أشِقّاء

By lood999

76.5K 7.3K 2.6K

في حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعل... More

١) يُحكى أنه كـان وحيدًا.
٢) الليلــةُ الماطِـرة.
٣) سِجــن.
٤) غَــرق.
٥) بصيـص أمـل.
٦) تِلـك الفتـاة.
٧) الرحيــل.
٨) ذكريات حلمٍ قديم.
٩) حــديقةٌ وفتـاة.
١٠) مَحَلُّ الأقمشـة.
١١) ماهــر.
١٢) تجاوز المُهلـة.
١٣) دمـوعٌ ومطر.
١٤) الأخُ الكبير.
١٥) صـديق.
١٦) أشبـاح.
١٧) الصـراحة.
١٨) آباء.
٢٠) وداع.
٢١) اِختفـاء.
٢٢) مُمتن.
٢٣) بقايـا.
٢٤) نَبـش.
٢٥) عِـش.
٢٦) المُفكـرة.
٢٧) الحياةُ المسلوبـة.
٢٨) أروى.
٢٩) أطـلال.
٣٠) لِقـاء.
٣١) مُفاوضات.
٣٢) إنقــاذ.
٣٣) إحيــاء|الخاتمـة.
فصل إضافي|فَجْــر: كل الطرقِ تؤدي إليك.
فصل إضافي ٢|ندى: لن أنساك أبدًا.
فصل إضافي ٣|سأعـود.
فصل إضافي ٤|لأنك ولِـدت.

١٩) غضـب.

1.4K 159 73
By lood999

....
...
..
.
أشعر أن أيادٍ تمتد لعنقي وتخنقني كلما تخيلتهما معًا،  كلما تخيلتُ ذلك الوغد ينعم برؤيتها ليلَ نهار،  يستطيع أن يمد يده إلى شعرها تتخلله أصابعه بحرية، يستطيع رؤيتها بكامل زينتها وأناقتها وجمالها، والأهم من كل ذلك، يستطيع التكلم معها كل حينٍ دون أن يضطر للافتراق عنها، لن يمر وقته معها سريعًا،  لأن كل وقتها له.

مرت أيامٌ  على آخر مرةٍ رأيتها فيها،  وأيام على زيارة زوجها لمحله،  الذي أعمل فيه منذ أربعة أشهر.

تمالك فراس دهشته حين أخبرته بحقيقة المالك،  وقال لي كالذي قاله أمجد حين علِم.

اِنسَ ذلك وحسب..

لكني لا أجيد النسيان،  قد أتناسى،  لكن لا يمكن أن أنسى مشاعري.

...

عاد أمجد لمدرسته،  بالكاد أخفيتُ استيائي على حاله،  كلما حاول التشبث بالحياة، كلما تطلع وتأمل وحلُم، أصابه الوهن،  لم أعرف إلى متى سيُلاحقه هذا المصير.

هل يُمكننا تجنُّب المصير لو تناسَيناه أيضًا؟ 

دلفتُ لغرفته في المساء،  كان جالسًا على سريره يقرأ كتابًا، جلستُ قبالته أنظر إليه وهو منشغل بالقراءة،  ابتسمتُ وأنا أعرف أنه منزعجٌ من وجودي فهو لا يحب أن يقاطع أحد قراءته،  امّحت ابتسامتي حين انتبهتُ لغلاف الكتاب،  وقلتُ محاولًا الحفاظ على توازن صوتي:

"ألم تقل أنك ستعيده إليها؟ ".

"هل تُقلقكَ قراءتي له! ".

"لم أقل هذا.. ".

رفع رأسه إلي،  متفرسًا في وجهي المكشوف.

"هل سبق أن قرأته؟ ".

طرفتُ بعينيّ،  مرةً ومرتين،  استعصى علي الجواب،  حررني من اضطرابي حين عاد للقراءة وهو يقول:

"هذا الكتاب يُثير غرابتي.. ".

"لماذا!..  أليست قصة أطفال..؟ ".

"أشعر أنها ليست قصةً عادية.. ".

"مادا تقصد؟ ".

