الخلود: اعظم كلمة ينالها بني البشر حينما يُنقش الاسم مع العظماء على صفحات التاريخ بين ثنايا اسطر القرون , المدونة بيدي الزمان وبحبر قلم فجر الحضارة.
هي الامنية التي يسعى كل ذي شأن لتحقيقها مهما تعددت الطرق ومهما اختلفت الافعال, متحزبا لراية الخير او الشر وسافكاً دماء الشعوب ام منقذا البشرية بنور العلوم.
عجلة الزمان تدور وتسحق القرون كما تُسحق ذرات التراب, وتتطاير في طيات الزمن السالف وتُنسى, وهي في طريقها تسير نحو النهاية لا محالة.
فكيف لصبي بريئ ان يحطم اعظم الحضارات, وكيف لقلب نقي مليئ بالتسامح, ان يسلب قلباً عشقه حتى الفناء, وكيف لمن صمتت عقداً ان تنطق بكلمة الخلاص وتسلب الروح.
وكيف سمحنا للشر ان يتغلغل في اعماق قلوبنا محاولاً اطفاء شمعة الامل بعد ان كانت شمس ساطعة في سماء ايامنا السعيدة.
لقد علموني اؤلئك العظماء ان المجد ينال مهما طال الدهر, وان الفخر يختار من يستحقه, فهو تاج الخلود, والمجد يختار فرسانه بأحكام مستمداً افعاله من الذات الالهية حينما تقرر وهب التاج الابدي الى من استحقه من بني الجنس الفاني.
لقد كنت في مقتبل العمر حينما وجدت ذلك الصبي يقودونه نحو منزله الجديد نحو احضان حياة رومانية وتحت وصاية الجنرال, وكان حزيناً اشد الحزن, شارداً يفكر في امه المقتوله وابيه المحطم الفؤاد, وهو غير مكترث لاي جحيم يُقاد.
نظرت نحوه من بعيد واكملت طريقي, واستعدت في مخيلتي دموع ذلك الطفل الاخر ابن القائد المغدور, واخبرني حدسي بصدفة غريبة ربما ستحل وتجمع الصبيين تحت سقف واحد.
ايقنت ان الرب يعدهم لامر جلل ومصاب عظيم, اكبر من ان يدركه مئات الرهبان واكبرهم سناً ولو عاش قروناً, قدراً يجري تخطيطه بعناية الهية وحكمة لاتدركها العقول.
ويوم التقيت بتلك الاميرة, التي كانت اجمل نساء الارض, ايقنت ان الرب وضعني على الدرب الذي تختلط فيه اقداري بأقدارهم وطريقي بمنعطفات طرقاتهم, وانني ضالع في تلك الغاية العظيمة.
وكانت الصدمة حينما التقيت بالصبي الذي اصبح يافعاً وشجاعاً, ولم اتصور للحظة ان يصبح محطم الحضارة وقائد الجيوش.
أنني اسطر وانا اتوسل الرب ان يهبني ساعات قليلة لاكمل اخر اوراقي, في معبدي هذا, وفي غرفتي هذه, متيقنٌ ان حاصد الارواح لا يهب جزء من ثانية لاي بشري ولو توسل الرب دهرا متضرعا لذلك.
في هذا اليوم الغائم والاجواء الباردة, يوشك الحطب ان ينضب من مدفأتي والشمعة التي تحاول انارة المجلد شارفت على الوداع, وحتى الحبر اوشك ان يخون قلمي, ارجوكم جميعاً تحملوني لدقائق اخيرة, سأودعكم جميعا ايها الاوفياء.
ايها القارئون لهذا المجلد, ربما ستظنون للوهلة الاولى ان ما تقرؤوه ما هي الا تخاريف راهب عجوز, يختلق قصص في ساعات وحدته الطويلة, انتم احرار فأن شأتم صدقوا والا فأقرؤا وخذوا العبر ولاتعيروا كهولتي ذكراً يؤثر.
