Empty Crown | تاجٌ فَارِغ

By Mervadoz

77K 3.4K 2.5K

الرّواية من سلسلة Eigengrau " أحبّ كيفَ تراقِبني دائمًا يا أرغوس! " تحدّثت ساخرة و أناملها المضطربة تسير على... More

INTRO
تمهِيد : الظّلال الدّائمة.
١. أعِدنِي الى اللّيلة الّتي التَقينا بها.
٢. كارمِن
٣. المَغِيب.
٤ . نبَضات قَلب.
٥ . مِن جنّةِ عَدن.
٦. جنّة، انتَظِرِي.
٧ . أكرَهُك، لا تترُكني
٨ . مَن تكُون تِلك؟
٩. مُلاحظَاتٌ فارِغة.
١١ . خالٍ من العيوب
١٢ . المًقنّع
١٣. لأجلِ حبٍّ ابنة.
١٤ . طيورٌ سوداء
١٥ . قرِيب
١٦. شَجرةُ الاعدام.
١٧. لا وقتَ للموت.
١٨. نهايةُ العالم.
١٩. تِلفاز
٢٠ . لاَ أحَد.
٢١. انَا و الشّيطَان.
٢٢. القلعة
٢٣ . قُل نعَم للجنّة.

١٠ . جينز ازرق

1.7K 117 71
By Mervadoz

كمَا قُلنا من قبل، الظّلال الدّائمة تمْلِك مواهب متعددة اكثَر من اعدادِ مسرح جريمةٍ مثالي.

مثلاً نانا و هِبَتها المُبهرَة في ترصّد حبيب المافيا الجديد.

يسكُن بوسطِ المدِينة، لديه شقيقتان و شقيقاَن، عمرُه ثلاثون، وُلد بالسابعِ من أيّار من ربّة بيتٍ و ميكانيكيّ.

زمرة دمِه A موجب، درَس في اعداديةِ ابراهام لينكون الشرقية ثمّ فُصل منها لانه حاولَ طعنَ معلمته...

لابدّ انها كانت معلمة فاشلة هي السبب في انحراف الرجل المسكين ، علّقت نانا و هي تجمّلُ ماضي حبيبها الاسود.

اسمه فيليكس و يقضِي اغلبَ وقته بنادي التعرّي مع اصدقائه... اسماء اصدقائه، اسماء حبيباته السابقات، أقربائه و الى اخره.

نانا جمَعت اكثَر من هذه المعلومات في ليلةٍ و ضحاها عن البلطجيّ الّذي وقعت بحبّه.

و ها هي الانَ بملابسَ تعكِس العفّة و الفقر، لدرجة انّها وحّدت لون شعرها للأسود  ، و بين يديها مبلغ ماليّ...

نانا اعتمدَت هذه المرّة على كتابٍ آخر للحصول على حبّ حياتها، بقصّة اشبه بقصتها...

هي الان ستدّعي انها ابنه القسّ الذي يدينه بالمال، و انها هنا لدفع ديْنه... فيليكس سيراها، يُعجب بشجاعتها و جمالها، عفّتها و دورها البطوليّ، ثم يقع بحبّها!

ترجّلت نانا داخل نادي التّعرّي الخالي و قد وضعت قطراتِ العين كي تبدو انها كانت تبكي.

سارت بحياءٍ نحو فيليكس و صديقيه، استقرّت بينهم ثم وضعت المال امامهم و هي ترددُ بحزن.

" هذا كلّ المال الّذي املكه حاليا، ارجوكَ دع ابي و شأنه! "

نظر الثلاثة اليها ثم الى بعضهم باستفسار، اذ لم يروها من قبل.

ثم حمَل فيليكس المال و اخذ يعده.

" و من تكونين؟ "

رنّ صوته الرجولي الخشن بمعبدِ قلبها، ذابت نانا لكن تماسكت في نفس الوقت، حتّمت على نفسها اكمال مسرحيّةِ الفتاة المسكينة التي تبكيِ كلّما تنفّست.

" انا ابنة القسّ "

" لم اعلم انّ القسّ بامكانه الزواج "

" الكاثوليكيون! بامكانهم الفرار من جرمهم بسهولة "
علّقت نانا في همسةٍ خافتة و قد خرجت عن نصّها قليلا دون ان تدري.

