....
صوت خطوات ثابتة اكتسح الهدوء المستوطن للرواق ذو الألوان الباهتة؛ خطوات تعود لشاب أشقر يحمل جبلا من الأوراق ويتذمر من كثرتها، يمتلك عيونا خضراء قاتمة ووجنتان محددتان صحبة أنف امتاز بضغط طفيف في جزئه الأوسط.
فتح الباب بقدمه ودلف المكتب فوجده هادئا بشكل مريب ليعكر ما بين حاجبيه وبحث بناظريه عن شخص محدد، وحين التفت للخلف صرخ بتفاجؤ وتراجع للوراء بخطوات سريعة.
-أندرياس! توقف عن فعل ذلك أيها الوغد!
خرج من الظلمة شاب ميزته خصلاته الداكنة واقترب من الأشقر ليتراجع هذا الأخير بريبة وحثه على الابتعاد بعصبية.
-ما خطبك بحق الله؟
-هنري! أنا في ورطة! ورطة كبيرة.
دور المدعو هنري عيناه باستخفاف ووضع الأوراق على المكتب متمتما بدون أي اهتمام.
-ما الذي افتعلته هاته المرة؟ قتل خطف تعذيب...
-أسوأ! سوف أتزوج!
لم تبدو أي علامات على التفاجؤ أو الاكثرات حتى على تعابير الأشقر إنما أتم ما يقوم به ورغب في الذهاب ليمسك الآخر ياقة قميصه من الخلف قائلا بعيون ضيقة.
-أنت عليك مساعدتي على التخلص من هاته الورطة، أنا وكلمة زواج لا نجتمع في جملة واحدة.
-بلى ممكن مثلا أندرياس يستحيل أن يتزوج؛ أرأيت؟
-بحقك تعرف مقصدي.
عقد هنري ساعديه بضجر بعدما تنهد بقلة حيلة ونطق غير مبال.
-ما المطلوب مني إذا؟
-جد حلا.
أمره بنظرة متعالية ليرمقه الآخر بغيظ وهز كتفيه بمعنى أنه لا يملك فكرة معينة، صمت أندرياس لبرهة يفكر في أمر ما سرعان ما لمعت فكرة لامعة في عقله.
-أعلم ما يتوجب علينا فعله.
.
كان ادوارد جالسا خلف مكتبه الخاص بملامح مكفهرة مقابله ابنه أندرياس الذي وضع نظرة مستمتعة تماما، تنهد والده بضيق قابضا يده بقوة وفتح فاهه بنبرة جافة.
-إذا أتقول أنك اكتشفت قبل دقائق فقط أنك تمتلك ميولا مختلفة عن الفطرة الطبيعية؟
-نعم بالضبط.
-وقد علمت هذا بسبب هنري.
-صحيح! أي أنني لن أكون قادرا كما تعلم على الزواج أو جلب خليفة ..مع الآسف أبي.
نطق بنبرة متأسفة مبرزا شفته في حين لم يغير ادوارد من تعابيره الجامدة شيئا، بلل شفته بحنق مكبوت مغمضا عيناه بقلة صبر سرعان ما زمجر في سخط واضح.
-يا حراس!
تزامنا مع صراخه دلف اثنان منهم لتتوسع حدقتا أندرياس في صدمة لغضبه السريع عكس العادة بينما ادوارد تابع بنبرة حادة ولهجة آمرة مشيرا له.
-خذاه للسجن الانفرادي ولا تسمحا لأحد برؤيته مهما كان حتى أقرر الإفراج عنه.
أمسكا بأندرياس الذي رمق والده بغير تصديق بعدما قاله توا وسحباه للخارج بينما هو يصيح بقوة ويتخبط رافضا.
-لا ليس مجددا ..لقد عدت مستقيما! عدت مستقيما! يمكنني إثبات ذل...
استرخى ادوارد للخلف محاولا تهدئة ذاته حين اختفى صوت صياحه المزعج ثم حدق للسقف مطولا بأعين غائرة وفي عقله تدور عدة أفكار غير مريحة، زفر بعمق وغمغم باستياء بالغ.
-أتمنى حقا أن تحدث معجزة تغير شخصية هذا الفتى للأفضل.
تم أخذ أندرياس بالفعل للسجون السفلية بحيث وُضع بمفرده في مكان مقفر ومقرف وبالتأكيد بأصفاد سحرية تكبت قواه.
كان منسدحا على الأرض ويحدق للسقف بنظرات حادة حتى سمع ضجة بجانبه فاستقام ليعرف السبب، ثواني قليلة من الانتظار لتظهر فتاة شقراء بعيون خضراء غاضبة وملامح متجهمة.
كتم أندرياس ضحكته لبرهة سرعان ما أردف بسخرية لاذعة مقهقها بصخب.
