بـومـة مينـرڤا

By Die-Nacht

13.9K 1.5K 8.6K

حقـبة جديـدة بدأت ما أن تم الاعتـراف بسحـرة الظـلام كجزء لا يتجزأ من عائلة حـراس التـوازن، لكن هذا وحده لم يج... More

-1- ذكرى (II)
-2- موسم الهندباء
-3- نورا
-4- الأيّم الشقراء
-5- لأجل أحدهم
-6- أدنى الهرم
-7- إرادة
-8- ضياء نجم مسائي
-9- جرع زائدة من السكر
-10- الـ منطقة
-11- السُخام الأسود
-12- لا تثق بالفراشات
-13- فنون الدم
-14- نوكتوا
-15- أجنحة وريش
-16- أوتار الشفق
-17- إنذار من الأومورا
-18- في مكعب جليدي
-19- ندوبه الغير مرئية
-20- غريق
-21- أرشيف الذكريات
-22- لعنات عابث
-23- أطياف
-24- ظلال البرق الأرجواني
-25- البحث عن الحكمة
-26- تلك الساحرة
-28- محاكمة
-29- الدم بالدم
-30- عهود غير منسية
-31- أبدي
-32- بومة مينرڤا

-27- رافيتوس ليلوي

400 46 274
By Die-Nacht


صوت نقري بالقلم على الطاولة كان كل ما داعب أذني لفترة، يهدء من روعي ويساعدني على التركيز رغم كونه رتيباً.

لم أرى أي شخص في الأيام الثلاثة الماضية، هذا يعني بأن كل شيء يسير على قدمٍ وساق والرحلة ستبدأ قريباً.

فتحت عيني على مرأى غلاكوس يتوقف في النافذة بعد أن عاد من رحلته الصباحية في الجوار، رفرف نحو مكتبي وهدل وكأنه يعلن عن عودته لكنني تجاهلته بإدارة رأسي جانباً وحسب.

بدت فكرة الإنفصال عني كفكرة جيدة له عندما أدرك بأنني لن أرافق نورمانوس ما إن كان لن يخرج من مخبئه على ما يبدو، لا أدري إن كان يفهم الآخرين أم كلامي وحسب؟ أيستشعر نيتي؟ أياً كان، أنا لا أستطيع إخفاء شيء عن غلاكوس.

بومي تسلل أسفل ذراعي في محاولة للفت إنتباهي فنهضت لأسير صوب النافذة وأتوقف هناك محدقة بسماء اليوم الغائمة، أسمع الرعد البعيد قادم، يوم ممطر آخر يقترب.

أصدر البوم زقزقة كئيبة من الخلف. لابد أن غلاكوس يفهم إستيائي منه، فاليتحمل عقابه، لقد دللته كثيراً وأصبح يثير المتاعب مؤخراً.

كدت أن أعطس حين تهادت ريشة رمادية على وجهي من اللامكان لكنني أمسكت بأرنبة أنفي وإلتقطت بيدي الحرة الريشة التي لم أظن بأنني سأراها قريباً.
"بولاريس."
همست باسم الطبيبة وأنا أتحرك سريعاً نحو المكتب، بحثت عن ورقة فارغة في الدرج وفرشت السطح بعد أن هشهشت غلاكوس بعيداً. وقف الأخير على الطرف وشاهد معي الريشة تطفو فوق الورقة ما أن تخلصت من الختم الدموي الجاف لتبدأ برسم حروف رسالة بولاريس بخطها الخاص الفذ.
"يا فتاة..."
يا لها من بداية تؤكد أن الرسالة من بولاريس.
"يجب استئصال الطفيلي الذي وصفته لي في الحالة بأي طريقة ولو عنى الأمر موت الحاوية."
تنهدت بخيبة، وأنا كنت قد ظننت أن البداية فظيعة.
"لا يمكنني تشخيص طريقة سليمة لعملية معقدة تتعلق بالدماغ دون محاولة أولى فاشلة إذ لم يمر على رأسي مثل ما تصفينه من الطفيليات قط. قد يبدو ما أنتقيه من كلمات فظيعاً لكن مرض السخام الأسود هذا أسوأ مما كنت قد ظننت في البداية. لا نتحدث عن مجرد طفيلي يفتك بالكائن الحي بل يستعمله كحاوية ليمارس نشاطاته الخاصة أياً كانت، دخلاء غير مرغوب بهم مثل ما أسلفت قد يتسببون بكارثة كونية."
أفهم أيتها الطبيبة لكنني لا أنوي الاستسلام بسهولة لخيار قد لا يغير شيئاً، ما فُرص أن نجد طريقة سليمة للتخلص منه؟ يجب أن تُحل المشكلة من الجذور.
"أتطلع لعودتكِ بعيّنة حيّة قريباً.
بولاريس."
قرأت نهاية الرسالة بعيون شاردة، لا يبدو أن بولاريس ستعطيني نظرية طريقتها أو حتى أملاً بسيطاً بهذا الشأن.