" ما الذي قلتِه؟ "
تمتم احد الرجال بتعابير تشِي بالشك، اطلقت نانا سعالاً جافّا و عادت الى تمثيليّتها متقنة الصنع.

" لا شيء سيّدي، كنتُ ادعو "
نظروا الى بعض و هم يتبادلون الشكوك، الى ان رمى فيليكس حزمة المال على الطاولة، اشار لصديقيه بالذهاب كي يتركاهما وحدهما.

قفزت نانا من الحماس بداخلها، مستمرّة برسمِ لوحةٍ تراجيديّة خارجاً.

" ما اسمكِ يا جمِيلة؟ "

قال و هو يشير لها بالجلوس بجانبه ففعلت و هي ترسمُ رفضًا دراميا على وجهها.

نانا تمنع نفسها بِالكادي من الارتماء بين ذراعيه المثيرتين... كل شيء فيه كان مثِيراً، اعينه الجميلة، شعرُه البنيّ اللامع، ابتسامته الخبيثة، و بالطبع امواله.

" نانا... اسمي نانا "
تحدّثت و هي تتحاشى النظر اليه، شعرت بذراعه تطوّق كتفيها من الوراء.

" حسنا نانا، تعلمينَ ان هذا المبلغ غير كافٍ يا جميلة؟ "
همسَ بانفاسٍ ساخنةٍ باذنها، فنظرَت اليهِ باعينِها المكوّرة الفاتنة، تحاول تطبيق حِيَل اعينِ الغزال عليه.

" سأفعل اي شيءٍ لاجل تسديد دينه! "
ردّدت بِصوتٍ متهدّج بريء فتحدّث بعدها بِصوتٍ بدا مستمتعاً.
" اي شيء؟ "

" نعم! اي شيء"
اجابته على الفور، فلمَعت اعينه كوحشٍ وقعت غزال جميلة بين يديهِ .

اقترَب اكثَر الى ان شعَرت بِجسدها يكادُ يعْبُر جسده من شدّة القرب.

" و الان اخبِريني نانا ، هل تملكينَ اصدقاء؟ "
انسابت كلماته في همسٍ ثقيل، فهزّت نانا رأسها بنفيٍ على الفور و هي تميل بظهرها حينَ اشتدّ قربه منها.

" حبيب؟ "
سأل مجددا.

لا... لم أقع يوما بالحبّ "

كاذبة، وقَعت بحبّ التافِه و السيّء، الجيّد و المهمّ، الكبير و الصغير... ناناَ كانت يائسة للرومنسية منذِ الابد.

عند تلك الاجابة ظهر طيفُ ابتسامةٍ شيطانية على شفاهه الممتلئة، سحبَ سكينه بيدٍ واحدة امتدّت الى نانا التي لم ترمِش للحظة...

مرّت تلك السكين بجانبها، كما لو انه يحاول اخافتها، ثم قطع وردـةً من الزينة التي تحيط بهما، التقط الوردة الحمراء، و غرَسها بين خصلات شعرها كما لو انه يعلنُها ملكه ريثما يهمس بانفاس ساخنة انجرفت كالحمم في اذنيها.

" مثالي "

" السّيّدات يُحببّنَ الهدايا، خاصّةً الباهِظة! "

تلك الجملةُ القصِيرة و الشّرح الطّويل العميقُ الذي تلاهاَ من كتاب " كيفيّة معاملة السّيّدات " ، قد أخذَت جوهان منذ الصّباح الباكرِ الى أرقى المحلاتِ التّجاريّة بالمدينة.

بما انّ اتّباعه لنصائح الكتابِ قد أحرزَ تقدّما واضحاً في علاقته مع زاراَ، قرّرَ تنفيذ كل اوامِره...

بنهاية الامرِ، ابتسامة زاراَ مُغرِية، خاصة و خدّاها يتوهّجان حمرة... و هو لا يمانع رؤية ذلك كلّ يوم.

و الان، ماذا تحبّ زارا؟

تنانير قصيرة... اجابَ عن سؤاله دون تفكير.

لكنّ الجو باردٌ عليها ، علّق بداخله.

