جَنَانٌ مِنْ وَرَقٍ.

By tomo_tomato

695 35 220

-"مَاذَا إنْ كَانَتْ قُلُوبُنَا لِشِدَةِ هَشَاشَتِهَا وَرقًا، فَتُصْبِحُ أَفْئدَةً مَا أَنْ تَلِجَهَا لُجَّةٌ... More

جَنَانٌ مِنْ وَرَقٍ | 1.

690 35 220
By tomo_tomato

قُرصُ عَينيهِ المُزَوَّقَتَانِ بِالزُمُرُدِ أفْرَسَتَا الخَواءَ سبِيلًا، بَينما شِفَاههُ المُطْبَقَةُ بدَأت بالنُزُوحِ عَن بَعضِها، فَتتَرَنَم أذناهُ بمسمعِ صوتهِ:
-"أَلْوَانُ الْلَّيْلَكِ، الزَّهْرِ الْمُخْمَلِي، الْأَسْتَلِيبِ، وَزَهْرَةُ فِيرِيسْيَا نَاصِعَةُ البَياضِ."

زَمّ شَفَتيهِ الدَّامِيتينِ مَا أنْ أَعْرَبَ، ثُمَ ألُقَى زُجَاجَةَ البِيرةِ التي جَابَ شَذاهَا الغُرفَةَ. العَبَرَاتُ اِقتصَتْ مِنهُ، شَذُورُ الزُّجاجِ المُتناثِرِ كالنُّجومِ، رَائِحَةُ البِيرَّةِ التي تُداعِبُ لُبَهُ، سَنَا القَمَرِ الخافِتُ المُتَسللُ عَبْرَ زُجاجِ النَّافِذَةِ وَسَطَ السَّدَفِ، وَسِكِيرٌ يَتَرَنَحُ حَتَى غَلَبَهُ الوَسَنُ؛ تِلْكَ الطُّقوسُ المُتَرَتِبَةُ عَن هَفوَتهِ الرَّابِعةِ خِلالَ الأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ المُنصَرِمَةِ، وَلَيْسَتْ بِشيءٍ إسْتِثنائِيٍ يَجْدُرُ لِلْمرء ذِكْرُهُ.

أَطْلَقَ تَنْهِيدَةً خافتةً مليئَةٌ بالثَّقَلِ من سِجنِ شَفتيهِ الكامِدَتينِ، عَيْنَاهُ كالشَّظَايَا البَراقَة، يُحَدِقُ فِي مُحِيطِهِ المُشَوَش كَمُهجَتهِ؛ رَدَدَ بِغَصَةٍ تَعْتَنِقُ نَبْرَتَهُ السَّاحِرَة وَدُمُوعٍ تَشُقُ مَسْلَكًا عَلى وَجنتَيهِ:
-"أَتَمَنَى لَوْ أَنَ كُلَ ضَعْفِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ مخفِي، لَقَدْ نَمَتْ وَرْدَةٌ لَا تَسْتَطيعُ أَنْ تُزْهِرَ فِي حُلُمٍ لَنْ يَتَحَقَقْ..."¹

صَدَحتْ تَرنِيماتهُ، تَغَنَى السِّكيرُ وَسَطَ فُؤادِهِ المُحَطَم، لَرُبَما إجْتَرَحَ فِي حقِ زَهْرَةِ فِيرِيسْيَا جُرْمًا، إلَا أنَ عَتَبَها عليهِ أَلِيمٌ. تَرَنَمَ وَهَزِجَ بِشَجَنٍ، حَتَى أُطْبِقَتْ جُفُونهُ؛ الآنَ اِنْقَضَتْ لَيْلَتهُ العَسيرةُ الأُولَى!

تَنْقَضِي السَّاعَاتُ وَتَدُورُ العَقارِبُ مُصَافِحَةً أَرْقَامَ السَّاعةِ الرُّومَانِيَةِ، والآنَ قَرَرَ أصغَرُ عَائلَةِ العَقارِبِ أَنْ يَحُطَ عَلَى رَقْمِ ثَمَانِيَة؛ أَمَا سِكيرُنَا الوَلْهَانُ فَقَدْ اِعتنقهُ السُّهَادُ حَتَى اللَحْظَةِ...