قلت وأنا أعيره كامل انتباهي،  لا أذكر تفاصيل القصة،  لكني أتذكر المشاعر التي كانت تجتاحني حين كانت أمي تقرؤها لي،  مشاعر التشبث بشيء خشية فقدانه.

أغلق الكتاب ووضعه بجانبه متجاهلًا سؤالي.

"هل جئتَ لتقول شيئًا.. ؟".

تذكرتُ ما جئتُ لأجله، لكني فقدتُ رغبتي بالحديث عنه،  فتملصتُ من الإجابة قائلًا:

"ألا يمكنني التطفل على أخي الصغير بين فينةٍ وأخرى! ".

"أعلم أنك لم تأتِ لقول هذا.. ".

تنهدت.. لا أحد يستطيع التحايل عليه،  قلتُ بعد لحظات:

"كنتُ سأكلمك عن المصنع.. لا أعتقد أنها فكرة سيئة.. قد نستطيع فعل شيء بناءً على خبرتي في هذا المجال ومعرفتك....".

"ربما.. ".

لم يكن في نبرة صوته شيءٌ من التصميم الذي كان يغلفها حين اقترح الفكرة أول مرة، بدا صوته باهتًا وعيناه لا تتطلعا لشيء.

"آسف،  لقد ثبطتُ عزيمتك.. ".

"لا، لقد فكرتُ بكلامك، لن يكون سهلًا بناء مصنع في سنوات قليلة.. ".

"سنفعلها!.. ".

أومأ وهو يرسم ابتسامةً أقل شحوبًا،  كانت الكآبة تخيم عليه منذ تعافيه،  لم أعرف ماذا أفعل لإخراجه من هذه الحال.

...

لم يعُد المحل مكانًا أنتمي إليه، ليس وكأنه كان ثمة رابطًا يصلني به، إنما لم أمقته من قبل، حتى علمتُ بهوية صاحبه، بت أشعر أن يدًا تقبض على أنفاسي كلما دخلته،  ما عدتُ أطيق البقاء فيه، لاحظ رافع شرودي أغلب الوقت، وسألني قلقًا فلم أعطِه جوابًا واضحًا.

لولا وجوده لما استطعت البقاء يومًا واحدًا،  مع أن سالم لم يأتِ بعد ذلك اليوم،  إلا أن وجوده ما زال حاضرًا في المكان،  يُحاصرني بنظراته الحادة ويشل حركتي.

مرت عشرة أيام على مجيئه،  حين عاد للمرة الثانية.

لم يُمهد لقدومه،  جاءنا فجأة،  أشغلتُ نفسي بترتيب لُفافات الأقمشة ونفض غبار وهمي عنها،  معطيًا ظهري للباب،  غير عازمٍ على الالتفات.

سمعتُ همهماتٍ منه وهو يحدث رافع،  شكرتُ الله أنه لم يستدعِني مثل تلك المرة،  ربما لم ينتبه لوجودي حتى،  لكن رعشةً سرت في يديّ حين سمعتُه يقول رافعًا نبرة صوته:

"أنت!.. ".

شددتُ يديّ على اللفافة وأنا لا أقوى على الالتفات،  ليس خوفًا،  فخوفي منه تلاشى،  إنما خشيتُ ألا أستطيع التماسك لو نظرتُ إليه.

"هل أنتَ أصم! ".

تجاهَلْه..  تجاهَلْه..  تجاهَلْه..

"مـروان! ".

زمجر بأعلى صوته،  لم أتخيل أن بشريًا قد يملك نبرةً بهذا العلو،  صرخته لم تُفزعني، إلا أن دمائي فارت،  ومحاولاتي في التماسك خارت.

استدرتُ بقسوة،  والشرر يتطاير من عينيّ، لم أعد أملك أقنعةً أرتديها وأواري بها عبوسي، فكل أقنعتي أتلفتها الأيام.

تراءى لي طيف تلك الفتاة المشرقة كشمسٍ ربيعية، أحسستُ بدفء يدها حين تربت على أوجاعي، وابتسامتها التي تلتئم لها جراحي،  وصوتها الذي يرافق أحلامي،  آسرتي،  معذبتي،  الفتاة التي لم يعرف قلبي غيرها،  وكأن العالم خلا من النساء عداها.