ماذا تحبّ زارا غير التنانير القصيرة؟

مجوهرات؟ ... لا... قيل في الكتابِ ان المجوهراتِ تقدّم في المناسبات المهمّة.

ماذا عن الحقائب؟ ناناَ تحبّ شراء الحقائب كثيرا... نانا و زارا فتاتان... اذاً زارا ستحبّها ايضاً.

حلّل كما لو انه بخضمِ حلّ مسألةٍ تناسبية و هو يعبثُ بالوشاحِ الّذي لفّته حول عنقه تلك الليلة، ينسّقه مع ملابسه منذ اسبوع.

" هل بامكانِي مساعدتكَ سيّدي؟ "

رنّ صوتُ البائعة الرقيقِ و هي ترتدي ابتسامةً لطيفة، وراءها زميلاتها اللّائي يحدقْنَ في هذا الشّابّ الوسيم باعيُن لامعة مُغرَمة.

كما لو انّه استيقظَ اخيراً من افكاره المتشابكة رسمَ ابتسامةً رسميّة.

" نعم، ابحث عن حقيبة نسائية... كهدية "

اقتربت الفتيَات اكثر و هنّ يتغامزن.

اعتادَ الرجال المجيئ في الاونة الاخيرة لمحلاتٍ نسائية بحجة شراء هدايا نسائية - حجة وهمية لِلعثورِ على حبيبة - ، لكنهم بالحقيقة يستخدمونَ بذلكَ اروعَ تقنيّة لاصطياد الفتيات.

اشعارهنّ بأنّك رجلٌ نبيل تحبّ تدليلَ حبيبتك...

تكوين رابطة مع الفتاةِ التيِ ستقدّم لك نصائح لاختيارِ الهدية.

العودة مجدداً لاعادة الهديّة بعد نهايةِ أجَلِ الارجاع.

التقاء نفس الفتاة التي قدمت النصائح...

تمثيل الحزن و الهجر، الكذب بشأنِ انه انفصل عن حبيبته لانها هي الطرف الشرير بالقصة... الحصول على الشفقة.

و هكذا تحصل على حبيبة!

" لقد قدِمت الى المكان المناسب سيّدي! "

أعلنت بِحماسٍ و هي تقترب منه بشكلٍ مبالغ فيه.

" ماذا تريد على سبيل المثال؟ "

نطقَت اخرى من يمينه... اصابته الحيرة و هو يفكّر في ما قد يناسب زارا.

هي عادةً ما ترتديِ اشياءَ تتأرجح بين العبثيّة و الهندمَة... هي تستطيِع ان ترتديَ قماش الترتان و ان تبدوَ مهندمةً و انيقة بكل سهولة.

" هل هي فتاة بيركين؟ ام فتاةُ غوتشي سيدي؟ "

تحدثت احداهنّ و هي تقف امامه، تحاول حبس عينيه في عينيها، لكنه اشاحهما بسرعةٍ الى السماء يفكّر.

البيركين لا تناسبها دون شكّ ... و لا الاخرى كذلك.

" هل هي تفضّل حقائب كبيرة، ام صغيرة؟ "

هي ترتديِ كلاهما... شدّ حاجبيه حين شعر بالضغط...

" هل هيَ تحبّ الالوان الصاخبة ام القاتمة ؟ "

رنّ صوتٌ انثويّ جديد جعله يدرك انّه لا يعرف شيئا عمّا قد تختاره زارا... شعرَ باحباطٌ شديدٍ فجلسَ و هو يحمل رأسه بيأسٍ بين يديه.

نظرت الفتيات الى بعضهنّ بِابستغراب.

" هل انت بخير سيدي؟ "

" لا اعلم... لا اعلم ما الذي قد يعجبها "
هلوَس بِيأسٍ تام، و كأنه بخضمِ مسألة حياةٍ او موت.

" لا بأس، صفها لنا، سنساعدك نحن "

نطقت بِنبرةٍ لطيفة و هي تجلس بجانبه، الاخرى كذلك، اخرى جلبت كرسيا و الثانية جلست على مسند الاريكة.

تنهّد طويلاً قبلَ ان ينطِق فجأة بأوّل شيءٍ يلحظُه بزارا كلّ يوم...

