أشِقّاء

By lood999

76.5K 7.3K 2.6K

في حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعل... More

١) يُحكى أنه كـان وحيدًا.
٢) الليلــةُ الماطِـرة.
٣) سِجــن.
٤) غَــرق.
٥) بصيـص أمـل.
٦) تِلـك الفتـاة.
٧) الرحيــل.
٨) ذكريات حلمٍ قديم.
٩) حــديقةٌ وفتـاة.
١٠) مَحَلُّ الأقمشـة.
١١) ماهــر.
١٢) تجاوز المُهلـة.
١٣) دمـوعٌ ومطر.
١٤) الأخُ الكبير.
١٥) صـديق.
١٦) أشبـاح.
١٧) الصـراحة.
١٨) آباء.
١٩) غضـب.
٢٠) وداع.
٢١) اِختفـاء.
٢٢) مُمتن.
٢٣) بقايـا.
٢٤) نَبـش.
٢٥) عِـش.
٢٦) المُفكـرة.
٢٨) أروى.
٢٩) أطـلال.
٣٠) لِقـاء.
٣١) مُفاوضات.
٣٢) إنقــاذ.
٣٣) إحيــاء|الخاتمـة.
فصل إضافي|فَجْــر: كل الطرقِ تؤدي إليك.
فصل إضافي ٢|ندى: لن أنساك أبدًا.
فصل إضافي ٣|سأعـود.
فصل إضافي ٤|لأنك ولِـدت.

٢٧) الحياةُ المسلوبـة.

1.2K 157 61
By lood999


...
..

غمرني المكان بالدفء، ونشرت المصابيح المعلقة في السقف الضياء في الغرفة، كانت غرفة طعامٍ تتوسطها طاولةٌ دائريةٌ لها خمس مقاعد.  
 
كان أبي يجلس على أحدها، يقرأ كتابًا،  ويحتسي كوب شاي.  
 
وفي المطبخ المُشرع على الغرفة رأيتُ أمي.  
 
كانت تعد الطعام وتقف بجانبها فتاةٌ صغيرة، لعلها في الخامسة، تمسك رداء أمي وتصر على مساعدتها، أمي تضحك، وتطلب منها أن تبتعد كي لا تتأذى  
 
من كانت تلك الفتاة؟  
 
جاءها أمجد، بدا أصغر من آخر مرةٍ رأيته فيها، ركضت الفتاة إليه وعانقته، ما علاقة هذه الفتاة به؟  ولمَ يُلاعبها ويلاطفها بحب!  
 
وضعت أمي الأطباق على الطاولة، وراحت الفتاة تساعدها بإصرار، حينها.. انتبهت لوجودي، ركضت نحوي وعلى شفتيها ابتسامةُ زادت وجهها إشراقًا،  تحرك جسدي من تلقاء نفسه وكأنه اعتاد هذا، انحنيتُ نحوها، ومددتُ يديّ إليها.  
 
ارتمت في حضني وهي تهتف: 
 
أخـــي.
 
حملتُها بذراعيّ وتأملت تقاسيم وجهها، كانت تشبه أبي، وتشبه أخي، ولها ابتسامة أمي، تجلّت فيها أوصاف عائلتي.  
 
"دعي أخاكِ يأكل يا فجـر". 
 
ابتعدت عني ملبيةً أمر أمي ووجهها يمتعض.  
 
فجر!  اسمها فجر..  
 
"إنها تنسى كل شيء حين تراه..". 
 
قال أمجد والغيرة تنساب من صوته، ضحكت أمي وهي تخبره بأن فجر لا تحب أحدنا أكثر من الآخر..  
 
وضع أبي كتابه جانبًا، وأشار لي كي أجلس في الكرسي الذي بجانبه، جلست أمي في الجانب الآخر، ثم أمجد، والصغيرة فجر... جلست بين مقعد أمجد ومقعدي الفارغ.. 
 
بدوا لي بعيدين جدًا، في جانبٍ آخر من العالم، بتلك الهالة الدافئة التي تحيط بهم، والتي لا تشبه هالتي المُظلمة، قريبون جدًا، وبعيدون جدًا، لدرجة أني لم أستطع الجلوس على الكرسي الذي يبعد خطوتين عني.  
 
أضحت سيماهم مغبشة، وأصواتهم هشة، وشيئًا فشيئًا، تلاشت المائدة ومَن عليها، وبقيتُ وحدي واقفًا،  ما تزال وجوههم،  وأصواتهم،  وابتساماتهم  عالقةً في ذهني تتردد بلا هوادة.  
 
