموعها غير ظلمة الدجى، ولم يسمع أنينها غير الصدى، حينها، كتبت آخر قصصها، بحروف باكيةٍ، مُلتاعةٍ، متألمة، قصةٌ تصوغَ ألم الفقدِ في آلـَمِ صورِه، قصةُ طفلٍ سمته باسم الطفل الذي نما في أحشائها وغادرها قبل أن يفرحها بمقدمه، سمّته أمجد، وذوقته الألم الذي ذاقته، ألم الوحدة والفقد، عاش طفولته مغمورًا، تعلق بآمال واهيةً، وتعرف إلى صديق ثم اختفى هذا الصديق، وعاد الفتى لوحدته، لكن الحقيقة التي لم يفهمها أحد أن ذلك الفتى لم يجد صديقا منذ البداية، فتخيله، وعاش مؤمنا بخياله، ثم فقده، ولم يجده رغم بحثه المضني، لم يكن يبحث إلا عن سراب، كالسراب الذي ظلت تلاحقه طوال حياتها، ولم تصل إليه لأنه غير موجود من الأساس. 
 
لم تعد أروى تكتب القصص لأنها لم تعد تحبها، لم تعد تتمنى طفلًا لأنها لم تعد تحب الأطفال، وباتت تكره الحيوانات لأنها كتلة من القذارة، كرهت أروى كل ما كانت تحبه. 
 
قال لها بهاء أن عمه توفي وكتب كل ثروته لابن أخيه الأصغر فادي، وأن هذا الأخير ينتظر طفلًا آخر. 
 
نائلة مرةً أخرى! لماذا تنال نائلة كل شيء! لم لا يبارحها الحظ! لماذا لا تضل السعادة إليها سبيلًا! لماذا! 
 
إن كان الحظ قد أخطأ الجميع ونالها، فسأعيده لنصابه الصحيح. 
 
كان هذا ما فكرت به أروى، وعزمت على تنفيذه دون تأخير، كان زوجها هشًا يسهُل تسييره، فلم تجد صعوبةً في زرع أفكارها الشيطانية في رأسه، لماذا لم يعطيك عمك شيئًا! مع أنك ابن شقيقه الأكبر، تستحق أكثر من نصف الإرث، أنت الأكبر، أنت الأحق، أنتَ.. أنتَ.. أنت.. 
 
قابل بهاء فادي في مصادفةٍ مدروسة، وقال له أنه يريد التحدث معه على انفراد، وافق فادي مسرورًا؛ إذ كان يخشى أن ابن عمه سيقطع وصاله معه نقمةً على العم الذي لم يُنصفه، أخذه فادي بسيارته، لم يخبر زوجته أنه سيتأخر، لكنها ستتفهم حين يخبرها أنه كان مع بهاء، كان يعلم أنها سريعة القلق، تخشى أن يتأخر دقيقةً واحدة، ولو تأخر فهي لن تُسابق ابنه لاستقباله، بل تشيح عنه ولا ترضى بسهولة، لطالما كانت حبيبته صعبة الإرضاء، وورث ابنهما تلك العادة منها. 

طلب منه بهاء أن يوقف السيارة فوق جُرفٍ يطل على البحر، ويُتيح للناظرين رؤية الغروب، فلم يتردد، أوقف السيارة وترجل الاثنان، اقتربا من شفا الجرف ينظران للأمواج الهادرة تلطم الصخور أسفلهما، وأمامهما كانت أشعة الشمس تتهادى نحو الأفق. 
 
تحدثا عن الماضي، وعمهما الراحل، وحدَّث بهاء فادي عن والديه، كان فادي صغيرًا جدًا حين توفيا، ذهب والد فادي للدراسة في الخارج فتعرف على امرأةٍ وتزوجها، أورثت جمالها ورقتها لابنها فادي، الشعر البني الفاتح والبشرة البيضاء الناصعة، والملامح الآسِرة، ابتسم فادي وهو يستمع لحديث بهاء وصَرَّح بأنه يتمنى لو يراهما ثانيةً، فهمس له بهاء بأنه سيحقق أمنيته، ودفعه من أعلى ذلك الجرف، ارتطم جسده بالصخور أثناء سقوطه، واستقر جسده الدامي على صخرةٍ كبيرة، يصفعها الموج بضراوة، نظر بهاء لجسد ابن عمه الذي كان محل حب ودلال عمه، امَّحت ملامحه الجميلة، وبياضه الناصع صارت تشوبه حمرة الدماء القانية. 
 
