أشِقّاء

By lood999

76.5K 7.3K 2.6K

في حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعل... More

١) يُحكى أنه كـان وحيدًا.
٢) الليلــةُ الماطِـرة.
٣) سِجــن.
٤) غَــرق.
٥) بصيـص أمـل.
٦) تِلـك الفتـاة.
٧) الرحيــل.
٨) ذكريات حلمٍ قديم.
٩) حــديقةٌ وفتـاة.
١٠) مَحَلُّ الأقمشـة.
١١) ماهــر.
١٢) تجاوز المُهلـة.
١٣) دمـوعٌ ومطر.
١٤) الأخُ الكبير.
١٥) صـديق.
١٦) أشبـاح.
١٧) الصـراحة.
١٨) آباء.
١٩) غضـب.
٢١) اِختفـاء.
٢٢) مُمتن.
٢٣) بقايـا.
٢٤) نَبـش.
٢٥) عِـش.
٢٦) المُفكـرة.
٢٧) الحياةُ المسلوبـة.
٢٨) أروى.
٢٩) أطـلال.
٣٠) لِقـاء.
٣١) مُفاوضات.
٣٢) إنقــاذ.
٣٣) إحيــاء|الخاتمـة.
فصل إضافي|فَجْــر: كل الطرقِ تؤدي إليك.
فصل إضافي ٢|ندى: لن أنساك أبدًا.
فصل إضافي ٣|سأعـود.
فصل إضافي ٤|لأنك ولِـدت.

٢٠) وداع.

1.5K 158 125
By lood999


...
..

تسلل الهواء الخريفي من النافذة المفتوحة وحرك الستائر بنعومة، فتراقصت على نغم النسيم.

التلفاز مُطفأٌ كالعادة،  وأصداء المارة والسيارات في الخارج تتهافت للداخل متباعدةً خافتة.

الهدوء تسيد المكان لأسبوع،  أصواتهما بعيدةٌ وهما يتحدثان،  ربما الخواء الذي انغمرتُ فيه حملني إلى الظن أن المكان هادئ وهو ليس بهادئ.

"لا أصدق أنكما فعلتما ذلك.. "

قال أمجد لفراس الذي كان يحكي له عن رحلتنا لمركز العلوم،  كان الأخير جالسًا على الأريكة الطويلة،  متململًا فيها ويداه مشبوكتان خلف رأسه،  وإحدى ساقيه فوق الأخرى، ويتحدث بأريحية:

"لا عجب أن أخوك لم يخبرك،  فهو لم يفعل شيئًا سوى أنه حاول إبعادي عنه،  لم أعرف في صف مَن كان يقف! ".

تحدثا وتحدثا،  وأنا جالسٌ على مقعدٍ منفرد،  بجسد خامل منذ أسبوع،  وعقلٍ غائبٍ منفصلٍ عن العالم،  ورغم محاولاتهما لإخراجي مما أنا فيه،  لم يُفلحا.

لم أستفِق حتى حين علمتُ أن جمانة استعادت وعيها وتحسّنت،  لم يأخذها زوجها للمشفى بعد ما فعل بها،  بل أحضر لها ياسر ليفحصها.

كرهتُ ياسر لأنه تستر على فعلة سالم ولم يصر لتتلقى علاجًا في المشفى.

لم أفهم لمِ الجميع متخاذل، لمَ يقفون متفرجين ولا يفعلون شيئًا لها! حقدتُ على كل واحدٍ فيهم،  وعلى نفسي قبل أي أحد،  لأنني سببتُ كل ذلك لها.

"إلى أين تذهب..؟ ".

"سأعد الغداء... هل ستتناوله معنا كالمرات الماضية؟ ".

"ما هذه النبرة!  هل تستثقل وجودي؟  اِعلم أنه لولاي لماتَ أخوك جوعًا.. ".

"أشك في هذا.. ".

بقينا أنا وفراس، ووافرٌ من الهدوء يُحيطنا. شعرتُ به يقترب من حافة الأريكة المُلاصقة للمقعد الذي أجلس عليه.

"ألم تمل من بقائك هكذا! ".

قال وهو يسند خده على يده وينظر إلى وجهي الخالي من التعابير.

"هل يرضيك أن تسبب لنا القلق! ترفق بشقيقك على الأقل... ".

لا جواب.