لم يكونوا الا بشراً عاديين, اطفال ابرياء, صغار يلعبون تحت كبد السماء ينعمون بضياء الشمس ونور الخير. لكن الشر حاول جاهداً ان يفسد قلوبهم حينما كبروا وسلبتهم معتركات الحياة برائة الطفولة وذكريات الصبىَ.
منهم من كابد وكافح وانتصر على الشر المتواجد في قلبه واختار لواء النور والخير, ومنهم من هو مستمر بالنضال والصمود لكنه لم يطئ بقدمه منحازاً للشر, فهو ايضا في سلام وامان.
واما الذين تشوهت ذكرياتهم وتغلغل الظلام في قلوبهم, وخسروا انفسهم تحت قسوة الحياة وصعوبة الايام, واختاروا حماقة سعادة الشر الوهمية التي ما يلبث الانسان ان يستشعر راحتها حتى يُجر الى جحيم الايام ويصارع مشقة الاقدار حتى يُفنى وهو ضائع تائه.
لقد شاهدتُ المختار وهو صبي صغير مكسور الجناحين, فتى يافع يكتشف الحياة, شاباً حالما يبحث عن الحب في خضم الجنون, رجل محطم الفؤاد ومسلوب المصير, واخيراً حولوه الى مخلوق مجرد من كل المشاعر وسلاحاً حطم الحضارة, وحينما تمكنت معشوقته من احراق بصيص الامل القابع في اشد بقاع قلبه ظلمة, غدرت الشياطين والشر الذي استشاط غضبهُ, فتدخلت واوقعت بالاهوال وسلبت المختار روحه, ألا انهم خسروا, ومن الازل وهم يخسرون ولن ينتصروا طالما ان فرسان القلوب النقية يسكنون الارض. وانتصر المختار واختار الخلود على يد اغلى مخلوقة عشقها طوال الدهر, فالموت بنظره هو مفتاح الصعود الى حيث العظماء والخالدون وقد نال المجد باعظم درجاته ولم يسبقه احداً قبله في تغيير وجه الحضارة وسطر حقبة جديدة من التاريخ تحمل في تخبطاتها بعد سنوات طويلة حرية بني البشر.
لقد ارتقى الى اعظم منزلة تحدثت عنها الاساطير والخرافات, وتجسدت لاجلها الملاحم وها هي ملحمتي تختم نفسها بأن تخلد بطل سلسلتها "اريليوس" الذي وصل الى مصير العظماء وكاد ان يكون اشبه بألالهة كما في اساطير الاغريق والرومان وبني جنسه من القوطيين.
انه الملك الذي حطم عرش اعظم حضارة حكمت الشرق والغرب, الشمال والجنوب, وهو الموحد بأنهار الدم بين ابناء القبائل المتمردة والتي خضعت لسلطته وروما التي ركعت امام جبروت عظمته وجيشه, ولم يجلس على كرسي العرش, بل اختار عرش الخلود, ولم يحتسي كأس النصر بل اثَر تذوق سيف العشق القاتل.
انني اسمع اصواتهم في كل الارجاء, ضحكاتهم في ايام السمر, صرخاتهم وانا اساندهم في ميادين القتال, يالها من حياة بائسة بلا وقع خطاهم.
انني انظر اليه الان, حان الموعد المرتقب, وحاصد الارواح يحدق نحوي. ايها الرب هبني لقاء مع المختار ولو لثانية واحدة القي عليه التحية وبعدها خذني حيثما شئت.
وداعاً يا قمر الزمان, اعلم انك ستقرئين هذه السطور التي سأتركها لك في احضان هذه الملحمة برفقة قلادتي وصولجاني, احرصي على جعل ابن المختار فارساً يحمل راية النور في وجه الظلام حيثما ارتقى لنصر الضعيف ويقاتل تحت لواء الخير.
وداعاً ايها الاصدقاء جميعاً, القائد الاسطوري اوميروس, الذئبة الجليدية وولفينا, الخالد ايرلندر, الملاك الحارس انجلينيوس, تيرينا الوفية, والجميلة الحزينة اميرة عالم العشاق فلوريا, بيروس الشجاع, وكل من عزف دماغي ان يتذكرهم في هذه اللحظات التي بدأت روحي فيها تغادر الجسد.