.... 
 
دخل أبي حاملًا رضيعًا بين يديه، كان المكان مكسوًا بالبياض،  ربما مشفى،  ركض إليه ولد صغير،  كان أمجد في طفولته،  انحنى أبي حاملًا الطفل ليريه لأمجد ذا الثلاث سنوات،  اقتربتُ منهم،  كانت فتاة.  
وجنتاها ممتلئتان، وخصلات خفيفةٌ بنيةٌ ترقد على جبينها، غرس أمجد أصبعه في خد الطفلة عميقًا، انزعجت وتغضن وجهها فنهاه أبي عن فعل ذلك.  
 
ضحك أمجد، كان يشبهها شبهًا كبيرًا.  
 
استقام أبي في وقفته ومضى طارقًا بقدميه أرضية الغرفة الخشبية، حتى وصل لسريرٍ مكسو بالأغطية، ووضع الطفلة بين ذراعي أمي التي كانت مستلقيةً والإجهاد بادٍ على وجهها.  
 
أشرق وجه أمي حين رأت طفلتها، جلس أبي بجانبها ووضع أمجد الصغير على فخذه، كان الثلاثة يراقبون ذلك الملاك الصغير الذي بين يدي أمي.  
 
نادتني أمي لأجلس بجانبها وأرى الطفلة.  
 
لكني لم أتحرك.  
 
عصتني قدماي كعادتهما.  
 
حركت الطفلة يدها وعانقت سبابة أمي بأصابعها الصغيرة، ابتسموا وهم يراقبونها.  
 
لم أستطع مشاركتهم تلك اللحظات.  
 
ومرةً ثانية، تبدد ذلك المشهد مثل سراب.  
 
... 
 
كان المكان بالغ الجمال والرقي، تأملتُه بعينين مسحورتين، غرفة معيشة واسعةٍ حديثة الطراز، وممر مزدان بلوحات ثمينة تصطف على جانبيه.  
 
"هذا بيتنا من الآن فصاعدًا يا صغيرَيّ.. ". 
 
نظرتُ لصاحب الصوت الذي كان واقفًا خلفي فلم يكن سوى أبي، وبجانبه كانت أمي تقف وهي تُريح يدها على بطنها الممتلئ، وبجانبي يقف أخي الصغير ووجهه يتقد حماسًا.  
 
"لنختَر غرفنا يا مروان.. ". 
 
قال بحماسٍ وسبقني إلى السلم، ركضتُ خلفه، وصعدنا الدرجات الجصية وأمي ترفع صوتها طالبةً منا ألا نركض كي لا نتأذى.  
 
دخل كل واحد منا إلى الغرفة التي ساقته قدماه إليها، كانت كل واحدة منهما أجمل من الأخرى، خرجت، فرأيتُ والديّ واقفين أمام غرفة أمجد.  
 
"هل اخترتها يا عزيزي؟.. ". 
 
سألته أمي، فابتسم ملئ شدقيه في سعادةٍ لم أرها فيه قبلًا وهو يومئ.  
 
أشار بسبابته للغرفة المقابلة له وهو يهتف.  
 
"ستصبح هذه غرفة فجر حالما تولد".  
 
ضحك والداي ، وعده أبي أنها ستكون من نصيبها، وسألته أمي بين ضحكاتها: 
 
"واخترتَ اسمها أيضًا..؟" 
 
."نعم، أحب الفجر لأنه يسبق شروق الشمس...". 
 
قال وهو يرفع يديه القصيرتين عاليًا إشارةً إلى سطوع الشمس، فضحك والداي لرؤية حماسته. 
 
"تعالوا، سأريكم بقية البيت..". 
 
قال أبي، فتبعاه، وأثناء سيرهم التفت إلي أمجد وأشار لي أن أتبعهم.  
 
لم أستطع التقدم خطوةً واحدة، راقبتهم يبتعدون وطيفهم يتلاشى رويدًا رويدًا.  
 
للمرةً الثالثة، يذهبون ويتركوني خلفهم، متخبطًا في وحدتي الأبدية، لماذا لم يأخذوا بيدي ويجبروني على السير معهم، لماذا يتركونني وراءهم بلا حاضرٍ ولا مستقبل.

لن أسامح من سلب مني حياتي، حياتي التي لم أعشها، ولم تعرف لي سبيلًا، والدان وإخوة، وبيتٌ وحضنٌ يُلملم بقاياي، ويملأ خوائي.