وَفِي حِينٍ سَادَ الصَمتُ فِيهِ تلكَ الغُرْفَةِ، فُتِحَتْ عَيْنَاهُ عَلَى مَصْرَاعَيْهِمَا، بَقِيَ فِي سُكونٍ وَثَباتٍ لِثَوانٍ مَعْدُودَاتْ؛ وَحِينَما اِستعادَ وَعْيَهُ نَهَضَ بَدَنُهُ. أَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا وَأَفْرَسَ الأَرْجَاءَ؛ عَبَقُ البِيرَةِ ذَاتُهُ، الشَّظايَا المُتَنَاثِرَةُ كَوَدَقٍ مِنْ بَرِيقٍ، وَفؤادُهُ المُهَشَمْ؛ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُلُمًا. لَقَدْ أَحَسَ بِمَرَارَةٍ تَعْتَنِقُ حَلْقَهُ، كَأَنَما أرَاد أحدُهُم قَمْعَهُ، فَتَحِنُ جَوَارحهُ لماضٍ ألِيم وَتَتَعَثَرُ هَواجِسُهُ بَينَ كُتيبِ الذِكرياتِ القَدِيمِ!

هَطَلَتْ أَمْطَارُ عَيْنَيهِ، وَسَطَ النُّورِ المُنْبَعثِ مِنَ النَّافِذَة وَمُهْجَتِهِ المُهَشَمَةِ، الباهتةِ بلمعانٍ كَشِهابٍ سَاقِطْ! أحَسَ بِرُوحِهِ تَهْفُو، فُؤادهُ تَلَذذَ بِخِذْلَانٍ أَلِيمٍ، وَعُيُونهُ جَالَتْ فِي الخَواءِ. أَمَا لِحُسْنِ ما يَمْتَلِكهُ مِنْ حَظٍ، فَصَدمتهُ تزامَنَتْ مَعَ إجَازَتهِ. حَدقَ بالسَّاعةِ المعانقةِ للحَائطْ، أَطْلَقَ تنهيدَةً ثَكْلَى، وَنَقَشَ بَسمةً مُثقَلَةً بشيءٍ من الوَجَعِ. كَيَانهُ تَلَبَد بسدفِ الخطِيئةِ وَنَحتٍ لِتكدساتِ الشَّجَنِ.

فِي مَحَطاتِ الوهنِ التي تصادِفُ سِكَةَ حياتهِ المُفعَمة بالأحْداثِ العابِرة، كَانَ يَلْجَأُ إلَى أَنِيسَتهِ الدَّائمةِ، البُرْعمُ وَسَطَ زهرٍ ذابِل. كَانَت "إيڤ" شِهَابَ الصَّباحِ لهُ، كَانَتْ جُزءًا لَا يَنْفَكُ عنْ رُوحهِ ومَلاذهُ. ولِأولِ مرةٍ بِصحبةِ إيڤ، شَعُرَ "إيڤان" بالأمان ناحيةَ العَلَاقاتِ الرَّقمية. اِنْتَشَل هاتفهُ المحمولَ من بَيْنِ ثُلَّةِ الزُجاجِ. دَقَتْ أصابعهُ مناشِدَةً الشَّاشة، وَلَجت نغمةُ إرسالٍ خفيفةٍ الأرجاءَ، كتبَ:
"أنّى لِمشاعِرِنا الهَشّةِ أَنْ تَكُونَ كَالأَحَاجِي؟ وَكَيفَ لَها أنْ تَستتِرَ هَكذَا وَهِيَ جَلِّيةٌ؟"

وَفِي الجِهَةِ الأُخرى مِن الهَاتِفْ، قَبَعتْ فَتاةٌ فِي أَهْدَابِها من الطُّولِ مقدارٌ يَسيرْ، وَفِي عَيْنَيها حَطَبٌ نِيرانهُ لا تَخْمِدُ. حَرَكتْ بأنامِلها الرَّقيقةِ خُصَلَاتها المُقتبسةِ لَونًا مِن سماءِ الليلِ، حَتَى حطتْ أبصارُها عَلَى رِسالَتهِ. اِخْتَلَجتْ مهجتهَا أحاسيسٌ جَياشة، رُوحهَا تنتفِضُ لِعبقٍ غيرِ مألوفٍ البَتة. أَعْرَبَتْ تَنهيدةٌ عن حريتِها مِن بينِ شَفتيهَا القِرمزيتينِ، عَزَفتْ أنَامِلُهَا ألحانَ الحَدِيثِ؛ أَرْسلَت:
"إنَ الأحَاسِيسَ يَا رَفِيقِي بَعْثَرةُ كَيانْ، ضَرْبٌ من الجُنونِ، وَهَمْسٌ منْ وَسْوسةِ لَا عَقْلانِيةٍ! فَمَا لَنَا إلَا شكٌ عَقِيمٌ فيهَا!"