" هِي اعتادت طلاءَ اظافرها بالاسود كثيراً قبلَ ان اخبرها ان اللون القرمزيّ يليق بها "

لا يعلمُ كيفَ او لماذا يفيض قلبهُ بِالمياه الفاترةِ الحلوة، كلّما شاهدَ زارا بهذا اللّون... لكنّه لا يمانع ذلك الاحساس بالفخر، لأنّها تحاول اثارة اعجابه بصبيانيّة، مثلما هو يفعل.

" و لديها شعرٌ قصير، كستنائيّ قاتم، يحضنُ وجهها الصغير ... عادةً ما تضع كحلاً، ان لم تستيقظ بصداعٍ فظيع... "

توقّف و هو ينظر الى الامام كما لو انه يؤسُم صورتها في الفراغ .. استأنف حديثَه بطيفِ ابتسامةٍ بريئة.

" و من ثمّ اعين الغزال خاصـتها ... شاسعةٌ ذات رموشٍ ناعمة، لكن قاتلة كأسهمِ كيوپيد ... تزدادُ شساعةً حين ترفع بصرها اليّ ، تعقدُ حاجبيها المشدودينِ و هو غاضبةٌ من نكتةٍ سوداوية اطلقتها للتو... و هناك ستتمكنين من رؤية رمالٍ باهتة منثورة على وجنتيها و جسر انفها "

انقطَع صوته مجددًا و هو يتجِه لرسم اجمَل ملامحها، شفاهها!

" اما شفاهها، فهي اجمل ما فيها...  العلياَ تتقلّص حين تبتسم ، كي يظهر صف اسنانها المنتظم... لكن السفلى ممتلئة... عادةً ما تحددهما بلونٍ باهت ، هي لا تضعُ الوانَ قاتمةَ عليها كثيرا"

زارا و ماذا تتناول على الفطور، كيفَ انها تشرب قهوتها دون سكّر ان تناوَلت شيئاً حلوًا معها... زاراَ تعانيِ حساسيّةً من التّوت البرّي، زاراَ تحبّ الحياكة، زاراَ تفعل هذا و ذاك... و الى اخره.

المحلّ يوشك على الاغلاق، و جوهان لم ينتهِ بعدُ من التحدّث عن زارا.

" او تعلمين آنستي، لا داعي لكل هذا وجدت حلاّ! "
صفّق بيديه بعدَ اظلَم النّهار، استيقظت العاملات و نظرنَ حولهنّ بدهشة و حيرَة.

" سأسألها ما الذي ترتديه الان! و سأقرر بناءً عليه ما سأشتريه لها "
قال بعد تفكيرٍ عميق و هو ينهض تاركاً الفتياتِ ينظرن نحوه باعين جانبية.

أتقَنت زاراَ الحياكة كما لو انّها خُلقت و بيديِها ابرتاَن...

تحيك صفوف الغرزِ المتتاليَة بامتياز ، مع تقدم الصف أثناء الحياكة تَسحب حلقة جديدة عبر الحلقات القديمة حتى تتمكن الغرزة التالية من المرور عبر هذه الغرزة، وهذه العملية في النهاية تنتج القماش ...

تنهّدت نانا بملَلٍ امامها و قد امتلأت يداها بخدشاتِ اوريو... تنهدت مجددًا كي تجذِب انتباه زارا التي نظرت اليها اخيرا.

ابتسمت نانا ببراءَةٍ ثم تحدّثت بخجل و هي تلعبُ بالوردة الجافّة التي لا تتركها بتاتاً.

" لقد التقَيتُ احدًا "

" حقّا؟! "
اتّسعت اعين زاراَ بدهشة و هي تترك الحياكة، اخيرا فهمت سببَ مزاج نانا الجيد اليوم.

" هو وسيم للغاية، غنيّ و قوي "
اضافت بفخرٍ و خدّاها يشتعلان خجلا.

وضعت زارا عدّة حياكتها جانباً و الفضول يملأها.
" هذا خبرٌ رائع نانا! اخبريني عنه اكثر! ماذا يعمل على سبيل المثال؟ "

" انّه زعيم مافيا "
اجابَت بِبساطةٍ كما لو انّها اخبرتها انّ حبيبها طبيبٌ ينقذ الارواح...