.... 
 
 
رأيته جالسًا على مقعد الحديقة متكئًا بذراعه على ظهر الكرسي شاردًا بأنظاره للأمام، اعتدل في جلسته حين رآني. 
 
"هل قرأتها؟ اعتقدتُ أنك أحرقتها حين مر أسبوع ولم تأتِ..". 
 
دسستُ يديّ في جيوب سترتي، وأنا أطلق بصري لكل شيء وأي شيء دون أن يهتديَ  لمُستقر. 
 
"سأستعيد كل شيء..". 
 
قلتُ أخيرًا، قاطعًا حبل الصمت الذي امتد بين سؤاله وجوابي، وقف قبالتي وقال: 

"آسف.. لا بد أن ذلك كان صعبًا عليك.. ".

"لم يعُد يهمني.. ".

تمتمتُ ببرود، تمعن في وجهي الذي بدا له أشد صقيعيةً منه قبل أسبوع، وقال أنه أخبر والده بتفاصيل قضيتي، والذي يعمل مدعٍ عام، فنبش في الملفات القديمة وأعاد فتح قضية مقتل أبي، لكنهم دُهشوا حين علموا أن بهاء توفي قبل سنوات، وحين استجوبوا أروى اعترفت بكل شيءٍ دون ضغطٍ من أحد، كأنها انتظرت أن تُستجوب لتعترف، وقُرِّر أن تُعقد جلسة محاكمةٍ في الأسبوع المقبل.

"احزم حقائبك لنعود للمدينة الساحلية.. ".

قال، مشيرًا إلى مدينتي، وعلمتُ أنها مدينته أيضًا لكنه جاء لجامعة العاصمة للدراسة، لم يُدهشني شيءٌ من كلامه، ولم يأخذني الحماس للعودة لمدينتي التي هجرتها منذ سنواتٍ طوال، استدرتُ بهدوءٍ لأعود دون إبداء أي تعليق ودون أن أتساءل عن اهتمامه، توقفت فجأةً ونظرتُ إليه ببرود وسألته:

"أنت..  ما هو اسمك؟ ".
 
طرف بعينيه عدة مرات ثم ابتسم وأجاب: 
 
"آسف، ثرثرتُ كثيرًا ونسيتُ أن أعرفك علي، اسمي عماد..". 
 
أومأت بشرود، وأكملتُ سيري وأنا أفكر لأي قدرٍ ابتسامته تشبه ابتسامة أحدهم. 
 
... 
 
 
تبقت ساعات وننطلق أنا وعماد إلى المدينة الساحلية، رافقني طوال ذلك الصباح دون أن يسألني إلى أين أذهب ولمَ.

كان يكبرني بعام، وتبقى عام على تخرجه من الجامعة، قدم عذرًا للتغيب عن الجامعة طوال أسبوع حتى يرافقني في رحلتي الأخيرة، لم أفكر أن أشكره على ما كان يفعله لي دون أن ينتظر مردودًا، ولاحقًا تخليتُ عن فكرة شكره، فذلك الشاب الفضولي سيغدو رفيقي لبقية حياتي. 
 
طرقتُ الباب في ترددٍ ودخلت وهو خلفي، لم أتعجب حين نالتني نظرات الدهشة منهما. 
 
"لن أجد عذرًا لائقًا أقدمه لك..". 
 
قلتُ لمؤيد الجالس خلف مكتبه، يحتسي الشاي مع خاله رافع الذي كان جالسًا على الجانب الآخر من المكتب. 
 
"ما مررتَ به ليس سهلًا..". 
 
قال مؤيد، الذي كان طوال فترة عملي معه كأخٍ لي. 
 
"أشكركما على كل ما فعلتماه لي..". 
 
ابتسما بمودة، ليقول مؤيد وقد فهم لتوه: 
 
"هل ستستقيل؟". 
 
"نعم، سأعود إلى مدينتي..". 
 
تأسف مؤيد لأنه سيُفارق مساعده الذي كان له كيده اليُمنى، لكنه أومأ بتفهم وقال لي رافع وهو يغمز بعينه: 
 
"مكتبي مفتوح لك دائمًا لو أردت أي نصائح لتفتح مشروعك، ولكني لا أقدم التخفيضات لأحد..". 
 
