شبح من الماضي "شانتيل شاو"...

By amira_iq

233K 4.7K 386

خافيير هيريرا دوق أسباني ومليونير عديم الرحمة، علمته الحياة بأسلوبها الشائك ألا يقع في الحب مطلقآ. اما الان ف... More

1.شبح من الماضي
تكملة البارت الاول
3- خدعة أم حقيقة؟
4- اين المفر؟
5-اعتراف وندم
6-أسيرة!
7-لا.....أرجوك!
8-لست أكرهك
9-صدمة ومفاجأة
10-لا تبعدني عنك!
11-هروب إلى المجهول
12-سيدة القصر
note🙂

2-عرين الأسد

18.9K 365 33
By amira_iq

قصر الأسد هو قصر ذو طراز مراكشي تم بناؤه في جبال سييرا نيفادا المرتفعة في القرن الثاني عشر ، وهو يطل على مدينة غرناطة.
راحت الطريق المؤدية الى القصر تزداد انحداراً كلما اقتربت ، فاضطرت غرايس الى نقل مقبض تبديل السرعة الى سرعة أعلى عندما واجهت انحناءً خطيراً آخر في طريقها. فكرت وهي تحدق صعوداً نحو القصر الذي بدا وكأنه يتشبث بقوة بتلك الصخور الشامخة على حافة الجرف المنحدر ، انها لو صعدت بسيارتها اكثر فقد تصل الى الغيوم.

بدت قمم الجبال البعيدة اكثر ارتفاعا ، وهي ماتزال مغطاة بالثلوج . بدا المنظر الطبيعي نضرا واخضر مع ان السماء تمطر . أقرت غرايس بكآبة ان الطقس الموحش يتلائم مع مزاجها .
لدى وصولها الى غرناطة قال لها مدير الفندق :" هطلت الامطار لمدة ثلاثة ايام وهو امر غير اعتيادي خلال هذا الوقت المتأخر من فصل الربيع . لكن انتظري ، فغدا سوف تشرق الشمس وسوف تجعلك سعيدة ".
فكرت غرايس متنهدة ان مدير الفندق لايعرف شيئا عن مزاجها ، فالأمر سيتطلب اكثر من مجرد تبديل في حالة الطقس حتى ترتفع معنوياتها . تخيلت للحضة وجه والدها الشاحب المنهك مرتميا على كرسيه وقد نبت شعر ذقنه . انهار مدير المصرف الفخور الانيق اللباس قبالة عينيها ، وحل محله رجل وصل الى آخر رمق من امكانياته .

- ليس هنالك مايمكنك فعله ، عزيزتي .
قال لها أنغوس ذلك محاولا من دون جدوى أن يبتسم . أدركت غرايس انه يحاول حماية ابنته الوحيدة ، إلا أن هذا شحذ تصميمها وعزمها لكي تفعل شيئا ما . والدها هو بطل بالنسبة اليها ، وهو بطل بالنسبة إليها ، وهو أروع رجل في العالم ، لكن المبلغ الهائل الذي اختلسه من المصرف جعل رأسها يدور في دوامة مع انها فهمت أسبابه ودوافعه . تلك السنوات التي قضاها في الاهتمام بصحة والدتها التي اصيبت بمرض الاضطراب العصبي الوظيفي دمرته تماما . بحث أنغوس في العالم بأسره طلبا لعلاج لهذا المرض العضال الذي لا شفاء منه . جرب كل شيء أملا في تخفيف معاناة زوجته المحبوبة ، بدءا من العلاج بالأعشاب الصينية إلى العلاج التكاملي والعلاجات المكلفة في الولايات المتحدة الاميركية .

في النهاية اتضح ان هذه العلاجات من دون جدوى ، فسوزان بيريسفورد توفيت منذ عامين ، قبل اسابيع قليلة من بلوغ غرايس الحادية والعشرين من عمرها . ومنذ اسابيع قليلة فقط علمت غرايس ان أنغوس حصل على الاموال الطائلة التي احتاجها لعلاج والدتها من المقامرة ، كما علمت ان ادمانه خرج عن السيطرة ما دفعه الى "اقتراض" الأموال لدفع ديونه من المصرف الاوربي ، وهو الفرع البريطاني لمصرف هيريرا .

لم تستطع غرايس اخفاء صدمتها لدى معرفتها بهول ما فعله والدها ، فنعق أنغوس قائلا :" لطالما نويت أن أسدد ما علي ؛ أقسم بذلك . كان بوسعي أن اعيد الاموال التي أقترضتها ، وأن أغلق الحسابات المزيفة التي فتحتها من دون ان يعلم أحد بذلك ".
أما الآن فهم يعلمون! قام أحد مدققي الحسابات باكتشاف بعض المخالفات ، ما اطلق سلسلة من التحقيقات الأكثر عمقا ، وتم التبليغ عن هذه المخالفات إلى رؤساء مصرف هيريرا . لم يكن بوسع غرايس سوى الوقوف جانبا ومشاهدة عالمها وهو ينهار ، والاهم من ذلك رؤية والدها يسقط الى الحضيض .