غلاكوس رفع جناحيه فجأة، جسدي بأكمله اقشعر عندما لاح ظل غريب أعلى رأسي فالتفتت بسرعة نحو جانبي الأيمن لأجد رجلاً لم تألفه عيناي يقف على مقربة ويحدق من فوق كتفي برسالة بولاريس بأنامله تحمل ذقنه.

قمت سريعاً بسحب الورقة والتراجع بضعة خطوات قرب غلاكوس الذي حدق بي وكأنني مجنونة.
"لما لم تخبرني أبكر...؟"
حاولت الإستفسار من بومي لكنه أمال برأسه يمنة متسائلاً عما أتحدث، يبدو أن غلاكوس قد أصابه العته بسبب لعدم تحليقه لعدة أيام.

"اعتذر عن دخولي الغير معلن."
الرجل الشاب تحدث أخيراً بنبرة سمعتها أذني قبلاً وهو يلتقط ريشة بولاريس الرمادية بأطراف أصابعه في ما بدى كحرص شديد من ألا يحطمها.

"لم أستطع منع فضولي من الوقوف والمشاهدة عندما بدأت هذه الريشة بالحراك دون أدنى طاقة حياتية."
تناولت الريشة الرمادية حين مدها نحوي بتقطيبة قاسية بين حاجبي.
"لم أعني التجسس على الرسالة."
ملامح وجهه لانت لتغدو معتذرة، عيونه الداكنة تنخفض نحو كفه الفارغة قبل أن ترتفع مجدداً نحو وجهي.
"رغم أننا لم نكن نلتقي كثيراً إلا أن الظروف مختلفة اليوم عن العادة."
تراجع خطوة للخلف ودار حول المكتب، معطفه الأسود الذي تدلى على ساعده يدلل أنه كان قد عاد من عمله الميداني للتو.
"من الجيد رؤيتكِ بصحة جيدة مينرڤا."
إرتاح لمقعد قبالة المكتب ووضع ابتسامة جعلتني أتساءل إن كانت ذاتها التي كان يصنعها عند رؤيتي في تلك الفترة التي لم أكن قادرة فيها على رؤية الوجوه.

"آشر ريغان."
نبست بخفوت فارتفعت ملامح وجهه بنظرة مدهوشة للحظات تلاها ضحكة قصيرة، هذا يفسر هدوء غلاكوس فلم يكن آشر بغريب عنه.

"اعتذر، لقد نسيت عن كل ما حدث بالفعل."
قام بتمليس غرته بين سبابته وإبهامه قبل أن يدفع بها للخلف.
"إنه آشر بالفعل."
أشاح ببصره، بدا متأسفاً قليلاً.
"أعتقد أنه يجدر بي القول تشرفنا."
نبس، وكم كان محقاً، نحن لم نتحدث بحق قبلاً وأنا لم أرى وجهه يوماً، هذه أول مرة. هو مجرد غريب آخر كنت قد أسميته عائلة.