تجمّدت زارا مكانها و ثقل لسانها، عجزَت عن ايجاد اجابةٍ تلائم حماسَ نانا، لكنّها لم تستطِع بتاتاً.

حقّا نانا و جوهان اخوة، زارا صدّقت الامر الان و لم يعد امامها ذرّة شك واحدة.

دعت ان يُنقِذها احد، اي احد... و لذلك رنّ هاتفها، فاسرعت بالاجابة عنه.
" آسفة، علي الاجابة عن جوهان "

اعتذَرت بأدبٍ و هي تخرج تاركةً ناناَ تحلم بمستقبلٍ بعيدٍ مع محبوبها البلطجيّ.

" نعم جوهان "

" اخبريني آنسة سكازوس، ماذا ترتدين الان؟ "
تحدّث مباشَرةً...

مجددًا تجمّدت مكانها.

" هل انت جاد؟"

تمتمت حين عثَرت على صوتِها.

" نعم، اخبريني بسرعة "

تحدّث بلهفة فصمتت زارا قليلاً و هي تستوعبُ الامر...

جوهان الّذي لم تستشعِر منه يومًا فعلاً شهوانيّا، يطلب منها الان ان تخبِره ماذا ترتديِه كما يفعل طفلٌ مراهقٌ تافه مع صديقته التّافهة بمنتصَف الليل... ؟

" لِما لا ارسِل لك صورةً ايضاً؟ "
رددَت بِسخرية و هي تعتقد انهُ ايضاً يمزح معها.

" هذا سيكون رائعا! "
هتَف ببهجةٍ...

هذا الرّجلُ فقدَ صوابَه دون شكّ.

" سُحقًا لك جوهان "

تمتمت بسخطٍ و هي تغلِق الهاتف بوجهه.

نظرَ جوهان باستغراَبٍ الى هاتفه و هو يحاول تحليلَ سبب غضبها... تمتمَ ببضع شتائم حين كسَرت زاراَ كبرياءه، و دون تفكِيرٍ ألقى كتيّب كيفية معاملة السيدَات.

بنهايةِ الامرِ، تلقّى جوهان معاملةً اسوء من معامَلة الكِلاب حينَ عاد للبيت، و يبدُو انّ اوريو كذلِك اتّخذَت موقفًا منه، لانّها لا تدخل غرفته بتاتاً.

و مثلَ نظراتها الجانبية القاتلة، تلقّى مثلها من زارا التي لم تتفهّم غباءه المُفاجئ... و اخذَت ترسل نظراتٍ من عيارٍ ثقيل له كلّما مرّت بجانبه من الردهة.

و لذلك اصبح جوهان يعايِن الردهة قبل الخروج من غرفته.

نظر عبر فتحة الباب لوقتٍ جيد، تنهد براحةٍ حين تأكد من فراغها، و خرجَ كي يمدّد عضلاته، لكن لسوء حظّه خرجت زارا في نفس الوقت، و غرفتها تقابل غرفته.

تصادمت اعينها المتسعة باعينه، و لكن هذه المرة لم تقتله بنظراتها، بل حطّت بصرها على جسده بدل ذلك، و هو كذلك.

سروال جينز ازرق و كنزة بيضاء و هو يربط شعره، بدا كجيمس دين من اول نظرة لزارا - ، ظهر لاولِ مرةٍ كشابّ بعمْرِه، نظِرٌ للغاية للموتِ مقتولا.... و ابعدُ كثيراً من قاتل مختلّ.

ريثما هي بشعرها القصير، تنورة جينز زرقاء بحمالات و قميص ابيض.

ملابسهما متناسقة لدرجةٍ مُرِيبة.

و اصبحَ هكذا يلائمها اكثرَ من ملابسها المفضّلة.

" ما الّذي ترتديِه ؟ "
سألت زارا مخترقةً الصمت العويص الذي انتشَر بينهما، تغلق الباب وراءها اخيرا بعد ان تخطّت الصدمة.

" ملابس "
اجاب بتحاذق و هو يغلق الباب ايضا.

" منذُ متى ترتديِ الجينز؟ "
سألت بحدّة نادرةٍ منها و هي متأكدةٌ انّها من كثرَة ما شاهدته بِملابسه الانيقة الفاحشة الثراءانهُ ليسَ برجلٍ يرتدي شيئاً عبثيّا كالجينز.

