Empty Crown | تاجٌ فَارِغ

By Mervadoz

77K 3.4K 2.5K

الرّواية من سلسلة Eigengrau " أحبّ كيفَ تراقِبني دائمًا يا أرغوس! " تحدّثت ساخرة و أناملها المضطربة تسير على... More

INTRO
تمهِيد : الظّلال الدّائمة.
١. أعِدنِي الى اللّيلة الّتي التَقينا بها.
٢. كارمِن
٣. المَغِيب.
٤ . نبَضات قَلب.
٥ . مِن جنّةِ عَدن.
٧ . أكرَهُك، لا تترُكني
٨ . مَن تكُون تِلك؟
٩. مُلاحظَاتٌ فارِغة.
١٠ . جينز ازرق
١١ . خالٍ من العيوب
١٢ . المًقنّع
١٣. لأجلِ حبٍّ ابنة.
١٤ . طيورٌ سوداء
١٥ . قرِيب
١٦. شَجرةُ الاعدام.
١٧. لا وقتَ للموت.
١٨. نهايةُ العالم.
١٩. تِلفاز
٢٠ . لاَ أحَد.
٢١. انَا و الشّيطَان.
٢٢. القلعة
٢٣ . قُل نعَم للجنّة.

٦. جنّة، انتَظِرِي.

1.8K 145 70
By Mervadoz


•.:°❀×═════════×❀°:.•

لا أستطيِع "

خرجَت كلماتها في لهاثٍ عاجِز مع انِينٍ متألّم.

" بامكَانِكِ فعلُها، اجعلِيني فخورًا "

قالَ في همسٍ ضئيل ، قطَرات العرَق تتلألأ على عنقه السّميك و هو يتحرّك من الاسفل الى الاعلى... خُصل شعرِه المبتلّة رسمت تموّجاتٍ مثيرة على جبينه و انفاسه ترتفِع.

" لا، لا استطيع التحمّل بعد الان "

هزّت رأسها قائلةً بنبرةٍ باكية .

" فقط مرّةً اخرَى "
قاطعَها و صوت انفاسه مسموعٌ للغاية.

" لقد فعلنَاها لمئةٍ و خمسين مرّة!"

عوَت باحتِجاجٍ و جسدُها يتوقّف عن الحراك، انفها يتوهّج بالحمرَة كالفانوس مثلَ وجنتيها ... انقَطع نفسُها من الارهاق.

" لم ننتهِ بعد "

قال بلهجةٍ آمرة، فاطلَق انينُ متذمّر من فمها... لكن سرعانَ ما سقَطت ارضًا مُنهَكةً و هي تلهثُ بعنف ، يدُها على بطنِها المكشُوفة في بذلتِها الرياضيّة السوداء الضّيّقة.

أطلَق جُوهان فولاذَ الرّفع و لمسَت قدمَاه الارضَ و هو يذرُف عرقًا قليلاً، ينظُر بِازدرَاء خالصٍ الى زارا الّتي لم تتمكّن من انهاءِ الجولة التي قالت انّها ستقوم بها بسهولة.

أخذَ نفسًا عميقًا و همّ الى منضَدَة المشروبَات، حمَل قارورة مياه ثمّ افرَغها على وجهها كي تستعِيد وعيَها.

نهضَت مفزوعَةً تصرخ.

" هل انتَ متخلّف يا هذا؟! كيفَ توقظني هكذا؟! "

" انتِ لا تسمحيِن لي بلمسِك، هذه كانت طريقتي الوحيدة للتأكد من انّك لاتزالين حيّة "

تحدّث بِملل و هو يقرفِص كي ينحنيَ الى مستواها، رفَع القارورة الى حوافّ شفاهه السّاخرة و ارتشَف المياه.

تنزلق عيناها في الزوايا الانيقة لانفه... لون عينيه شديد الخضرَة.. المنحدرات الملكية لعظام وجنتيه ... عيناها علِقتَا في وجهه المؤذي لقلوب الفتيات.

سقطت قطرة من خصله المبللة في طريقها الى فكّه ، و ارسلت تلك الصورة البسيطة نارا في قلبها الذي يصارع للبقاء حية... و لوهلة نست الوجع الفظيع بذراعيها.

تغيّر الكثِير منذُ ان وقَفت بجانبه امام تلك اللوحةِ المُرعبة... فجأةً النبضُ بقلبها لم يعُد خفيفاً و لم يعُد خافتاً... انّه ليّنٌ مندفع احيانا امامه.

تخبِر نفسها مراراً و تكراراً قبل النومِ انّ ما تشعر به اتجاهه عاديّ لأنّه ذا لسانٍ ماهرٍ... ثمّ من هذه الّتي ستقوَى على مقاومةِ وجهٍ مثله؟

زَارا نصحت الجميع من حولها انّ الشيطان ذو وجهٍ حسن، و يبدُو انّها لا تنصِت لنصائحها.

كان عليها مسحُ ذاكرتها، العودة بالزمن الى تلك اللحظة في المتحف، و الاستمرار بتجاهله على ان تسمع كلماتٍ كتلك منه.

لأن تلك الكلمات قذفت حجارةً بِبحيرَتها الساكنة، و بحيرتها لم تعد ساكنَةً ابدٍا بعد تلك الوقعة.

الجنّة و الملاك الساقط... علاقةُ عتَابٍ و شوقٍ و كبرياء...

شاعريّ لدرجة البكاء.

" هل تسمعينني؟"
كان صوته هديرا ناعما... ناعما بشدة لدرجة انه كان يحثها بسهولة على النوم .... شفاهه كانت تتحرّك بنعومة ايضاً، كان بامكانها ملاحظة آثار جرحٍ صغيرٍ اسفلها، فكّرت في كيفَ سيكون شعورُ ان تقبّل ذلك الجرح.