لم أعلق، لم أرد مثل هذا الشرف الآن ولست مهتمة بنيله بحق، وأراهن أنه شعر بذلك حين أعاد رسم تلك الابتسامة مجدداً ليدعي الود، خلفها لم يكن يهتم، مثلي تماماً.

"لم أكن أعلم أنه من الممكن للمرء أن يتوه بين ممرات المكتبة وطوابق الغرف الخاصة."
عقدت ذراعي أمامي واستفسرت عن سبب تواجده هنا الآن بالذات إذ لم يكن شخصاً يحب المكوث في قصر ريغان حتى يتجول في صالات القصر وأجنحته المختلفة.

"أنا لست تائهاً على الإطلاق، لم أجد شريكتي ليست في الأنحاء وكنت أبحث عنها، حضرت هنا فقط لإلقاء التحية عليك."
فهم تلميحي ولم يتردد من الإفصاح عن رغبته بمقابلتي.
"عندما سمعت بأنكم تحتاجون مساعدتي للوصول لأكاديمية الدرع ذاتها تمت إثارة فضولي، إذ كما تعلمين حراس التوازن يُسمح لهم فقط بارتياد وزيارة أكاديمية العاصمة العظيمة، تجاوز الخطوط الحمراء وتتبع أثار ما قد يكون ربما مجرد رفاة شخص توفي منذ دهر أمر مجنون."
أسند وجنته لقبضته، بدا وكأنه على وشك الضحك، أكان لآشر مثل هذه الشخصية الغريبة؟

"إن تم كشف تسللنا فحتى كوننا حراس توازن لن يحمينا من التعرض للمُساءلة، سنقع بين أصابع قبضة محكمة الوزراء وربما ينتهي بنا الأمر مقتولين."
عيونه إنزلقت نحو غلاكوس الذي كان يحدق به بنظرات فارغة، يرمش ببطء وكسل في ما بدا كمحاولة لتحديد إن كان عدواً أم صديقاً لأنني حالياً لا أمتلك أي موقف معين إتجاه آشر قد يساعد بومي على استيعاب أمره لكن... أهذا هو الأمر حقاً؟

"صحيح."
غمغمت.

"مشاركة سيد المنزل أمر آخر أيضاً لم أتوقعه."
أسنانه البيضاء ظهرت في تكشيرة غريبة.
"هذا سيكون محرجاً للغاية لذلك الفتى."
أضاف، أما أنا فظللت واقفة أراقبه بعيون باردة، أيحاول السخرية من قرارات رب العائلة وتعييره بعمره؟ نورمانوس لم يكن ليشارك في كل هذا في المقام الأول، أنا السبب، يود إعادتي عاجلاً لعائلتي، لابد أن رؤيتي باستمرار لا تسبب له سوى الألم الآن.

"مثل هذه الأوقات تستدعي إجراءات صارمة وبعض القوانين التي وُضعت بغرض البريستيج الدنيوي لا يجب أن تقف في وجه حراس التوازن، مع ذلك دائماً ما يتم إتخاذ إجراءات عدة من أجل ضمان عدم زعزعة رخاء أي نوع في خضم حل مشاكل قد تُشكل نقطة تحول جذري في حياة الملايين."
وضعت رسالة بولاريس في لفافة وأنا أتحدث، يجب أن أحرقها لاحقاً، لا أريد لأحد أن يعرف عن قدرتي على التواصل مع النوكتوا ولأدعو أن يبقي آشر فاهه مغلقاً.

"سحرة النور يجب أن يقبِّلوا الأنامل التي كانت ومازالت تنقذهم من الإنقراض مراراً."
نبست بتململ، لطالما وجدت تعجرفاً غريباً لدى سحرة النور، ألأن أعدادهم تقارب البشر؟ أيظنون أن الكثرة تغلب القوة؟ حقيقة أن مستويات المهارات والهبات التي يمتلكها كل نوع مختلفة عن الآخر هي ما تجعل المرء أكثر وعياً بكيف يتصرف ويحافظ على حياته ويحمي من حوله، ربما لأن فترات حياتهم قصيرة يراودهم النسيان وحسب.