ضحك هو وابن أخته،  ووعدته بأن مكتبه سيكون الوجهة الأولى لي، استدرتُ لعماد الذي كان يراقبنا بصمت وأشرت له بأن نتحرك، فتبعني بالصمت ذاته.

....

 
"أواثق أنك لن تأخذ شيئًا معك؟". 
 
قال لي عماد الذي كان متكئًا على سيارته حين رأى يديّ خاليتان من الحقائب وأنا أنزل من درجات مدخل البناية، لم آخذ سوى المفكرة ذات الغلاف الجلدي، أومأت. 
 
ركبت السيارة ووضعتُ المفكرة في الدرج أمام مقعدي، وفتح بابه وجلس خلف المقود، وأدار المحرك، وانطلق بعد دقائق.

لم يُبادر أي منا بالكلام، شعرتُ أنه يود التحدث لكن هيئتي المتصلبة لا تحمل أحدًا إلى خوض حديثٍ معي، لكنه كسر حاجز الصمت الكئيب بقوله:

"لقد كنتُ أتقصى عنكَ قبل أن أُجري أول محادثةٍ معك، سمعتُ من سكان البناية التي تسكن فيها بما مررتَ به، ولكنني مع ذلك لم أفهم لمَ وصلتَ لهذه الحال، وحين كنتُ أحدّث صاحب البناية اندفعت إلي ابنته الصغرى وقالت أنها تعرفك، فصرت محور حديثنا، وكانت ترجوني بأن أخرجك مما أنت فيه، ولولا نظرات أختها التي كانت تقف على مقربةٍ منا لي، لاسترسلت أكثر في الكلام مع الصغيرة، شعرتُ أنها ستقتلعني من مكاني بنظراتها.. ".

أردف بعد صمتٍ قصير:

"قد ترى اهتمامي بك مريبًا، ولكن قصتك أثارت حفيظتي، كن مستعدًا لأنني سألتصق بك كالغراء وسأحرص على إعادتك لما كنتَ عليه مهما كان ذلك عسيرًا.. ".

أدلى بخطابه الطويل وعيناه متمركزتان على الزجاج الأمامي، أردف بعدها:

"ما دام قلبكَ ينبض بالحياة..  عليكَ أن تعيش.. ".

"لست على شفير الموت ليترجاني العالم بالبقاء حيًا.. ".

ابتسم بهدوءٍ وقال:

"قد تموت إن فقدتَ الرغبة بالحياة.. ".

"كان ينبغي أن أموت إذًا.. ".

"على العكس، ما زالت الرغبة تسكنك، لكنك تتجاهلها.. ".

"ليست رغبتي، بل رغباتهم.. ".

"لماذا تريد استعادة كل شيءٍ إن كنتَ فاقدًا للرغبة إذًا! ".

لم يجبه سوى صوت هدير جهاز التبريد وصوت مقدم إذاعة الأخبار من المذياع، قال بهدوء:

"لقد اخترتَ أن تعيش لتُعيد إحياءهم، ألستُ محقًا! دعني أخبركَ بتفاصيل قضية والدك.. ".

أنجب خليل ثلاثة أبناء بفارق عشر سنواتٍ بين كل واحد منهم، سمير وعبد الملك ومعاذ، من الأكبر إلى الأصغر، تزوج سمير باكرًا وأنجب ابنًا ومات وابنه صغير، فاعتنى عبد الملك ببهاء ابن أخيه، كان عبد الملك تاجرًا وجمع أموالًا طائلةً في حياته، وكان يدلل شقيقه الأصغر معاذ ولا يرفض له طلبًا، فذهب الأخير ليدرس في الخارج على نفقة أخيه، وأعجب بفتاةٍ وتزوجها ثم أنجبا ابنهما فادي، لكنهما توفيا إثر وباءٍ  أصابهما وابنهما فادي في سنواته الأولى، فتكفل عمه عبد الملك به، وأغدق عليه بماله وحبه، ناسيًا أن لديه ابن أخٍ آخر، غير أن بهاء لم يكترث بتدليل عمه لفادي، عمل في وظيفةٍ حكوميةٍ بمرتب بالكاد يكفيه وتزوج واستقل من بيت عمه، مرت السنوات وتوفي عبد الملك وكتب كل ما يملك لفادي الذي كان متزوجًا وله ابن، فأثار ذلك حفيظة بهاء، وحرضته أروى ليستعيد حقه من ابن عمه، فغدر به من خلفه، وتكفلت هي بابنة أخيها، وحصلا على حضانة الطفلين لأنهما أقرب المقربين منهما بالدم، استحوذا على الأملاك وأرسلا الطفلين لميتمٍ في ضاحيةِ المدينة، وهما على يقينٍ أنهما لن يروهما ثانيةً.