زفر بنفاد صبر وقام من المقعد ووقف أمامي حانيًا جذعه،  مد يده وصفعني بخفة على خدَّي.

لا جواب،  ولا رد فعل.

جذبني من ياقة قميصي وعيناه الحادتان تتفرسان في وجهي البارد:

"لا تعتقد أنني سأسمح لك بالتمرغ في الأحقاد.. ".

أفلتني بعنف، وخرج صافعًا الباب خلفه.

لم يكن حال فراس كحالهِ هذا حين جاء عندنا بعد علمه بما حصل،  كان محتقنًا، وباعتقاده أنني المُلام الوحيد، لم يكن يعلم أن لملاك يدٌ في الأمر،  لم نخبره بذلك. ولكن حين رأى حالي البائس نسي غضبه،  وصب جل اهتمامه على إخراجي من تلك الزوبعة التي امتصتني

...

مرَّ يومٌ وتلاه يوم، وحالي على حاله،  حتى ذلك اليوم.

كنتُ جالسًا كعادتي على المقعد الذي احتضنني واحتضن همي طوال الأسبوع المنصرم لحظة سمعتُ قرعًا ملحًا على الباب،  نافضًا الهدوء الذي حاولتُ الانغماس فيه جاهدًا،  لم يأتِ أمجد ليفتح الباب فاضطررتُ أن أنهض وأفتحه.

أنزلتُ رأسي لتينك العينين اللتين تنظران إلي،  لم يكن سوى الوليد ابن المالك والشقيق الأصغر لندى وملاك.

"أبي يريد التكلم معك.. ".

أملتُ رأسي باستغراب،  لا أذكر أنه قد سبق واستدعاني،  لكن إلحاح الوليد علي وإحاطته لساعدي بيديه أجبراني على الانصياع له.

أخذني للطابق الأخير حيث يسكن،  طرق الباب بيده ثلاث طرقات وتراجع خلفي.

فُتح الباب واندهشتُ حين رأيتُ أمجد أمامي.

"ماذا تفعل هنا!.. ".

ابتسم حين رآني وشكر الوليد لـ"نجاح مهمته"، وطلب مني الدخول وكأن البيت بيته.

دخلت فرأيتُ ندى التي كانت واقفةً خلفه وترسم ابتسامةً شقيةً على وجهها.

"أين والدك؟.. ".

أشارت بيدها لغرفةٍ جلوسٍ يطل بابها على الصالة،  وطلبا مني الإسراع في ولوجها،  وفرتُ التساؤلات الكثيرة التي غزت عقلي لأطرحها على والدها حين ألقاه.

فتحتُ الباب لأدخل،  ولكن قدميّ تصلبتا ولم أستطع التقدم خطوةً للأمام،  ألقيتُ نظرةً من وراء كتفي على أمجد وندى،  فابتسما ببراءةٍ وأشارا لي أن أدخل.

دخلتُ ونبضات قلبي تتزايد وأنا أراها أمامي،  لم أتعرف عليها في البداية لشحوبها ونحالتها،  وانطفاء بريقها الوَهَّاج.

كانت مستندةً على ظهر الأريكة ممددةً ساقيها على طولها،  مرتديةً حجابًا أبيضًا زادها شحوبًا،  ورداءً فضفاضًا لملم جسدها النحيل، واندست قدماها تحت لحافٍ رمادي.

رفعت رأسها وابتسمت بألم حين رأتني،  أشارت بيدها النحيلة أمامها، لم أعرف كيف تملكتني الشجاعة للجلوس.

أطرقتُ وأنا لا أجرؤ على بدء الكلام،  حابسًا أنفاسي التي تكاد تتفجر.

"آسـفة.. ".

لم أستطع منع بصري من الانقياد إليها،  متعجبًا من اعتذارها،  أنا من عليه الاعتذار هنا!

"سببتُ لك الآلام دون قصد.. ".

قالت بألمٍ وندمٍ واضحَين،  وأردفت:

"لم أعلم أنك تكن لي هذه المشاعر..  كان علي أن أكون أكثر حرصًا على قلبك..  سامحني.. ".

"لستِ مُذنبة... ".

"بلى..  أنت في السابعة عشرة، وليس غريبًا أن يتعلق قلبك بفتاة،  لكن قلبك انساق لفتاةٍ لا تستحق مشاعرك..  ".

"أرجوك!  يكفي.. ".

كان هذا آخر ما أريد سماعه منها.

