أشِقّاء

Per lood999

76.5K 7.3K 2.6K

في حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعل... Més

١) يُحكى أنه كـان وحيدًا.
٢) الليلــةُ الماطِـرة.
٣) سِجــن.
٤) غَــرق.
٥) بصيـص أمـل.
٦) تِلـك الفتـاة.
٧) الرحيــل.
٨) ذكريات حلمٍ قديم.
٩) حــديقةٌ وفتـاة.
١٠) مَحَلُّ الأقمشـة.
١١) ماهــر.
١٢) تجاوز المُهلـة.
١٣) دمـوعٌ ومطر.
١٥) صـديق.
١٦) أشبـاح.
١٧) الصـراحة.
١٨) آباء.
١٩) غضـب.
٢٠) وداع.
٢١) اِختفـاء.
٢٢) مُمتن.
٢٣) بقايـا.
٢٤) نَبـش.
٢٥) عِـش.
٢٦) المُفكـرة.
٢٧) الحياةُ المسلوبـة.
٢٨) أروى.
٢٩) أطـلال.
٣٠) لِقـاء.
٣١) مُفاوضات.
٣٢) إنقــاذ.
٣٣) إحيــاء|الخاتمـة.
فصل إضافي|فَجْــر: كل الطرقِ تؤدي إليك.
فصل إضافي ٢|ندى: لن أنساك أبدًا.
فصل إضافي ٣|سأعـود.
فصل إضافي ٤|لأنك ولِـدت.

١٤) الأخُ الكبير.

2K 172 85
Per lood999

...
..

"أوه! مرحبًا يا صديقـي".

هتف يحييني رافعًا يده عاليًا، متظاهرًا أنه تفاجأ برؤيتي.

مشيتُ للباب وتخطيته وأنا أقول دون النظر إليه:

"لا أذكر أني صرتُ صديقك".

بقي لثوانٍ معلقًا يده في الهواء ثم لحق بي وسار بجانبي وهو يلكزني:

"ما هذه القسوة! ظننتُ أننا صديقان".

"صحِّح ظنونك".

"همممم لم أتوقع أنك بهذه الجلفة، إذًا لا جدوى من إخبارك بما لدي".

فُتِح المصعد فدخلته وبقي فراس خارجه وهو يقول بلا مبالاة:

"رغم أن الأمر يتعلق بأخيك".

أغلِق باب المصعد في وجهه فأعدتُ فتحه واستقبلتني ابتسامته الماكرة،  جذبته من قميصه للداخل وضغطتُ على زر الطابق الثالث،  وأنا أقول دون أن أنظر إليه:

"قُل ما لديك".

أطلق ضحكةً عاليةً استمرت بغير انقطاعٍ حتى وصلنا للطابق الثالث،  سألته بسخرية ما إن فرغ:

"أهذا كل ما لديك! ".

"لا.. ليس كله..  لدي الكثير".

"قل وخلصني".

"ليس هُنا؛ فالحيطان تنقل الكلام كما تعرف".

زفرتُ بنفاد صبر وأنا أتبعه للمكان الذي نستطيع التكلم فيه،  خرجنا من باب الطوارئ الذي في آخر الممر،  وصعدنا السلالم الحديدية الضيقة حتى بلغنا بابًا حديديًا أحالته عوامل الزمن والرطوبة للون البني،  فتح فراس الباب فاندفع منه الهواء البارد المُشبع برائحة المطر.

خرج وتبعته ووجدتُ نفسي واقفًا في السطح،  كان بحجم ملعبي كرة سلة،  فرد فراس ذراعيه كأنه يستعد للطيران وهتف بصوت مرتفع وهو يقف في منتصف السطح والهواء يداعب خصل شعره الذي يصل لرقبته:

"أرأيتَ كم أن المكان رائع".

أجبته بصوتٍ يُعادِل علو صوته وأنا ما أزال واقفًا عند الباب:

"أنسيتَ ما أتينا لأجله؟ ".

"لا..  تعال إلى هنا".

تأففتُ ومشيتُ نحوه مرغمًا، لم أفهم إن كان قد أحضرني لنتكلم بهدوء أم ليأخذني في جولةٍ سياحية.
كنا واقفين على علو ستة أطباق،  في سطح بذلك الاتساع وبجدران منخفضةٍ تُمكِّننا من رؤية ما خلفها بسهولة.