جرجرت غرايس ذهنها فأعادته الى الحاضر ، تابعت القيادة صعودا على الطريق التي تحف بها الاشجار على الجانبين ، والتي تتلاقى على شكل قوس في وسط الطريق . لكن ما إن التفتت السيارة حول منعطف آخر حاد جدا ، حتى شهقت وقبضت على عجلة القيادة . استطاعت أن ترى ببساطة حافة الطريق في الارض المقطوعة الاشجار ، وتخيلت السقوط المروع من فوق حافة الجبل .
تمتمت مقطوعة الانفاس :" يا إلهي! "
احست أن كفيها اصبحا رطبين بسبب التعرق حين صدمها إدراكها أن أية خطوة خاطئة يمكن ان تسبب لها الانقلاب بعنف من فوق حافة الهاوية إنها تكره المرتفعات أخذ رأسها يدور فيما قاومت الشعور بالغثيان الذي سيطر عليها. احست غرايس لوهلة بالرغبة في أن تستدير وتعود أدراجها لكن الطريق بدت ضيقة جداً لدرجة لاتسمح لها بمحاولة الالتفاف بالسيارة نحو الاتجاه الآخر. فضلاً عن ذلك ، فكرت بحزن أن لديها عمل يجدر بها انجازه : الوصول الى قصر الأسد ، موطن اسلاف عائلة هيريرا .
راحت تصلي لأن يكون الدوق الجديد موجوداً في المنزل . لم تلقَ أي من الرسائل التي أرسلتها إليه جواباً ، أما محاولتها للاتصال به هاتفياً فقد صدها فريق عمله البالغ الفعاليه . دفع اليأس بغرايس إلى السفر قاصدة مكاتب المصرف في مدريد ، ومن هناك سافرت بالطائرة إلى جنوب غرناطة ، حيث تم إعلامها بأن الرئيس يقيم في مقره الخاص في الجبال . أقسمت غرايس بحزن إنها سوف تقابل خافيير هيريرا ، أو أنها ستموت في محاولتها لفعل ذلك ، وركزت على الطريق الممتدة أمامها . شعرت بالارتياح حين استوت الطريق اخيراً ، وحين استدارت بالسيارة حول المنعطف التالي ظهر القصر الشامخ مرتفعاً أمامها . إنها قلعة مراكشية مهيبة . بدت رمادية وغير مرحبة تحت تأثير رذاذ المطر الخفيف .
راح قلب غرايس يتخبط بقوة حين خرجت على مهل من السيارة.
بدا القصر نموذجاً حقيقاً مؤثراً عن فن العمارة المراكشي . لكن عيني غرايس انجذبتا نحو الباب الأمامي الصلب المنيع ، الذي يحرسه من كلا الجانبين أسدان حجريان قابعان بصمت ، وهما يراقبانها كما لو انهما يرغبان بالانقضاض عليها . فكرت مرتعدة أنها لاترغب بالتواجد هنا عندما يحل الظلام .
لكن الدوق دوهيريرا هو الشخص الوحيد الذي يمتلك القدرة على انقاذ والدها .
كان المطر الخفيف قد بلل فستانها الخفيف الرقيق باعثاً القشعريرة في بشرتها. هرعت الى السيارة لتتناول الوشاح الرقيق الذي قذفته الى السيارة لتأخذه معها في آخر لحظة وهو مصنوع من اجود وأنعم أصواف الكشمير .
اقرت غرايس بأسف وحزن ان شراءه هو اسراف وتبذير مفرطين ، حتى قبل أن تكتشف مشاكل والدها المالية . لكنه على الاقل يشعرها بالدفء الآن وهي تلفه وتمسك به حول كتفيها .
اندفعت صعوداً على الدرج الأمامي للقصر ، وما إن رفعت يدها لتجذب الحبل الخاص بقرع الجرس حتى فُتح الباب وظهر أمامها شخصان .
ادركت على الفور أن أحدهما هو رئيس خدم القصر ، أما الآخر فهو رجل متقدم في السن ذو شاربين ملفتين للنظر .
تلعثمت غرايس قائلة :" جئت ... لمقابلة الدوق دو هيريرا ".
أحست بالامتنان لأنها تتحدث الاسبانية بطلاقة ، والفضل في ذلك يعود الى السنوات التي امضت خلالها اجازاتها مع عمتها بام في جنوب اسبانيا .
اخبرها الرجل الاكبر سنا بفظاظة :" انا لا انصحك بذلك سنيوريتا اذا كنت تخافين على حياتك ، فالدوق ليس في افضل مزاج له ".
غمرها الامل لمعرفتها ان خافيير هيريرا موجود هنا . جل ما عليها ان تفعله هو اقناع رئيس الخدم المتجهم الوجه بأن يسمح لها برؤيته . بعد مرور بضع دقائق كانت غرايس ماتزال واقفة على الدرج . توسلت الرجل للمرة الاخيرة فيما بدأ باب خشب السنديان الثقيل بالأنغلاق ليقفل في وجهها :" ارجوك"
اجابها رئيس الخدم بنفاذ صبر قائلا :" انا آسف ، لكن هذا مستحيل. فالدوق لا يقابل ابدا ضيوفا غير مدعوين ".
- لكن ... فقط اخبره انني هنا .... لن آخذ سوى خمس دقائق من وقته.
ارتدت صرخة غرايس اليائسة عن الباب الخشبي الصلب ، عندئذ استسلمت بدافع الاحباط الى رغبتها الصبيانية بركل الباب الامامي ، ولم تفاجأ حين بقي مقفلا بثبات . بالطبع تم بناء هذا القصر ليقاوم جيشا من الغزاة ، فكيف تستطيع امرأة شابة نحيلة البنية ، ان تخترق دفاعات هذا الحصن المنيع ؟