"ماذا عنكِ؟"
آشر جذب أبصاري عندما نهض، ثم وفي رمشة واحدة من عيني كان قد أصبح أمامي، أحد حاجبيه يرتفع بنظرة استفسار:
"كونكِ العقل المدبر لمحاولة إنقاذ العالم الموازي من الغزاة، أتريدين أن نركع ونتضرع إليكِ؟"

ألقيت ببصري مرة أخيرة نحو غلاكوس الذي قرر إغلاق جفونه والذهاب للنوم.

شكوكي قد تأكدت الآن.

رفعت كفي أمام آشر في الهواء وكأنني أهديه إياه، بدا متفاجئاً.
"ما الخطب؟ أمسك يدي، فالتتضرع..."
عندما أمرته الدهشة راحت تتمكن أكثر من ملامح وجهه.

"هل صدمتكَ لتلك الدرجة أم أن القط قد أكل لسانك؟"
ابتسمت في وجهه بلطف ثم أضفت بهدوء:
"أخرجني من سجنك هذا، لست دمية لتلعب بها آشر ريغان."

آشر أمامي أغلق فاهه أخيراً ثم تحلل لغبار نجمي تتطاير في الأثير ومعه سقطت الخلفية التي صنعها بسحره، كل شيء من حولنا تحول للأبيض قبل أن تنزلق الألوان من أسفل أقدامنا مجدداً، مكعب صغير تدحرج على الطاولة ومعه عدنا للعالم الواقعي.

النسيم الذي تسسلل من النوافذ عاد ليداعب خصلاتي أما غلاكوس فضرب بأجنحته وكأنه استعاد وعيه قبل أن يرفرف نحوي ويتسلق كتفي متسائلاً عما كان قد حصل، لا ألومه فلو لم أدري منذ زمن أن اختصاص آشر هو سحر المكانيات والبصريات لكنت قد خُدعت مثله تماماً.

حارس التوازن إلتقط مكعبه الصغير من على الطاولة ليتقلص بين أنامله حتى أصبح بحجم الزر، علقه أعلى ياقة قميصه ليتماها مع التشكيلة التي زينت ملابسه، كان من الصعب الملاحظة أنها أدوات سحرية وليست مجرد أزرار.

آشر ضحك.
"كيف اكتشفتِ ما فعلته؟"
سأل، بدا فضولياً وله الحق فالبُعد الذي أنشأه كان طبق
الأصل للحقيقي، لم أشعر بنفسي أنزلق في الفخ.

"لحظة تسليمي الريشة كانت الثانية التي استطعتَ بها تفعيل البعد المكاني البديل، أنت تراجعت خوفاً من أنني قد ألمس الصورة التي أنشأتها لنفسك، هذا كان خطأك الأول ونقطة ضعفك الحالية إذ لا تستطيع حبس ذاتك الحقيقية في البعد البديل مع ضحاياك، توجب بك المراقبة من الخارج لتتحكم بكل الخدع البصرية التي قد تتسبب بكشفك إن كانت رديئة."
غلاكوس رمش بعينه اليسرى قبل اليمنى فوق كتفي حين حركت بصري نحوه.
"لكن ذلك لم يكن السبب الرئيسي بحق بل غلاكوس الذي غدا هادئاً وعلى وشك السقوط في النوم وكأن لا أحد سواي معه في المكان، قد تستطيع خداع حواسي لكن البوم يعلم فلم يكلف نفسه عناء التركيز على مجرد صورة."
حواسي لم تعد مقيدة وبغلاكوس حولي حصلت على فائدة أكبر.

