بعد أن انتهى ورد من زيارة والدته خرج من المستشفى برفقة إياد ، ركبا السيارة لينطلقا ، لكنها لم تستجب ، حاول إياد تشغيلها عدة مرات إلى أن تنهد أخيراً بتعب :
_ اللعنة ، يبدو أنها لن تعمل
رد عليه ورد بمرح :
_ لا مشكلة ، مارأيك أن نستقل الحافلة ؟
شرد إياد بعينيه وكأنه ذائبٌ بحبه ، وحين لاحظ ورد ذلك أخفض رأسه خجِلاً ولكن سرعان ماتمالك إياد نفسه وردَّ وهو يزفر :
_ أيها الأحمق الصغير لما سنركب الحافلة ، سنطلب تاكسي بكل سهولة
قال له ورد مازحاً وكأنه يستهزأ :
_ آه سامحني نسيت أنك السيد الثري إياد لاتعرف ماهي الحافلة ، الحافلة هي مركبة يجتمع فيها الفقراء ليصلوا لمنازلهم بأقل تكلفة
حزن إياد من كلام ورد لظنه أنه يتكلم بجدية ، وحين باشر للدفاع عن نفسه ، لاحظ ورد أنه قد فهمه بشكل خاطئ فأسرع لكي يفهمه ضاحكاً :
_ لقد كنت أمزح معك أيها المجنون لمَ حزنت ؟
ابتهج وجه إياد حين ذلك ، ثم هجم على ورد وطوق رقبته بيده وأخذ ينكش له شعره :
_ إذاً انت تسخر مني أيها الملعون الصغير أليس كذلك ؟
حاول ورد أن يفك نفسه وهو يصرخ فيه متوسلاً :
_ إياد اتركني لقد خربت لي شعري ........ اقول لك اتركني
استجاب إياد له قليلاً ولكنه هذه المرة أمسك وجه ورد الصغير بيديه وكأنه يعصره ونظر في عينيه كأنه ينظر لملاك :
_ هل تبقى جميلاً هكذا مهما أصابك ؟ أم أنني قد سُحرت ؟
احمرت وجنتا ورد المعصورتان بيدي إياد وقبل أن يجيب بأي كلمة انهال إياد على شفتيه بقبلة طويلة كأنه يروي ظمأ السنين ، كأن الحب قد امتلأ
في جسده حتى طاف وأراد بهذه القبلة تفريغ بعض هذا الحب ، فتح ورد عينيه دهشةً ولكنه لم يحاول الهرب ، لم يكن يعرف هل استسلامه لهذه القبلة حباً أم رغبةً أم لأنه عرف أن لاجدوى من الهروب ! ، أفلت إياد ورد أخيراً ونظر إلى الزجاج أمامه وهو يلهث كأنه منتصر ، أما ورد فلقد بقي جامداً مكانه كأنه إن تحرك قيد اصبع فسيذوب خجلاً ، حاول إياد تشغيل السيارة للمرة الأخيرة ، وفي هذه المرة اشتغلت فصرخ فرحاً :
_ لقد اشتغلت لقد اشتغلت نعم نعم
ورد وإياد هما الإثنان كانا يعرفان أنه ليس فرِحاً بتشغيل السيارة
*****************
نزل إياد من السيارة وفتح باب السيارة مسرعاً لورد الذي نزل مبتسماً ، ومشى إياد متوجهاً إلى باب البناء الكبير وخلفه على بعد خطوة واحدة ورد ، وقبل أن يصلا إلى الباب اصطدم رجل كان متوجهاً إلى الباب نفسه بورد ، وبدل أن يعتذر أخذ يصرخ بورد :
_ ألا ترى أمامك أيها الأحمق ؟
تفاجأ ورد من مهاجمة الرجل له وحاول أن يدافع عن نفسه :
_ لكن ياسيدي انت من كنت واضعاً رأسك بهاتفك دون أن ترى أمامك
دفع الرجل ورد ليقع الأخير على الأرض :
_ اغرب عن وجهي وإلا ابرحتك ضرباً
وقبل أن ينهي الرجل كلمته جاءته لكمة على خده أبرحته أرضاً :
_ تضرب من ياابن العاهرة ؟ ، الآن سأريك أصوب الضرب الحقيقي
وهجم عليه وأخذ يلكمه ويضربه حتى بدأ الدم ينزل من أنف الرجل ،أما ورد فركض إلى إياد يحاول ابعاده عن الرجل :
_ أرجوك اتركه ياإياد ...... أرجوك ،أحب على يديك اترك الرجل ستقتله
وكلما حاول ورد ابعاد إياد عن الرجل كلما جن جنونه أكثر وأخذ يضربه بوحشيةٍ أكبر ، حينها قال الرجل بصوت مرتجف يرجوا الرحمة :
_ لقد اخطأت اغفر لي سيدي
وماإن سمع ورد جملة الرجل الأخيرة حتى شعر بألم فظيع برأسه شعر أنه قد مر بهذا الموقف من قبل وقد قيلت هذه الجملة من قبل ، "لكن من قال هل أنا أم أحدٌ غيري؟ "
زاد ألم رأسه ولم تحمله قدماه فجلس على الأرض ، وبدأ يتذكر
" ضربني ، فقلت له : لقد أخطأت اغفر لي سيدي .