وداعاً ايها الخالدون
ليبارك الرب ارواحكم
ليأت ملكوتك يا رب الملوك.
سقط رأس الراهب على المجلد في صفحته الاخيرة وعيناه مفتوحتان تنساب منهما الدموع كجدول يجري نحو الارض الجرداء مبللاً قطرات الحبر المكتوبة حديثاً, وابتسامة حزن وشوق تعتلي وجهه وهو يحدق نحو البعيد, وروحه تصعد الى ملكوت الرب. وسكب الحبر اخر قطراته علي الورقة الجلدية, وذابت الشمعة حزنا على فراق صاحبها, وعم الظلام في ارجاء المكان.
ومع اول اشراقة لشفق الصباح دخلت قمر الزمان بعد ان جافاها النوم في تلك الليلة, لتجد الراهب في حالته مودعا عالم البشر ورأسه يتوسد المجلد وقد غادر الارض بسلام, ويده اليسرى بجانب رأسه يمسك الريشة الحبرية, وهو ينظر نحو السطور ونقطة كبيرة من الحبر ختمت كل تلك السطور التي امضى سنواته الاخيرة في تدوينها.
وقعت عيناها على جملة بسيطة كانت "وداعاً يا قمر الزمان".
اجابته وهي واقفة كشجرة بالية غدرت بها الفصول وطال شتائها وتحدثت تقول "وداعاً ايها الراهب النقي".
وبجانب الكتاب على تلك الطاولة القديمة, ترك الراهب صليبه ينتظر نصيبه, ركعت كلاريس امام الراهب وتضرعت للرب ان يرحم روحه الطاهرة, وان يسكنه في فردوسهم المنشود.
وختمت تقول "ليبارك الرب رهبانه وفرسانه وكل عظماء المجد الخالدون".
__________
حلقت ارواحهم الصبية اليافعة في حقول واسعة والشمس الذهبية تلمع فوقهم, حيث كانوا جميعا صغاراً ابرياء, اطفالاً لم تدنس الحياة قلوبهم ولم تفسد الايام ارواحهم.
شاهدهم الراهب وهم صغارا يلعبون, كل واحد في مكانه البعيد, مشاهد حدثت قبل زمن طويل, في اراضٍ مختلفة موقعا ومناخاً وتقاليداً, لكنهم كانوا جميعاً امامه في مشهد واحد, كل من عاصرهم خلال ايام حياته من رفاقه الشجعان.
شكر الرب على هذه الهدية, وابتسم وهو يشاهد اريليوس يركض بين بيوت قريته يمرح بسعادة, كلاريس تمرح في الحقول المليئة بالقمح, وولفينا تركض في ارضٍ يحاول الربيع ان يتمرد فيها على الثلوج البيضاء, ايرلندر يمرح مع اقرانه في غابات جميلة والعصافير تتغنى معهم, اوميروس في حدائق واسعة برفقه والديه يلعبون سوياً, وفلوريا بين احضان والدتها وهي تلف لها شعرها في شرفة منزلهم وتضحك فرحة بطول ضفيرتها.
كم كانوا رائعين وهم ملائكة يلعبون بقلوبهم الطاهرة, ايا ليتهم لم يكبروا ايا ليتهم لم يكبروا.
احبكم ايها الشجعان صبياناً كنتم ام بالغين, سأبقى أراكم انقياء كألاطفال تلعبون في حدائق السعادة والحنان. احبكم الى الابد.
وداعاً لكم ولقلوبكم النقية ولارواحكم الطاهرة.
وداعاً ايتها الارض ويا سطوري وكتبي وكل مخلوقات الكون.
_____
وكما خلدت كلكامش بطلها انكيدو وملك اور المسمى كلكامش
والاوديسة ابطالها في طروادة
والالياذة بطلها اوديسيوس في رحلته الطويلة
وكل الملاحم التي سطرت منذ الازل
ليُخلد الزمان ملحمة فرسان المملكة الضائعة وكل عظمائها وابطالها.
الخاتمة...