القرآن_محاولة لفهم العصري" للدكتور مصطفى محمود

المعمار القرآني

المعمار القرآني

و كان أول لقاء لي مع القرآن و أنا في الرابعة من العمر طفلا أجلس في صف بین عدة صفوف
في كتاب الشیخ ( محمود ) أحملق في بلاھة إلى سبورة و إلى مؤشر یتحرك في ید الشیخ على
كلمات منقوشة بالطباشیر و ھو یتلو.. (( و الضحى و اللیل إذا سجى )).. فنردد خلفھ في آلیة.. ((
و الضحى و اللیل إذا سجى )).. لا نفھم من الكلام حرفا.. و لا نعلم ما الضحى و لا كیف سجى..
و لكننا نردد مجرد مقاطع و مخارج حروف.

و كان عقلي آنذاك صفحة بیضاء نقیة لم یكتب علیھا شيء، و لم تتلق تأثیرا تربوبا خاصا، فقد
نشأت في أسرة كل فرد فیھا متروك لحالھ.. یحب ما یحب، و یكره ما یكره، و یلعب حتى یشبع
لعبا، و أذكر أني رسبت في السنة الأولى ثلاث سنوات دون أن أتلقى تعنیفا.. و كان الصفر بالقلم
الأحمر یزین كل صفحة من كراساتي مرة بعد مرة فلا یثیر إلا الضحك. و كانوا إذا سألوني ماذا
أخذت الیوم، كنت أقول اختصارا للمھزلة و حتى لا أعود إلى شرح حكایة الصفر الیومي التي
أصبحت بالنسبة لي مملة.. كنت أقول.. زي العادة.. و كانوا یضحكون.

ھكذا كانت تجري الأمور في بیتنا، لا إرغام على مذاكرة و لا قھر على تدین.. و إنما لكل حیاتھ..
و على كل تبعتھ.

لم نعرف غسیل المخ الذي عرفھ كثیر من الأطفال في أسر متزمتة تحشر العلم و الدین حشرا في
عقول أطفالھا بالكرباج و العصا.

كنت إذن أتلقى أول عبارة من القرآن بذھن أبیض تماما و دون تأثیر مسبق مثلما أتلقى دروس
الحساب و الجغرافیا و الإنشاء.

و كما بھرتني حكایة الكرة الأرضیة المدورة و القارات كالجزر سابحة فیھا، و كما بھرتني
حكایة القمر یدور حول الأرض، و الأرض حول الشمس.. و الكل معلق في السماء، كذلك فعل
بي القرآن شیئا.

و أحار في وصف الشعور الذي تلقیت بھ أول عبارة من القرآن.

و لا أجد الكلمات لتشرح ھذا النوع من الاستقبال النفسي الغامض.. و كیف كانت الكلمات تعود
من تلقاء نفسھا فتراود سمعي و ذاكرتي و أنا وحدي فأراني أردد بلا صوت.. (( و الضحى و
اللیل إذا سجى )).

و تقتحم علي العبارة القرآنیة سكون طفولتي فأتذكر في ظلام اللیل إلقاء الشیخ و ھو یردد: (( و
جاء من أقصى المدینة رجلٌ یسعى )).

تسعى العبارة إلى خیالي و كأنھا مخلوق حي مستقل لھ حیاتھ الخاصة.

و قطعا أنا لم أكن أعلم ما الضحى و لا كیف سجى اللیل.. و لا من ھو الرجل الذي جاء من
أقصى المدینة یسعى. 
و لعل المقاطع كانت تتردد في سمعي أشبھ بمقاطع سلم موسیقي.. ( صول لا سي دو ري مي فا
).. مجرد حروف لا معنى لھا و لا وقع سوى مدلولھا الموسیقي.. مجرد نغم و مازورات
موسیقیة و إیقاع یطرب الوجدان.

نعم.. لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعیدة دون أن أدري حكایة الموسیقى الداخلیة الباطنة في
العبارة القرآنیة.

و ھذا سر من أعمق الأسرار في التركیب القرآني.. إنھ لیس بالشعر و لا بالنثر و لا بالكلام
المسجوع.. و إنما ھو معمار خاص من الألفاظ صفت بطریقة تكشف عن الموسیقى الباطنة فیھا.

و فرق كبیر بین الموسیقى الباطنة و الموسیقى الظاھرة.

و كمثل نأخذ بیتا لشاعر مثل ( عمر بن أبي ربیعة ) اشتھر بالموسیقى في شعره.. البیت الذي
ینشد فیھ:

قال لي صاحبي لیعلم ما بي أتحب القتول أخت الرباب

أنت تسمع و تطرب و تھتز على الموسیقى.. و لكن الموسیقى ھنا خارجیة صنعھا الشاعر
بتشطیر الكلام في أشطار متساویة ثم تقفیل كل عبارة تقفیلا واحدا على الباء الممدودة.

الموسیقى تصل إلى أذنك من خارج العبارة و لیس من داخلھا. من التقفیلات ( القافیة ).. و من
البحر و الوزن.. أما حینما تتلو:

(( وَالضُّحَى (١) وَاللَّیْلِ إِذَا سَجَى (٢) )) [ الضحى ]

فأنت أمام شطرة واحدة.. و ھي بالتالي تخلو من التقفیة و الوزن و التشطیر، و مع ذلك
فالموسیقى تقطر من كل حرف فیھا.. من أین ؟ و كیف ؟

ھذه ھي الموسیقى الداخلیة.

الموسیقى الباطنة.

سر من أسرار المعمار القرآني لا یشاركھ فیھ أي تركیب أدبي.