غمغمت غرايس متذمرة وهي تطرف بعينيها لتمنع دموعها من التساقط قائلة :" اللعنة عليك ، خافيير هيريرا !".
يبدو أنه لم يعد امامها اي خيار آخر سوى الالتفات بسيارتها لتعود من الطريق الجبلية التلي سلكتها نفسها ، لكنها لم تقو على تحمل فكرة فشلها في تحقيق مبتغاها . ان الدوق دو هيريرا موجود هنا ، في الجهة المقابلة لهذه الجدران ، ولابد ان تكون هنالك طريقة ما للوصول إليه واجباره على الاصغاء اليها .
لطالما كان والدها يغيظها قائلا إن عنادها الزائد يعوض ع الانشات القليلة التي تنقصها في الطول . مجددا حضرتها الصورة الذهنية الواضحة لوالدها الذي احاطت هالتان حمراوتان بعينيه بسبب افتقاره الى النوم ، اما جسده الذي كان قويا صلبا في ما مضى ، فأصبح هزيلا بسبب الضغوط النفسية وفقدانه الشهية . ليت بمقدورها أن تزيل خوف والدها ورعبه من فكرة ادخاله الى السجن ، عله يصبح قادرا على اخراج نفسه من اساه العميق .

توقفت الامطار عن الهطول ، وبالرغم من ان السماء ما زالت رمادية ، الا ان اشعة الشمس الباهتة كانت تحاول بشجاعة  ان تبعث الدفء الى تلك المنطقة . لاحظت غرايس عبر الباحة الخارجية وجود بوابة ذات قنطرة في الحائط . قالت لنفسها على الارجح ان البوابة المصنوعة من الحديد مقفلة ، لكنها اندهشت حين تمكنت من فتحها ، فخطت الى الداخل بسرعة . بدت الحديقة رائعة التصميم ومتميزة جدا ، كما لو انها لمحة من الجنة ، ما اثار في نفسها شعورا مهدئا مسكنا . عكست سلسلة من البرك المربعة الشكل ذات المياه الصافية صور اشجار نخيل استوائية . في حين تناثر رذاذ نوافير المياه المنعش عليها مسكنا اعصابها المنهكة . اما الورود التي تطاولت بأعناقها نحو السماء ، فقد علقت على وريقاتها المخملية قطرات الماء التي بدت كحبات من اللؤلؤ .

اندفعت غرايس من دون تفكير وقطفت احدى الورود ، ثم احنت رأسها لتستنشق عبيرها بشغف . للحظات ثمينة احست ان أعباء  همومها ترتفع عن كاهلها . ليتها تستطيع المكوث هنا الى الابد ، وهي تصغي الى زقزقة العصافير اللطيفة !  تمشت على طول الممرات الضيقة في الحديقة ، ناسية انه يفترض بها ان تبحث عن طريقة لأقتحام القصر . أزاحت بعيدا عن تفكيرها ذكرى بؤس والدها وحاجتها الى ايجاد الدوق دو هيريرا ، اضافة الى خشيتها من فكرة قيادة السيارة في طريق العودة نزولا على الطريق الجبلية المنحدرة الملتوية حتى تعود الى غرناطة . لم تعرف غرايس ما الذي دفع بها الى قطع حبل تأملها الصامت لبرك المياه . لم يعد هناك اي صوت .... حتى العصافير توقفت عن الغناء . ساورها احساس غريب بالوخز حل بين كتفيها ، كما تصاعد في داخلها شعور بأن احدهم يراقبها . ادارت رأسها ببطء ، وعلقت الانفاس في صدرها .