صمتنا لثوانٍ أو دقائق، بدت ثقيلةً جدًا،  وقلبي الذي تزاحمت به المشاعر لم يحتمل ذلك الثقل.

"ليس عليكَ أن تُحَمِّل نفسك ذنب ما حصل.. ".

أردفت وعيناها لا تُفارقا يديها المستلقيتين في حضنها:

"كان ذلك خطئي..  لقد استفززتُه... ".

أغمضتُ عينيّ وأنا لا أقوى على سماع المزيد،  أردتُ أن أهرب إلى أي مكان لا يُلاحقني فيه صوتها المُعذَّب.

"لم يكن غاضبًا حين جاء إلي،  سألني بهدوءٍ إن كان لي علاقةٌ بك،  لم أجبه،  تصنعتُ البرود،  وحين كرر سؤاله قلتُ له بأنني عثرتُ على من يُؤنس غربتي،  يُشبهني ويَفهمني،  فاستشاط غيظًا،  كانت أول مرةٍ أراه فيها بذلك الغضب العارم..  لذا لا تلُم نفسك،  فجزء من اللوم يقع على عاتقي.. ".

لحظاتٌ من السكون المرير عقبت كلامها،  حتى وجدتُ نفسي أقول:

"ألا بأسَ بمجيئك هنا؟.. ".

"اعتدتُ زيارة السيدة نادية، أم الوليد،  إنه لا يُمانع مجيئي إليها.. ".

"هل أمجد من كان خلف هذا!.. ".

افترت شفتاها عن ابتسامةٍ رقيقة وهي تقول:

"كان قلقًا عليك،  لكن هذا لم يكن من تدبيره وحده،  ندى ساعدته..  ".

"لم أعلم أنهما مقربان من بعضهما.. ".

"حين كنتُ آتي هنا لم تكن ندى تتحدث إلا عنه، مع أنها تمقت الصبية وتتعارك معهم دائمًا، إلا أن أخاك لم يكن كأيٍّ منهم.. ".

"إنه مختلف عن أبناء سنه...  ".

"لفتت ندى نظري إلى حبه للكتب،  كانت تراقبه دائمًا،  وتجزم أنه فريد..  ".

ضحكَت ضحكةً قصيرة، جبلت ألمي، وأنستني أيام الخواء التي عشتها غارقًا في ندمي.

قالت بهدوء بعد لحظات:

"ياسر طلب يدي.. ".

لم أستطع تمالك دهشتي التي تجلت بوضوحٍ في قسماتي، أكملت:

"قال لي أنه سيُبلغ عن اعتداءات سالم علي، وسيساعدني لخلعه،  وما إن يتخرج سيتزوجني ويأخذني معه لمدينته.. ".

كرهتُ ذلك التخبط الذي انتابني حين قالت ذلك،  كان ينبغي أن أفرح وأقنعها على قبول عرضه،  لكن لساني تيبّس، وعانق الظلام قلبي.

"لكني رفضت..  ".

"لماذا! ".

"لا أستطيع تركه.. ".

"أبعد كل ما فعله لكِ تبقين معه! ".

"إنه فقط لا يعرف كيف يُعامل الآخرين وكيف يكون صريحًا في مشاعره.. ".

"وهل تُجِيد يده الإفصاح عن مشاعره! ".

غشت وجهها غمامة ظلماء،  فندمتُ على ما قلت،  ولكنها قالت وطيف ابتسامةٍ يرتسم على شفتيها:

"بفضلك..  اكتشفتُ ذلك.. ".

"أنا! ".

"اسم المحل،  لم أعرفه إلا منك.. ".

"اسمه! ".

"إنه يطابق معنى اسمي.. ".

أردفت حين رأت علامات الاستفهام والتعجب تتقافز على رأسي:

"اسمه اللؤلؤة الفارسية،  ومعنى اسمي اللؤلؤة بالفارسية..  ".

أطلقتُ ضحكةً قصيرة،  جاهدتُ لكبتها دون فائدة،  لأقول بصوتٍ أقرب للسخرية:

"هل تعنين..  أنه يحبك..! ".

لم تُجِب،  وكأن التساؤل ذاته يؤرقها أيضًا.

"حتى وإن كان يحبك..  عليكِ قبول عرض ياسر،  لا يمكنكِ العيش مع شخصٍ مثله.. ".