ترك المكان بعد أن ألقى نظرةً أخيرةً على ابن عمه، الذي أدرك لتوه كم كان يكرهه، لكن نيران كراهيته الخامدة أججتها أروى بكلامها، لن يكون آسفًا على دفعه له، هذا خطأ عمه وليس خطأه، ولكن لا، سينهشه الندم حتى يفتك به يومًا. 
 
استمرت عمليات البحث عن فادي ثلاثة أيام، حتى عُثر على سيارته عند ذلك الجرف المشؤوم، وبقايا جثته فوق الصخرة، وزُفت الأخبار التعيسة لنائلة. 
 
السعادةُ الأولى.. كُسِرَت.. 
 
مرت الأشهر بطيئةً على نائلة التي كسرها رحيل حبيبها، سلمت أمر موته للأقدار، وحاولت التماسك من أجل طفلها الصغير، مروان، قلبها النابض، سبب بقائها حية بعد فاجعتها بزوجها. 
 
طرقت أروى باب الشقة التي تسكنها ابنة أخيها، فتحت نائلة الباب وفوجئت برؤية عمتها خلفه، أدخلتها للبيت، لم تكن نائلة تكره عمتها، فأروى لم تُؤذِها قط، كانت تسمع عنها الشائعات لكنها لم تكن تصدقها، إلا أنها كانت عاتبةً عليها لأنها لم تحضر العزاء الذي مضى عليه خمسة أشهر، لكنها لم تصرح لها بعتبها، جلستا في غرفة الجلوس الصغيرة، نظرت أروى لبطن نائلة الكبير وسألتها في أي شهرٍ هي، مسحت نائلة على بطنها بحنانٍ ممزوجٍ بالألم، وأجابتها أنها في شهرها الأخير، نظرت أروى إليها كي لا تفوّت ردة فعلها وقالت لها ببرود أنها هي من كانت وراء مقتل زوجها فادي. 
 
أمالت نائلة رأسها في عدم فهم، وعدم تصديق، وحين قوبلت بنظرات عمتها التي لا تعرف المزاح شعرت بالنيران تلتهب في قلبها وعوَت صرخات الحقد بداخلها، إذًا فالشائعات لم تخطئ عمتها، إنها السبب في موت أمها كما يُقال، والآن زوجها، أكملت أروى كلامها بذات البرود، قائلةً أنها لن تتردد في تكرار الجريمة على طفلها الحبيب، فدوت كلماتها كالصاعقة في روح نائلة، لا، إلا طفلها، إلا نور عينيها، كل شيءٍ إلا مروان. 
 
"سلميني حياتكِ نيابةً عنه..". 
 
قالت أروى، وانتفض وجدان نائلة، رجتها أن لا تؤذي طفليها، لا مروان ولا شقيقه، فابتسمت أروى بمكر، وكانت المرة الأولى التي ترى نائلة فيها ابتسامة عمتها، قالت لها أنها لن تؤذي طفلَيها، كان يكفيها أن تحرم نائلة من أطفالها، فلا تراهم وهم يكبرون أمامها. 
 
"موتي بهدوء، اتفقنا؟". 
 
كان هذا الشرط الذي سينوب عن بقاء ابنَيها حيَّين، استأجرت أروى شقةً ملاصقةً لشقة نائلة، فتوهم الناس أنها تفعل ذلك لتنتبه لابنة أخيها وتضع عينيها عليها، قد نكون نادمةً على ما حصل لأمها بسببها، وقد تكون اتهاماتهم لها باطلة، وكلوا لأروى مهمة الاعتناء بنائلة، حتى جاء ذلك اليوم الماطر، اليوم الذي ستُكسر فيه سعادةٌ أخرى، ولا شيء سيُرممها، تلك هي النهاية، نهاية السعادة المزعومة التي عانقت قدر نائلة لخمسةٍ وعشرين سنة هي كل حياتها. 
 
الأبواب موصدة، الظلام يلتهم كل شيء، وصرخات الموت لن تصل لأحد. 
 
كانت المرة الأولى غير مقصودة، أما الثانية فمقصودةٌ ومدروسة، ستنتقم أروى من كل من اتهمها، ستنتقم ساخرةً من جهلهم، اتهموها حين كانت بريئة، وبرأوها وهي مذنبة. 
 