دُموعُهُ ترْوِي جَفْنهُ الظَمِآنَ، وَعُيُونهُ الخَاوِيةُ تُحَملِقُ بالشَّاشةِ المُشِعة. قَرَأَ فأحسَ ببَراكِينِ جَوارِحهِ تَخْمِدُ، أَحَسَ بِغَضَبِهِ يَرْكُدُ. أَطْلَقَ العِنَانَ لِأَنَامِلِهُ؛ الفوسفوفيلليت فِي مُقْلَتَيهِ تَوَهَجَ بِبَرِيقٍ رَاكِد. لَقَدْ أَشَعَ بِالضُمُورِ لِوَهْلَةٍ، كَعَنْدَلِيبٍ تَغَنَى بِشَجَنٍ، وَكَزَهْرَةٍ ذَبُلَت فِي حينِ تَفَتُحِهَا. كَتَبَ بِحَذَرٍ بَينَما دُمُوعهُ تتَسلل:
"إنَهَا تَهْتِكُ بِي، تُرْدِينِي طَيّ وَهَنِهَا."

قَرَأتْ وَفِي فَاههَا ضِحْكَةٌ مُنْدَثِرَة؛ لِتَرُدَ بِشيءٍ مِنَ السُّخريةِ تتَوغلُ فِي حَدِيثِهَا:
"لَقَدْ بَهُتَتْ، جِذْعُهَا مَالَ كَقرِينَاتِهَا مِنْ الزُّهُورِ. وَلَرُبَمَا تَسَاقَطَت بَتلاتُهَا لُؤلؤًا فِي مُقلتيهَا."

أمَا فِي الجِهةَ الأخرَى، أشَاحَ بِوَجهه مُعربًا عن الأسَى لِسُخريتِها؛ بَيْنَما اِنتشلَتْ أشجَانهُ بِسْمةٌ مثقلَة تَحْوِي شْكُلًا جَمّة. وَقد كَانَ ذلكَ آخرَ ما يَرتمي بَينَ جُدران ذاكرَته قبلَ إنقضاءِ يومٍ آخرَ رتيب…

الرَّابعُ عَشَرَ مِنْ يَنَايِرْ سَنَةَ ألْفَينِ."
أَفْرَسَت عَيناهُ الزُمُرِدِيتانِ بِوَهَجٍ ذَهَبِي التَّارِيخَ عَلَى أورَاقِ صَحيفَةِ لو فيغارو² اليَومِيَة، لِتَنْتَقِلَا فِي جَولَةٍ بَينَ الأزهارِ المُخملِيةِ عَلَى أطرَافِ المَنازِلِ. لَقدْ مَضى أسبوعٌ عَلَى تَهَشُمِ رُوحِهِ وَتَجرُعِهِ أَذْيَالَ الخَيبةِ.

اِستقرت بَلَابِلهُ عَلى منظرٍ يَعُجُ بالشَّاعِرِيَة، اِمْرَأةٌ نَجلّاءُ الحدقتَيْنِ بِأهْدابٍ سابِغَةٍ، وَشَعْرٍ حريريٍ كَلَيلةٍ مُقمِرَةٍ من أَعالِي إيڤل؛ رُفْقَةَ كهلٍ يُناهِرُ الثَّمانينَ. تَساءلَ فِي خُلدِهِ أنّى لِدافينتشي وفان غوخ تجاهلُ حسنها لَو لَمْ توافهما المنية؟ وأين أشعارُ شكسبير أو ترنيماتُ بيتهوفن وموزارت عنها؟

زمّ شفتيهِ لِوَهْلَةٍ، ثُمَ تَبصَرَ تِلكَ الفاتِنَةَ؛ لِتعيدهُ لِواقعهِ نغماتُ هاتفه. عايَنَ اِسم المُتَصِل، إذ بِهَا إيڤ. نقَشَ بَسمَةً سرْمَدِيَةً على ثَغْرِه. لِيُجِيبَ مُتبَسِمًا كَنَجْمٍ ساطِعٍ، بَينمَا تلكَ الشَّابةُ مَا تَزالُ ماثِلَةً أمَامَ مُقلَتَيهِ:
"مَرْحبًا إيڤ!"

لَقَدْ أحَستْ مُحدِثَتُه بولعٍ يعترِي كَيانَهُ؛ إلَا أَنهَا نَبَسَتْ بِتَوترٍ وَصوتُ اِرْتِجافِهَا يَعلُو نبرَتها الرَّزينة:
"هُنَاكَ فتًى غَرِيبٌ يحدقُ بي مُنذُ مَا يُقارِبُ الرُبع ساعَة مِنْ خلفِ الطبعةِ السادِسةِ والسَّبعينَ لصحيفةِ لو فيغارو،  فِي حَدِيقةِ لوكسمبورغ! يَمتَلِكُ شَعرًا أسحمًا مُلَطَخًا بالْزُرقة، وَعَيْنَينِ مِنَ شُذُورِ القَمَرِ. إيڤان، الهَلعُ يفرِضُ حكمهُ علي، إنَ نَظَراتهِ مُريعة!"

