أشِقّاء

Galing kay lood999

76.5K 7.3K 2.6K

في حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعل... Higit pa

١) يُحكى أنه كـان وحيدًا.
٢) الليلــةُ الماطِـرة.
٣) سِجــن.
٤) غَــرق.
٥) بصيـص أمـل.
٦) تِلـك الفتـاة.
٧) الرحيــل.
٨) ذكريات حلمٍ قديم.
٩) حــديقةٌ وفتـاة.
١٠) مَحَلُّ الأقمشـة.
١١) ماهــر.
١٢) تجاوز المُهلـة.
١٣) دمـوعٌ ومطر.
١٤) الأخُ الكبير.
١٥) صـديق.
١٦) أشبـاح.
١٧) الصـراحة.
١٨) آباء.
١٩) غضـب.
٢٠) وداع.
٢١) اِختفـاء.
٢٢) مُمتن.
٢٣) بقايـا.
٢٤) نَبـش.
٢٥) عِـش.
٢٧) الحياةُ المسلوبـة.
٢٨) أروى.
٢٩) أطـلال.
٣٠) لِقـاء.
٣١) مُفاوضات.
٣٢) إنقــاذ.
٣٣) إحيــاء|الخاتمـة.
فصل إضافي|فَجْــر: كل الطرقِ تؤدي إليك.
فصل إضافي ٢|ندى: لن أنساك أبدًا.
فصل إضافي ٣|سأعـود.
فصل إضافي ٤|لأنك ولِـدت.

٢٦) المُفكـرة.

1.2K 162 63
Galing kay lood999


..

كان يراقب صاحب اليدين الصغيرتين المنقبضتين كقوائم قطة، لا تجيد عيناه السوداوان إلا البكاء، وفمه الصغير منفرج الشفتين لا يقبل سوى الحليب وإلا ملأ الدنيا عويلًا، لطالما أثار ذلك الصغير فضوله وتساؤلاته، بهيئته الضئيلة تلك، يخشى أن يُفلت من بين يديه لو حمله، وضعفه الذي لا يُمكِّنه من حماية نفسه، لم تمضِ سوى أيام على مغادرة ذلك الصغير جسد أمه في حين غادرتها الحياة، ورغم شوقه العظيم إليها وجد في هذا الصغير سَلواه، قالت له أروى أن يُعطيه الحليب إذا بكى، وإن لم يقبله يلاعبه أو يهدهده لينام، فهذا الطفل لا يعرف سوى النوم والحليب، فكّر طفل الخامسة وهو يراقب حركة يديّ صغِيرِه، فكّر لأي قدرٍ هو عاجز ولا يُمكنه دفع الأذى عن نفسه، تساءل ما الذي سيفعله هذا الرضيع لو أُلقِي في العراء، وأفزعته تلك الفكرة،  فوثب إلى سرير الصغير،  وحوّطه بذراعيه خشيةً عليه من العالم، انزعج الصغير وتحرك بعجزٍ محاولًا تحرير نفسه من حضن أخيه، لكن هذا الأخير ضمه أكثر، ولم يعلم لمَ ذرفت عيناه الدموع، تمتم بصوتٍ لا يسمعه سواهما:

"آسفٌ لأنك ولدتَ من غير والدين، لقد ذهبا غير مكترثَين بك، أعدك أنني سأحميكَ وأحبك نيابةً عنهما.. ".

هدأ الصغير وكأنه فهم مدى صدق كلمات أخيه، غفى في دفئه وحبه، الذي لازمه طوال حياته القصيرة، سرعان ما كبر الصغير وصار يحبو ولا يقوده حبوه إلا لوجهةٍ واحدة، وجهةٌ لا ينتمي لغيرها، إلى شقيقه الذي يستقبله في حضنه، كانا يملكان غرفةً في بيت أروى عمة والدتهما، يقضيان فيها معظم وقتيهما، يتوسد الصغير حضن أخيه يريده أن يُلاعبه، أو يصنع له وجوهًا مضحكةً لا يمل من الضحك عليها، تساءل الأكبر ماذا يفعل ليُبعد الملل عن صغيره، أصبح الآن في السادسة واكتسب قوةً أكبر ليستطيع حمل أخيه الذي يوشك بلوغ عامه الأول، حمله ورفعه عاليًا بيديه، والصغير يضحك ويكركر حتى احمرت وجنتاه الممتلئتين، ضمه لصدره بحب وعانق الصغير رقبته، يحبه، يحبه، يحبه، لم يتوقع أنه سيُحب يومًا من يسلبه أمه، ولكنه مجرد طفلٍ بريء، لا حيلة له في الحياة، لا يملك في الحياة سواه، فكيف يتركه دون عنايةٍ وحب.