كان الرجل واقفا في ناحية بعيدة من الحديقة ، لكن طوله بدا ملحوظا جدا حتى من هذه المسافة . كان يرتدي معطفا من اللون الاخضر الغامق اللماع ، يصل الى ما تحت ركبتيه ويحتك بجزمته الجلدية . اما القبة التي تعلوها قلنسوة فجعلت مظهره اشبه بمظهر احد المحاربين من العصور الوسطى . جذب الرجل قبعته ذات الحافة العريضة فوق عينيه مغطيا وجهه ، فيما استشعرت غرايس قدرته وقوته . لفت انتباهها كلب الدوبرمان النحيل الاسود الواقف الى جانبه ، فأحست بالخوف يتمخض في اعماق معدتها . هذا الحيوان لايبدو حيوانا اليفا لطيفا ودودا . لا شك أنه كلب حراسة ، اما الرجل فلا بد أنه احد موظفي الحراسة في القصر .
فكرت ان الخيار الاكثر عقلانية هو بأن تدنو من رجل الامن هذا فتعتذر على فعلتها ، لكن مخيلتها صورت لها انه يبدو كقابض للارواح ، لذلك حلت غريزتها مكان تفكيرها المنطقي ، فاستدرات حول نفسها وفرت هاربة وهي تصرخ . ألقت نظرة سريعة من فوق كتفها ، فأتضح لها ان الرجل اطلق سراح كلبه وبدأ هذا الاخير يركض عبر الحديقة متجها نحوها . راح الدم يتخبط داخل اذني غرايس ، وهي تندفع بعنف عبر ممرات الحديقة باحثة بيأس عن مخرج للفرار . كانت الحديقة محاطة من جهات ثلاث بحائط مرتفع ، اما من الجهة الرابعة فكان الحائط اقل ارتفاعا ، فيما بدت احجار الطوب فيه قديمة ومتداعية . كاد الكلب يصل إليها ، واستطاعت ان تسمع أنفاسه الخشنة المزعجة تدنو منها شيئا فشيئا ، كما تخيلت انيابه الحادة تنغرس في لحمها . انطلقت غرايس بقوة في ممر آخر من ممرات الحديقة ، وبدأت تتسلق الحائط القديم بسرعة هائلة متولدة من يأسها .

وفرت لها احجار الطوب موطئ لقدمها ، ماسمح لها بالوصول الى حافة السور مستخدمة كل طاقاتها وقوتها . طمأنت نفسها انها باتت بمأمن الآن ، أما الكلب القابع في الأسفل فراح ينبح بصوت عنيف شرس . آه! مع القليل من الحظ يمكنها ان تتسلق الحائط فتجتازه الى الناحية الأخرى حيث الأمان . بعد ان ألقت غرايس نظرة اخيرة على الحيوان المتوحش ، علقت إحدى رجليها فوق حافة السور ثم اطلقت صرخة رعب . فخلف الحائط تنحدر الارض نحو هاوية سحيقة تبلغ بضع مئات من الاقدام . لو رمت بنفسها من فوق السور سوف تموت ، أما البديل الوحيد فهو العودة نزولا نحو الحديقة حيث ينتظرها الكلب ولعابه يسيل .