" ارتدِي ما أشاء آنسة سكازوس، لا احتاج موافقتكِ "
اجابها بنفس نبرتها.

" هل تريد تقليدي؟ "
قالت و هي تطوي ذراعيها على صدرها، تنظر اليه باعينٍ تشي بالتهديد... احمرّت اذن جوهان عند التهديد الفظيع، انّه يحاول تقليد اسلوب فتاةٍ نصف خزانتها مستوحاة من فيفيان ويستوود.

" لماذا؟ من انتِ كي اقلّدك؟ "
تحدّث بانفعال.

" هاڤن التي ترسمها على كتبك "
اجابته بكلّ عجرفةٍ فأخرسته بكل معنى الكلمة... وجد نفسه غير قادر على لفظ نفسٍ حين علمت زارا بشأن رسوماته.

و لحسن حظّه، او سوئه... تدخّل انذاك ضيفٌ لينقذه من موقفه الحساس.

بيرلين؟ "

همسَت متفاجئةً من وجودِه بعد ان اطلعتها مدبّرة المنزل بزيارته.

" زَارا العزيزة! كيفَ حالك؟ "
رَحّب بها بنبرةٍ رسميّة معتادة و ابتسامةٍ فاقعةِ الرّياء.

" بخير "
تمتمَت بِارتباكٍ و هي ترمقه بنظرَاتها المتفحّصة... هي لا تحبّه، و لن تفعلَ يومًا... و تشعر ان زياراته لا وجود لها ان لم تكُن هادفةً لشيء.

" اجلسي، اريد التحدّث معكِ بأمرٍ مهمّ "
عرَض عليها بلبَاقة،  نظرَت نحو جوهان الواقف بجانبها... كانت عيناه فارغتانِ مما اثاَر رِيبَتها، تمامًا كما كانت عيناه حينَ كانت قلقة على والدها بالمشفى...

كما لو انّ ما يحدث لا يدهشه.

السفينة تغرق و الجميع يصرخون و يهلولون... الا المدركون ان لا هروب من الموت - اي الحقيقة - صامتون.

" اردتُ التحدث حول هذا الموضوع و والدك معنا، لكن للأسف صحته لم تسمح له بالوقت الحالي "

جلسَت زاراَ امام بيرلين و بجانبِ جوهان خلفَ الطاولة... و هناكَ اخذَ بيرلين يُفاتِحها بالموضوع.

" الزّواج؟ "
تمتمَت زارا بعدم تصديقٍ مع شيءٍ من القهقهة .

" لكنّني لا املِك شريكا او حبيبًا "
استأنفت الحديث حين استمرّ الجميع بمقابلتها بِوجونٍ جادة رصينة.

" و ما المانع؟ ليسَ الوقت متأخرًا على التعرّف على شخصٍ جديد "

ردد بيرلين بِنبرةٍ عادية كما لو انّه يناقش احوال الطقس معها ليس الا... لم تعتقِد انه سيستمر باصراره بعد المحادثة التي جرت بينهما بالمشفى.

" سيّد بيرلين... والدي تعرّض لوعكةٍ صحيّة قبلَ ايام... لا أظنّ انّ الوقتَ مناسبٌ لمناقشَة اشياء كهذه "

تمتمَت بنبرةٍ متهدّجة .

" بل هو كذلك، طالما والدك هنا... "
تراجعت كلمات بيرلين الى همسةٍ خافتة، رفعت حاجبها الباهتَ بِعمد فَهم.

" ماذا تقصد؟ "

" انّه يقصد طالما والدك ليسَ مسافِراً... "
ردّد جوهان على عجلٍ بنبرةٍ منخفِضة و هو يتواصل بصريّا مع بيرلين الذي تلاشَت ابتسامته الواسعة الى اخرى ضيّقة.

" نعم... لكن... "

قاطعت زارا التواصل النظريّ المميِت ببراعة ، رسم بيرلين ابتسامةً جديدة بسهولة و عاد اليها.