"يا رجل..  تستطيع هنا رؤية الشروق والغروب  أليسَ ذلك رائعًا؟".

"لا تغير الموضوع".

"أنتَ مُمِــل".

مط تلك الكلمة باستفزاز فزفرتُ بغضب كي يعجل بالكلام.

"حسنٌ سأتكلم..  همممم..  الأمر يتعلق على الأخص بذلك المدعو ماهر".

"أوَتعرفه! ".

"بالتأكيد أعرفه..  وأمقته هو وأبوه".

"لمَاذا! ".

"بيني وبين هذا الصبي عداوةٌ قديمة،  لقد آذى أخي مرارًا، والجميع يقف في صفه دائمًا، إنه لعنةٌ على هذه الأرض وأريد إن ألقنه درسًا لن ينساه".

"إذًا؟ ما شأني أنا؟ ".

كادت عيناه تقفزان من محجريه وطقطق بلسانه ثم قال بأسف:

"لا أصدق ما أسمع،  أتقصد بأنك لا تهتم لما سيحصل لأخيك؟ ".

"وما الذي تنوي فعله؟".

أجاب بحماسة:
"سنحضّر مصيدةً تلتقم ذلك الفأر،  كي يخضع لنا ونجبره على فعل ما نريد".

"المكائد الصبيانية ستزيد الأمر سوءًا، ثم إنه مجرد طفل".

"طفل!  إنه رأس الأفعى،  إنه خبيث وحقير أنت لا تعرفه،  ثم هل تعتقد أن ثمة طريقة أخرى ستُجنّب أخاك ما سيلقاه! ".

"سأفكر بأمرٍ ما".

"هذه مضيعةٌ للوقت،  إن قال فؤاد شيئًا فهو لا يتراجع،  وماهر لن يتنازل عن ذلك ليرد لأخيك الصاع صاعين".

تذكرتُ ما حصل البارحة،  حين صفع فؤاد ابنه أمامنا ونظرة الحقد التي تجلت في عينيّ ماهر حين طرده أبوه بقسوة،  قد يكون فراس على صواب،  تانك العينان تضمران الشر الذي لن يختفي قبل أن ينال مراده.
لكن إيذاءه ليس فكرةً سديدة، سأثبت أن أمجد بريء حتى إن لم يكن كذلك،  سأفعل أي شيء كي لا أتسبب بالأذى لأحد.

"هل تفكر بالرفض؟ ".

انتشلني صوته،  وكان صمتي إجابةً على سؤاله.

"هل تظن أنني أحضرتك لأسمح لك بالرفض؟ ".

"وهل ستجبرني على الإذعان لك!".

قلتُ باستخفاف، فرد ببساطة:

"نعم".

"أرِني إذًا".

"لا أحب اللجوء للعنف،  أطلب منك فقط أن تصبح صديقًا لي".

لم أتوقع أن الأمر قد يصل به لإجباري على قبول صداقته،  لم أفهم لأيّ شيءٍ يصر على صداقتي.

"وإن رفضت؟ ".

"ألهذه الدرجة تشمئز مني! ".

تجلت الخيبة في صوته الذي أصبح هادئًا فجأة، ثم ابتسم باستهزاء وقال::

"أم أنكَ تُفضّل صداقة الفتيات! ".

أردف وهو يخفض صوته أكثر:

"لك مني أن أكتم سرك إن نفذت طلبي،  لم أعد أريد صداقتك..  ما الجدوى من صداقةٍ بإكراه! ولكن أعِنِّي على تنفيذ مخططي وأعدكَ أن أحمل سرك للقبر".
"وماذا سيحصل لو أفشيتَ هذا السر المزعوم! ".

رفع حاجبيه في اندهاش وقال بصوتٍ مصدومٍ وعلى شفتيه ابتسامة:

"ألا تعــرف!".

ثم انفجر بالضحك، وهو يقول:
"أظن أن جُمان الحبيبة لم تُخبركَ عن نفسها شيئًا أخالها تتخذكَ وسيلةً تمضِ بها أوقات فراغها".