أفل ضوء أحدهما، تاركًا الباقي في عُهدة الآخر.

....

 
عُقدت الجلسة بعد أيامٍ من وصولنا، وتجمع المعنيون في قاعة المُحاكمة، في انتظار مثول المتهمة أمام القاضي، لكنها تأخرت، وطال انتظار الحضور وتعالت الهمسات، كنتُ جالسًا في الصف الأول لا ألقي بالًا لتأخرها، بل رجوتُ ألا تأتي، لم أكن على استعدادٍ لرؤية من عشت الجحيم بسببها، فُتح باب القاعة، لم ألتفت، علمتُ أنه فُتح من التفاف الرؤوس للخلف وتعالي الهمسات. 
 
رأيتُ حارسًا يتقدم ويهمس بكلماتٍ للقاضي، فأومأ الأخير بهدوء وأشار إلي، فجاء إلي الحارس وطلب مني المجيء معه، سأله عماد باستغراب لأي شيء يريدني، فأجابه باستعجالٍ أن المدعى عليها ترفض المثول للقاعة قبل أن تراني، انقبض قلبي لدى سماعي لما قال، وحين رأى عماد تغير لوني قام وساعدني على النهوض وسرنا خلف الحارس الذي أخذنا لخارج القاعة، سرنا خلفه عبر الأروقة التي تزداد عتمةً وضيقًا كلما توغلنا فيها، وتوقف أخيرًا أمام بابٍ حديدي منزوٍ وطلب مني الدخول وحدي. 
 
دخلتُ لتلك الغرفة القاتمة، ووقعت أنظاري على طاولةٍ صغيرة مربعة تتوسط الغرفة، لها كرسيان متقابلان، ويضيء الحجرة الصغيرة قنديل ينبعث منه ضوء خافت يتدلى من السقف. 
 
على أحد الكرسيين رأيتها، كانت جالسة بهدوء، عيناها خاويتان، ونظراتها مصوبتان لللا شيء، رفعت رأسها حين أحسّت بدخولي، فرأيت بوضوح مدى شحوبها وتهدل خدّيها، وتلون أسفل عينيها بالرمادي، جلستُ أمامها، ونظراتها الباردة تترصدني، مرت اثنا عشرة سنة على مغادرتي لبيتها، إلا أن وجهها الحزين بدا مألوفًا، غير أني لم ألحظ هذا الحزن قبل الآن. 
 
فتحت فمها أخيرًا لتتكلم، وقالت بصوتٍ لا يقل عن عينيها برودًا ولا خواءً:  
 
"ها قد كبرتَ وجئتَ لتسترد حقك، لكنك لن تستطيع استرداد الذين ماتوا.. أيها المسكين..". 
 
رمقتها ببرود يشابه برود نبرتها، وقلتُ بهدوءٍ لا يُشابه النيران التي استعرت في داخلي: 
 
"لا أنوي استعادتهم.. أنا هُنا نيابةً عنهم جميعًا..". 
 
خرجت من فمها ضحكةٌ قصيرة ونظرت إلي بتمعن لتقول: 
 
"أنت تشبههما حقًا، تُشبه أمكَ وجدتك، لذلك أكرهك، أكرهكَ يا صغيري مروان..". 

من قال أن الثأر يُطفئ الأحقاد!
 

Continue Reading

You'll Also Like

2.3K 372 11
الآن وبما أنني في الثامن والعشرين من عُمري، لديّ الكثير لأندم عليه، ولا يسعُني سوى الكتابة عنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ...
14.8K 1.1K 18
ماذا لو ان كل شئ بخير؟ (هذا الكتاب يحوي شخصيات كتاب بِلَا نَسَبْ)
122K 8.4K 68
-"انت لست ابني ولا أنا أمك! أنا أتبرأ منك" -" انت لست ابنتي، أتبرأ منك" هذه امثله عن ما دفع بعض الأفراد وخاصة شباب انهم يمشون على الارض بلا هدف، وأكث...
11.7K 841 24
تدور الرواية و الحكاية ما بين فواصل الزمان هو مراهق في جسمه، كبير في عقله، هل سيجابه الايام و هل يستطيع تحقيق اهدافه ؟؟.. ام ان لقسوة الزمان رأي آخر...