كانت أم نائلة في الخامسة والعشرين أيضًا حين أنجبتها، كانت في الخامسة والعشرين حين ابتلع العدم صرخاتها الأخيرة، وأعطت وليدتها كل شيء، شعرها الأسود المموج، عيناها البنيتان الواسعتان، بشرتها الحنطية الجميلة، وملامحها الجذابة، وسنواتها الخمس والعشرين، والعناء الذي يرافقها في الولادة. 
 
في لحظات نائلة الأخيرة، نظرت لابنها المحبوب، وتأسفت لأنها لن تراه وهو يكبر، لن تراه وهو يزداد شبهًا بها، وينوب عن أبيه في كل شيء، في طريقة كلامه، وفي صفاته، وفي حبها. 
 
أرجوك عش يا بني، اكبر قدر ما تستطيع، عش نيابةً عني وعن أبيك، عِش بكل الحب الذي أعطيناه لك، عِش نابذًا للكراهية،  عِش مالئًا من حَولك بالحب، لن تستطيع أن تعيش من غيره، عٍش يا أميري، عِش يا حبيبي، عِش يا نبض فؤادي. 
 
تجلت كل كلمات وأمنيات ورغبات نائلة في كلمتَيها الأخيرتين: 
 
"عِش يا مروان..". 
 
ازداد سطوع القنديل الذي يُعانق السقف، فرأيتُ بوضوحٍ أكبر مدى خواء عينيها، شددتُ عقد يديّ على صدري وأنا أسمعها تصل لذلك الجزء، دخولها البيت مع جارة والدتي بعد لحظاتٍ من وفاة أمي، كل شيءٍ كان مدروسًا، كل شيءٍ كان مخططًا، ووالداي ماتا غدرًا. 
 
"لقد اقترفتُ خطأً حين أرسلتُ شقيقك معك لذلك الميتم، لو أنني أبقيته عندي ونفيتك لما عشتَ حتى الآن، لقد أعطيتك دون قصد سببًا لتعيش طوال السنوات الماضية..". 
 
أكملت ببرود: 
 
"كنتُ سأروض ذلك الطفل وأجعله خادمًا لي، ولو افترضنا أنك لم تمت وجئت لتنتقم سيقف شقيقك في وجهك ويودي كل منكما بالآخر.. ألن تكون نهاية رائعة؟ لن تضطر للعيش كفاشلٍ لم يستطع إنقاذ شقيقه من الموت..". 
 
ضحكت بلؤمٍ منتشيةً بقصتها وأردفت: 
 
"لكن تلك الماكرة سبقتني وجعلت من طفلها أداةً للإيقاع بي، من كان ليتصور ذلك!". 
 
"أمي.. ما كانت لتفعل شيئًا كهذا..". 

"لا توهم نفسك بهذا! لقد جعلت من أخيك الحبيب أداةً لتأخذ بثأرها وتحرمك منه...".

"لا علاقة لأمي بمرضه..  لقد خنتِ ثقتها وأهملتِ علاجه حين كان صغيرًا.. ".

"مَن الأحمق الذي يجعل قاتلًا محل ثقة! أنت مثلها، تصدق كل شيء وتؤمن بالحماقات، لقد تخلت عائلتك عنك، عليك أن تفهم هذا.. ".
 
تماسَك..  تماسَك..  تماسَك..
 
إنها تريد أن تحطمك، تريد أن تطفئك للأبد، إنها محاولتها الأخيرة للقضاء على ما يَمُت لنائلة بِصِلَة، اثبُت، وحارب. 
 
أحارب؟ من أجل ماذا ومن؟ 
 
حارِب مِن أجله. 
 
وهل حارب هو من أجلي؟ 
 
لو أنه لم يُحارب لما عاش حتى هذا العمر. 
 
"وجودك بلا فائدة..". 
 
عِش 
 
"لا معنى من حياتك..". 
 
عِش. 
 
"عليكَ أن ترحل مثلما رحلوا..". 
 
عِش. 
 
رمقتها بحدة، فرفعت حاجبيها وقالت: 
 
"هذه النظرات! أنتَ ابنها حقًا..". 
 
" من أنتِ لتقرري من عليه أن يعيش!..". 
 
قلتُ بنبرةٍ جاهدتُ لأخمد نيرانها. 
 
"لستِ أكثر من حقودةٍ خاسرةٍ مهزومة، ما الذي جنيتِه من أفعالك؟ أمضيتِ حياتكِ بلا معنى، ولم تشفيك أفعالك بل زادتك بؤسًا..". 
 