لم تعد غرايس تستطيع الحراك بعد ان شلها الخوف ، لذا حافظت على توازنها على حافة السور وراقبت الرجل يدنو منها .
- هذا يكفي لوكا !
تمشى خافيير من دون تسرع نحو الجهة البعيدة من الحديقة ، فنادى كلبه ليعود اعقابه . هناك كانت المرأة -او الفتاة كما صحح لنفسه بعد ان القى نظرة وجيزة الى الاعلى- تتعلق بحافة السور كما لو ان حياتها متعلقة بها ، وقد خلا وجهها من اية لكحة من اللون ، فبدا شاحبا وسيطرت عليه عينان هائلتان يغمرهما الخوف . لم يشعر خافيير بأقل لمحة من الشفقة عليها . فكر بعبوس ان بمقدورها ان تبقى قابعة هناك طيلة النهار ، فهو لن يهتم لأمرها . لقد سئم من اولئك الصحافيين المتطفلين الذين يقتفون تحركاته لرصد الشائعات ونقل الاخبار . اثناء تواجده في المدينة ، يقبعون في سياراتهم خارج مكتبه على امل التقاط صورة او خبر متعلق به ، او يجتمعون في حشود امام النوادي الليلية المشهورة مصممين على القبض عليه وهو برفقة احدى عشيقاته . اما اكتشافه لهذه الصحافية على اراضي قصره فهي آخر اهانة يتقبلها خلال أسوأ يوم في حياته .
سألها خافيير بنفاذ صبر :" كيف دخلت الى هنا؟ وما الذي تريدينه ؟".
لم ير معها آلة تصوير فوتوغرافي ، لعلها اسقطتها في الحديقة حين هربت من لوكا . بقيت الفتاة صامتة ، فتصلب فك خافيير . انه ليس في مزاج يسمح له بتحمل الألاعيب ، وهو يريدها ان تخرج من ارضه حالا . أمرها قائلا :" أنزلي! الكلب مربوط برسنه ولن يؤذيك ".
بالرغم من ذلك لم يلق منها جوابا ، لذا ضاقت عيناه وهو يتمعن في بشرتها الباهتة . لاحظ ان شعرها مخبأ تحت وشاح لفته حول رأسها وكتفيها فأصبح كالقلنسوة ، لكنه علم بغريزته أنها ليست اسبانية الاصل ، فكرر طلبه باللغة الانكليزية .
امتدت فترة الصمت بينهما ، ثم قالت غرايس في نهاية الامر بصوت بالكاد يتخطى الهمس :" لا أستطيع ".
خوفها من الوقوع الى الهاوية أرعبها بشدة فانسد حلقها وباتت عاجزة عن الكلام . لم تعد تقوى على الحراك ، وبالكاد تمكنت من التنفس .
- سنيوريتا ، عليك ان تنزلي .
الحدة التي ظهرت في صوت الرجل اخترقت غمامة الخوف التي غلفت ذهن غرايس ، فأدارت رأسها بحذر لتحدق به نزولا . لاحظ خافيير ان المرأة على وشك ان تصاب بالاغماء . تفحص الحائط بنظرة سريعة ، وهو يتلفظ بشتيمة قاسية . يمكنه ان يتسلق الحائط لينقذها ، لكن الخوف احساس يصعب التنبؤ بتبعاته . ان تحركت مبتعدة عنه ، فستسقط على الارجح من فوق الحافة على الصخور الناتئة في الجهة الاخرى من الحائط . كبح غضبه ، ولطف نبرة صوته قائلا :" ما من داع لأن تخافي . أنا لن اؤذيك ، كما لن يؤذيك الكلب . اقفزي الى هذه الجهة وسوف التقطك ".
بغض النظر عن مدى كرهه للصحافيين ، إلا انه لا يرغب برؤية الفتاة تهوي لتسقط ميتة . ترنحت غرايس وقد اصبحت بشرتها رمادية اللون ، فيما اغمضت عينيها وتدلى رأسها بتكاسل الى الامام . مد يديه الى الاعلى وقال لها بنبرة آمنة :" اقفزي بين ذراعي سنيوريتا . سوف تكونين بمأمن معي . ما اسمك؟"
حين هوت غرايس انزلق الوشاح عن رأسها ، فتطاير شعرها حول كتفيها كشلال حريري ذي لون بني باهت . اما صوتها فطاف نزولا نحوه ، بحيث همست كلماتها قبل ان تغوص في الظلام قائلة :" اسمي هو .... غرايس .... بيريسفورد ".
لفتها شرنقة ملؤها الدفء بعثت فيها شعورا مريحا مهدئا ، وطَّن تحت اذنها قرع متواصل كقرع الطبول . لكن شعورها بالامان لم يطل كثيرا ، فقد تطفلت الحقيقة على اذنها المستريح حاملة معها ذكرى تلك اللحضات الاخيرة المرعبة ، حين تعلقت بالحائط ، فواجهتها الهاوية الحادة من احدى الجهات ، ومن الجهة الاخرى شخص غريب لا وجه له يرافقه كلب متوحش شرس . فجأة انفتحت عيناها ، فعاد الخوف ليملئ قلبها . تكلمت بصوت بدا مزعجا جدا لشدة خفوته ، اذ قالت :" الى اين تأخذني ؟"
لدى سماعه كلماتها توقف الرجل عن السير ، فوضعها ارضا بغير رفق . كل ما استطاعت غرايس رؤيته لمحة من ملامح وجهه المغطى بحافة قبعته ، لكن فكه المربع اعطاها فكرة عن قوته وصلابته . احست ان الارض تدور تحت قدميها بشكل ينبئ بالخطر . غمرها شعور بالغثيان والتوت رجلاها ، فسقطت على ركبتيها . لم يقم الرجل بأية محاولة لمساعدتها على النهوض ، بل انحنى ببساطة فوقها فيما عي راكعة على العشب الرطب المبلل ، فأحست ان تفحصه الصامت لها بدء يفقدها اعصابها . اما الكلب فجلس عند قدميه . اطلقت غرايس تنهيدة ارتياح خافتة عندما لاحظت ان الرسن مربوط بالطوق الموجود حول عنق الكلب.
قالت وهي غير قادرة على منع الرجفة من صوتها :" لا اصدق أنك اطلقت كلبك في أثري ".