...

يصحو من منامه ليجد نفسه في مكانٍ غير مألوف، ويشعر بأنه نام وقتًا طويلًا جدًا، ربما مرت أربع عشرة سنة على نومه، كان رأسه متوسدًا فخذيها، مسحت على شعره بحنانٍ وشوقٍ لمن اشتاقت لرؤيته، حدق فيها بعينين متعبتين تقابله عيناها الحنونتان،

"لقد أبليتَ حسنًا يا صغيري.. ".

انتصب جالسًا ونظر لها بعمق ثم قال:

"هل تظنينه سيغفر لنا؟ ".

ابتسمت ابتسامةً ناعمة وهمست:

"آمُلُ ذلك.. ".

طوقها بذراعيه ودس وجهه في عنقها، هل هذا هو دفء الأمهات الذي كان يسمع عنه في القصص؟  يا لهذا الدفء العظيم الذي دفع بدموعه من مقلتيه، كأن هذا الجسد خُلق ليُعطي الدفء والحب والأمان بسخاء، أسِف على من تركه وراءه، ولكن الأيام ستكون كفيلةً بمحو أحزانه، سيحزن اليوم وغدًا ثم ستغدو أحزانه محض ذكرى بعيدة.

....

مثلَ لوحةٍ سُلبت ألوانُها، مثل سماء ليلٍ لا نجوم لها، وصباحٍ انطفأت شمسُه، مثل كل شيءٍ فقدَ نفسَه، فقد ما يُنبته، فقد ما يُحييه. 
كان حال ذلك الشاب الواقف على عتبة عامه العشرين، الجالس دون حراك على مقعد الحديقة الخشبي، اعتاد ملازمة ذلك المقعد الذي لازم ذكرياته في تلك الحديقة التي لم تطأها قدماه منذ فقد من كان يقابلها هناك، كل الأماكن باتت تحمل روائح أصحابها، كل الأماكن تَطرده، كل الأماكن تُرعبه، تَقتله، تَنهشه، لكن قلبه المتعب اختار تلك الحديقة للبقاء، فبقاؤه فيها أقل وطأةً عليه من غيرها. 
 
كان ذلك حالي في أحلكِ أيام حياتي، حين فقدتُ من عشتُ لأجله أربع عشرة سنة، فقدتُه، بكل بساطة، لم يبقَ لديّ شيءٌ لأفقده، لم يبق لدي شيء يُحرضني على البقاء حيًّا، نسيتُ كيف أعيش، ولمَ عليّ أن أعيش، نسيتُ من أكون، ولمَ ما أزال على قيد الحياة، مرت الأيام مُتتابعات، متشابهات، لا يتغير فيها إلا تزايد رغبتي في الرحيل، مرت أسابيع، وربما أشهر أو سنوات، لم أحسب الأيام، فذلك يعمد في آخر قائمة اهتماماتي الخاوية. 
 
 
ارتطمَت كرةٌ بقدمي، وسمعتُ صبية ينادونني طالبين مني رميها لهم، على مَن يُنادي هؤلاء! فلا أحد هنا! لا أحد هنا.. 
 
امتدت يَدَان لتلك الكرة، ثم ألقى بها صاحب اليدين إلى أولئك الصبية، ربما كانوا ينادونه هو! شكره الأولاد وأكملوا لعبهم بها. 
 
"هل تُمانع لو جلست؟". 
 
ها هو يتحدث، يُحدث من! فلا أحد غيره هنا. 
 