حزمتُ شجاعتي لأقول ذلك،  ضاربًا بمشاعري عرض الحائط.  حركت رأسها سلبًا،  وقالت بصوتٍ يائس:

"سأتعلق بآمالي وأبقى معه..  ".

"جُمان!  أرجوكِ استمعي إلي واتركيه..  ".

أنزلت رأسها،  ووضعت يدها النحيلة على بطنها وقالت هامسة:

"لا أريد أن يعيش ابني مُشتتًا..  ".

ابنُـ.. ها؟

نقلتُ بصري بين يدها ووجهها المطرق،  أتأكد أنني سمعتُ ذلك منها وليس من أحدٍ آخر،  قالت بنبرةٍ فاترة:

"أتمنى أن يكون صبيًا،  أخشى أن أنجب بنتًا،  فيكون حظها عاثرًا كأمها... لا حظ للنساء في هذه البلاد... ".

تدفقت في مقلتيها الدموع،  وارتعش فكها الرقيق.

فُتِح الباب وأطلت ندى برأسها وهي تقول أن والديها وأختها قادمون وعلي الذهاب.

قمتُ بتثاقل،  ووصلني صوتُها المهزوز وأنا أخطو خارجًا:

"وداعًـا..  ".

التمستُ في صوتها حدادًا على علاقتنا التي انتهت قبل أن تبدأ،  علاقتنا المحتومة بالفشل، خرجت،  دون أن ألقي نظرةً أخيرةً عليها،  خرجت،  تاركًا قلبي بين يديها.

...

مستلقٍ على السرير واضعًا ذراعي على عيني المطبقتين بتعب،  وشذرات من لقائي معها تصر على غزو ذاكرتي.

سمعتُ صوت مقبض الباب،  تلاه حفيف أقدام،  وشعرتُ به واقفًا قربي،  قلت بطرف لساني دون أن أفتح عينيّ:

"أريد البقاء وحدي..".

لم يتزحزح،  قال:

"سأزعجك كما تزعجني دائمًا.. ".

أزحتُ ذراعي عن عينيّ قليلًا ورأيته واقفًا بنظراتٍ تفيض إصرارًا،  ممسكًا علبةً بيديه.

"أليست هذه....؟ ".

أومأ،   فتنهدت بتعب،  لا مزاج لي لشيءٍ كهذا،  لكني رضخت لعناده ورفعتُ جزئي العلوي لأجلس،  جلس قبالتي عاقدًا ساقيه ووضع العلبة بيننا،  لعبة الصراحة.

فتحها واستخرج النرد والبطاقات وفرد اللوح ووضع البطاقات عليه ثم مد النرد لي وهو يقول بابتسامة:

"ليبدأ أكبرنا.. ".

"أرى أنك تأثرت بفراس... ".

حركت النرد بيدٍ خاملة وألقيته وأنا أعرف حظي العاثر جيدًا،  ولم يخيب ظني به،  التقط أمجد النرد وألقاه فتطابقت النقاط، كما هي عادته.

سحب بطاقةً وقرأها:

"ما أكثر صفةٍ تمقتها في أكثر شخصٍ تحبه؟.. ".

ابتسم ولم يفكر لأكثر من ثانيتين ليقول:

"إنه لا يكف عن لوم نفسه إزاء كل شيء.. ".

"لأنه بائسٌ متعثرٌ أحمقٌ فاشـ..

"يكفي! لا أسمح لك بالتطاول عليه... ".

قال بحدة، وهو يُبعثر البطاقات بغضب،  فلم أتمالك نفسي، ضحكتُ رغمًا عني حتى فاضت من عينيّ الدموع.

"اعتقدتُ أنني لن أسمعك تضحك مرة أخرى.. ".

قال بصوتٍ يشوبه الارتياح،  فمسحتُ دموعي وأنا أتنحنح لأقول:

"هل هذا من تدبيرك أيضًا!.. ".

"لا..  كانت مصادفة.. ".

"لقد فاجأتني..  لم أتوقع منك فعل شيءٍ كذاك..  ".

ابتسم وقال:

"لم أستطيع رؤيتك بتلك الحال،  لذا ارتأيتُ أن رؤيتك لها ستخفف وطأة الأمر عليك،  مع أنني لم أفعل الكثير،  فندى من تولّت أمر إبعاد والديها وأختها وإحضار جمانة بمساعدة أخيها.. ".

"منذ متى وأنتما على وِفاق! ".