رد الرجل بخشونة قائلا :" انا لا احب المتطفلين على أملاك الغير ".
جاء صوته رزينا مهيبا ومنخفض النبرة ، لكنه تحدث الانكليزية بطلاقة بالرغم من لكنته القوية البادية بوضوح . أمالت غرايس راسها فنظرت أليه بفضول ، وقد ازعجتها وقفته المتعجرفة . بالنظى الى مظهره افترضت أنه أحد رجال الحراسة في هذه الملكية . لكن الرجل راح يحدق بها نزولا كما لو انه يمتلك المكان .
زمجر قائلا :" لماذا جئت إلى هنا ؟"
- جئت لمقابلة الدوق دو هيريرا .
احست غرايس بشكل ما ان وضعها وهي راكعة أمامه ليس لصالحها ، لذا استنشقت نفسا عميقا واجبرت نفسها على النهوض على قدميها . أما الرجل فلم يعرض اي مساعدة او مساندة لها ، بل راقبها بصمت قاتل .
- لأي سبب؟
صرت غرايس على اسنانها بحدة لدى سماعها سؤاله ، ثم رفعت ذقنها وحدقت به ؛ متمنية لو ان بمقدورها رؤية وجهه .
- لأسباب شخصية .
توقفت عن كلامها وقد انجذبت عيناها نحو ذراعيه القويتين وصدره العريض . لا شك ان هذا الرجل أنقذها من سقوط كان لينتج عنه تكسر عظامها . تمتمت بصوت ابح :" أشكرك على التقاطي . اقدر بأن هذه الحديقة خاصة . لكنني جئت لمقابلة ....".
تشتت حديثها بشكل بائس ، فيما تذكرت محاولتها الفاشلة للحصول على مقابلة مع الدوق دو هيريرا المراوغ .
اعلمها الرجل بنبرة متعالية :" الدوق لا يستقبل زوارا غير مدعوين ".
بدأ خوف غرايس يتلاشى الآن واصبحت قدماها ثابتتين على الارض ، فتذكرت السبب الذي دفعها الى أقتحام الحديقة أصلا ؛ كانت مصممة على إيجاد طريقة للدخول إلى القصر ، ومع قليل من الحظ قد يساعدها هذا الرجل الريفي الفظ على تحقيق مبتغاها .
- انا لست زائرة غير مدعوة. لدي دعوة .
قالت غرايس ذلك كاذبة ، فأنطلق لسانها فورا لترطيب شفتيها اللتين جفتا فجأة . لم يبدر الرجل اي جواب لكن لغة جسده دلت ببساطة على عدم تصديقه ، ماتسبب في زيادة انزعاجها . قالت وهي ترفع عينيها الزرقاوين الصافيتين نحوه مبتسمة بتردد :" نعم . وصلت باكرا ، وقررت استكشاف اراضي الملكية عوضا عن الانتظار في السيارة . انا آسفة . اعتقد ان الدوق قد يكون مستعدا لمقابلتي الآن . لعلك تستطيع مرافقتي اليه؟"
استمر تدقيق الرجل وتفحصه الصامت لغرايس لفترة طويلة . اخيرا اخترق الهواء الساكن فجأة ، فقفزت غرايس مجفلة حين سألها :" هل أنت واثقة من رغبتك بدخول قصر الاسد ، آنسة بيريسفورد؟"
أهذا تلميح خفيف بالتهديد في صوته؟ لعنت مخيلتها المبالغة في تصوراتها ، ثم ردت بحدة ورشاقة :" بالطبع . سأتبعك ".
- تفضلي!
هذه المرة لم يكن هنالك أي شك في وجود النبرة المهينة في صوته ، لكن الرجل لم يضف اي شيء على كلامه ، بل استدار على عقبيه ببساطة وبدأ يسير بخطوات كبيرة عبر الحديقة ، فيما هرول الكلب إلى جانبه . لم يزعج نفسه ليستدير حتى يتحقق إن كانت تتبعه أم لا ، لذلك اضطرت إلى الهرولة حتى تلحق به.
مع دخولهما الى القصر من باب جانبي كانت غرايس تشعر بالحرارة وانقطاع الانفاس . لكنها تبعت دليلها صعودا على درج حجري شاهق شديد الانحدار . شعرت بالارتياح لأنها لم تر أي اثر لرئيس الخدم الفضولي الذي كان قد رفض التماساتها وتوسلاتها حتى تقابل الدوق قبل قليل . فكرت انها وصلت الآن الى الداخل ، الى عرين الاسد . حاربت شعورها بالهلع عندما خطت الى غرفة فسيحة امتلأت جدرانها بالكتب . خمنت غرايس ان هذه الغرفة هي غرفة مكتبة الدوق دو هيريرا . تسلل الخوف الى عظامها حين تبعها الرجل الى داخل الغرفة ، وارتجف قلبها عندما اغلق خلفه وسمعت طقطقة القفل الخافتة . أخرج خافيير هاتفه النقال من جيب معطفه ، فتمتم بضع كلمات عبره ، لكن صوته كان خافته جدا لم تفهم ماقاله .
تعمدت غرايس النظر الى ساعة يدها قائلة :" هل سيصل الدوق خلال وقت قريب؟"
رد خافيير بصوت حريري قائلا :" أعدك أنك لن تضطري الى الانتظار مطولا ، آنسة بيريسفورد" .
مجددا التقطت شيئا من السخرية في صوته فأزدادت خشيتها منه . راقبته وهو يفك ازرار معطفه ، ثم يهز كتفيه ليسقط عنهما ، فأنجذبت عيناها إلى بنيته الحسدية الرائعة . كان يرتدي سروالا اسود ضيقا ، فيما كشفت قميصه البيضاء المفتوحة عند العنق عن عنقه الطويل الاسمر اللون . أما في قدميه فقد انتعل جزمة جلدية طويلة الساق . شكله هذا ذكر غرايس بشكل بارون من العصور الوسطى .
- سوف تصل الشرطة الى هنا خلال وقت قصير .
أبلغها خافيير ذلك بابتسامة خالية من اي دفء شقت مساحات وجهه الصلب .
-الشرطة ؟