جلس ذلك الغريب بجانبي، دون أن ينتظر مني جواب، بقي هادئًا، وامتننتُ لبقائه هادئًا، لكنه فض الهدوء بقوله: 
 
"لقد اعتدتُ أن أرى وجوه اليائسين والفاقدين والمكلومين بقدر اعتيادي ارتياد قاعات المحاكم، لكنني لم أرَ في حياتي سحنةً بائسةً كهذه التي أراها عليك..". 
 
إلى من يتحدث هذا الغريب! 
 
"أنا آتي لهذه الحديقة في أوقات فراغي فهي قريبة من الجامعة، ومنذ ثلاثة أشهر بت أراك تجلس هنا حتى الغروب وجبال من الحزن تسكن عينيك فأثرت فضولي، ما قصتك؟". 
 
الجامعة! هذا يذكرني.. كان يريد أن يراها، لكنه نام في الفرصة الوحيدة التي سنحت له لرؤيتها، فلم يرَها أبدًا. 
 
"لا عجب أنك لا تُجيبني..". 
 
لم يتفوه بكلمة بعد ذلك، بل آثر الجلوس بصمت، هب النسيم حاملًا ضوع أشجار البرتقال وسيلًا من ذكرياتي، تطايرت أوراق الشجر يحملها الهواء، ألا أكون أحد هذه الأوراق؟  فتحملني الرياح لحيث تشاء، تحملني وتجردني من كل شيءٍ عالقٍ فيّ، من نفسي وأمسي، ومن غدٍ لن يجلب لي سوى الحسرات.
 
تكرر الأمر في اليوم التالي، جلوسه بجانبي، وحديثه معي، وصمتي المطبق، ما يثير السخرية أنني طوال تلك الأيام لم أرَ وجهه ولم أعرف اسمه، لأنني أكون مطرقًا، ولا أبادر بالكلام ناهيك عن سؤاله عن اسمه. 
 
أدركت بمرور الأيام أنه كان يتحدث إلي، فقبل ذلك كانت كلماته تعبر من خلالي ولا تهتدي لمُجيب، كيف أجيب؟ وبمَ أجيب؟  وأنا لم أعرف لأسئلتي جواب!
 
كان يحاول سرقة كلمة مني على امتداد الأيام، رغبةً بسماع صوتي الذي غار في أعماقي ونسي أيُّ السبلِ سبيلُ الخروج، نجح إلحاحُه في حثّ صوتي على عبور فمي أخيرًا ونطقتُ بأكثر سؤالٍ ما انفك يلاحقني بأشباحه لفترة: 
 
"لماذا لا يأتينا الموت حين نتمناه؟". 
 
صعقه سؤالي، رأيت دهشته بوضوح حين رفعت رأسي إليه، ورأيت وجهه لأول مرة، حنطي البشرة، نحيل الوجه، وعلى صدغه امتدت ندبة إلى خده.
 
قمت وتركته في دهشته. 
 
لم يأتِ في اليوم الذي يليه، ولا الذي بعده، ولا الذي بعده. 
 
في إحدى الأيام التي كنت فيها كعادتي جالسًا على ذلك المقعد الذي احتوى ألمي، وتحمل ثقل أحزاني، رأيت قدمان تقتربان وتقفان أمامي، فرفعت إليه رأسي الذي اعتدتُ تنكيسه، واتسعت عيناي حين رأيت الشيء الذي يحمله بيده، مفكرة مغلفة بجلدٍ بني. 
 
"من أين لك هذه!". 
 
خرج مني ذلك السؤال دون شعور، فارتسمت ابتسامة على شفتيه وهو يقول: 
 
"من فتاةٍ صغيرة، ما كان اسمها يا ترى!" 
 
"ندى..". 
 
تمتمت، فأومأ مؤكدًا، قابلتها مرةً واحدةً بعد ذلك اليوم، كانت غاضبة مني، غاضبة للحال التي وصلت إليها، حدثتني بعينين ملأى بالدموع قائلةً أنه سيحزن لو رأى حالي، لكني تجاهلتها ومضيت، كان الجميع متأثرًا، مصعب وابنتيه، كمال وزوجته نادية وأبناؤهما ملاك وندى والوليد، وجميع الساكنين في البناية،  وكل من عرفناه في السنتين الماضيتين.
 