اندفعتُ نحوه في غضبٍ عارمٍ ودفعته بقوة فانزلق كلانا على الأرض المبللة بماء المطر،  قمتُ بغضبٍ وجذبته من ياقة قميصه ورفعتُ قبضتي عاليًا في استعدادٍ لأن تهوي على وجهه،  لا أعرف ما كان سبب غضبي الجامح تلك اللحظة،  لكنه تبدد تدريجيًا حين رأيتُ نظرات الهلع في عينيه وهو يغطِّ وجهه لئلا تصله قبضتي،  حررتُه من قبضتي وابتعدتُ عنه وأنا متفاجئٌ مما صنعت.

"لن أتعجب بعد الآن".

"ماذا؟ "

أجاب وهو ينهض من الأرض بتثاقل وينظر إلي باحتقار:
"أعني ما فعله أخوك الهمجي..  إن كان أخوه هو أنت فلا عجب بما فعل..  وكيف أتعجب من عديمي التربية..

"اخــرس".

انتفض من صرختي وغادر بخطواتٍ مُسرِعة، غادر لكن كلماته الجارحة بقيت ترن في رأسي،  لوقتٍ طويل.

...
...
...
دخلتُ الشقة لا ألوي على شيء، مُتعبًا من كل شيء.

رأيته جالسًا على الكنبة أمام التلفاز بذهنٍ شارد،  أطفأته،  وجلستُ بجانبه،  لم يرف له جفن،  وبقيت عيناه مسمرتان على التلفاز، غارقًا في عالمه الهش، ربما لم يلحظ دخولي حتى.

قرصتُ خده وأنا أتخيل ما كانت جمانة ستفعله وابتسمت في سري حين تذكرتها محافظًا على هيئتي الجدية، نظر لي بانزعاج حين انتبه لوجودي وهو يفرك خده المُحمَر..

"إذًا!..  إلى متى ستصمت".

تجاهلني، تنهدتُ بتعب،  وقلتُ بنبرةٍ تجلت فيها كل أتعابي:

"أخبرني بكل شيءٍ وأرِحني".

"ليس عندي ما أقوله".

"لماذا تهجمتَ على ماهر أمس؟".

لا إجابــة.

"علينا أن نجد حلــ..

"لا تشغل نفسك..  لا أبالي بذلك"

"أنا أبالي".

كنتُ أعرف أنه يلومني في سره،  لو أنني لم أتدخل في تسرع لما حدث له شيء،  لكنه يخفي لومه ويتظاهر باللا مبالاة،  تمنيتُ لو لامني وغضب مني وصرخ في وجهي، أما بهذا الصمت الذي يتلبسه لن أستطيع فعل شيء.

هم بالذهاب لكني أمسكته من يده وهرب مني الكلام، لم أستطع إلا رمقه بنظرةٍ مترجية كي يتكلم.

"لسـتُ طفـلًا! ".

صرخ بأعلى صوتٍ وهو يحرر يده مني بعنف،  احتقن وجهه وانتفخت أوداجه،  لم أره بهذه الهيئة من قبل،  شد قبضتيه ودمدم والدموع تلمع في عينيه:

"بإمكاني فعل كل شيء بنفسي،  أنتَ تفعل كل شيءٍ ولا تدعني أساعدك..  فدعني أتولى أموري بنفسي".

أدهشني انفعاله،  وكلماته،  تابع وصوته يتهدج:

"ولا تتوقع مني الوقوف ساكنًا عند من يُسيء إليك".

"مـ. ماذا! ".

.....
----------
.....

كان ماهر وأصدقاؤه ينتظرون مرور أمجد من أمامهم وهم يرسمون ابتسامات خبثٍ على وجوههم،  رن جرس نهاية الحصص وانطلق أطفال الصف الأول إلى الخارج مندفعين مثل شلالٍ بعد أن ملوا من جلوسهم الطويل في الفصل،  بعد انقطاع ذلك السرب الطويل،  رأوا أمجد يمشي على مهل في الممر،  صرخ أحدهم:

"ألن تركض مثل بقية الأطفال؟ ".

ضحك البقية، تظاهر ماهر بالاستياء وأسكتهم وهو يذهب لأمجد ويطوق عنقه بذراعه في ودية:

"دعكَ منهم،  إنهم تَواقون للضحك على أي شيء".

لم يخفَ على أمجد أنهم يدبرون مكيدة.

"ماذا تريد! ".