"اخرس..". 
 
زجرت بتلك الكلمة التي تجرد منها الهدوء، فُتح الباب ودخل حارسان لأخذها، وقفتُ ونظرتُ إليها ببرودٍ وقلت: 
 
"موتي بهدوء، اتفقنا؟". 

شددتُ قبضتي على صدري ما إن غادرت، شعرتُ أن قلبي يكاد يُغادر مكانه، وحوارنا المحموم استنفد ما بقي من شجاعتي، أكرهها، وأشفق عليها، وأكره شفقتي عليها، أيامي الحالكة كلها، فقدي لوالديّ وفراقي لمن عشتُ لأجله..  ألم تكن هي خلف ذلك؟  لمَ هذا التضارب في مشاعري!

جاء عماد إلي وحثني على مرافقته للقاعة، نظرتُ إليه وقلتُ بعجز:

"لماذا لا أستطيع أن أكرهها؟ ".

نظر لي بتفكيرٍ وكأنه يوشك على حل معادلةٍ رياضية، ثم أجاب:

"ليس عليكَ أن تكرهها إذًا.. ".

"ولكن..  هي المسؤولة عما مررت به.. ".

قلتُ في احتجاجٍ طفولي، وأنا أضغط بيدي حيث قلبي.

"ما الذي سيُفيدك لو كرهتها؟ ستكون مثلها وحسب، ولا أحد يعرف ما الذي قد تفعله، لو أن الكراهية انتُزعت من أفئدة الناس لامّحت نصف جرائم العالم.. ".

ذكرتني كلماته بذلك الفتى، الذي كان يغضب
إذا رآني غاضبًا، لأنه يعلم أن من يعلق في تلك الدوامة لن يتحرر منها بسهولة، زفرتُ بعمق، وأنا أتساءل إن كان قلبي نابذًا للكراهية، أم سُلخت منه المشاعر الإنسانية وصار متبلدًا.
 
حُكم على أروى بالسجن مدى الحياة، والتي لم تدُم لأكثر من ثلاث سنوات لاحقة، وكُتِب الإرث الذي لم يُمَس باسمي، قالت لي أنها لم تكن تريد شيئًا من المال، كل ما كانت تريده هو حرماننا منه. 
 
غادرنا قاعة المُحاكمة أنا وعماد وسمعتُ صوتًا أنثويًا يُناديني، فرأيتُ امرأةً في منتصف العمر تقترب مني وهي تمسح عينيها بمنديل، تعرفتُ إليها مباشرةً، كانت أحد الشهود، جارة أمي، والمرأة التي جاءت مع أروى يوم وفاة والدتي. 
 
استأذنَت عماد لتتحدث معي على انفراد، فسبقني للخارج، وبقينا نحن الاثنين في بهو المحكمة بجانب إحدى النوافذ الكبيرة التي تدفق ضوء الشمس الباهر منها، قالت بصوت مهتزٍ وهي تنظر إلي وتحاول كبح دموعها: 
 
"لقد كبرتَ حقًا يا صغيري، كنتَ مجرد طفلٍ متعلقٍ بأمه، ليتكِ ترين كم صار ابنكِ يشبهكِ يا نائلة..". 
 
مسحت عينيها بمنديلها وهي تطيل نظرها إلي، وقالت وهي ترسم على شفتيها ابتسامةً باهتة: 
 
"هل تذكرني يا مروان؟". 

أومأتُ بهدوء، قالت ودموع الحسرة تطفر من عينيها: 
 
"لقد أحضرتك أمك إلي ذات مرة، لم تكن تتركك عند أحد أبدًا، لكنها كانت مضطرةً يومها؛ لأنها كانت ستذهب إلى المشرحة لترى زوجها بعد ثلاثة أيام مستمرة من البحث، كانت ملامحها مظلمة، لكنها بقيت متماسكةً من أجلك، احتضنتك حين عادت دون أن تبكي، كم كانت امرأةً شجاعة!". 
 
أومأتُ ثانيةً، منتظرًا أن تنتهي من حديثها. 
 
أردفت بصوت بالغ التأثر: 
 
"سامحني يا مروان لأنني لم أستطع فعل شيءٍ لأمك.. سامحني..". 
 
"لا جدوى من الاعتذار..". 
 
"كانت امرأةً رائعةً حقًا، رحيلها مؤسفٌ حقًا..". 
 
"هذا يكفي..". 
 