جلس بجانبي وهو يقلب الصفحات بعشوائية. 
 
"لقد حدثتني بالكثير، وقالت أن صاحب هذه المفكرة ائتمنها عليها لتعطيها لك، أعتقد أنه كان يعلم أنك لن تقرأها..". 
 
"وما المهم بها!". 
 
قلت باستخفاف وأنا أهم بالمغادرة فاستوقفني ممسكًا كتفي وقال: 
 
"هل أنتَ متأكد أنك لا تريد قراءتها؟". 
 
أبعدت يده وسرت وأنا أغمغم: 
 
"ما كان عليه أن يتعب نفسه بكتابتها..". 
 
"صدقني ستغير رأيك حين تعرف ما بها..". 
 
التفت إليه، وقلت بالاستخفاف نفسه: 
 
"احتفظ بها إن كانت تعجبك..". 
 
ابتسم ابتسامةً جانبية وقال وعيناه تلمعان: 
 
"هل ستتجاهلها لو قلت لك أن كل ما مررتَ به كان بفعل فاعل!". 
 
أملتُ رأسي بعدم فهم، فمدها لي حتى لاصقت صدري، وقال: 
 
"اقرأها؛ كي تُحدد وجهتك التالية..". 
 
أفلتها من يده فتهاوت للأرض لكني التقطتها قبل أن تُلامسها، استقمت واقفًا أنظر إليها بحيرة لأسمعه يقول: 
 
"حالما تنهي قراءتها قابلني، وسأساعدك لو أردت أن تأخذ بثأرك..". 
 
"لمَ كل هذا الحرص؟". 
 
ابتسم ابتسامة واسعة وقال: 
 
"أنا أدرس القانون، وكل أفراد عائلتي محامون ومدّعون، لذا هذه القصص تسترعي فضولي أكثر من أي شيء آخر..". 
 
قال وهو يشير للمفكرة، وأردف والأسف يطغى على صوته: 
 
"كان أخوك فريدًا بحق..". 

كان؟  متى صار الفعل الماضي يرمز إليه! 
 
شددتُ قبضتي على الغلاف الجلدي وأنا أستدير بعنف وأعود أدراجي. 
 
دخلت للشقة الغارقة في الظلام، لم أشعل المصابيح منذ زمن، اعتادت عيناي على الظلام، كما اعتاده قلبي. 
 
اقتادتني قدماي لغرفته، والتي بقيت مُضاءة على نقيض كل ما سواها، أغلقت بابها خلفي وجلستُ على سريره الخاوي، بات يمقت النوم في الظلام في مرضه الأخير،  ويُصدر همهمةً مُنزعجةً إذا ما أطفأتُ المصباح سهوًا.

"حاضر، لن أطفئ ضوءها أبدًا".

انقاد بصري للمكتبة التي فاضت بكتبه، من سَيمسَحُ الغبار عن هذه الكتب بعد رحيل صاحبها؟ من سيُذهِب وحدتها ويؤنسها؟ ما زالت علامات التوقف بين صفحاتها، تنتظر من يكملها، كانت رابطته بهذه الكتب متينة، رابطة لا ينفضها سوى الموت، تذكرتُ ابن العم صالح الذي لم يعد لبيته ولا لكتبه، وأدركت أن غيابه لم يكن لأنه نسي بيته ووالده، بل لأنه لم يعد على قيد الحياة، ومات أبوه في انتظار رجوعه المستحيل، ليت حالي كان مثل حال العم صالح فأفني حياتي على أمل عودتك، لا على ألم فقدك، كان ابنه سيعود، لكن الموت اختطفه، كان سيعود، ليُعاوِد قراءة كتبه العزيزة. 
 
أليس كذلك يا أخي؟ 
 
أعدت بصري للمفكرة في يدي وفتحتها، قلبت صفحاتها وعيناي تقفزان من فوق الأسطر، مثل نحلةٍ تبحث عن زهرة حية. 
 