"لماذا تتصنع البرود!  أجزم بأنك مَرِحٌ مثلهم".

وأشار إلى أصدقاءه الذين رسموا ابتساماتٍ بلهاء على وجوههم.

"أعرف أنك ناضجٌ ولست طفلًا، كنا نمازحك في السابق لا أكثر".

كان ماهر أطول بقليلٍ من أمجد، وأكثر نحالةً وشحوبًا، ارتسم شق على حاجبه الأيسر وله أنفٌ مستقيم،  كان وسيمًا لمن يراه أول مرة،  ولكن من يتمعن في ملامحه يجده عاديًا،  وعلى النقيض منه كان أمجد،  من يُمعن في وجهه ينبهر من حُسن تفاصيله،  عينان سوداوان ناعستان،  وشعر بني يصل لرقبته وتتمرد بعض خصله على جبينه،  له أنفٌ دقيقٌ وتُزين وجهه شامةٌ أسفل شفته، كان جماله مثل لوحةٍ فنية،  وكان يمقت جماله لأن الصبية ينعتونه بالفتاة،  فاعتاد تنكيس رأسه كلما مر من أمامهم،  لكن ذلك لم يسلمه منهم ولا لمرة.
حاول إفلات ذراع ماهر الذي شد توثيقه وقال بنبرةٍ تعمد جعلها عالية:

"لمَ العجلة يا صديقي،  أوه!  لا تقل لي أنك تخشى أن يأتي أخوك ويسبب الإحراج لك".

ضحك أصدقاؤه بصخب فعاتبهم:

"لمَ الضحك!  ألم ينهَنا المدرس اليوم عن الضحك على أصدقاءنا! ".

زفر أمجد بسأم،  وقال وهو يزيح يد ماهر باشمئزاز:

"أليس لديكم حياةٌ تعيشونها! ".

رمقهم باحتقار،  واحدًا واحدًا، وهو يمر من أمامهم مُبتعدًا،  لحق به ماهر وأحاط رقبته بذراعه وشده إليه بقوةٍ وهو يضحك.

"لمَ غضبت! ألم تسمع ما قلت؟  لقد صرتَ صديقنا".

"نعم نريد فتاةً صغيرةً في فريقنا".

قهقه البقية.

"هذا يكفي! ".

أسكتهم ماهر وهو يحاول كتم ضحكته،  قال وهو يخفض صوته كي لا يسمعوه:

"دعكَ منهم،  وصِر صديقنا،  نحن ظريفون كما تعلم".

"ابتعد عني".

قال بنفاد صبر،  فرفع ماهر حاجبه الأيسر.

"لا عليكَ من ذلك المعتوه،  سنلقنه درسًا أنا والرفاق إن أردت كي لا يزعجك".

"مَن..  تقصد بالمعتوه؟ ".

ازداد علو حاجبه وقال وهو يرسم على شفتيه ابتسامةً خبيثة:

"ومَن غيره،  أخوك المغفل،  إنه يعاملك كطفل ليفرض سيطرته عليــ..

بُتِرت كلمته الأخيرة إذ وجد نفسه مُلقى أرضًا على ظهره،  ويدا أمجد تنقضان على وجهه، كان أصدقاؤه واقفون في ذهول غير قادرين على فعل شيء،  حاول إبعاد أصابع أمجد التي حفرها على خديه دون جدوى،  فشد قبضته ولكم وجه أمجد بكل ما تبقى له من قوة.

"ستندم على هذا أيها الحقير".

صرخ بملئ صوته وهو يقف بصعوبة وانتفض أصدقاؤه الذين لم يجرؤوا على الاقتراب من صديقهم الثائر،  وقف أمجد بهدوء وحمل حقيبته وغادر المبنى.
.....
----------------
.....
"لم يكن عليك فعل ذلك".

"لم أتمالك نفسي".

تذكرتُ هيجاني على فراس قبل قليل، لم تكن دوافعنا مختلفة كثيرًا،  أنا آخر من عليه لومه على ما فعل.

"في الميتم.. وفي بيت العم صالح.. وهُنا.. أنتَ تقوم بكل شيء.. وأنا لم أقُم إلا بإقلاقك علي.. لم أُرِد إقلاقك أكثر. ".