قتل ابتسامتها التي ملأتني بالحياة، سلبها نفسها وأحلامها وحياتها،  وفوق هذا يجرؤ على الوقوف أمامي بعد كل جرائمه!

تقدمتُ نحوه،  مدفوعًا بغضبي وجنوني وحبي البائس،  اندفعتُ وأنا أتساقط مع كل خطوةٍ تطرق قدمي بها الأرض،  تساقطَت نفسي مثل أوراق الخريف اليابسة،  ووصلتُ إليه خاويًا من نفسي،  ممتلئًا بحقدي.

قفزتُ لأبلغ قامته الشامخة وسددتُ لوجهه لكمةً مندفعًا بكامل وزني وقوتي عليه،  تهاوى أرضًا على ظهره فارتجت الأرض كأن زلزالًا عاث فيها، هويتُ بقبضتي على وجهه ممتلئًا بغلي،  لم يقوَ على مقاومتي لفرط صدمته واندهاشه من هجومي المباغت وانقضاضي عليه،  تملصتُ من يديّ رافع اللتان تحاولان إبعادي بيأس.

كنتُ مجنونًا،  ثائرًا،  وأنا أهوي بقبضتيّ على وجهه وألكمه مرةً بعد مرة،  وأصرخ مثل مناضل يأبى الخسارة.

امتدت يدٌ لصدري ودفعتني بقوةٍ للخلف فاصطدمتُ برافع الذي أسندني بوزنه كي لا يهوي كلانا أرضًا.

لم تكن تلك يد سالم،  جذبتني اليد المجهولة من عضدي وجرتني نحو الخارج،  لم يقوَ ذهني المشوش على التعرف عليه حتى ألقى بي على مقعد الدراجة النارية وهو يصرخ فيّ حانقًا:

"هل جُننت! ".

"فراس! ".

قلتُ دون وعي،  وأنا أشعر أني أعرفه ولا أعرفه،  لم أكن قد استعدتُ نفسي بعد،  ركب الدراجة وانطلق بأقصى سرعة عائدًا.

رفعتُ رأسي للسماء، في طريق عودتنا،  كانت صافية والشمس تتألق في كبدها لافحةً وجهي بدفئها،  وشعري يرفرف بفعل رياح الخريف التي تزداد ضراوةً لسيرنا في عكس اتجاه هبوبها.

الشمسُ مشرقة،  مثلَ كل يوم،  ألا تُشرقين على قلبي ليوم! 

...

ألقى بي على الأريكة وأنا ما أزال مُغيَّبًا، تهاويتُ عليها مثل جثة.

"ما به؟ ".

بدا صوت أخي بعيدًا وهو يوجه سؤاله القلِق لفراس،  ربما ألح علي بالسؤال قبل ذلك لكني لم أجبه، 

"لقد جُن أخوك بلا رَيب.. ".

عمن يتحدثان!  من الذي يخالانه مجنونًا، لم يكن وعيي ليُفهمني أنني المعنيّ.

"ليست أول مرةٍ يندفع فيها ثم يندم.. ".

"لا.. ".

استيقظتُ فجأةً من سُباتي لأدلي بذلك الرد على كلام فراس،  رفعتُ رأسي إليهما،  وقلتُ وأنا أرسم على وجهي ابتسامةً لا معنى لها:

"لستُ نادمًا.. ".

ضيَّق فراس عينيه،  ورمقني أمجد بأسف،  خيبتُ ظنهما بي،  لكن هذا ما شعرتُ به لحظتها،  لم أكن نادمًا،  شعرتُ أنني ولأول مرةٍ أفعل الشيء الصحيح.

زفر فراس بتعبٍ وقال:

"لحسن الحظ أني تبعتُ سالم حين رأيته يُغادر،  شعرتُ أن أخاك سيفعل شيئًا أحمقًا.. ".

ما زال يوجه كلامه لأمجد،  فقد أمله بي.

"أنسيتَ ما فعلناه لماهر.. ".

"ماهر! ".

سأل أمجد في عجب،  لم يكن يعلم شيئًا عن مكيدتنا له.