(لا أعرف متى ستقرأ كلماتي، وإن كنتَ ستقرؤها أم لا، لا أظنك ستغفر لي لو أخبرتك بأنني من طلب من الأطباء أن يسمحوا لي بترك المشفى، وأن لا يخبروك أن حياتي لن تكون طويلة، فجسدي الواهن وصل حدوده، أردت أن أقضي أيامي الأخيرة هنا، ربما كنت لأعيش وقتًا أطول لو بقيتُ في المشفى، ولكني كنتُ سأتعبك لا غير، يكفيكَ ما لقيته منـ ... 
 
توقفت عن القراءة ودموعي تفيض، وددت لو أمزق الأوراق وأحرقها، تمتمت بلوعةٍ اعتصرت قلبي وكلماتي: 
 
"غبي.. غبي.. غبي..". 
 
تجاوزت عدة صفحات وفتحت صفحة من المنتصف. 
 
(كانت أيامي في بيت العم صالح أكثرها هدوءًا وسلامًا، كنت أقضي أكثر الوقت في قراءة كتب ابنه عصام، أو تنظيف البيت حين لا تكونان موجودين، أو تأمل النجوم ليلًا ومراقبة شروق الشمس، كانت تلك المنطقة الخالية من الأبنية تتيح لي رؤية السماء الشاسعة، خلال تلك الفترة تراكمت في عقلي مفاهيم عديدة، لكن حين بت أخالط الناس في عاميّ الأخيرين أسقطتُ تلك المفاهيم على من حولي، الناس هشُّون حقًا يا أخي، بسيطون جدًا، تسهُل قراءتهم، وتعكس أعينهم ما في دواخلهم، صحيحٌ أنني لم أكن كثير الكلام، ولا التذمر، لأنني لم أرِد إثقال كاهلك أكثر، يكفيني أن أراكَ مرتاحًا لأكون سعيدًا، لم أثقل كاهلك حتى بالتساؤلات التي كانت تؤرقني، لطالما تساءلت، لمَ أرسلتنا أروى عمة والدتي وزوجها للميتم، مع أنهما لم يُرزقا بأطفال كما أخبرتَني، كان بمقدورهما أن يعتنيا بنا، كنا سنبر بهما ونقدر عنايتهما بنا لو كبرنا، هل تساءلتَ عن ذلك من قبل؟) 
 
قطبت حاجبيّ وقلبتُ الصفحة وأنا ما زلتُ عاجزًا عن فهم شيء. 
 