"إذاً..."
آشر فجأة حمل أنامل كفي.
"هل لي بتقديم فروض الطاعة؟"
سأل بنبرة تباينت بين المزاح والغزل.

سحبت يدي من كفه بسرعة بطريقة أضحكته لكنني عاتبته وحسب:
"أمر مثل هذا أجده تافهاً ولحظياً، باختصار بلا فائدة، ما أريده كمقابل على مساعدتي لكم أهم لي ولأبناء نوعي."

استقام وركز ملابسه.
"وله علاقة بحريتكم على ما يبدو إذ لم أتوقع رؤيتكِ تغادرين المكتبة يوماً."
كان مصيباً في كل حرف، لا أظنني كنت سأتورط حتى هذا الحد لو لم يتم وعدي بما هو مهم. لم أستطع قول أي شيء، كنت أحدق به بعيون حارة ومعي غلاكوس يرفع ريش رأسه متفاعلاً مع مشاعري ومستعداً لإخافته بعيداً.

"ها أنتَ هنا..."
ظهرت مايبل في باب المكتبة المفتوح على مصراعيه.

"بيل!"
بدا سعيداً برؤيتها، تقدم منها وقام بحضنها للحظات لم تتغير بها ملامح وجهها وانتهت سريعاً، كلاهما لا يحمل أي مشاعر مميزة للأخر، ربما بعض المودة والاحترام.

نظرت مايبل من فوق كتفه نحوي للحظة ثم عادت لتحدق في وجهه معاتبة:
"أخبرتكَ أن تنتظرني في جناحنا إن عدت قبلي."
إذاً فقد كذب علي.

"اعتذر، لم أستطع منع نفسي من المرور وإلقاء التحية."
استدار بنصف جذعه نحوي مجدداً.
"مينرڤا هذه أكثر حيوية من التي عرفناها."
نظر بطرف عينه.
"لا إهانة، كلماتي صادقة."
أفصح.

"لا تتحدث مع ضيفتنا بعفوية وأتوقع منك ألا تسحبها في خدعة من خُدعك المزعجة."
تنبيهها أتى متأخراً قليلاً، آشر غمغم بمفهوم ثم ابتسم لي بعيون تطلب شيئاً بقوة، ألا أشي به.
"أصنعت ما طلبت؟"
مايبل استعادت تركيز شريكها.

"فعلت، لكنني لم أعرف الغرض منه بعد لأضع اللمسات الأخيرة."
أجاب بتململ.

"سأخبرك لاحقاً."
تخطته واقتربت من موقعي لتحدثني:
"مينرڤا، كل شيء جاهز، سنجتمع ظهيرة اليوم في الغرفة الرئيسية، هناك سأشرح كل شيء."

"مفهوم."
وبهذه الكلمة من فاهي كانا قد رحلا وتركاني وحدي مع غلاكوس الذي خلد للنوم في مكانه، يبدو أن آشر كان فقط يجتس نبضي بإزعاجي قليلاً بفضول للتعرف على أنا الحقيقية وليس الدمية المبتسمة التي طالما قابلها.

مسحت على رأس غلاكوس أخيراً حين حاول إرضائي، شفاهي ارتعشت بسبب البسمة الرهيبة التي حاولت أن تتسلل لوجهي، رغم أنها كانت تعبيراً توجب بي صنعه إلا أنني أفتقدها.

.
.
.

غلاكوس حلق أعلى رأسي ليشق طريقه عبر الممرات حتى الصالة الرئيسية، لم ينتظرني ورفرف فوق رؤوس الجميع متجهاً لشخصه المفضل.

طائر البوم هبط على ساعد الكنبة التي ارتاح عليها نورمانوس بعيون مغلقة، أهداب الأخير تباعدت على إحساسه بحضورنا. عيونه حطت علي بنظرة ثقيلة حيث وقفت في الباب للحظات قبل أن تنزلق نحو غلاكوس الذي اقترب أكثر منه وكأنه يطلب اهتمامه.