فغرَ فاههُ على أوسعهِ، فَالشَّابةُ أمامهُ تملَكَها ذاتُ الرُّعبِ لوهلةٍ؛ أمَا هُو فَقَدْ اِمتلكَ ذاتَ المواصَفات! حتَى أنهُ يقبعُ الآنَ فِي حديقةِ لوكسمبورغ! أطْلَقَ تنهيدةً من بينِ شفتيهِ المُتشققتينِ، أفَيُجازِفُ وينطقُ بِبنتِ شفةٍ؟ اِزْدَرَدَ رِيقهُ كَقُبطانٍ يوشكُ على التَضحِيةِ بطاقمهِ، اِستقامَ بِحيرَةً. وبعدَ مُضِي ما يُقاربُ الدَّقيقةَ تَوَجهَ ناحِيةَ الشَّابةِ اليافِعة؛ أطلَقَ زَفِيرًا هادِئًا. مدَ كَفَهُ ناحِيَةَ كَتِفِها، نَبهها عَلى وُجودِهِ بسَكينةٍ وَ إرتِباك بَينَما نجمَ هلعٌ فِي أوصالِها، ترنَمتْ نغماتُ حديثها نَاحِية الهاتِف؛ تَلفَظت بِذُعرٍ يَجتاحُ وُجدانيتَها وصوتٍ شبهِ مسموعٍ:
"إيڤانْ!"

نَبَسَ الشَّابُ قُربَهَا بِهُدوءٍ منْ خلالِ سَمَاعَةِ هَاتِفهِ، مَاثِلٌ أَمَامَها بِعينينِ تَحْوِيَانِ نَيَازِكًا وَسُدُمًا، بعينينِ مُقتطفتَينِ مِنْ بُسْتَانِ السَّمَاءِ:
"نَعَمْ، إيڤْ."

تَوَسَعَتْ مُقْلَتَاهَا المُشَرَبَتَينِ بِقَتامِ الدُجَى، أَحَسَتْ بِكَيَانِهَا يَرْنُو إلَى عنانِ الغُيُومِ، مُهجَتُهَا اِقتَرَنَتْ بِبَغشَةٍ فِي خِضَمِ الفَضاءِ الوَسِيعِ. وَأخِيرًا، فُلُكُ نَجْوَاهِمَا رَسَتْ عَلَى ضِفَةِ الطرِيقِ اللَبَنِي³!

-إنْتَهَى، يُتَبَع.
مهداة لـ -Blhun
¹ مقطع من أغنية fake love لفرقة bts، مترجم.
² صحيفة لو فيغارو: صحيفة يوميةفرنسية ليبيرالية محافظة، يتم تحريرها في باريس، تعتبر إلى جانب صحيفة لوموند الفرنسية أحد أهم صحف الرأي الفرنسية.[1][2][3] تأسست في 15 يناير1826. (منقول عن ويكيبيديا).
³ الطريق اللبني: اِسم آخر لِمجرة درب التبانة، المجرة التي تنتمي لها الشمس والكواكب. تشتمل مجرة درب التبانة على مئات البلايين من النجوم، وتنتشر سحابات هائلة من ذرات التراب والغازات في شتى أطراف المجرة. تحوي ما بين 200 إلى 400 مليار نجم؛ ففي الليالي المظلمة الصافية، يظهر درب التبانة على شكل حزمة لبنية عريضة من ضوء النجوم تمتد عبر السماء. (منقول عن ويكيبيديا).

Continue Reading

You'll Also Like

239K 15.4K 37
" نُمَجِدُ القَمَرَ لجَمَالِه وَ نَسْحِرُ بِهِ أَعْيُننَا وهُو لَيسَ إلا إنعِكَاسًا لِضَوءِ الشمسِ وَسَطَ العتَمةِ.. ...
390K 14.8K 55
Bibaline⚫🖤 جماعة لي ينقلو الفايس و الانسطا و لا يقولو لقيناها في ڨوقل اي ممنوع النقل منعا باتا لانها سرقة و ممنوع نقل أي فكرة من القصة هدي لاني تع...
23.7K 1.7K 24
ارجوك........لا ملجأ لي غيرك سيدي........ هل تريدني أن اصفعك؟.......يدك عني!!!!....... سيدي اتركني عندك و سأكون خادماً لك....... ارجوك لا تتركني لهم...
243K 7.8K 40
اسكريبتات قصص قصيره متنوعه بقلمي روني محمد