(مع أن أروى أخبرتك يوم مولدي بأنك المسؤول عن رعايتي، ولم تزرع فيكَ الضغينة علي، إلا أن ذلك لا يدل على حرصها علينا، لو كانت حريصةً لما تخلت عنا، لقد أرادت أن تُشغلك بي كي لا تراك، كانت هي وزوجها يكرهاننا، ليس وكأننا فعلنا شيئًا، لكنهما صَبَّا أحقادهما علينا، وأرسلانا لميتمٍ منزوٍ، سيئ السمعة، بعيد عن الأعين، أرسلانا لنموت موتًا بطيئًا، وإن عشنا فلن تُفارقنا الذكرى التعيسة، لماذا حقدا علينا؟  هذا ما تساءلتُ بشأنه أيضًا..
ما لم تكن تعرفه هو أن زوج أروى بهاء ابن عم والدي، وكان لهما عم أحب والدي كثيرًا، وكتب كل أملاكه وثروته له قبيل وفاته، هل خمنت من يكون ذلك الرجل؟ إنه الرجل الذي كنت تزوره مع والديّ، لم يكتب في وصيته شيئًا لبهاء، لقد خمنتُ أن يكون لموت أبي علاقة بإرث، فأرسلتُ رسالةً لمحكمة الأحوال الشخصية التي في مدينتنا أستفسر عن حصول والدي على إرثٍ في حياته، فجاء الجواب بتفاصيل لم أتوقع أن يتم التطرق لها، وهي ما أخبرتك به للتو، إنها تلك الرسالة التي أخفيتها عنك ذلك اليوم، هل تذكر؟
توقعتُ أن بهاء قتل والدي لاسترداد الإرث، لكن هذا السبب ليس كافٍ ليقتله، إلا لو كان ثمة أحد آخر يشاركه الرغبة بتدمير سعادة عائلتنا، وهنا تأتي أروى، عمة والدتي، هل تذكر تلك القصة؟ القصة التي كانت تقرأها لك أمي، إنها من كتابة. أروى، بحثتُ عن مؤلفاتٍ أخرى لها فلم أجِد،  وسألتُ أمين المكتبة فوعدني أنه سيبحث عن مؤلفاتها، كنتُ أذهب كل يوم لأسأله إن وجد شيئًا أم لا، استغرق بحثه وقتًا طويلًا وتواصل مع معارفه ومرتادي المكتبة ليصل إلى جواب،  فجاء الجواب،  تلك القصة التي حمل بطلها اسمي هي الوحيدة التي لقيت رواجًا واسعًا بين قصصها، نشرتها بعد انقطاعٍ طويلٍ عن الكتابة،  ومؤلفاتها القديمة سُحبت من المكتبات بطلبٍ منها، قال لي أن جميع قصصها المسحوبة لا تشبه قصتها الأخيرة،  كانت مليئةً بالحب والأمل، أما قصتها الأخيرة فمأساوية،  تتحدث عن طفلٍ وحيد، منبوذ من الجميع، ثم يجد صديقًا،  ويعود النور لحياته،  فيفقد صديقه ولا يجده مهما بحث عنه، فهمتُ حين قرأتها أن ذلك الطفل لم يجد صديقًا،  إنما تخيله،  وآمن بوجوده،  وظن أنه فقده،  لكنه لم يكن موجودًا منذ البداية،  لكن غالبية قراء القصة لم يفهموا هذا،  واعتقدوا أنه نال جزاءه لأنه تخلى عن صديقه،  لهذا كانت القصة موجهة للأطفال،  لأنها تعلمهم ألا يتخلوا عمّن يحبونهم،  ولكن وحدهم الذين ذاقوا الوحدة سيفهمونها، أتوقع أن حياة أروى انعكست على قصتها الأخيرة مثل مرآة، عاشت حياةً ملبدةً بالوحدة والخذلان، ولما مرت به علاقةٌ بوالدتي،  لهذا أرادت تدميرها، إنها تلك الزائرة التي غادرت البيت في حين غمرتك أمي في حضنها ودموعها، أخي..  أمي لم تمُت لضعف إرادتها، لم تُرِد تركنا أبدًا، لكنها رحّبت بالموت لكي تعيش أنت،  لقد كانت تخشى عليكَ من أروى التي هددتها بك، فإما تسلبها حياتها أو حياتك، فماتت أثناء إنجابها لي لأنها لم تتلقّ يد العون من أحد؛ فأروى أبقَتها حبيسة، ولكنها لم تتوقع أن الطفل الذي ستنجبه هو من سيكشف الحجاب عن أفعالها، مُستعيرًا اسم بطل قصتها الأخيرة... ).

أصبحت الكلمات أقل وضوحًا، وكأن كاتبها جاهد للحفاظ على اتزان القلم أثناء الكتابة،  وفهمت أنه كتبها في أيامه الأخيرة.