"لا تخلط الأمور ببعضها،  شتان بين الاثنين،  ثم ألا تخشى أن تفقد عملك بعد الذي فعلتَه! ألم تفكر ولو قليلًا بمستقبلك قبل أن تتهور! ".

ألقى بكلماته المنفعلة فأجبت وأنا أمدد ساقيّ على الأريكة وأستلقي بتعب:

"كنتُ سأتركه على أي حال..   العمل فيه ما عاد ممكنًا لي.. ".

"هل تظن أن الوظائف تنهال كغيثٍ من السماء! ".

"سأجد عملًا آخر.، حياتي ليست متوقفةً عليه... ".

قلتُ بكلماتٍ لا ثقة فيها،  وأغلقتُ عينيّ ببطء،  وأصواتهما تصبح أبعد وأبعد.

"سيكون محظوظًا لو لم يُقاضيه.. ".

كان ذلك آخر ما سمعته،  قبل أن أغرق في سُباتي.

..

كان مغمورًا بدفئها،  ملتحفًا بحبها، قربته من صدرها بيدٍ والكتاب بيدها الأخرى،  أسند رأسه على صدرها واستسلم ليدها التي تُلاعب شعره،  بدأت بسرد القصة التي اعتادت قراءتها له.
يوشك أن يغفو،  لكنه يُغالب النوم ليستمع لبقية القصة. يثقل جفناه فيصارع لفتحهما وهو يعلم أنه لو استسلم للنوم لن يجدها بجانبه حين يصحو،  سيفقدها إلى الأبد،  زاد من تشبثه فيها بيديه الصغيرتين،  صوتُها يبعُد،  والنوم يُغويه،  يريد أن يستمع لبقية القصة،  يريد أن يعرف مصير البطل، يريد البقاء بجانبها،  لكن النوم ينال منه أخيرًا..

..

فتحتُ عينيّ على اتساعهما،  وأنا أجول ببصري في المكان، غرفةُ معيشةٍ بأثاثٍ بسيط، وأنا مستلقٍ على أريكةٍ طويلةٍ في وسطها، نعم، أنا أعيش هنا الآن،  متدثرًا بلحاف، لا أذكر أنه كان يغطيني حين نمت.
يجلس بجانبي ولدٌ في الثانية عشرة،  مألوفٌ جدًا، مقربٌ جدًا،  كما لو كان شيئًا انقسم مني وتشكل على هيئة بشر،  أليس هذا أخي الوحيد الذي أعتني به مذ كان في المهد!  لمَ ذاكرتي مشوشةٌ لدرجةِ أنها لا تسعفني بتذكر اسمه، نظر إلي وابتسم بمودة.

"استيقظتَ أخيرًا.. ".

كان ممسكًا كتابًا في يده،  من بين كل الكتب التي ألفها البشر،  كان يقرأ لي ذلك الكتاب، تذكرتُ اسمه الآن، إنه مماثلٌ لاسم بطل هذه القصة، والذي أطلقته عليه بنفسي.

اعتدلتُ في جلستي وسحبتُ الكتاب منه، ألقيتُ به بعيدًا،  وأنا أقول بين أسناني:

"لا تُرني هذا الشيء بعد الآن.. ".

تفاديتُ النظر لوجهه وأنا أسند رأسي على ركبتيّ، لا أقوى على النهوض،  ولا التفكير،  ولا الكلام.

كانت أول مرةُ أعامله فيها بجفاء.

"قُل لي.. ما الذي تعنيه لك هذه القصة؟".

"ماذا يُهمك في هذا! ".

"كنتَ تتعرق وتهمهم وأنا أقرؤها.. هل تذكركَ بأمي؟ ".

رفعتُ رأسي ونظرتُ إليه، تبدلت تعابيره حين رآني،  مد يده ومسح خدي المُبتل وتجلى ندمٌ طفيفٌ في عينيه وهو يقول:

"لم أعلم أن هذا سيؤلمك..  آسف".

لم أشعر بدموعي التي انهمرت على خديّ،  أبعدتُ يده،  وسخَّرتُ ما بقي من طاقتي لأنهض،  اتجهت لغرفتي وما إن دخلتها حتى ألقيت بجسدي على السرير،  أغمضتُ عينيّ، غامرًا وجهي في الوسادة،  طاردًا ذلك الحلم من رأسي.