احست غرايس بالصدمة الى درجة انها فقدت لوهلة القدرة على ايجاد الكلمات المناسبة . أقرت ان ردة فعلها الجسدية تجاه هذا الشخص الغريب الواثق من نفسه امر صعقها الى درجة الغباء . فكرت بحذر ان الوسامة بالكاد تكون وصفا ملائما له . بدا وجهه منحوتا الى حد الكمال مع انه متعحرف فظ الى حد بعيد ، كما ان عظمتي خديه بدتا حادتين . كذلك تممت بشرته الذهبية كلون الزيتون بحاجبين اسودين وشعر أسود كجناحي الغراب . أما عيناه السوداوان الكهرمانيتان فأتقدتا بالنار وهما ترسمان دربا وهميا فوق كل انش من جسدها . احست كما لو ان الرجل يقوم بتفحصها بعناية تحت المجهر ، فأثار هذا الامر غضبها، ودفع باللون الاحمر نحو وجنتيها بشدة . تكلمت بشكل لاذع ، محاولة إخفاء شعورها بالاحراج بسبب ردة فعل جسدها الغدار ، فقالت :" انت لست البستاني. أليس كذلك؟ افترضت انك .... لا تقل لي إنك انت الدوق دو هيريرا ؟"
رفع خافيير أحد حاجبيه باستمتاع ساخر ، وقال: "انت يا آنسة بيريسفورد كاذبة ، كما انك سارقة".
توفف لبرهة ثم تمتم مضيفا :" لابد ان تلك العادة تجري في دماء عائلتكم".
ادركت غرايس مرتعبة ان الرجل هو الدوق نفسه وانه عرف من تكون .
استنشقت نفسا عميقا مكابدة العناء حتى تجد الكلمات المناسبة لتفسير زيارتها هذه . لكن بدا لها كأن دماغها تداعى ، ولم تقو على التوقف عن التحديق به . وجهه ذو الزوايا الحادة ، وانحناءة رأسه المتعجرفة ، فضلا عن عينيه الغريبتين بلونهما الذهبي، كلها عوامل اجتمعت لتترك تأثيرا مخدرا عليها .
قالت متلعثمة :" أقر أنني ... تفوهت بكذبة صغيرة، لكنني لست بسارقة ".
احمرت وجنتاها خجلا حين تذكرت القصة التي لفقتها حيال حصولها على موعد للقاء الدوق. سيصعب عليها اقناع خافيير هيريرا بانها جديرة بالثقة .
- احقا؟ اذا من منحك الاذن بالسرقة من حديقتي؟
تمشى خافيير عبر الغرفة ثم توقف على مقربة شديدة منها، حتى ان احاسيسها التقطت النكهة الحادة لعطره اللاذع . وقفت غرايس مبهورة مخطوفة الانفاس فيما قام بتمرير احدى أنامله بدهاء، نزولا من فكها وصولا الى اسفل عنقها. انحبست انفاس غرايس، فأحست بدوار بسبب افتقارها للأوكسجين . حدقت به عاجزة عن الكلام، ثم شهقت عندما انتزع فجأة الوردة المحشورة في عروة زر الفستان.
همست :"انها مجرد وردة واحدة ".
اما خافيير فتمتم متهكما :" بالطبع! ماقيمة سرقة وردة واحدة في حين ان والدك سلبني مسبقا ملايين الجنيهات؟"
اطلقت غرايس انينا ينم عن اليأس حين صدمها مجددا هول الجريمة التي ارتكبها والدها، فقالت :" آه يا إلهي! أدرك أن الامر يبدو سيئا .."
- لا يبدو الامر سيئا فقط آنسة بيريسفورد، بل يبدو مريعا .
بدا خافيير كالأسد الذي ينتظر الانقضاض على فريسته، فيما بدت غرايس كالفريسة التي دفعها غباؤها الى الدنو كثيرا منه . تمتمت :" آسفة".
ابتلعت الدموع التي سدت حلقها، فيما تذكرت مدى ضخامة المبلغ الذي اختلسه انغوس. إنها ثلاثة ملايين جنيه استرلينينا قام بتحويلها خلال مدة من الزمن الى حسابات مزيفة . ترافق انزلاق والد غرايس الى الاحباط والاسى العميق مع اعتقاده المهووس بأن ضربة حظ واحدة يحظى بها على طاولة الروليت سوف تمكنه من تغطية اموال الدائنين ودفع الاموال التي اقترضها من المصرف .
استهلت غرايس كلامها قائلة :" ادرك ان والدي ارتكب خطأ شنيعا لكن هنالك اسبابا دفعته الى ذلك"
تشدق الدوق دي هيريرا قائلا :" انا واثق ان لديه اسباب، وان بامكانه اصلاع القاضي عليها ".
رن جرس الهاتف الموضوع على مكتب خافيير فالتقط السماعة واصغى للحظة، ثم اعادها الى مكانها قبل ان يوجه لغرايس ابتسامة قاسية اخرى.
ادركت غرابس فطريا بان ذاك الاتصال اعلمه بوصول الشرطة ، فغمرها الهلع. هذه هي فرصتها الوحيدة للدفاع عن قضية والدها ، وهي لن تستسلم من دون مقاومة .
قال خافيير ببرود :" أدهشني لقاؤك والتعرف بك، آنسة بيريسفورد . لكنني أخشى انه حان اوان رحيلك"
- ارجوك! يجدر بك ان تصغي الي. ان والدي ....
- يستحق كل ما يحصل معه.
كان خافيير فد وصل الى الباب، ولغة جسده تحذرها من ان صبره وصل الى حده الاقصى ، لكن غرايس يائسة جدا .
- انه مريض ، مريض عقليا. لم يكن يدري ما يفعله.
اجابها خافيير :" آه! ما بالك؟ انغوس بيريسفورد استغل مكانته كمدير للمصرف ، فأخذ يحول الاموال الى حسابات زائفة خلال الثمانية عشر شهرا الاخيرة ، وهو يدرك تماما ما يفعله "
أطبقت يد خافيير على مقبض الباب، لكن قبل ان يتمكن من فتحه اندفعت غرايس بقوة فاستندت الى الباب الخشبي. تضرعت قائلة :" لم يتمكن والدي من ايجاد طريقة اخرى. ارجوك .... امنحني خمس دقائق من وقتك، ودعني اشرح لك الاسباب التي دفعته لارتكاب فعلته هذه ".