" آنِسة سكازوس! أنا اتحدّث اليكِ! "

سحبَها من دوّامة افكارِها بصوتٍ مرتفع، اهتزّت اكتافُها حين عادت للواقع ، و فوراً تدفّقت الدماء الى خدّيها حينَ استوعبَت قذارة ما كانت تفكّر فيه.

تقبِيل هذا الرجل المهووس بنفسه؟ القاتل الغريب الذي يحمل خنجراً لكنّه يرفض حمل قدّاحة؟!

" هل كنتِ شاردةً طوال الوقت؟ "
سأل و هو يميِل رأسه لليمين ، رافعاً حاجبه و كأنه يستجوبها.

" لا، سمعتك "
ردّدت بِارتباكٍ و هي ترفع جزءها العلويّ بسرعة.

" عمّا كنتُ اتحدّث اذاً؟ "
حاصرها ، فاجابته دون تفكير.

" عن نفسك؟ "

امتدّ عبوسٌ واسع على ملامحه الجميلة، قائلاً بِخذلان.

" لا، هذه كانت اول مرةٍ لا اتحدث فيها عن نفسي و حضرتكِ لم تهتمّ بتاتا... "

صمتَ قليلاً و هو يعبّر عن احبه بشتّى الانواع امامها، ثمّ تمتمَ بملل و هو يستقيم.

" ان انهَيتِ جلسةَ تأمّلكِ لوجهِي، سأذهب لأخذِ حمّام "

ظنّت زارا و هي تشاهدُه يرحل انّ جوهان سيعود لطبعه الساخر بعدَ اخذ حمامه، لكن لا... جوهان استمرّ بعبوسه حتّى و هو يوصلها الى حقلِ نفطٍ يتواجد على الحدود الامريكيّة الكندية.

هل هُو غاضِبٌ حقّا؟

انّه دراميّ...

" ما به؟ "

همسَت نانا بأعينها و هي تنظر الى زارا الجالسة وراء السيارة ، فهزّت كتفَيها بجهل ...

كانت الرّحلة مشحونةً بطاقة سلبية بين الاثنين الذين يرفُضان النظرَ او الحديث لبعضهما، و نانا تشعُر كطفلٍ واقعٍ بين والدينُ متشاجِرين رغم انّها اكبَرهما.

" ما بكَ جوهان؟ هل بدأ شعرك الجميل يتساقط ام ماذا؟ "

ردّدت نانا بنبرة تهكميّة بغيَة كسرِ الجليد بينهما، صمتَ رافضاً الاجابة طويلاً... ثمّ اجابها بصوتٍ هادئ.

" لا احبّ الأيام المثلِجة "

لم تقُل نانا بعده شيئا، فقط رسمت ابتسامةً متفهّمة و جلست باعتدال تاركةً زارا تنظر نحوهما بِتشكك...

من عادة نانا ان تستمِرّ بالكلام حتّى لو اظهَر جوهان عدم رغبته بالكلام... لكنّ كما لو ان بينهما شفرةً فهمتها، سكتت و حسب.

فجأةً و السيارة تسير ببطء، صدرت اصواتٌ غريبة انتهت بِتوقّفها في منتصف الطريق... ترجّل جوهان منها كي يعاين المحرّك.

" من هذا الاخرَق الذي تسبّب بوصول الماء الى الخزّان؟ "
مضغَ كلّ كلمةٍ بِقوّة و هو على وشكِ الانفجار، صوّب نظره الى نانا .

" نانا "

" ليس انا "
قالت بِحزم.

" نانا هذه سيّارتك "
ردّد وراءها بصوتٍ بدأ يرتعش من الغضب، فتذكّرـت للتّو انّها اخترقت بسيّارتها بركة مياهٍ البارحة حين كانت تهرب من بعضّ المطاردين...

" ربّما انا "
قالت و هي تضحك بخفّة لِتخفيف الاجواء.

كتمَ جوهان غضبه امام زاراَ التي بدت مرتبِكة قليلاً، فقد كان من اللازم ان يبلغوا وجهتهم بعد ساعة، لان عاصفةً قريبة ستستمر لهذه الليلة بطولها...

اخذ هاتفه كي ينادي احدا للمساعدة، لكن ايضا و لسوءِ حظّه لم توجَد اشارة.

" رائع للغاية... لا اشارة، انا و فتاتان في منتصف عاصفة ثلجية "
تمتمَ بِعصبيّة و هو ينظر الى نانا بلوم، ابتسمت بخبثٍ و هي تضرب كتفه بكتفها هامسةً.

" انظر للجانب المشرِق انت مع زارا "

اكتفَى جوهان بارسالِ نظراتٍ ثاقبة اخرستها و محَت الابتسامة الواسِعة من على شفاهها... حمحمت  ثم قالت مجددا بهدفِ تطيِيب الاوضاع.

" لا بأس، نحن نستطيع تحمل البرد "
هتفت بِحماس.

" هي لا تستطيع ايتها الخرقاء! "
صاح بوجهها و هو يشير لزارا الضائعة بينهم.

" تبدو قلِقًا على زارا كثيرا سيّد جوهان، ما السببُ يا تُرى؟! "
ردّدت نانا بِاستفزاز، احمَرّت اذنه و هو يجيبها بنبرةٍ ترتفع نسبيّا.

" سأصلَبُ الى ان تنقُرَ الغربان رأسي ان حدثَ لها شيء!!! "
و مع اجابته التي كانت صادقةً نوعاً ما - اذ ان الاجابة الحقيقية كانت اسوء - نانا استمرّت برمقه بذات النظراتِ الماكرة التي تصرخ قائلة : انتَ فقط قلقٌ على حبيبتك و حسب  .

قرّر الثلاثَة في النهايةِ الاستمرَار بالسّير باتّجاه الشّمال على ان يبقوا بالسيّارة و يُحبسوا داخلها بسبب تراكم الثلوج اثناء العاصفة.