"ليس من وقتٍ طويل.. "

تنهدت وأنا أحصي الأيام التي قضيتُها مُغيَّبًا عن الواقع،  شعرتُ بالخجل من نفسي.

"آسف..  إذ حملتُك لفعل شيءٍ مثل ذلك.. ".

"هذا... أقل ما قد أفعله من أجلك... ".

منذ ذلك اليوم الذي صارحني فيه بآماله وتطلعاته، اليوم الذي أدركتُ فيه كم كبر،  بات أكثر وضوحًا واسترسالًا، ولم يعُد يُخفي مشاعره، قربتنا تلك الأشهر القليلة من بعضنا كما لم تفعل السنوات الاثنا عشر السابقة.

..

كان باب السطح مواربًا فخلتُ أن فراس جاء قبلي،  فتحتُ الباب وتقدمتُ للداخل والهواء البارد يلفح وجهي في تلك الساعة التي تُقارب المغيب، في اليوم الذي تلا رؤيتي لجمانة.

مشيتُ بضع خطواتٍ وعيناي تبحثان عنه،  لكن بدلًا من رؤيته،  وقعت أنظاري على تلك الخصل السوداء التي يحركها الهواء بخفة،  استدارت نحوي، فالتف شعرها مثل موجٍ كاشفًا عن وجهها، افترت شفتاها الرقيقتان عن ابتسامة شقت وجهها الأسيل،  تقدمت نحوي،  دون أن تزحزح عينيها الواسعتين عني،  ووقفت على بعد خطواتٍ مني،  لتقول بصوتٍ أقرب للهمس وهي ترجع خصلةً من شعرها الطويل خلف أذنها:

"كيف حالك!".

لم يكن عمر ملاك يتجاوز الثالثة عشرة،  إلا أن من يرى نظراتها التي تخبئ الكثير،  وكلماتها المتزنة،  يجزم أنها أنضج من ذلك بكثير.

"هل أنتَ غاضبٌ مني؟ ".

قالت وابتسامتُها تبهُت وهي تُبصر سكوتي وجمودي،  لا،  لم أكن غاضبًا منها،  كيف أجرؤ على حمل الضغينة تجاهها وكلانا مذنبان،  لم يكن لدي أدنى نيةٍ لتحميلها ذنب ما حصل.

"لم أرِد أن تتعلق بوهمٍ عابر.. ".

قالت بنبرةٍ عميقة،  والجدية تكسو ملامحها، تصنعتُ الدور الذي أعدته لي،  وقلتُ بقسوة:

"أغربي عن وجهي.. ".

تجلت الخيبة في عينيها حين صفعتها كلماتي الجافة،  لكنها سُرعان ما تبدلت لنظرات استخفاف،  وقالت وهي تتكتف وترفع حاجبًا:

"يبدو أنك نسيتَ أنك تقف على أملاكي.. ".

"إذًا أنا من سيغرب عن وجهك.. ".

قلت باستخفاف مشابه وأنا أستدير لأغادر.

"انتظر..! ".

لم أولي اهتمامًا لندائها وأكملتُ سيري حتى سمعتُ وقع خُطاها يقترب واستوقفتني يداها الممسكتان بقميصي من الخلف.

"أريد أن أكلمك.. ".

قالت بخفوت،  فقلتُ وأنا أبعد يديها وأكمل سيري:

"لا أريد سماع شيء منكِ..".

"هل تكرهني؟ ".

سألت بصوتٍ مهزوز فالتفت إليها وصُدمتُ حين رأيتُ الدموع تطفر من عينيها اللتين تجردتا من الكبرياء الذي اعتادت تقمصه.

"كل ما أردته هو إبعادك عن الأوهام.. لم أحتمل أن تتعلق بمشاعر زائفة.. ".

"وما شأنكِ بي! "

أطرقت وانسدل شعرها على جانبي وجهها لتنطق بكلمات مبعثرةٍ مرتعشة:

"هذا..  لأنني..  أنا..  أنا.. ".

كانت تلك فرصتي الوحيدة لانتشال تلك المشاعر الوليدة بداخلها، فقلتُ قاطعًا تخبطها محاولًا الحفاظ على نبرتي القاسية:

"سأقولها مرةً ولن أكررها..  أيًا كان ما تكنينه لي..  فهو لا يُهمني.. ".