و كذلك حینما تقول:

(( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) )) [ طھ ]

و حینما تتلو كلمات زكریا لربھ:

(( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَھَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَیْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِیا (٤) )) [ مریم ] أو كلمة االله لموسى:

(( إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِیَةٌ أَكَادُ أُخْفِیھَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥) )) [ طھ ]

أو كلمتھ تعالى و ھو یتوعد المجرمین:

((إِنَّھُ مَن یَأْتِ رَبَّھُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَھُ جَھَنَّمَ لَا یَمُوتُ فِیھَا وَلَا یَحْیى (٧٤) )) [ طھ ]

كل عبارة بنیان موسیقي قائم بذاتھ تنبع فیھ الموسیقى من داخل الكلمات و من ورائھا و من بینھا
بطریقة محیرة لا تدري كیف تتم.

و حینما یروي القرآن حكایة موسى بذلك الأسلوب ( السیمفوني ) المذھل:

(( وَلَقَدْ أَوْحَیْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَھُمْ طَرِیقًا فِي الْبَحْرِ یَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا
تَخْشَى (٧٧) فَأَتْبَعَھُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِیَھُم مِّنَ الْیَمِّ مَا غَشِیَھُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَھُ وَمَا
ھَدَى (٧٩) )) [ طھ ]

كلمات في غایة الرقة مثل (( یبساً )) أو لا تخاف (( دركاً )) بمعنى لا تخاف إدراكاً.

إن الكلمات تذوب في ید خالقھا و تصطف و تتراص في معمار و رصف موسیقي فرید ھو نسیج
وحده بین كل ما كتب بالعربیة سابقا و لاحقا.

لا شبھ بینھ و بین الشعر الجاھلي، و لا بینھ و بین الشعر و النثر المتأخر، و لا محاولة واحدة
للتقلید حفظھا لنا التاریخ برغم كثرة الأعداء الذین أرادوا الكید للقرآن.

في كل ھذا الزحام تبرز العبارة القرآنیة منفردة بخصائصھا تماما.. و كأنھا ظاھرة بلا تبریر و لا
تفسیر سوى أن لھا مصدرا آخر غیر ما نعرف.

اسمع ھذا الإیقاع المنغم الجمیل:

(( رَفِیعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ یُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن یَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِیُنذِرَ یَوْمَ التَّلَاقِ (١٥)
)) [ غافر ]

(( فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى یُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَیِّتِ مِنَ الْحَيِّ (٩٥) )) [ الأنعام ]

(( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّیْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا.. (٩٦) )) [ الأنعام ]

(( یَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْیُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) )) [ غافر ]

((لاَّ تُدْرِكُھُ الأَبْصَارُ وَھُوَ یُدْرِكُ الأَبْصَارَ.. (١٠٣) )) [ الأنعام ]

(( وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.. (٨٩) )) [ الأعراف ] ثم ھذه العبارة الجدیدة في تكوینھا و صیاغتھا.. العمیقة في معناھا و دلالتھا على العجز عن
إدراك كنھ الخالق:

((عَالِمُ الْغَیْبِ وَالشَّھَادَةِ الْكَبِیرُ الْمُتَعَالِ (٩) )) [ الرعد ]

(( یُجَادِلُونَ فِي اللّھِ وَھُوَ شَدِیدُ الْمِحَالِ (١٣) )) [ الرعد ]

ثم ھذا الاستطراد في وصف القدرة الإلھیة:

((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ لاَ یَعْلَمُھَا إِلاَّ ھُوَ وَیَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ یَعْلَمُھَا وَلاَ
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ یَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِینٍ (٥٩) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ لاَ
یَعْلَمُھَا إِلاَّ ھُوَ وَیَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ یَعْلَمُھَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ
وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ یَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِینٍ (٥٩) )) [ الأنعام ]

و لكن الموسیقى الباطنیة لیست ھي كل ما انفردت بھ العبارة القرآنیة، و إنما مع الموسیقى صفة
أخرى ھي الجلال.

و في العبارة البسیطة المقتضبة التي روى بھا االله نھایة قصة الطوفان تستطیع أن تلمس ذلك
الشيء (( الھائل )) (( الجلیل )) في الألفاظ: ((وَقِیلَ یَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَیَا سَمَاء أَقْلِعِي
وَغِیضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ.. (٤٤) )) [ ھود ]

تلك اللمسات الھائلة.. كل لفظ لھ ثقل الجبال و وقع الرعود.. تنزل فإذا كل شيء، صمت.. سكون،
ھدوء، و قد كفت الطبیعة عن الغضب و وصلت القصة إلى ختامھا:

((وَقِیلَ یَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَیَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِیضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ
وَقِیلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِینَ (٤٤) )) [ ھود ]

إنك لتشعر بشيء غیر بشري تماما في ھذه الألفاظ الھائلة الجلیلة المنحوتة من صخر صوان و
كأن كل حرف فیھا جبل الألب.

لا یمكنك أن تغیر حرفا، أو تستبدل كلمة بأخرى، أو تؤلف جملة مكان جملة، تعطي نفس الإیقاع
و النغم و الحركة و الثقل و الدلالة.. و حاول و جرب لنفسك في ھذه العبارة البسیطة ذات
الكلمات العشر أن تغیر حرفا أو تستبدل كلمة بكلمة.

و لھذا وقعت العبارة القرآنیة على آذان عرب الجاھلیة الذین عشقوا الفصاحة و البلاغة وقع
الصاعقة.

و لم یكن مستغربا من جاھلي مثل الولید بن المغیرة عاش و مات على كفره أن یذھل، و ألا
یستطیع أن یكتم إعجابھ بالقرآن، برغم كفره فیقول: و قد اعتبره من كلام محمد:

( و االله إن لقولھ لحلاوة، و إن علیھ لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفلھ لمغدق و إنھ لیعلو و
لا یعلى علیھ ).