العاصفة كانت تشتَدّ تدريجيْا، و تكاد زارا لا تشعُر بوجهها الذي تجمّد، لكنّ النجاة حتّمت عليها التحمّل و المتابعة... بينها و بينَ جوهان حبلٌ صنعه عبر تمزيق قميصه، مربوطٌ حول يدها و يده في حالِ سقطت او حصل معها امر.

و بجانبها ناناَ الّتي تسيرُ بعزّ البردِ برأسٍ عارٍ و هيَ تُدندِن ألحان اغنيةٍ مشهورة...

حرفيّا هي ترتديِ قبّعيتن و وشاحينِ، اضافة الى ان جوهان كان قد قدّم لها كنزته الصوفية ، و مع ذلك لاتزال تشعر بالابرِ القارصة على جلدها من شدة البرد.

ما الذي قصدته بِأنهما يستطيعان تحمل البرد؟ هل عاشاَ بِبيئة باردة؟ هل يعرفان بعضيهما منذ زمن بعيد؟

استمرت الاسئلة بالتدافع في عقل زارا التي لا تفهم الى الان طبيعة العلاقة بين جوهان و نانا.

" اذاً الى اين نحن ذاهبون يا حضرةَ القائد؟ "
رددت نانا بِنبرةٍ مرحة لتلطيف الاجواء.

" الى الجحيم بسببك "
ردّ بكلمات قاتمة، عبست نانا و تقدمت الى جانبه تتذمّر.

" لو انّ حضرتك احضَر سيـارته لما كنا بهذه المصيبة! "

" سيّارتي تحتاج تصليحاً! "
احتجّ بعصبية.

" انت فقط تضع اعذاراً جوهان! قُل انّك اردتَ ان تبدُوَ بطلاً باعين حبيبتك و حسب! "
همست بِمكرٍ و هي تضرب كتفه مجددا... طفح الكيل معها، سيدفعها من الحافة و يتركها هنا كي تتجمد بردًا.

" نانا... هل ابدو لكِ كبطلٍ ؟ "
تمتم بصوت قد. بدأ يرتعش من الغيظ.

" بطل رومنسيّ لكن بتواضع "
اجابت بِفخر و هي تطبطِب على ظهره بلطف.

" نانا... "
ناداها بنبرة تهديدِيّة .

" لقد كانت تنظر نحوَك طيلة الوقتِ في السيارة و حتى الان "
همست بِخبثٍ فنظر نحوها و قد اتسعت عيناه بشكلٍ بريء، ردّد وراءها بِعدم تصديق.

" حقا؟ "
اصابت نانا الهدف ببراعة و في الصميم  .

" حَقّا؟ تبدو مهتمّا جدا بما اقوله يا جوهان "
تحدّثت و ابتسامة نصرٍ تسطع على ثغرها ، كذبتها التافهة فضحته كلّيّا ... حسنا هذه المرة حقّا سيقتلها، و لذلك تراجعت خلف زارا كي تؤمّن لنفسها الحماية.

قبلَ ان يخنِقها الان و يرمي جثّتها بالثلج، شعرَ جوهان بالارضِ تتحرك تحته، بتعبيرٍ ادقّ كانت الارض تتفتت... نظر للاسفل فوراً فتفاجئ بتواجده فوق الحافة التي تطلّ على منحدرٍ شديد الارتفاع لم يره من قبلُ بسبب الرياح المحملة بالثلوج و بسبب نانا... و قبلَ ان يحرّك قدمه للهروب، تهاوت به الارض و سقط جسده...

اندفعت زارا للامام بسبب الحبل الذي يربط بينهما، لكن نانا امسكتها من معطفها بيد، و باليد الاخرى تشبتَت بِالشجرة... بقِي جوهان معلقا بالهواء ، و زارا تنظر نحوه بجزع.

" ابقَ متشبتا بالحبل جوهان! لا تطلقه! "

صرخت بِجزع.

" هذا ما احاول فعله! "
ردد وراءها بِهدوء شديد و كأنّه لا يقدّر خطورة موقفه.

فجأةً سمع الاثنان صوت صرير تمزق قماش، نظر الاثنان الى بعضيهما بِصدمة... ثم زارا الى يده التي تتشبت بالثلج الهشّ...

صوتٌ بداخلها صرخ بها ان تمنحه يدهاَ كي يمسكها، لكنّ الاصوات الاخرى تكاثفت و اجتمعت آمرةً ايّاها الاّ تلمسه...

لمستهُ ستقتلها، لكنّها لم ترده ان يسقط، و مع ذلك تجمد جسدها غير قادرٍ عل  اتخاذ ايّ قرار.

خلال تلك الثانية الطويلة، تمزق الحبل بينهما، جزّت اسنانها حينَ عجزت عن مقاومة الرهاب بداخلها... لكنها مدت يدها اليه في اخر لحظة... كي تشعر بيده تقبض على يدها بقوّة، اندلعت المشاعر المؤلمة، و معها الغريبة و جسدها يلمس شخصًا اخر اخيراً.

و مع الرياح الحاملة للثلوج و الثقل الاضافيّ، انهارت الحافّة مجددًا، تمزّقت قلنسوتها و هي تشعر بجسدها يهوي في الهواء، يده تسحبها اليه بسرعة لا يمكن تداركها الى ان لفح عطره انفها و غمرها و هو يضمها بقسوة الى صدره.

اختفى الاثنان في العدم كما لو انهما لم يكونا هنا قبل ثانية، كي يسقطاَ في المجهول.

•.:°❀×═════════×❀°:.•

يتعلّم اطفال الظلال الدائمة كيفية القراءة و الكتابة في الرابعة، ثمّ كيفية تفكّيِك مسدّسٍ و اعادة تجميعه في الخامسة... و كيفَ تقتُل في السادسة... و كيفَ تنجو في السابعة.

الى يومِ مماتِهم ، سيتعلّمون كيفيّة النجاة.