لماذا رحلتِ؟ رحلتِ قبل أن أبوح لكِ بخوالجي،  أردت أن أقول لكِ أن جسدي صار سريع الارتجاف مذ تركتُ حجركِ،  أردتُ إخباركِ أني قد أموت بردًا وأنا بعيدٌ عنكِ،  قد أموت شوقًا وحبًا وجنونًا، أردتُ إخباركِ بأني فقدتكِ مرتين،  يومَ فقدتكِ،  ثم فقدتُ فتاةً تشبهكِ، مع أنها لم تكن ملكي يومًا لآسَف على فُقدانها. حاولتُ فعل شيء تنفيسًا عن خيبتي،  هل كان فعلي صائبًا؟  أُمّاه!  أجيبي تساؤلات أميرك الصغير، كما كان يطيب لك أن تُسميه،  قولي له أنه لم يخطئ،  طمئنيه وربتي على ظهره قائلةً أن ما يُكسر سيُعوض،  مثلما كسرتُ كَوب أبي الذي لا يشرب الشاي في غيره وهرعتُ إليكِ راكضًا، لم يغضب أبي مني،  لم يكن من النوع الذي يغضب ويولول،  كان رحيمًا مثلك،  حتى وإن تصنع الصلابة ليُعلمني مكمن خطئي،  كنتِ تدفعينه عني ببضع كلمات،  فهمتُ الآن لمَ كان عطوفًا،  لأنه يحبك،  لم تكوني امرأةً عادية،  لقد كنتِ مثلها.

شعرتُ بيدٍ تربت على ظهري، أدرتُ وجهي الذي كان غارقًا في الوسادة إلى صاحب تلك اليد،  صعُب علي تمييز وجهه؛ إذ كانت مقلتاي مملوءتان دمعًا.

"أمـي! ".

قلت هامسًا،  بصوتٍ مبحوح، انجلى الغبش من عينيّ واتضحت الصورة،  فرأيتُ أخي، عيناه تفيضان حزنًا على حالي،  رفعتُ جسدي وجلستُ،  منهكًا من كل شيء،  أحاط رقبتي بيديه واحتضنني.

"إن بكيت..  فسأبكي أنا أيضًا..! ".

قال بصوتٍ لا يقل هوانًا عن صوتي،  لم أضعف هكذا أمامه من قبل،  كان حالي مثيرًا للشفقة.

"أنا أفضل الآن... ".

قلتُ بهدوء،  فأبعد يديه عني وراحت عيناه تتفحصان ملامحي:

"متأكد؟ ".

"متأكد.. ".

تبادلنا النظرات لثوانٍ،  هو يرمقني بشك،  وأنا أتصنع الثبات.

أشرتُ له كي يجلس أمامي، لم يعد لدي رغبةٌ بالتملص والتجاهل والكِتمان،  أخذتُ نفسًا عميقا وبدأت الكلام:

"حين كانت أمي تقرأ تلك القصة لي..  كنتَ أنتَ بداخلها،  كنتُ أريح رأسي على بطنها وأشعر بدفئك، كنتُ متشوقًا ليُكشف عنك الحجاب يومًا،  لأحملك بيديّ،  لألعب معك، تحت أنظار أمي وحبها....

صَمَت،  والغصات تتدافع في حلقي وتمنعني من الكلام، شعرتُ أن قلبي يكاد ينفطر حزنًا،  على حياةٍ لم أعشها.

"كنتُ.. كنتُ متفرجًا،  لم أستطع فعل شيءٍ لها،  كانت تبكي وتصرخ،  وأنا لم..  لم..

غطيتُ وجهي بيديّ وذكرى ذلك اليوم تعصف بكياني.

شعرتُ بيده تمتد وتشد على كتفي،  رفعتُ رأسي إليه،  وقلتُ بصوتٍ أشبه بحشرجة:

"لمَ أقف عاجزًا عن مساعدة من أحبهم دومًا!.. ".

لم أجد في عينيه جوابًا، همستُ بما بقي من صوتي:

"هل..  كان فعلي صائبًا؟.. ".