رفعت رأسها بحدةٍ فارتد شعرها للوراء ودموع الخيبة تلتمع في عينيها.

تَعافَي من هذه المشاعر؛ إذ لستُ أنا من يستحقها.

أبعدتُ عيني عن وجهها الذي اصطبغ بالحمرة والخيبة. وفوجئتُ حين رأيت فراس واقفًا عند الباب،  ينقل بصره بيننا بحيرة،  منذ متى وهو هنا!

تخطتني ملاك وهي تُسرع في مشيها لتُغادر،  ولكن جسده كان يسد فتحة الباب،  حائلًا دون ذهابها.

"ابتعد.. ".

أنزلت رأسها بعد لفظها لتلك الكلمة،  لم يتزحزح من مكانه،  وبدل ذلك رفع ذقنها بيده وقبل أن تُعَبر كلماته عن دهشته أبعدت يده ودفعته جانبًا وغادرت.

نظر إلي والشك يغلف عينيه وقال:

"هل فعلتَ لها شيئًا! "

كان آخر شخصٍ قد أتمنى رؤيته هذه اللحظة بالذات،  لم أجد مبررًا أصوغه لتبرير ما رأى.

"قد لا تحبها..  ولكني لا أسمح لك أن تُبكيها...! ".

تنهدت ونظري ينقاد لكل شيءٍ إلا إليه،  لم أحتمل نظرات اللوم التي كان يرمقني بها بعد أن تحول شكه ليقين.

"لم أقصد إيذاءها..  إنها حساسةٌ أكثر من اللازم.. ".

"طبيعي!  كيف لا تكون فتاةٌ بعمرها هكذا! ".

قلتُ وأنا أبعثر شعري بضجر:

"معك حق.. كان علي أن أكون أكثر حرصًا.. ".

قلتُ ذلك منهيًا الجدال العقيم،  ورغم أنه لم يقتنع بكلامي،  تغاضى عن الأمر،  وأخذ يستجوبني عما حصل مع جمانة،  حمدتُ الله أن فضوله أنساه أمرها.

...

كان ستار الليل مهيمنًا على المدينة،  درجات الحرارة في تناقص مستمر،  والشتاء يقترب بهوادةٍ وإصرار،  رفعتُ أنظاري للسماء الملبدة بالسواد،  يُنيرها البدر الوضّاء في خُيلاء.

"ماذا يُريد باعتقادك!.. ".

طرحتُ ذلك السؤال على كِلَينا،  وأنا أدس يديّ في جيوب بنطالي أثناء سيرنا على الرصيف.

هز كتفيه إشارةً إلى جهله أيضًا،  كان مرتديًا الكنزة ذات اللون الشاطئي التي صنعتها له جمانة،  كنا ذاهبان للقاء رافع في إحدى المقاهي بعد أن اتصل بي طالبًا رؤيتي، وجاء أمجد معي لرغبته برؤيته، اصطحبته مع أنني لم أفهم لأيّ شيءٍ أراد أن يراه.

وصلنا إلى مكان اللقاء،  كان مُطلًا على الشارع الرئيسي، منظره لا يُثير الفضول لدخوله لدى المارين من أمامه،  لذا لم يكن مكتظًا.

دلفنا للداخل فلفحنا دفء المكان وروائح القهوة بأصنافها المتعددة،  بدا أكثر سعةً ورحابةً من منظره الخارجي، تضيؤه الإنارات الصفراء الخافتة المعلقة على السقف لتمنحه طابعًا أكثر هدوءًا، بحثتُ بعينيّ عن صاحب الرأس الأصلع والجسد المكتنز،  ولم يكن العثور عليه صعبًا.

"هُناك.. ".

أشرتُ إليه بيدي لينتبه أمجد لمكانه،  كان جالسًا إلى طاولةٍ مُلاصقةٍ للنافذة التي تمتد من السقف حتى ارتفاع الطاولة، لها مقعدين متقابلين يتسع كل منهما لاثنين.

حييتُه وجلستُ قبالته،  وشغل أمجد المكان الأقرب للنافذة إلى يميني.

"يا لقسوتك!  كيف تتركني لأسبوعين دون سؤال ولا اتصال،  هل نسيتَني بهذه السرعة! ".

ابتسمتُ بخجل وأنا أعتذر له،  حول نظراته
لأمجد وقال رافعًا حاجبيه:

"أهذا أمجد الشهير!  إنه يبدو أعقل منك..".