في صحرَاء أريزوُنا و هم محاطٌون بِالمخلوقات السّامة، او بينَ ثلوج ألاسكا و هم بين جثثِ اطفالٍ بنفس العمر... بزنزانةٍ مظلمة دون ملابس في عزّ ليلةٍ مثلجة مبتليِن بالعار و الالم، او امام مشاهدةِ اخوتهم يحتضرون بين النيران، يصرخون الى ان تتحول اجسادهم الى فحم...

أطفال الظلال الدائمة شعرُوا طيلة الوقت ان ايامهم طويلة، لكنّ معدودة على الاصابع.

الموتُ بسببِ التِهابٍ حادّ بعد جرحٍ عميق،  بسببِ عدم تحمّل اجسامهم الفتيّة للجفاف، او الصّقيع... العقاب... النار... الجنون...

و أشدّهم ضررًا، بعدَ صنعِ رجلِ ثلجٍ... على يد طفلٍ منهم، و الضحية طفلٌ اعتادَ مناداة الاول بأخي.

رائحة الثلوج الملوّنة بالدماء لا تزالُ تعصِف مع الرياح ، و الابيض مبتلّ بالاحمر دومًا...

" سنصلِبه و نشاهده يتغطـى بالثلج كما لو انه رجل ثلج! ثم نزين جثته! "

همساتٌ صدرَت من اطفال لا تتجاوز اعمارُهم الثامنة، فكّر جوهان انذاك فورًا في الحرارةِ التي ستندلع في جسده بسببِ الصّقيع... كما لو انّه يحترق حيّا، هكذا سيموت على يديّ من وثَق بهم.

من اربعَة اطفالٍ ضدّ طفل واحد اصغر منهم...

الى أربع رجال ثلجٍ تنزِف على الاعمِدة.

فتَح جوهان عينيه بعد ان كاد الصّقيع يجرفه الى متاهة الضيَاع، و بسرعةٍ رفع جزءَه العلويّ مع شعوره بألمٍ حادّ عند كتفه اليسرى، صرّ اسنانه كاتماً الالم و هو يدرِك ان ذراعه قد خُلِعت بسبب تشبّته بأغصان الشجرة التي فوقه كي يخفّف من قوّة الارتطام بالارض.

نظرَ الى جانبه نحو زارا الجاثية على ركبتيها، تنظر نحوه بأعينها الواسعة المدهوشة... بدا انّها تحاول ايقاظه منذ زمن.

" انتِ بخير؟ "

سأل كما لو انّ ذراعه المخلوعة لا تتواجد بذلك المشهد.

" دعكَ عنّي! ما الذي حصل لذراعك؟! "

" فقط امنحينيِ خرقَةً او اي شيءٍ لِتثبيتها ريثَما نجد مكاناً للاختباء "

نزَعت الحبل الذي حول معصمها و معصمه، ثمّ نهضت لتتموضع خلفه، تعقد الحبلَ حول ذراعه و خلف ظهره بهدوءٍ شديد.

استمرّ الاثنان بالمجهول بعدَ ان افترـقا عن نانا، و بطريقهما كانا محظوظينِ بايجادِ كهفٍ عميق، اينَ وجدا لانفسهما ملاذًا من العاصفة الثلجيّة التي اشتدّت بعد سقوط الظلام.

تمكّنت زارا من ايجاد بعض الاغصان الميّتة المبللة، فقامت باشعال النيران عبرَ قدّاحتها الفضيّة بالاوراق النقديّة التي حملها الاثنان... و بعدها سكبت بعضًا من عبوّة كحولها، و اخيراً اشتعلت النيران في الاغصان.

جلَس الاثنان على قربٍ من بعضيهما امام النار و كلاهما يستندان على الحائط الحجري... كلاهما لا يستطيعان التحدث للاخر، لان كلاهما يتذكّران كيفَ لمسا و سقطا في احضان بعضيهما.

جسدها يرتعد من البرد و الخوف، لذلك اخذَت تتجرّع القليل من كحولها لطردِ افكارها بعيدا... بنهاية الامر، لم يكُن بامكانها لومُه للمسها، لكنّها لم تعد قادرةً على السيطرة على رهابها.

كانت تتناهى اليهما اصوات عويل الذئاب بين الحين و الاخر، و التي كتمتها صفير الرياح المحمل بالثلوج...

التَفتت زارا نحوه لتقييمِ حاله و هو ينظر الى النيران، كويرات عرقِه على جبينه كانت تتلألأ ريثما هو يعاني بصمت.

من جهةٍ الثلج اللعين... جوهان لم يتخيّل نفسه هشّا لهذه الدرجة امام ذكرى باهِتة لا يعلم لما هي تزعجه الان.

لم يكُن يتوجّع بسبب شعورِ الظّلم و الغدرِ بعدَ ان وثَق باخوته الذين قادوه الى مكان معزول اينَ عذّبوه ثمّ ضحكوا عليهِ و هو يتجمد في الثلج عاريا.

و لا من الذّلّ الذي شعر به حينَ انقَذه ولدٌ من عمرِه... و لا كيفَ عاد الى القلعةِ و هو يزحفُ في دمائه...

بل من رجال الثلج الاربعة التي بناها هو و الولد الذي انقذَه، الولد المدعوّ بِ : ساينت... بمعنى القِدّيس - و الذي كان اسماً بعيدا عنه كلّ البعد - .

رِحاتُه من تحمّل الشرّ الى التلذّذ به كانت تسير بشكلٍ جيد طيلة حياته... ما الذي حصلَ حتىّ يشعر بالعارِ اتّجاه شرّه حين حاصرته الثلوج الان، و بجانبه زارا؟

أ لأنّها تنظُر اليه بتلك النظرات؟ نظراتها التي تجعله يعتقِد انّه ليس سيّئا لها؟ و لكنه كذلك.

" أنت بخير جوهان؟ "
سحبَه صوتها الوديِع من الذكريات.

" نعم "

" انت تتعرّق "
تمتمت بقلقٍ و هي تقترب منه.