-يا إلهي هنري! كم أصبحت جميلا بشكل الفتيات.
عاد هنري لشاكلته الحقيقية ورمى له المفتاح قائلا بسخط جلي
-هاته آخر مرة أساعدك بها أيها البائس لقد اضطررت للتنكر بهيئة فتاة حتى أخدع هؤلاء الحرس وأخدرهم كي أدخل هنا! كرامتي ضاعت بسببك.
أخذ أندرياس المفتاح وحرر نفسه من الأصفاد غير آبه لما ينطق به الأشقر الذي لازال يتذمر بحنق جم.
-إضافة لقد أصبح الجميع يعتقدونني شاذا بسبب كذبتك الغبية أيها الوغد لقد دمرت سمعتي كليا!
فتح أندرياس الباب بسهولة وخرج راكضا متجاهلا تذمرات هنري الذي ركل الأرض بعصبية مطالبا إياه بتنظيف سمعته التي لطخها بكذبه.
وأكيد فهو لم يظل بالقصر لكونه يعلم جيدا أنه سيعود للسجن شاء أم أبى، لذلك فر مبتعدا حتى وجد نفسه أمام إحدى البوابات المنفتحة على عوالم أخرى مما جعل فكرة أخرى تطأ ذهنه.
وقبل أن يضع رجله ليعبر للعالم الآخر سمع صوتا مهتزا يحذره
-هل تعلم حتى إلى أين ستذهب؟
استدار بتفاجؤ ليرتفع حاجباه بدهشة من هوية الشخص وصاح متعجبا.
-هاينريهي! يا صاح لقد أصبحت أبشع!
تلقى ضربة على مؤخرة رأسه جعلته يعتذر مرغما ليتحدث هاينريهي مشيرا للبوابة الشبيهة لثقب أسود بنبرة صوته الرزينة.
-هل تريد الذهاب لرؤية الفتاة المنشودة؟
-ولمَ سأفعل ذلك؟
-لا تجبني بسؤال.
-بما سأجيبك؟
قهقه هاينريهي بخفة بينما أندرياس يبحلق صوبه بنظرة مغتاظة فقد أراد إزعاجه لكن الوضع انقلب عليه، تنهد المسن وتمتم بهدوء بعدها.
-تلك الفتاة تعيش ببلد يدعى ألمانيا بالضبط برلين، رائحة دمها مختلفة عن البقية ومميزة جدا، تمتلك عيون عسلية وشعرا بنيا فاتحا.
-لِمَ تخبرني بهذ...
صرخ بتفاجؤ دون إتمام جملته حين دفعه هاينريهي داخل البوابة حتى ابتلعت جسده متمنيا له رحلة سعيدة بينما يلوح بيده بابتسامة راضية تماما.
في الضفة الأخرى حيث أرسل هاينريهي أندرياس، كانت آيلا قد انتهت للتو من يومها الدراسي المرهق والكئيب بالنسبة لها، خطت خارج أبواب الثانوية ووقفت في الساحة لتحدق حولها باستياء ثم زفرت بيأس بالغ قائلة بنبرة وهنة.
-حسنا ما السيء في الوحدة؟ ربما أفضل لي البقاء بمفردي.
سارت في الاتجاه المعاكس لمنزلها لوجهة غير محددة، فقط رغبت في المشي لوقت طويل دون الحاجة للقلق بخصوص أي شيء.
ركلت الصخرة أمامها بضجر ثم رفعت بصرها للسماء لتتفاجأ من أن قرص الشمس أوشك على المغيب ولم تلحظ ذلك لشرودها الشديد وعدم اهتمامها بمحيطها.
نظرت حولها فيما بعد ليشحب لونها في هلع وصاحت غير مصدقة
-يا ويلي! لقد ضعت!
بحثت بناظريها عن شخص ما لتسأله عن اسم هذا المكان على الأقل فوجدت فقط شخصا كان يمشي بملامح غاضبة، امتلك خصلا سوداء داكنة كحال أعينه الحادة.
مر من جانبها في حين يلعن شخصا بصوت عال لكنه تصنم لوهلة، أحست آيلا بالتوتر لرد فعله الغريب وتحديقاته المطولة سرعان ما صرخ بسخط مشيرا لها وكأنها لصة.
-أنتِ هي محطمة حياتي الهانئة!
توسعت حدقتاها بدهشة وتراجعت للخلف بهلع غير مستوعبة ما يقصد ثم باشرت الركض بأقصى سرعتها ظانة أنه مختل يود قتلها، وأندرياس بدوره تفاجأ بداية غير أنه لحق بها مطالبا إياها بالتوقف مكانها.
نعم أول لقاء بين الاثنين تحول لمطاردة شائكة، المشكلة أن أحدهما لا يعلم لما يهرب والثاني لا يعلم لما يلاحقها حتى.
....
الفصل 2 عُدّل✅