قلت، وذهبتُ لأتركها وحدها خلفي تندب الماضي، نالت نائلة ما يكفيها من الإعجاب والثناء، دعوها تنَم بسلام. 
 
.... 
 
"هل أنت واثق؟..". 
 
سألني عماد حين أخبرته بالوجهة التي أرغب بالذهاب إليها، أومأتُ بهدوء، فقاد سيارته إلى هناك دون أن يُدلي بتعليق. 
 
أوقف السيارة، ففتحتُ الباب وترجلتُ منها وفعل هو المثل، لفحت أنفي رائحة البحر والملح والماضي، اقتربتُ بخطى بطيئة من ذلك الجرف، الذي كان الموطئ الأخير لقدميّ أبي، كلما اقتربت من حافته علا هدير الأمواج التي تلطم الصخور بلا هوادة، نظرتً للأسفل، للصخور التي تشربت دماء أبي المغدور، وتماهت لي ذكراه الغابرة، حين كنا أنا وأمي نتسابق لاستقباله، وأول الواصلين ينال قبلةً منه، انتبهتُ حينها أنني لم أفُز قط أمام متنافسة  شرسة مثل نائلة، كانت تحظى بكل القُبل، ثم تمررها لي، كانت غاضبةً يومَ تأخره، ذرعت البيت الصغير جيئةً وذهابًا، ضربت أخماسًا بأسداس، وتوعدت بأنها ستفعل به الأفاعيل، لم تعلم تلك العاشقة أن محبوبها دُكَّت عظامه على هذه الصخور. 
 
ازداد هبوب الرياح وتسابقت الأمواج لتبطش بالصخور الهامدة بلا حراك. 
 
"كنت ألقي الملامة عليهما لأنهما رحلا باكرًا، لمتهما ونسيت كل الحب الذي أعطياني إياه، وبه عشت، ومررته لأخي، علمتُ بفضلها كم كانا عظيمين..". 
 
ضحك عماد ضحكةً قصيرةً وقال: 
 
"أعتقد أنها ستُجن لو سمعت كلامك، ليتني أرى وجهها حين تقدم لها امتنانك..". 
 
"لقد نالت من الجنون ما يكفيها لبقية حياتها.". 
 
نظرتُ إلى الشمس التي توشك أن تختفي خلف الأفق، وأفلتت من فمي تلك الكلمة دون شعور: 
 
"فجــر..". 
 
"فجر!..". 
 
تساءل الوقف بجانبي، فقلتُ بهدوء: 
 
"إنه الاسم الذي أطلقه أخي على أختنا الصغرى..". 
 
"أختكما! هل أصابك الخرف!..". 
 
" كانا سيُنجبان فتاة، ويُطلق عليها أخي اسم فجر؛ كان يحب الفجر فالشمس تشرق عقِبَه، والحياة تدب بعده، والضياء يغمر كل شيء مثلما كانت حياتنا ستزداد ضياءً بمولدها..". 
 
شارفت أشعة الشمس على الاختفاء خلف صفحة مياه البحر، وأظلمت السماء تدريجيًا بظلال الليل، متى يحل الفجر؟  متى تنجلي ظلمة الليل؟  متى ستدب الحياة في قلبي ثانيةً؟

..
..
..

Continuar a ler

Também vai Gostar

122K 8.4K 68
-"انت لست ابني ولا أنا أمك! أنا أتبرأ منك" -" انت لست ابنتي، أتبرأ منك" هذه امثله عن ما دفع بعض الأفراد وخاصة شباب انهم يمشون على الارض بلا هدف، وأكث...
442K 29.5K 39
شاب من عائله غنيه وكاي عائله غنيه يجب أن يكون افرادها أذكياء وسيمون ومصدر فخر لهم أحد أفراد العائله لم يكن كذلك كان فتى في ال 14 عشر ذو جسم ممتلئ و...
11.7K 841 24
تدور الرواية و الحكاية ما بين فواصل الزمان هو مراهق في جسمه، كبير في عقله، هل سيجابه الايام و هل يستطيع تحقيق اهدافه ؟؟.. ام ان لقسوة الزمان رأي آخر...
62.5K 5.3K 29
يعود ذلك الشاب بعد ثلاث سنوات من اختفائه ليكون الامل الوحيد لكشف جريمة قتل عائلة باكملها وحرق منزلهم ولكنه كان فاقدا للذاكرة يقوم احد الاطباء بتبني ع...