" بالطبع سأتعرق، الحرارة ترتفع حين تتعرض ذراع انسانٍ للخلع "
اجابَ بلهجةٍ لئيمة.

" لما انتَ لئيمٌ هكذا؟ "

" لستُ لئيماً "

" لماذا تتحدث الي بهذه النبرة اذاً؟ "
التَفت نحوها و قد بدأ صوته يرتفع نسبيّا.

" نبرتي عاديّة جدا!! "

" لا تصرخ بوجهي جوهان!! "

" لا اصرخ بوجهك!! "
انفجرَ صياحه في وجهها الذي امتدّ فيه الغضب ، شدّت حاجبيها مُعرِبةً عن سُخطِها و أشاحت وجهها عنه.

تمدّد الصمتُ بينهما ، لا شيء سوى فرقَعةِ الاغصان المحترِقة ممّا اثارَ السّلبيّة بينهما... التفَت جوهان نحوها فرَمقتهُ بنظرةٍ جانبيّة، تواصل نظراهما لفترةٍ الى ان تنهد و هو ينبس باكرَاه.

" حسنا، اعتذِر "

الحيلة رقم ثلاث و عشرون من كتاب كيفَ تكون راقياً مع الفتيات الّذي قرأه جوهان الاسبوع الماضي ... ان صرخت عليها، اعتذِر و حسب، لا تُناوِر.

تدحرجت تنهيدةٌ طويلة حين شعر انّه لم يعُد قادرًا على التحكّم بمشاعره امامها بعد الان، و جسدُه يُصاب بارهاقٍ غريب بسببِ التعابير التي ترتديها امامه، حينَ ذابَ الحقدُ عن وجهها ليتركه بِتعابيرها الجميلة و حسب.

تضمّ ركبتَيها الى صدرِها ريثَما هي تقبَل اعتذاره بِصمتها.

" ماذا ستفعل بشأن الخلع؟ "
تمتمت كوسيلةٍ لكسرِ الجليد بينهما.

" سأنتظر هذه الليلة، و حين تنتهي العاصفة سنرى بشأنه "

" هل ستبقى طيلة الليل بهذا الالم؟ "
ردّدت وراءه بِصدمة.

" تتحدثين كما لو انني اموت "

" انه خلع! اعلم كم هو مؤلم! "
تحدّثت بصوتٍ عالٍ و هي تجثو على ركبتيها بجانبه.

" حسناَ اذاً! تعالي هنا و اصلحيه! "
تحدّث بِغطرَسة فماتت تعابيرها و هي تهمس بحرج.

" لا اعرف كيف "

" فقط قولي انّك لا ترِيدين لمسِي "
همسَ على غرارها بِلهجةٍ ساخرة و عاد الى النظر الى المدخل اينَ الثلج يهبّ بقوّة مع الرياح.

" انا أخشى لمسك، و ليس انني لا اريد "
صحّحت له بصوتٍ متقطّع، هزّ رأسه و همهمَ لها بِشيءٍ من الازدراء و هو يغمِض عينيه.

" جيدٌ ، دعيني انم اذاً "

امام لؤمِه مجددًا، لم تستطِع زارا الصّراخ و المطالبة باعتذار... في نهاية الامر، اشعَرها بالذنب لأنّها فضّلت سلامةَ مشاعرها الهشّة على مساعدته... و لذلك عادت الى مكانها بجانبه و جلست صامتة و العار يحرِق صدرها كما تحرق النار هذه الاغصان الميّتة.

فجأةً و هي تمنعُ اجفانها من الاغلاق و النّوم، جاءَها صوتُه من العدم بعدَ ان ظنّته نائمًا.

" هل هو من فعلها بك؟ "

اعترَت الدّهشَة محياها و هي تلتفت نحوه ، كان لايزال ينظر الى الامام بأعين فارغة.

قالت انّها تعلم كم الخلعُ مؤلم، اذاً هي جرّبته... و ذلك علِق بعقله فمنعه عن النّوم و التفكير بشيء اخر.

" صاحب القناع... هل خلعَ ذراعكِ؟ "
وضّح بلهجةٍ اشدّ برودًا ، اشاحت زارا نظرها عنه و هي تجزّ اسنانها ببعض، لا تريد لذكرياتها ان تفرّ من قمقمِها.

فهِم صمتها فأخذ نفساً خافتا ثمّ ردّد بنبرة فارغة.
" هل تألّمتِ طويلاً؟ "

لمَعت عيناها في الظّلام حينَ أدفئ روحها بسؤالٍ صغير ريثما جسدها يتجمّد... خبّأت نصف وجهها في وشاحه الذي لفّه حول عنقها، رائحته الغامضة لكنّ الآسرة كانت تصيبها براحةٍ غريبة.

" نعم... بالطّبع تألمت، انّه خلعٌ يا ذكيّ "
قلّدت لهجته اللّئيمة فابتسَم ساخراً من نفسه، و قد بادلته الابتسامة ناسيةً عراكاتهما الصغيرة.

قدّمت له زجاجة كحولِها كَعربون صداقة، فقبِلها منها دون احتجاج و أخذ يشرَب، و مع كلّ جرعةٍ خفّ الألم بذراعه فأكثَر.

" لماذا تكرَه الايام المثلجة؟ "
سألت بفضول فقابلها بصوتٍ مملّ.

" لا احبّ الشعورَ بالبَرد "

" لكنك تستطيع تحمّله "
رددت وراءه .

" نعم، و انا قلتُ انني لا احبه، و ليس انني لا استطيع تحمّله "
اجابها بتحاذق.

" لماذا؟ "
تنهد بدلَ الاجابة، ثم تصرّد الكحولَ كما لو ان عقله يدور في كلّ مكان دون استقرار... لم يُرد اسماعها انّه لايزال يتذكّر كم كان من المؤلم التجمد و اربع اطفالٍ يذلّونه كما لو لم يفعل احد يوما...