قهقه عاليًا حين رأى نظرات الاستغراب تعتلي عينيه.

"ألم أقُل لك أنه غريب! ".

قلتُ له هامسًا فابتسم وحاول كتم ضحكته.

"هل لي أن أعرف بما تتساسران!.. ".

"لـ لا لا شيء.. ".

عقد يديه وأرجع ظهره للخلف، وهو ينقل أنظاره بيننا.

"آسف لما حصل ذلك اليوم..  عرضتُك لخطر الطرد.. ".

قلتُ بصدق،  فرَد بلا مبالاة:

"لا تخف..  لا يمكن أن يُسَرحني سالم..  والآن هل لي أن أسألك لمَ فعلتَ ذلك! ".

"لا أستطيع إخبارك.. ".

تنهد وهو ينظر لي نطراتَ أبٍ يحاول فك الغموض الذي يُسيطر على ابنه.

"ليس ثمة حاجةٌ لأخبرك بأنك فُصِلت..  صحيح؟ ".

"نعم.. ".

"هل بحثتَ عن عملٍ آخر؟ ".

"لا.. ".

"ماذا تنوي أن تفعل!.. ".

"لا أدري.. ".

"أنتَ مُشتت كعادتك..  سأحسم الأمر نيابةً عنك.. ".

قال وهو يُقرب جسده من الطاولة:

"لا داعي لتبحث عن عمل.. ".

"ماذا... تعني..؟ ".

ابتسم وأشار للنادل أن يأتي،  ودون أن يسألنا طلب الشايٍ لثلاثتنا.

أسند ساعديه على الطاولة وشرع يتكلم:

"لي ابن أختٍ مهووسٌ بالهندسة الداخلية،  يملك مكتبًا ويريد مساعدًا يُشاركه الشغف فعرضتُ عليه تشغيلك عنده.. فقد تُفيدك خبراته لتحقق حلمك يومًا ما.. ".

مسد رقبته وهو يكمل ببطء:

"لم يكن إقناعه بتوظيفك صعبًا.. ".

لم أجد كلماتٍ أعبر بها عن امتناني لصنيعه،  كانت تعابيري كافيةً ليقول وهو يبسط يده أمامي:

"قبل أن تشكرني..  ثمة أمرٌ قد لا يُعجبك في العمل.. ".

"ما هو؟ ".

"الوقت..  عليكَ أن تكون متواجدًا في المكتب من العاشرة صباحًا حتى العاشرة مساءً..".

تبدلت تعابيري وأنا أُقَدِّر عدد الساعات التي ستُبقيني بعيدًا عن البيت.

"سيقبل الوظيفة.. ".

التفتنا لصاحب الصوت،  الذي كان يستمع إلينا بصمتٍ طوال الوقت عاقدًا يديه إلى صدره، نظر إلي ورفع حاجبًا وكأنه يقول: ليس لديك أسباب للرفض!

ضحك رافع وهو يقول:

"كنتُ أعلم أنك أنضج من شقيقك أيها الصبي.. ".

تنهدت وأنا على يقين أنني لا أملك رفاهية الاختيار،  بل علي أن أقبل الوظيفة بامتنان.

وصل الطلب،  وقرب رافع أقداح الشاي التي يتصاعد منها البخار إلينا، وارتشف من قدحه الخالي من السكر.

"لا أريدك أن تصبح مثلي... ".

قال وهو يعيده للطاولة ويكمل ناظرًا إلي:

"كانت لدي مطالب وأحلام تناطح السحاب،  لم أكن لأقبل بأي وظيفة،  تخرجتُ من الجامعة بامتياز في مجال الاقتصاد،  وكانت ثمة صورةٌ واحدةٌ لمستقبلي رسمتها في خيالي ولم أقبل غيرها.. ".

حرك القدح بيده وقال وهو يراقب الدوائر التي تشكلت على سطح السائل القاني:

"قضيتُ السنين التي عقبت تخرجي باحثًا عن تلك اللوحة التي رسمتها لنفسي، كنتُ شغوفًا بالاقتصاد،  وما زلت، لم أستطع تقبل الرفض الذي كنتُ أُقابل به كلما تقدمتُ لوظيفة..  و..  هل تعلم كم أمضيتُ في البحث؟ "

"كم! ".