مسح دموعه التي تمردت بعنف،  وأنا أنظر إليه مندهشًا،  كان يحمل هذا العبء على عاتقه طوال الوقت.

صمته،  لا مبالاته،  وحتى ابتعاده المتعمد عني،  كان لئلا يُقحمني في مشاكله.

"لن أتعبك معي أكثر من هذا..  أنا أخطأت وسأتحمل خطئي..  سأعتذر من ماهر..  بعدها.. سأنكب على دراستي..  سأجتهد..  وسأعمل حين أكبر..  سأساعدك... لن أبقى خلفك..  سأمضي معك كتفًا بكتف..  لن أبارح جانبك.. ".

مر وقتٌ طويلٌ لم يتكلم فيه بهذا الاسترسال، لا، ربما لم يتكلم هكذا من قبل، راقب رد فعلي بعينيه المتوقدتين إصرارًا،  عينان لا تتقبلا الرفض،  محمرتان من أثر الدموع التي ذرفها لتوه قبل أن يستجمع صوته ويقول ما قال.

وأنا أنظر إليه،  فكرتُ إلى أي قدرٍ كبر ذلك الطفل دون أن ألحظ.

تذكرتُ تلك الليلة السحيقة،  التي ادلهمت سماؤها بالغيم وانصب فيها المطر مدرارًا بغير انقطاع.

الليلة الأخيرة لأمي،  والأولى لأخي.

لم أملك الوقت لأحزن على رحيل والدتي،  لم أملك الوقت للبكاء والعويل، لقد فهمتُ يومها أن حياةً ثمينةً وُضِعَت على عاتقي، بكلماتٍ قالتها أروى عمة والدتي،  التي أمسكت كتفيّ وأفهمتني أنني صرتُ أخًا كبيرًا ومسؤولًا عن حياةٍ عهِدت أمي بها لي،  فجُبِلتُ على تلك الحقيقة.

خلعتُ رداء طفولتي وألبستُه لأخي، كبرتُ أعوامًا كثيرةً في أيامٍ قليلة، ونسيتُ أني كنتُ طفل.

أنا أخٌ كبيرٌ كما تقول أروى،  وعلي أن أدفع كل العقبات عن طريق أخي الصغير،  علي أن أمهد سُبُل الحياة له،  كي لا يتعثر في سَيره،  فهو ذلك الطفل الذي بالكاد يمشي بقدميه الصغيرتين،  الطفل الذي يقول كلما رآني "ما" محاولًا لفظ اسمي، الطفل الذي يتشبث بي أينما ذهبت،  الذي يبكي ويركل الأرض بقدميه حين أحاول إنزاله ليمشي،  ومثلما نسيتُ أن أبكي تلك الليلة، ونسيتُ أنني كنتُ طفلًا،  نسيتُ أن الأطفال يكبرون.

لفرط حرصي،  وقلقي،  عاملتُه كطفلٍ رضيع،  فآذيته دون أن أشعر،  أصابت جمانة في قولها بأنني أفرِط في العناية به،  لم أفهم ما عنَته حينها،  كيف يكون حرصنا على من نحب إفراطًا!  لم يكن فهم ذلك سهلًا لي.

"مروان!  هل تبكي؟ ".

لم أشعر أن خديّ كانا مبللين،  مسحتهما وأنا أحاول الابتسام،  أحاول الاتزان،  أحاول التماسك،  دون جدوى.
شعرتُ بشيءٍ دافئٍ يندفع نحوي،  أمجد يحتضنني،  غامرًا رأسه في صدري.

"لا تتألم وحدك..  دعني أقاسمكَ أتعابك..".

قال بصوت من يوشِك على البكاء،  بعثرتُ شعره بيدي وأنا أقول بحزن:

"أخشى عليكَ من الحياة.. ".

"إن بقيتَ تردد ذلك فلن أكبر أبدًا.. ".

"آسف... ".

"غبي! ".

"كفاكَ بكاءً...  بللتَ قميصي.. " قلتُ بلطف.

"أنتَ من يبكي..  لا أنا.. ".

ربما،  كلانا كان يبكي،  ابتعد عني وهو يمسح آثار بكاءه،  نظرنا إلى بعضنا،  وبعد لحظاتٍ من الصمت..  ضحِكنا كما لم نضحك من قبل.

"أنظر إلى وجهك! ".