لأنها ستسأله بعدها ما الذي حصل لأولئك الاطفال، و هو لا يريدها ان تعرف كم هو سيء.

تحدّثت زارا عنه بتعابِير طفلة بريئة و هي تسرد له قصّة صغيرة من طفولتها.

" اعني... الثلج جميل، كنت اطير فرحاً حين استيقظ و اجد حديقتنا مفروشةً به... اركض الى الخارج بكلّ ما لدي من قوّة... ثمّ أبني و ايزاك رجل الثلج، جزرة في انفه، حجران في العينين و ألفّ حول عنقه وشاحاً "

توقّفت تأخذ نفساً فاصلاً ايّاها عن ذكرياتها الدّافئة، التفتت اليه فوجدتهُ يحدّق فيها دون ان ترفرِف اجفانه للحظة، بنظرات غامضة جعلت قلبها يخفق بِسرعة...

لم ترَ نفسها كيفَ تشعّ أعينها البلّوريّة و هي تتحدّث عن شيءٍ تحبّه كثيرا... تشعّ لدرجة العمى.

" لا تخبِرنيِ انّك لم تقُم ببناء رجل ثلجٍ في حياتك ؟ "
تمتمَت بحرجٍ حين شعرت انّها تحدثت كثيِرا عن نفسها.

" نعم، فعلت "
اجابها بهدوء.

" اخبرني اذاً عن ذكرياتك اللطيفة و انت تقوم ببناء واحد ، اراهن انّك كنتَ تتبجّح بخاصّتك امامَ اصدقائك "

فجأةً انتشَرت ابتسامةٌ مًريبة على شفاهه و رائحة الدماء تعصف انفَه من الماضي، دماءٌ باردة تتسرّب عبرَ الثلج كي تطلِيه بذلك الاحمر الناصع...

" نعم... فعلت "
اجابها بنفس النبرة الهادئة، ثم استأنف حديثه و قد بدأ مفعول الكحول يستوليِ على عقله.

" حتّى انّ بيرلين اعجِب به... كانت تلكَ اوّل مرةٍ يبدِي فيها اعجابه بقدرَاتي ... قال انّ لدي مستقبلاً باهراً "

رفَعت زارا حاجبها باستفهام.

" بيرلين هو من ربّاك منذُ صغرك؟ "

أخذ يتصرّد شرابه مجدداً، يدير السائل الحارق في فمه قبلَ ان يجيب بصوتٍ شبه مسموع.

" هو ابي... الوالد الوحيد الذي حصلتُ عليه بحياتي  "

" لانه كان هو الوالدَ الوحيد الذي حصلت عليه، لما قد يقتلُك ان حصل شيء لي؟ "
قالت بفضولٍ و ارتباكٍ محاولةً استنباط اي اجابةٍ منه.

نظر اليها بدهشةٍ لوهلة، لكن سرعان ما ارتفع ركن شفاهه في ابتسامة جانبيّة و هو يواصل الشرب على ان يجيبها.

موجَة من الاستياء صعدت الى حلقها؛ احياناً لم ترغَب في سمَاع معلوماتٍ عن جوهان لا تدرِي كيفيّة التصرّف امامها خاصّة و هو يقولها بِهذا البرود... لكنّها تعوّدت بما فيه الكفاية على نمطِ حياته الغريب، و ان القتل ليسَ بذلك السوء بالنسبة اليه مثلما هو لها.

" لماذا تستمر باعتباره اباكَ حتى و هو يهددك بالموت بسببي؟ "
اضافت على عجلٍ و أعينها تحمِل قلقًا عارِمًا.

ارتفعت زاوية شفاهه في ابتسامةٍ تهكّمية.
" انت لن تفهمي الامر "

" تعني لِماذا انتَ مستعدّ لخسارة حياتك لاجل بيرلين الذي يستغلّك ؟ "
ردّدت وراءهُ بنبرةٍ حادّة.

" بيرلين هو السبب الذي اعيش لاجله منذُ البداية  "
تمتمَ بملامح مظلمة لتجرؤها على فتحِ هذه المحادثة مجددا، كان يكرَه حين تحاول نبشَ مشاعره الراكدة.

" لا تحتاج اسبابًا للعيش يا جوهان ... الحياة ملكُك "

انسابَت كلماتها بنبرةٍ منخفضة لكنّها كانت ذات صدى قويّ بداخله... أشاح نظره عنها حين لم تعجبه هذه المحادثة و الى اين ستأخذهما.

" و مع ذلك، انتِ لا تفهمين "
قال بنبرةٍ مانعة للنّقاش، لكنّها عزمت على مواجهته.

" بلى افهم، افهم كم انت ممزّقٌ بينَ فُرَصِك الضائعة و حياتك التي تعتقد انك ولدتَ لاجلها "

حرّك اعينه نحوها بِنظرةٍ قاتلة، صمت قليلاً يطلق الخناجر من عينيه اليها ثم تحدّث بصوتٍ بدأ بالارتعاش و قد بدا غاضباً للغاية.

" لم اكُن ممزقًا من قبل... قبلَ ان تفتحي فمكِ بهذه الكلمات اللعينة ؛ لِما لا تسكتين و حسب؟ لما لا تتوقّفين عن جعليِ اشكّ بما بنيتُه طيلة حياتي؟ هاه؟ أ تحبّين جعليِ ضائعاً تائها؟! أ تحبّين رؤيتي ممزّقا؟! "

كلماتها كانت تُصِيبه بأزمةِ هويّة حادّة، و رغمَ سوء المنحنى الذي أخذته المحادثة، استمرّت زارا بالدّفاع عن وجهة نظرها.