رفع نورمانوس أنامله على مهل في محاولة لإخفاء رعشة جسده وبدأ بحك الريش أسفل منقار غلاكوس الحاد، الأخير قفز في حضنه فما كان من سيد ريغان سوى أن يتقبل وجود كتلة الريش على صدره قبل أن يعود للنوم.

مايبل كانت تقف في زاوية بعيدة مع آشر يتناقشان في ما بدى أمراً مهماً، ريالين والآخرون لا أثر لهم.

"طاب يومكِ مينرڤا."
فوجئت بآيجل يلقي التحية بقربي ليعلن عن حضوره، أهذا فريقنا كله؟
"أين الجميع؟"
سألت فبدى مستغرباً للحظة قبل أن يبتسم مجدداً.
"فرويد يعمل كمراقب مكان نورمانوس، من الصحيح أن العبثة لم يحاولوا الاقتراب من حدود أراضي سحرة الظلام منذ زمن لكن لا يمكننا التواني عن تنفيذ ما وعدناهم به."
عيونه البندقية سارت في ملامح المتواجدين بالغرفة وحطت على سيد ريغان الذي غفى في مكانه كرجل عجوز. لقد استهلك نفسه.

"ريم تعتني بالصغار والمكتبة منذ فترة أما ريالين فعادت لعزلتها."
لوح بكفه في الهواء مشيراً أن لكل شأنه الخاص ببساطة.
"أما أنا فسأعود لمراقبة حدود القصر، ليس لدي عيون في السماء لكن عملي مطلوب ومهم على الأرض."
أضاف ناظراً في وجهي الذي حمل سؤالاً واحداً.
"أتيت لأتمنى لكم رحلة بحث موفقة."
قام بحكحكة أرنبة أنفه. آيجل كالأم الدجاجة التي تقلق على فراخها ولهذا هو هنا الآن.

لم أستطع منع شبح ابتسامة من التسلل لوجهي، قد لا تبدو سعيدة كالتي كنت أظهرها له مراراً لكنها على الأقل ليست كاذبة وهذا الأهم.
"شكراً."
بهذه الكلمة مني كان الشاب قد غادر المكان.

مايبل أشارت لي بالاقتراب وكلنا وقفنا حول نورمانوس الذي استمر بتجاهلنا وإدعاء النوم.
"وجدت المرشح المثالي."
تلفظت الساحرة وهي تقوم بإطلاق أصابعها لترينا صوراً لشخصين متشابهين فتى وفتاة، شعر ذهبي أملس وعيون زرقاء بحرية.
"إليانور وإيمانويل غرايبن، شقيقان مدللان، والدهما يكون أحد الساسة المرتشين في آمن العاصمة."
يا له من وصف حساس.

"من لطفكِ أن تدليلنا..."
نورمانوس نبس فجأة، عيونه تظهر من خلف أهدابه وترتفع لتحدق بالصور الشفافة.
"لابد أنهما يمتلكان جناحين فاخرين في السكن."
علق.

"اخترتهما لأنهما وحيدان بسبب بعض قوانين الطبقية والأمنية التي تركتهما محطة لا يود الركاب نزولها."
أفصحت متململة، نبرتها تتحول لأخرى عملية عندما أضافت:
"هما بلا خدم أيضاً بسبب قوانين المدرسة، لن يتم عرقلتكم من قبل أي شخص، الخطر الوحيد الذي قد يطرأ هو مواجهة أي فرد من الكادر التعليمي."

"هذا جيد حتى اللحظة، لكن ماذا عنا نحن؟"
سألت منتقدة، نحن لا نشبه هؤلاء المراهقين بتاتاً.

"يمكننا تمليس شعركِ وببعض مساحيق التجميل سنرسم الملامح المميزة أما بالنسبة لنورمانوس فسنضطر لصبغ شعره وجعله يرتدي بعض العدسات اللاصقة."
تخصرت مايبل محدقة بنورمانوس وكأن الجزء الصعب عويص أكثر مما تصورت.