(لقد صارعت أمي الموت لتُنجبني؛ كي أكون صلة الوصل بينها وبينك، لقد زارني طيفها أول مرةٍ حين أصِبتُ بعدوى المرض في الميتم، كنتَ أنتَ محتجزًا، وكنتُ أنا على شفير الموت، لكن معجزةً حصلت وشُفيت دون رعاية طبية،  لم أخبرك من قبل عن رؤيتي لها،  فأنا نفسي لم أكن أعلم، لم تكن معالمها واضحةً لي، لم أشعر إلا بالدفء الذي أعاد القوة لي، ولكن آثار ذلك المرض بقيت في جسدي، ظننتُ رغم ذلك أنني سأشفى تمامًا وسأكبر مثلك وأكون عونًا وسندًا لك،  ولكن المرض الذي أصابني قبل عامين غيَّر كل شيء،  حين رأيتُها مرةً أخرى، أردتُ رؤيتها أكثر حين شعرتُ أنها لم تأتِني عبثًا، لكنني لم أرَها بعد ذلك، وازدادت تساؤلاتي إلحاحًا فبدأتُ أنبش عن ماضي والديّ، وعن سبب موتهما، لم تكن صحتي جيدة، تحاملتُ على نفسي لأكمل البحث، حتى عاودني المرض وعاد طيف أمي، لكن طيفها وكلماتها لم يكونا واضحين، وكلما ازداد مرضي وطأةً ازدادت رؤيتها وكلماتها وضوحًا، حتى سمعتها تتحدث بوضوحٍ أخيرًا.
كانت تحبك، كانت تريدك أن تعيش ويعود إليكَ حقك المسلوب، لقد حاولتُ فعل ما أستطيع والشيء الوحيد الذي عجزتُ عن معرفته هو سبب ذلك الغِل الذي حملته أروى، أريدك أن تعرف، وتستعيد حقك، عليك أن تعيش حياةً أفضل مما عشتها، وتحقق حلمنا، ألا يحتاج المصنع لمالٍ وفير؟ أنا لن أستطيع تقديم شيء لك، فحياتي على المحك، وصحتي في تدهور، لن أكون سوى عقبة في طريقك، لذلك كرستُ ما بقي من صحتي وحياتي لأنجز هذا، وأهبه لك، لقد كنتَ موجودًا من أجلي دائمًا، كنتَ تحميني في الميتم، وتعمل مع العم صالح، وتكرس طاقتك لكسب المال هنا، والشيء الوحيد الذي أردتَه مني لن أستطيع تقديمه لك، لأنني لن أكبر، ولن أدخل الجامعة، ولن أشاركك في تحقيق الحلم، لذا اقبل هديتي الوحيدة التي أستطيع تقديمها لك، وعِش نيابةً عني وعنك...).

 
انزلقت المفكرة من يدي، مُبللةً بدموعي، لأي قدرٍ كنتَ رغم قربك بعيدًا! لأي قدرٍ لم أفهمك! لأي قدر لم أعرفك! متى علمتَ كل هذا؟ وبقيتَ هادئًا رغم هذا، لماذا لم تُفصح لي بشيء؟ لماذا أبقَيتني في هامش النسيان؟ لماذا فعلتَ كل شيءٍ ولم تطلب العون من أخيك؟
 
إرث؟ أموال؟ ثأر؟ 
 
من قال أني أريد المال؟ لا أريد مالًا ولا جاهًا ولا اسمًا، أريد عائلةً، أريد حبًا، أريد كل ما لا أملكه، أريد كل ما فقدته، هل يُشترى الحب بالمال؟ 
 
لم أقاوم الدموع الغزيرة التي انسكبت من عينيّ مدرارًا، دموع الأسى، دموع الحسرة، دموع الحنين على من يفيض بذكراه المكان، وعانقت رائحته صفحات الكتب. 
 
لم أشعر بنفسي حين غفوت على سريره، وغسلتُ بدموعي وسادته، متمنيًا أن لا تطرق الحياة أجفاني ثانيةً، وأبدًا.

..
..
..

Ipagpatuloy ang Pagbabasa

Magugustuhan mo rin

285K 18.5K 55
في مملكة فونجولا ملك المملكة لا يستطيع العثور على وريث فبدأ بالبحث عن مرشحين يمتلكو لهب السماء و المقومات اللازمة للخلافة , في نفس ذلك الوقت تسونا فت...
840K 24.7K 39
لقد كان بينهما إتفاق ، مجرد زواج على ورق و لهما حرية فعل ما يريدان ، و هو ما لم يتوانى في تنفيذه ، عاهرات متى أراد .. حفلات صاخبة ... سمعة سيئة و قلة...
11.8M 928K 70
صرت اهرول واباوع وراي شفت السيارة بدأت تستدير ناحيتي بمجرد ما يجي الضوء عليه انكشف أمامهم نجريت من ايدي وگعت على شخص ردت اصرخ سد حلگي حيل بعدها أجان...
62.5K 5.3K 29
يعود ذلك الشاب بعد ثلاث سنوات من اختفائه ليكون الامل الوحيد لكشف جريمة قتل عائلة باكملها وحرق منزلهم ولكنه كان فاقدا للذاكرة يقوم احد الاطباء بتبني ع...