لكنه واصل ضربي بوحشية ، اتذكره ، اتذكره جيداً لكنني لاأرى ملامح وجهه لم لاأراها "
وأخذ يعصر مخه وهو يحاول تذكر ملامح الرجل لكن دون جدوى " لاأتذكره ، ولكن أعرف أنه أذاني جداً ، وأعرف أن هذا الموقف مألوف جداً "
أيقظه إياد من غيبوبته فااستيقظ ووقعت عيناه على الرجل يركض هارباً من إياد :
_ هل أنت بخير ؟
رد وهو يحاول اخفاء ماشعر به :
_ هل أنت مجنون ؟ لقد كدت تقتل الرجل
أمسك إياد يدي ورد وهو يدافع عن نفسه ومن يراهم بهذا المشهد من بعيد يظن أن ورد هو نفسه :
_ لن أسمح لأحد أن يؤذي شعرة منك هل فهمت ؟
رد عليه ورد بغرور وهو ينفض الغبار عن ملابسه :
_ لا داعي أستطيع الدفاع عن نفسي
أخذ إياد يضحك بصوتٍ عالٍ :
نعم نعم لقد رأيتك حين هاجمك الرجل كيف بُهتت وجمدت بمكانك قل هذا الكلام لغيري أيها القط الصغير
*********************
جلس ورد على الأريكة مستريحاً ، ومن دون مقدمات افتتح حديثاً :
_ حين خرجت والدتي عن أمر عائلتها وتزوجت رجلاً لم يرضوه قاطعوها سنيناً طويلة ، طوال حياتي لم أسمعها تتكلم عنهم بسوء أو بخير إلا مرةً واحدة قمت فزعاً على صوت نحيبها وشهيقها
حاولت تهدئتها ومعرفة سبب بكائها الشديد فعرفت ذلك الخبر المحزن ، لقد كانت جدتي التي لم أرها أبداً ولم ترها هي منذ تزوجت قد ماتت في تلك الليلة ، ثم قالت لي وهي تبكي من دون حتى أن أسألها :
_ لايحزنني أنها قد ماتت فأنا متأكدة أنها قد ارتاحت من ظلم أبي ولكن مايحزنني أنني لم أرها للحظة قبل موتها ، لم أشم رائحتها ، لم أقبلها أو أحدثها ، حتى المكالمات النادرة التي كانت تحدث بيننا كان يحولها أبي إلى جحيم حين يعرف
لم تتمالك نفسها فاانتحبت مجدداً ثم ضممتها إلى صدري ، بعد موت جدتي قد حاول جدي كثيراً التواصل معها ، شعر بالندم والقهر حين ماتت زوجته ، شعر كم أنه ظالم وجبار ، لكن لم ينفع الندم فلم تسامحه راجحة قط وقد سمعتها يوماً تقول له على الهاتف :
_ لاتحاول طلب الغفران ياأبي فمالم تصلحه أمي بتوسلاتها لن يُصلح بموتها
وأغلقت الهاتف بعدها ، هل تعرف ماالذي جعلني أحدثك هذا الحديث ياإياد ؟ فقط أريد أن أعرف بما أن جدي كان يحاول جاهدا لكي تسامحه ابنته ، هل يمكنك إخباري لماذا لم يأتي معك؟
لماذا لم يأتي لرؤية ابنته وهي في المستشفى تصارع الموت ؟ ، ارتبك إياد ولم يعرف كيف يجاوب فتلعثم :
_ لاأدري ياورد ، تعرف أنه قاسي لربما غضب مجدداً حين لم تسامحه ، لكنني........ لكنني قد قلت له ...... نعم قلت له
كان الارتباك واضحاً على وجه إياد أما ورد فما كان واضحاً على وجهه هو الغضب من جده ، وفجأة انقطع التيار الكهربائي ، قام إياد من مكانه ليفحص القواطع :