قال وهو يقهقه.

"ليس أتعس من وجهك.. ".

ضحكنا، دافعين آلامنا بعيدًا، متى ضحكنا هكذا معًا آخر مرة! لم تُسعفني ذاكرتي بالجواب.

"ثمة شيءٌ لم أخبركَ به". قال بعد لحظات..
"ما هو؟".

"أمس..  قبل عراكي مع ماهر،  كنتُ عند المدير،  قال لي أنه سيُخضعني لاختبارٍ كي أنتقل مباشرةً للصف الرابع،  إذ أشاد مدرسيّ بي عنده.. ".

ابتهجت،  سيكون لديه فرصةٌ ليدرس في الصف الذي يُفترض أن يكون فيه،  لن يصبح لدى ماهر
أسبابًا للسخرية منه.

"لكن... ".

قال فجأة.

"بعد تلك الحادثة،  قد أُمنع من خوض الاختبار ..".
"لن نسمح بذلك..  هذه فرصةٌ عظيمة.. ".

اندفعت الكلمات مني دون شعور.

"خشيتُ أن أخبرك فتُقحم نفسك في المتاعب.. ".

"أترك ذلك لي!"

"ما الذي ستفعله؟".

سأل بتوجس،  فأجبت وأنا أنتقي كلماتي:

"أعدك بأنك ستخوض الاختبار وسينسى ماهر أمرك".

حلّ الليل، بعد خوضنا نقاشًا طويلًا ظفرتُ به في النهاية،  أقنعتُه بألا يذهب للمدرسة غدًا،  وبأن كل شيءٍ سيعود لنصابه، ورَدءًا لاعتراضه، وعدتُه أنها آخر مرةٍ سأتدخل فيها،  فوافق على مضض.
غادرتُ الشقة بخطى مترددة،  وطرقتُ باب الشقة التي ينتهي إليها الرواق.
فتح الباب صبي في السابعة أو الثامنة.
انحنيتُ لأبلغ قامته وقبل أن تخرج الكلمات من فمي وصلتني كلماتٌ قادمةٌ من خلف الصبي:

"أدخل يا سامر".

رمقني الصغير بنظرة متوجسة وتراجع ممتثلًا لأمر أخيه.
اقترب هذا الأخير واتكأ بساعده على حافة الباب وهو يتلفظ بطرف لسانه:

"ما الذي جاء بك! ".

ابتسمتُ بسخرية وأنا أردد كلماته في الظهيرة:

"ظننتُ أننا صديقان..".

رفع حاجبًا وحدقّ فيّ بتساؤل، ثم تمتم بسخريةٍ مُشابهة:

"صحّح ظنونك".

حاولتُ المحافظة على أعصابي وأنا أطرد الكلمات الجارحة التي رماني بها آنفًا.

"لقد تعادلنا..  لنتصالح".

تقدم وأغلق الباب خلفه.

"ماذا تريد".

بيّنت لي نبرته أنه لن يتقبل المقدمات لذا قلتُ بتصميم وأنا أنظر لعينيه:

"ماهر..  لنَنل منه".

..
...
....


آراءكم وتوقعاتكم للفصول القادمة.. 💜
تعليقاتكم الجميلة تدفعني للاستمرار.💜💜
سأحرص على تنزيل الفصول كل خميس بدءًا من اليوم..  ❤️❤️

Continua llegint

You'll Also Like

122K 8.4K 68
-"انت لست ابني ولا أنا أمك! أنا أتبرأ منك" -" انت لست ابنتي، أتبرأ منك" هذه امثله عن ما دفع بعض الأفراد وخاصة شباب انهم يمشون على الارض بلا هدف، وأكث...
451K 13.9K 32
فتيـات جميلات وليالــي حمـراء وموسيقـى صاخبة يتبعهـا آثار في الجسـد والـروح واجسـاد متهالكـة في النهـار! عـن رجـال تركوا خلفهم مبادئهم وكراماتهم وأنس...
1M 66.2K 104
" فرحات عبد الرحمن" شاب يعمل وكيل نيابة ويعاني من مرض اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع مع ارتباط وثيق باضطراب النرجسية مما يجعله ينقاد نحو كل شيء معاك...
2.5K 179 13
إهداء : لكل نفسًا بقيت صامدة وتملؤها القوة .