" أ لا تظنّين انّ انشاء عائلة هو الهدف الاسمى للكائناتِ الحيّة؟ اقصِد انّ كلّ انسانٍ يتمنى ان يحصُل على بيتٍ دافئ ... ايضاً والدتُك بعمرِكِ كانت مخطوبَة بالفعل لوالدك، أ ليس كذلك؟ "

أيّد نفسَه بايماءة، لكنّها بقيت تنظر صوبَ عينيه بِلا تعابِير محدّدة... ستكونُ أغبى ما في الكونِ ان صدّقت هراءً كهذا، بل استغباؤه لها يُثير قرفها بشدّة.

صمتت زارا قليلاً، حوّلت نظرها صوبَ جوهان  ، كما لو انها تنتظرُ شرحًا منه، لكنه ابقَى نظراته الصقيعيّة على بيرلين الّذي اتّسعت ابتسامته في وجهه.

أومأ بيرلين لِتابعه الواقف وراءه بِوضع ملفّاتٍ على الطاولة امامها لرجالٍ بمستواها الاجتماعي، ثمّ نهضَ و يداه وراء ظهره، يقترب من الشرفة، يشاهد ما وراء الزجاج بِاعين هادئة كابتسامته.

" لقد اختَرت لكِ أفضَل رجال المدينة... أي فتاةٍ قد تتمنى الزواج من امثالهم "

أصابها الغضب ممزوجا بقلّة الحيلة... يدها تضغط على الاريكة تحتها، اقترب جوهان منها، شعرَت بملمس قفازه الاسود الجلدي ، ابهامه يتلامس بابهامها... رفعت بصرها اليه ريثما هو يرتدِي ابتسامةً باردة.

" اختارِي من منهم عليّ قتله اولاً "
انسابت كلماته بصوتٍ منخفضٍ جافّ... فقدت زارا مجددا قدرتها على الحديث امام ذلك العرض المرعب.

نظر اليها حين لم يتلقَ منها اجابة، اتسعت ابتسامته المختلة و هو يهمس.
" اختاري واحدًا او سأقتلهم جميعاً "

" جوهان هذا ليس مضحكًا "
رددت وراءه بجديّة... لاتزال غير موافقةٍ على اسلوب حبّه الهمجيّ.

" سيكون مضحكًا اكثر ممّا سيكون و انت تتزوجين احدهم "
تمتمَ بارهاقٍ و هو يتنهد، يبعد يده عن يدها كي يطوي ذراعيه على صدره، كما لو انه غير راضٍ عن اجابتها .

" اذاً زارا العزيزة؟ أم امهلكِ ليلةً للتفكير ان أردتِ؟ "
التقطهما صوت بيرلين المبتهج من عراكهما البصريّ الحاد... رفعت زارا بصرها نحوه فأطالت النظر، ثمّ تحدثت بصوتٍ متباطئ.

" هل لك ان تشرَح ليِ لما من الضّروريّ عليّ ان أختارَ؟ و لما حضرتكَ عيّنت لي مرشّحين؟ لِما كلّ هذا؟ "
سألت بلهجةٍ مباشرة.

" لِماذا؟ أ لا تفكّرين بانشاء عائلة؟ "
اجاب عن سؤالها بسؤالٍ شعرت بالاستغباء منه.

" لازلتُ بالتاسعة عشر ... بل لم أبلغها حتّى "

" لكنّك الفرد الاخير المتبقّي من عائلتك، أ تنوِين جعل اسم عائلتك ينقرض؟ "
تحدث بلهجةٍ متنكرةٍ بالسخرية.

" و لِما انت مهتمّ جدّا بشأن الجيل القادم من  عائلتي؟"

رددت وراءه على عجلٍ بسؤالٍ انطوى على غضب خافت... لم تعد قادرةً عل  تحمّل ان تكونَ بِلعبَةٍ تجهل قوانينها و لاعبيها بعد الان... و لم يعد بيرلين هذا يخيفها،  و لا والدها.

" لِما لا ترِيدون شرح شيء؟ هل انا صغيرة بما فيه الكفاية كي لا افهم، لكنني كبيرة بما فيه الكفاية لأتزوج؟ "
تنهّد بيرلين طويلاً و هو يندفع بظهره للامام كي يضع مرفقيه على سطح الطاولة، يضمّ يديه ببعضٍ و ينظر نحوها بسخافة.