"لا داعي لقدومك نورمانوس..."
تحدثت مناظرة إياه، لا أريد إجباره على ما يطيق أو توريطه كسيد ريغان مباشرة في ذلك، إن كُشفنا فكل حراس التوازن سيقعون في مُساءلة قانونية عويصة.

"لا بأس بذلك معي."
تحدث مجيباً حروفي التي حاولت ثنيه بها عن التمسك بي.
"هدفنا عنيد، علمتْ أين تستطيع الإختباء ببراعة ولإيجادها وضمان أنها لن تهرب ستحتاجين مساعدة."
غلاكوس هدل في حجره وكأنه يوافقه الرأي أما أنا فآثرت الصمت، لا أظن أنه يمكنني جداله أكثر، لم أرد فعل ذلك خاصة بعد جدالنا منذ أيام، لم نتحدث بعدها سوى الآن وهذا أحزنني.

"إذاً فقد تم الأمر، سنجتمع هنا في تمام السابعة والنصف."
تحدث آشر، عيونه تلاحق نورمانوس الذي نهض وسار مبتعداً.
"ألا تحتاج مساعدة في وضع التنكر يا رئيس؟"
بنبرة بين الدعابة والجدية سأل فأجابه نورمانوس دون أن يتوقف:
"يجدر بك إنهاء الأدوات اللازمة، سأتدبر أمري بمساعدة سيد الخدم."

مايبل أخذتني لجناحها وقامت بتمليس شعري يدوياً بمساعدة خادمة يافعة إذ أن سحرها سيتم كشف أثاره بسهولة.
"آشر قام بصنع قالبين من نوع خاص."
حدثتني من الخلف حيث جلست أمام طاولة الزينة وراحت الخادمة تبحث عن شيء في حقيبة الأدوات قبل أن اسلمه لسيدتها.
"ما أن ندخل سنقوم بالركض إذ سيكون من الصعب عدم ملاحظة السحر الذي سنستعمله للانتقال حتى الاكاديمية."
بدأت بسحب شعري وتصفيفه بطريقة تخفي فيها ما تستطيع من وجهي.
"سيتم حبس الطفلين في أبعاد مستنسخة من غرفهم في فترة الليل وسيسير الوقت بوتيرة بطيئة تتركهما غير قادرين على ملاحظة الاختلاف في حال استيقظا من تعويذة السبات النضفي التي سأقوم بتلوها عليهما. لن يحاولا التفكير بالأمر حتى فأجسادهم ستكون منهكة دون غذاء."
إلتفت حولي بعد أن ثبتت غرتي للخلف وقامت باستعمال قلم كحل رفيع لتغير شيئاً من ملامح عيني.
"الأمر يتطلب صحوتنا الكاملة وتسخير الكثير من طاقات حياتنا لكننا نستطيع تأمين يومين لثلاثة أيام لكما على حساب صحة الصغار ووعينا لذا يفضل أن تنتهوا بسرعة."
أطلعتني على حدودهما، هذا أكثر من كافي، إن لم نجد الساحرة أو أثر منها فلن أتعلق بأمل زائف، خاصة أن حجر الزريكون متجمد منذ ذلك اليوم، يبث البرودة عوض الدفئ. فكرة أنني قد لا أرى ذلك الظل لكلايمنت بدأت تؤرقني، رؤيته ظله أوقفت كوابيسي عن الشاب نفسه.

"مفهوم."
نبست وأنا أنهض لأنظر في المرآة، بشعري الأملس وتلك الخطوط التي زيّنت عيني بدوت مختلفة وكأنني أصغر عمراً، مراهقة متمردة ذات طباع نزقة.

لكن شكلي لم يكن قد اختلف بحق مقارنة بنورمانوس الذي أصبح أشقراً، آثار العروق السوداء كانت مازالت ظاهرة أسفل عينيه الزرقاوين لكنها أضافت اللمسة الضرورية على طالب الثانوية الذي يسهر مع رفاقه طوال الليل.