" لو انّ قلبَك قد آمن بأنّ ما بنيته طيلة حياتك هو الانسَب لك، لما تمزّقت الان و ضِعت فقط بسبب كلماتٍ صدرت من فتاةٍ ناديتها باليائسة "

توقّف كلاهما عن الكلام و بقِيا في معركة النظرات القاتلة، ينفثانِ انفاسهما الساخنة الغاضبة بسرعة و ينتظِرانِ اللحظة الملائمة للهجوم على بعضيهما.

" لا، لستُ كذلك "

بصَق ما بجعبته بصوتٍ متهدج مرعب و كأنه يحمل بركاناً بصدرِه... بنظرِ جوهان، الموتُ كان أسهلَ له من تقبّل انّه عاشَ طيلة حياته لأجلِ هدفٍ لا يستحقّ .

" لما انت غاضب اذاً ؟ "
تمتمت بِاستفزاز.

" لأنّكِ تعتقدينَ اننِي مثلك! تعتقدينَ انّ بداخلي نورٌ و انا عشتُ في الظلال منذُ ان خلقت!! تعتقدينَ انّني انسانٌ مثلك!! "
انفَجر بوجهها حينَ ضاقت نفسه عليهِ، ثم استأنف حديثه بلهجةٍ لئيمة.

" فعلتُ اشياء لا يتخيّلها عقلك اللطِيف... توقّفي عن اشعاري بهذه الاشياء السخيفة "

" ماذا تقصد بالاشياء السخيفة ؟ "

أخرَستهُ امام ذلك السؤال... لقد يفقِد صوابه بسبب هذه المشاعرِ التي لا معنى لها لكنّها اكثَر من حقيقيّة.

يا تُرى هل كان سيعلم انّه سيقعُ بهذه الطريقة المؤلمة ، انّه سيهيم بالجنّة بعدَ ان إتّخذ الجحيمَ مأواه الاخير؟

عالمُها ليسَ بمكانٍ هو ينتمِي اليه ، و رغم ذلك ترفض افلاته ... تِلك كانت مأساته.

جثَت زارا على ركبيتها بين ساقيه و هي تنظرُ باعينها الرّحيمة الى وجهه الذي منحته النيران ظلالاً ذهبية...

" لماذا لا تكرهينني مثل ما فعلتِ في البداية و حسب؟ و تتوقفين عن العبث باعدادات الرجل الشرير "

تحدّث بصوتٍ مكتوم يحتوي على شيءٍ من الرجاء الاليم ، فأشرق وجهها بابتسامةٍ فاترة كما لو انّها تستمتع بسماعِ انينِ قلبه ، أخرجت منديلها.

" لأنك الرجل الشرير الوحيد الذي قد يروق لي في هذا العالم "

همست بصوتٍ رقيقٍ و هي ترفع يدها، تمسح بمنديلها على كريّات اعرق التي تكوّرت على جبينه فمنعها على عجل.

" توقّفي، سيتسخ منديلك "

أبعد يدها فَسحبتها على عجل، شعر بالاشمئزاز من نفسه، سخط على نفسه لأنّه لمسَها... و تعابير وجهه متشنجة اعتذَر بخفوتٍ و هو يرفض النظر الى وجهها المؤذي.

" اعتذِر "

و فيما كانت زارا تستحضِر هذا المشهد آلاف المرات في الثانية بتفاصيله الدافئة، شلّها قلقه عليها و ليسَ لمسته غير المقصودة... لا احد اعتذَر عن لمسها من غير ايزاك و هو... اما الباقون، فطلبوا منها المضيّ قدماً بلهجةٍ لوّامة.

عزَمت على الدّعس على خوفها، و باشرت دون قول كلمةٍ في فتح ازراره.

" ما الذي تفعلينه؟! "
صاحَ بدهشة و قد احمرّ وجهه كالبرقوق.

" انت لن تبقى بهذا الخلع طيلة الليل، سأحاول اعادة مفصلك الى مكانه "

"هاڤن، انتظِري "
همَس بصوتٍ بدأ بالارتعاش.

" استطيع فعلها، رأيته يفعلها اكثر من مرة على ذراعي "
تحدثت كما لو انها لا تسمع شيئا غير نفسها
" توقفي! "

دفعها عنه و هي لاتزال تتشبّت بقميصه فسحبته معها... ظهرها كان على الارض الباردة، ريثما يده الوحيدة هي العمود الوحيد الذي منع جسده عن السقوط...

شعرُه الطويل كان اشدّ شقرةً في ظلال النيران، اما انفاسه فكانت سريعة الى ان توقّفت كليا و هو على بعدِ قليلٍ عن شفاهها... صدره يضغط على خاصّتها دون لمسه كما تضغطُ اوراق الكتاب الكثيفة على الورودِ الجافة بداخلها.

مجدّدًا منعتها نظراتهُ الهائمة من الصراخ او الشعور بالحصار، توقّف جسدها عن الارتعاش لأول مرةٍ منذ سنين... تجمّد عقلها و انقسم الى قسمين، و القسمان الى آلاف الاقسام و هي تتساءل، لما روحها تجدُ الامان مع هذا الرجل الشرير؟

" افضّل البقاء بهذا الالم للابد على ان اراكِ خائفة، متألمة او حتّى غير راضية ... "
كان صوته ناعمًا منخفضا بالكادي يكونُ له  و هو ينظر اليها لثوانٍ كما ان في ذروة يقينه... انّ قلبَه أزهَر الى الابد بسبب نظرةٍ من عينيها.

" و هل يهمّك أمري؟ "
مع زمجَرةٍ بلهجتها تحدّثت بخفوت؛ قلباهُما يخفقان للأشياء التي قالاها و لم يقولاها.

احدثَ هذا السّؤال هدوءً مؤقّتاً، فقد بدا انّه لم يتوقّع منها ان تثبت امامه و لا تهرب لتُوارِي مشاعرها...

كما لو انّ كلاهما لم يَعُد يهمهما كم الاشياء تبدو جميلةً من بعيد... ارادَا الاقتراب لرؤية جمالها عن كثب.