_ أف ، ياإلهي مابال الكهرباء في هذا المنزل ، عزيزي ورد سأنزل لأجد الناطور كي يجلب لنا أحداً ليصلح الكهرباء ، لن أتأخر
_ لا مشكلة
خرج إياد وماإن أغلق الباب خلفه ؟ ، حتى أسرع ورد إلى الهاتف الأرضي غاضباً وضغط الأزرار على الرقم الذي حفظه لكثرة مارآه على هاتف والدته ، لم يكن سوى رقم جده ، رن الهاتف كثيراً وكان قلب ورد يخفق بسرعة ، لايعرف ماذا سيقول ولكن يعرف أنه غاضب جداً ، بعد ثوانٍ سمع على الطرف الآخر صوت عجوز دافئ ، لطالما اعتقد أن صوت جده قاسي وحاد ، لم يعتقد أنه سيسمع هذا الصوت الحنون :
_ الو
_ الو ............
_ نعم تفضل من تريد
_ هل انت ....... هل انت السيد مشهور ؟
_ نعم أنا هو يابني من أنت؟
_ انا ........
أخذ نفساً عميقاً وأكمل
_ انا حفيدك ورد ........ ابن ابنتك راجحة
_ ياإلهي ....... ياإلهي ، لم أظن أنني سأسمع صوتك يوماً
نزلت دمعة على خد ورد حين سمع صوت جده المتأثر أما الأخير فااكمل :
_ ياصغيري شكراً لك على المكالمة ، أنا واثق أنك لاحظت اتصالاتي الكثيرة وتريد أن تسامحني والدتك أليس كذلك؟
_ ماالذي تقوله ؟ لا بالطبع ، اتصلت فقط لأعرف ألم يؤلمك قلبك حين سمعت أن ابنتك تصارع الموت؟
ألم تحرك ساكناً حين سمعت الخبر؟
حين قال لك إياد بالخبر لماذا لم تأتي معه؟
لماذا لم تقل سأذهب لأرى النتي الوحيدة ؟
_ ماالذي ....... ماالذي تقوله حباً بالله ، ماذا حصل لراجحة؟ ، ماذا تقول يابني ؟ ، ماذا حصل لاابنتي ؟
تفاجأ ورد حين عرف أن جده لايعلم :
_ لكن ألم يخبرك إياد أن والدتي قد تعرضت لطلق ناري وهي في المستشفى منذ فترة طويلة؟
_ طلق ناري ؟ ....... ياإلهي ، يابني إياد لم يخبرني بشيء وكيف تقول أن إياد سافر ليراكم وأنا أراه كل يوم ، إياد هنا يابني لم يسافر ولا يعلم بالخبر
انصعق ورد حين سمع كلمات جده الأخيرة ، سقطت من يده سماعة الهاتف وصوت جده يبكي على الطرف الآخر ،أما هو فقد شعر أنه في عالم آخر من قوة الصدمة ، " ياإلهي من هذا الذي أنا معه إن لم يكن إياد ، ماالذي يحصل هنا ؟ "
حاول ورد تمالك أعصابه وأخذ يبحث في المنزل عن رإس خيط يعرفه عن هوية الشخص الذي معه ، بحث وبحث وبحث في كل مكان ، ليجد في النهاية بطاقةً شخصية ، قلبها ليرى اسم صاحبها فرآه ورأى إياد يدخل من الباب في اللحظة ذاتها ، لتعود الذاكرة ترسم من جديد في دماغ ورد ، ليرى أن ملامح إياد الآن قد اتضحت وأنه كان مغيباً عن كل شيء وناسياً كل شيء بل ممسوحاً من ذاكرته حتى الملامح ، فمن قد ينسى ملامح الشخص الذي دمر حياته ويستبدلها بملامح شخص لطيف؟
من ينسى الشخص الذي قضى على حياته ؟
سقطت البطاقة من يده وأكثر ماكان واضحاً منها هو الإسم : فـــارس يـــــونــــان