اعتقدت غرايس للحظة كادت توقف قلبها انه سوف يجرها بالقوة بعيدا عن الباب؛ بعد ان اطبق يده حول معصمها بقبضة مؤلمة ، لكن فجأة سمعت طرقة حادة من الجانب الآخر للباب.
تكلم خافيير بأيجاز مستخدما لغته الام ، وهو غير مدرك ان بمقدروه غرايس ان تفهم سؤاله وجواب خادمه الذي ابلغه وصول الشرطة وبأنهم ينتظرون في البهو .
لقد حذرها المحامي بأن والدها سوف يواجه حكما بالسجن لمدة طويلة، وما من شيء يمكن انقاذه الآن . فجأة احست بالارتخاء في عظامها ، أما الدموع التي راحت تتجمع في عينيها منذرة بالانهمار منذ ارتعابها السابق في الحديقة ، فبدأت تنهمر بصمت نزولا على وجنتيها .

نهاية البارت صوتو وعلقو ع الرواية ☹☹

Continue Reading

You'll Also Like

73.7K 1.4K 9
مجرد التفكير أنها وقعت في خطته كالحمقاء الساذجة , سامحة له أن يسيطر عليها بالكامل وقد استعمل عاطفتها نحوه ضدها . ووراء المظهر الكاذب الوسيم لرجل الأع...
2.6M 56K 61
تعالت همسات الجميع من حولها منهم المشفق منهم الشامت بينما هي تجلس مكانها جاحظة العينين غير مصدقة انه فعل بها هذا لقد غادر بوسط الزفاف تاركاََ اياها ت...
132K 1.9K 16
عزيزتى: لقد كنا على خطأ وأعتقد أنه من الأفضل أن ننهى علاقتنا عند هذا الحد ونطوى الصفحة دون أن نحاول رؤية كلينا للآخر أنا أسف على الألم الذى سببته لك...