ينظرَان الى بعضيهما كما لو انّ كلّيهما يقولان  : عِشنيِ؛ عِيشيِني.

" الملاك الواقع سيشتاق الجنّة دومًا حتى لو عاتبها ، حتّى لو طرَدتهُ، حتّى لو لم تكُن مكاناً مثاليّا لتحمـل كبريائه و سوئه "

تحدّث بكبرياءٍ عارٍ من الكبرياء... فعادت اليه باعين واسعة كالمروج .

ظهرَ ما كان يشتهيه منها على وجهها، نظرَة الحبـ البريئة ،  دافئةٌ تكفِي لاذابة كل القسوة بداخله في لحظة.

اصبحَ مريضاً بفرطِ انتِباهه لتفاصيلها الصغيِرة ؛ صارَ لا يخلو منها ، يستيقظ لرؤية وجهها، و ينام لرؤيتها في الاحلام... و هو لا يمانع.

بدأت بطلاءِ اظافرها بالقرمزيّ بدل الاسود... ارتداء ملابس بهذا اللون ايضا... بعد ان اخبرها ان اللون القرمزيّ يليقُ بها.

و الانَ هو يفقد صوابه لأنه لا يسمع تصريحَها، كلمة، او نظرةً من مشاعرها...

لا أرضَ تسعُهما، و لا نجوم تكفِي لامانيهما...

فريسةُ مشاعِر عزَم جوهان تسميتها بالغامضة... لكنّ زارا تعرّفت عليها فوراً و لم تنكُرها.

في حينِ لم يكُن بامكانِ احدهما ان يكون للآخر، لم يستطيعاَ ان يكونَا لغيرهما.

خطَفـ اللحظة منهما صوتُ ضجيجٍ يقترِب، فنهضَ عنها على عجلٍ و هي لحقته ايضًا، أظهر المسدسَ من وراءِه و هو يجهّز نفسه للاطلاق.

يقترِب من المدخلِ ببطءٍ الى ان تصادمَ بناناَ التي دخلت مستعجلةً و وراءها بعض الرجال الذينَ التـقتهم بطريقها فساعدوها على البحث عنهم.

اعترَت الدهشة ملامحها و هي تنظِر اليه سالماً، و بسرعةٍ شقّت البسمة وجهها و قفَزت تعانقه كما لو انها طفلة.

"  يا ايها الوغد! لقد أقلقتني! "
صاحت بانفعالٍ و هي لاتزال تتشبّت به كالقرد.

وراءهم زارا التي استمرت بمشاهدتِهما كما لو انّها تكتم عواطفها... بداخبها شيء من الحسرة لأنّ ذراعيها لا تستطيعان ضمّ شخص الى صدرها، و لا يداها قادرتان على انقاذ احد...

" نانا كتفِي مخلوع "
ردد بهدوءٍ شديد و هو يجزّ اسنانه، فترَكته على عجلٍ و هي تضع يدها عل  فمها بدهشة.

" شقيقي الصغير المسكين! "

" شقيقي؟ "

ردّدت زارا وراءها و هي تقوّس حاجبها باستفهام، نظر الاثنان الى بعضيهما ريثما جوهان يرسل اليها نظراتِ عتاب.

" نعم هو شقيقي! أ ليس واضحاً من اينَ ورثَ وسامته؟ "

نبَست بصبيانيّة و هي تلفّ ذراعها حول عنقه كي تسحبه بقوة الى مستواها... زارا تنقل نظرها من وجه جوهان ذي الملامح الاوروبيّة النبيلة، الى ملامح نانا الآسيويّة الشرقية.

" نعم، واضحٌ للغاية "

تمتمت ساخرة لكنّ نانا أخذت السخرية على محمل الجدّ.

أشاح بناظره فورَ ان التَقت عيناها بعينيه كما لو انه يهرُب من مشاعره، اما زارا فأبقتهما عليه، رافضةً تركه، هي لم تهرُب ممّا حصل كما هو يفعل.

بأعماقها علمت زارَا انّها اخترقت قواعدها و كسرت مبادئَها حينَ نبَض قلبها لرجلٍ مثله... لكنها لم تُرد اصلاحه، و لم تحبِب شرّه.

كانت عالقةً في المجهول معه ، و فضّلت البقاء هناك...

مثلما ظلّت ساكنةً مكانها تشاهده ينتظُر ان يشهَد قمرا و شمسًا، لكن الظّلال كانت مأواه .

الرجل الذي لا تجمعها به صورةٌ او طريق...

القصِيدةُ التي لا يُمكِن ترجَمتُها، ألوان الهواء، مشاهِد الاغنية، صوتُ الزّهور و صوتُ الجماد... حتّى لو اجادت حلّ لغزِه ، ماذا ستفعل بشخصٍ مثله؟ شخصٍ لا مكان له في الغد.

Continue Reading

You'll Also Like

1M 10.3K 5
افوت بشارع اطلع مِن شارع وماعرف وين اروح المنو اروح ويضمني عنده صار بعيوني بيت خالته وساسًا ما عندي غيرها حتى الجئ اله اابجي واصرخ شفت بيتهم مِن بع...
1.8K 132 6
تَحولت تلكَ الحياة الّتي جاهدت لجعلها تنبضُ، حطامًا بينَ ليلةٍ وضحاها. «أيّ غبيٍّ سيرضى بالزواج من امرأة تُصارع الموت!». كتبت في الثامن عشر م...
5.6K 350 13
زوجها يحمل بين يدية بندقية وهي كانت تحمل في يديها صليب لتبارك له كل شيء يقتله ويأخذ روحه هم ثنائي الــبــنـدقـية و الـصـلـيـب أعلى المراتب #1 الجي...
179K 606 1
حين ياتي ذلك اليوم بانتقال عابثة الفوضى إيليت لا سيردا بصف الثاني عشر للقسم ب بمدرسة امستردام تجد الطالب الهادئ و المحترم إيثان ، عمله واحده لوجهان...