صوتُ طرقٍ على الباب جاء مُباغِتًا ومُجيبًا.

"سأرى من الطارق.. ".

قال وهو يُغادر بهدوء،  لم تحملني قدميّ للحاق به حين مرت دقائقٌ لم يأتِ فيها.

عاد مع انقضاء الدقيقة العاشرة،  دخل بهدوء كالذي غادر به،  بوجهٍ مخطوفٍ لا يشبه الوجه الذي غادر به.

"ما بك! من كان عند الباب؟ ".

لم ينبس ببنت شفة،  فازداد قلقي وتوجسي،  هتفت متمنيًا ألا يكون ظني في محله:

"هل أصابها مكروه! ".

"إنها...  تحتضر.. ".

حملقتُ فيه ببلاهة،  وكلمته وصلتني عاريةً من معانيها،  تحتضر!  أليست كلمةً لا يليق أن توصف بها!

"مَن..  قال لك هذا! ".

فُتح الباب بعد لفظي لذلك السؤال،  ودخلت فتاةٌ بشعرٍ قصير،  لا يتجاوز عمرها العشر سنوات، لم أرَها من قبل، تقدمت للداخل دون خجل ووقفت بجانب أمجد وتقاسيمها بين الحنق والأسف.

لم يقوَ لساني على السؤال عن هويتها ولم يحملني عقلي للتفكير بسبب وجودها، قالت بصوتها الحاد قاطعةً شتاتي:

"أنا ندى..  ابنة مالك البناية.. ".

ابنة المالك!  سمعتُ أن له ابنتين،  أكبرهما ملاك،  وأصغرهما... ندى؟

أردفت وهي ترمقني بنظراتٍ أقرب ما تكون إلى الاعتذار:

"لو أنني علمتُ أن أختي ستفعل شيئًا كهذا لمنعتُها.. ".

لم يحرص عقلي على تحليل كلامها الذي بدا لي كطلاسم عصيّةٍ على الفهم، وجهتُ أنظاري نحو الواقف بجانبها منتظرًا تفسيرًا واضحًا منه.

"يبدو..  أن ملاك قالت لسالم عن علاقتك مع جمانة.. ".

أضافت ندى على كلامه:

"كان هذا منذ أيام،  لم يفعل لها شيئًا، فاعتقدتُ أنه لم يصدق أختي، ولكن اليوم،  سمعنا أنه انهال عليها بالضرب حتى فقدت وعيها....

تكلمَت وتكلمَت وتكلمَت،  كنتُ أرى شفتيها تتحركان ولا يصلني ما تقول،  فحالما أدركت أنني أفسدتُ كل شيء،  فقدَت حواسي عملها،  سحب أمجد ندى التي لم تكف عن الكلام  خارجًا حين رأى الظلام الذي خيّم على وجهي، وفر علي عناء إخراجهما،  أسندتُ رأسي بيديّ، وأنا اشعر أنه ثقيلٌ كصخرة،  وأنفاسي تضيق وتضيق وتضيق،  حتى لتكاد تختفي.

غبي..  غبي..  غبي..  غبي..  غبي..  غبي.. غبي..

..
..
..
..
..
...

Continue Reading

You'll Also Like

442K 29.5K 39
شاب من عائله غنيه وكاي عائله غنيه يجب أن يكون افرادها أذكياء وسيمون ومصدر فخر لهم أحد أفراد العائله لم يكن كذلك كان فتى في ال 14 عشر ذو جسم ممتلئ و...
2.5K 179 13
إهداء : لكل نفسًا بقيت صامدة وتملؤها القوة .
62.5K 5.3K 29
يعود ذلك الشاب بعد ثلاث سنوات من اختفائه ليكون الامل الوحيد لكشف جريمة قتل عائلة باكملها وحرق منزلهم ولكنه كان فاقدا للذاكرة يقوم احد الاطباء بتبني ع...
841K 24.8K 39
لقد كان بينهما إتفاق ، مجرد زواج على ورق و لهما حرية فعل ما يريدان ، و هو ما لم يتوانى في تنفيذه ، عاهرات متى أراد .. حفلات صاخبة ... سمعة سيئة و قلة...