" دعنا نتحدّث دونَ امثلة الخداع و الغش المتبادل الذي لا يؤذي و لا ينتبه له احد سيّد بيرلين... "

انسابَت الكلمات من شفاهها باندفاعٍ حذِرٍ، قالت.
" من انت؟ "

صمتت قليلاً ثمّ عدّلت من سؤالها بطريقةٍ تناسب المعضلة.
" او ما انت؟ "

تبلورت ابتسامةٌ خبيثة على شفاه بيرلين الذي علّق بنبرة فخور.
تطرحين الاسئلة بِذكاءٍ آنسة سكازوس... "

حوّل نظره نحو جوهان فتلاشت ابتسامته قليلا و هو يلفظ كل كلمة ببطء.
" ظهرَ ان رفقتكِ لجوهان آتت بثمارها نوعا ما "

كانت على هامش حياتكم، طفلةً ما كان ينبغي عليها جرح انظارهم.. لكنّ الان بعد غياب شقيقها ، أصبَحتْ كلّ ما يهمهم...

الرّياء الفاقع للعيون لم يعُد يعجبها فطالبت بالحقيقة... و كانت زارا نادمة لان الحقيقة اغرقتها.

عائلتها معلّقةٌ كما هو المحكوم بالاعدام بحبل مشنقته بأشخاصٍ ستفضّل بقرَ بطنها على الموت على ايديِهم...

حتى لو سحقت الجبال و دفنت المحيط، حتى لو هربت من الضيَاء القاطع ال  الظلام... ستجدهم هناك... ينتظرونها للابد.

منزلتها و حسها العالي بالعدالة لا يتوازى بتاتاً مع حجمهم... الظلال الدائمة، اطفالٌ رضعوا السمّ بدل الحليب، جيشٌ من قتلةٍ يتحركون كالدـمى، يحركهم المونديجو... الرجلُ الاعلى شأناً في هذه البلاد الملعونة بالشرّ.

و عائلتها ليست فقط بعائلة تديرُ شؤونها بينَها، ليست فقط باسمٍ يظهر بصحف الجرائد المنسية التي لا يطلع احد عليها غير كبار السن....

بل هي كيانٌ قبل اسم، تتبعُ قوانينَ تسعة مثلها مثل باقي العائلات التسعة مثلها... العائلات الكبرى بهذه البلاد، تلك التيِ يسير اسمها كما يسير الرصاص عبر اللحم.

اموالٌ تفوقُ الخيال، نفوذٌ يعبر المحيطات... و بالطبع لا مفرّ من ظلامٍ دامٍ امام عا:لة بهذه القوة... دمٌ مسفوح في عتمةِ التاريخ، لا احد يذكره حتى الذي يتذكّره.

زَارا ادركت حينها انها لم ترِث فقط نصفَ جيناتِ والدِها، و ليس فقط حدّته و لا اعينَه الزّرقاء البلّوريّة... هي ورِثت كلّ تاريخِه الذي ورِثه بذاته عن والديهِ.

و بالتالي ورِثت مأساته.

﴿ يُتبع ﴾

Continue Reading

You'll Also Like

467K 35.9K 61
من رحم الطفوله والصراعات خرجت امراءة غامضة هل سيوقفها الماضي الذي جعلها بهذة الشخصيه ام ستختار المستقبل المجهول؟ معا لنرى ماذا ينتضرنا في رواية...
179K 607 1
حين ياتي ذلك اليوم بانتقال عابثة الفوضى إيليت لا سيردا بصف الثاني عشر للقسم ب بمدرسة امستردام تجد الطالب الهادئ و المحترم إيثان ، عمله واحده لوجهان...
30.1K 1.5K 6
اجتمع بها داخل جامعةٍ من جامعاتِ قسنطينة العريقة، فنشأت بينهما قصّة حبٍّ لم يكن الطرف الثالث فيها رجلًا أو امرأة إنّما كان قدراً تلاعب بكتابِ العشق...
1.8K 132 6
تَحولت تلكَ الحياة الّتي جاهدت لجعلها تنبضُ، حطامًا بينَ ليلةٍ وضحاها. «أيّ غبيٍّ سيرضى بالزواج من امرأة تُصارع الموت!». كتبت في الثامن عشر م...