"عقود..  أمضيتُ عقودًا أبحث عن عمل، حتى وجدتُ نفسي بائعًا في محل أقمشة وعمري يُناهز الخمسين.. ".

رفع رأسه نحونا وحين رأى تعابير وجهَينا التي اختلطت دهشةً وأسفًا قهقه عاليًا وقال:

"ليس وكأنني مستاء..  العمل في المحل ليس سيئًا على أي حال.. ".

عاد يرتشف من قدحه، غير آبهٍ بمذاقه المُر، ربما لأنه اعتاد تجرع المرارة طوال سنين حياته حسرةً وندمًا على عمره الضائع ما عادت المرارة غريبة المذاق لديه.

"اِشربا.. ".

قال وهو يُشير إلى قدحَينا اللذين لم يُمَسّا،  مددتُ يدي وتناولته وقربته لشفتيّ بحركةٍ آلية،  ذهني ما يزال مشوشًا،  تمنيتُ لو أنني كنتُ أقرب منه في الأشهر المنصرمة،  لم يُعاملني بسوءٍ مطلقًا،  كان لي مثل أبٍ حريصٍ على ابنه.

مد يديه للكرسي المجاور له والتقط شيئًا بدا ثقيلًا إذ جاهد ليرفعه فوق الطاولة،  كانت كتبًا.

"هذه بعض كتبي في الإدارة والاقتصاد..  جزءٌ من إرثي الغالي.. أهديه لك.. ".

قال باسطًا يده فوق الكتاب الذي اعتلى الكتب الثلاث.

"كرمكَ يُخجلني.. ".

"لا عليك،  وجودك إلى جانبي في المحل آنس وحدتي،  فالنقُل أنها هدية امتنانٍ بسيطة.. ".

أخذ أمجد إحدى الكتب وعيناه تتفحصان العنوان ليقول وعيناه تتسعان:

"ماكس فيبر!.. ".

"أوه أنتَ تعرفه!  إنه أحد كبار مُنظِّري الإدارة.. ".

سُرعان ما انسجم الاثنين،  وتبادلا الحديث عن أشياء لم أفهمها،  أيقظتني من سرحاني ضحكة رافع المجلجلة وهو يقول لي مشيرًا عليه:

"أخوكَ فريدٌ حقًا.. ".

نظرتُ إليه وهو يتصفح الكتاب،  بعينين مملوءتين فخرًا، مقرًا بفرادته،  يومًا ما سيسطع نورك ويُبهر الأبصار.

ودعنا رافع،  وطبعتُ على جبينه قبلةً امتلأت امتنانًا وصدقًا،  على كل ما فعله لي.

مر أسبوعان حين علمتُ أن جمانة وزوجها تركا البناية والمدينة، كان غيابها المُباغت موجعًا لي،  مع أن آمالي لا تتعدى حاجز السراب،  إلا أن اختفاءها وكأنها لم تكن جزءًا من حياتنا لم يكن هينًا لي،  لم تتجاوز معرفتي لها الخمسة أشهر،  إلا أنها كانت كفيلةً بأن تعلق في فؤادي،  وتمتزج بي وتترك أثرها فيَّ..

ثم انقضى شهرٌ ونصف..  وحل شتاءٌ زمهرير..  لم أعرف شتاءً أشد قساوةً منه في حياتي.

...
....
-------------

توقعاتكم للفصول القادمة..!

لمن يتساءل عن حاضر مروان،  الأحداث من الفصل الثامن وحتى الآن جُلها في الماضي،  متى نعود للحاضر؟  لاحقًا يتضح 💜.

وكالعادة تعليقاتكم الجميلة تدفعني للاستمرار  💜💜..

Continue Reading

You'll Also Like

62.5K 5.3K 29
يعود ذلك الشاب بعد ثلاث سنوات من اختفائه ليكون الامل الوحيد لكشف جريمة قتل عائلة باكملها وحرق منزلهم ولكنه كان فاقدا للذاكرة يقوم احد الاطباء بتبني ع...
14.8K 1.1K 18
ماذا لو ان كل شئ بخير؟ (هذا الكتاب يحوي شخصيات كتاب بِلَا نَسَبْ)
829K 24.5K 39
لقد كان بينهما إتفاق ، مجرد زواج على ورق و لهما حرية فعل ما يريدان ، و هو ما لم يتوانى في تنفيذه ، عاهرات متى أراد .. حفلات صاخبة ... سمعة سيئة و قلة...