إطلالته هذه جعلتني أشعر بأشياء عدة، بدا كأحد أبناء الشمال لوهلة فأحسست بالإحباط وتمنيت لو أن خيالي حقيقة لأتمسك به بكل ما لدي. ذكرني بكيف كان قبل الإصابة والمرض فشعرت بالحزن لكن واقع رؤيته مراراً وتكراراً ولو بهيئات مختلفة تجعل قلبي يقفز، أنا أقع في حبه أكثر مع الوقت وهذا موجع.

"تبدو...أفضل مما توقعت."
مايبل علقت بشيء من الإنبهار فدحرج مقلتيه.
"من قال بصبغ شعرك؟ أحتاجه ليصبغ خاصتي"
سألت بفضول ممازح لكنه لم يجبها أو يمتلك النية لفتح فاهه فتنهدت مايبل آسفها ودفعتني بلطف لأقف بقربه، تأملتنا هي وآشر بعيون متفحصة.

"جيد بما يكفي."
نبست فقام شريكها برمي كفيه في الهواء مجيباً:
"التنكر وتقمص هوية أحدهم مجرد إجراء احترازي في المقام الأول."
محقان الزي لوحده أكثر من كافي، التقمص في حال اضطررنا للتعامل مع أي فرد من أفراد الطاقم التدريسي.
الأكاديمية تعج بالطلبة لذا لا أظن أن المدرسين يحفظون وجوه طلابهم عن كثب، هذا ما أتمناه على الأقل.

غلاكوس الذي كان يرافق ويتجول أعلى كتف نورمانوس لم يبدو سعيداً عندما رأى شعري الأملس يتطاير كيفما تحركت فتسلق كتفي وأخذ يمضغ بضعة خصلات في محاولة لتجعيده مجدداً جاعلاً إياي أسحب تلك الريش البارزة في رأسه وأوبخه بنظراتي.

مايبل ارتدت عباءتها وآشر وضع القلنسوة على رأسه قائلاً:
"انتظرا إشارتنا."
عبرنا للجهة الأخرى من البوابة وكما جرت العادة شعرت بالدور لكني اضطررت للمكابرة بإدعاء الإتزان حتى أمسك نورمانوس بي من الخصر ليسندني لجسده رغماً عني.

دخلنا ما يبدو كردهة جانيبة إذ كنت أرى الطلاب في نهاية الممر وحسب.
"حظر التجول يبدأ في غضون خمس دقائق، يرجى التوجه لغرفكم والخلود للراحة."
كانت مكبرات الإذاعة أعلى رؤسنا تعلن عما بدى كنهاية اليوم.

عندما راحت مايبل تحدد موقعنا بدقة وآشر ينتظرها بهدوء أبعدت نفسي عن نورمانوس.
"أنا بخير."
غمغمت دون النظر في وجهه وقبل أن يدور بيننا أي أخذ ورد حتى أعلن الثنائي أن وقت الإنطلاق حان.

"لنذهب."
همس آشر فبدأنا الركض ضمن حشود الطلاب الذين لم يكونوا قادرين على رؤيتنا، ألقيت نظرة سريعة على نورمانوس وقد بدا بخير من الخارج.

"المسؤولون يعرفون عن دخولنا بالفعل لكنهم لن يتحركوا الآن فلا يثيروا الفزع بين الطلاب ويزيدوا الطين بلة."
شرحت مايبل ليضيف آشر بعملية:
"آثار سحر الانتقال ستتلاشى أيضاً بسرعة ولن يستطيعوا تحديد من أو كيف وأين لذا لا داعي للقلق كثيراً."

مايبل وآشر تبادلا ما بدا كأدوات سحرية، الأولى نظرت لي والثاني نظر لنورمانوس.
"هيا معي."
تحدثا في الآن ذاته، أرى الآن سبب كونهما شريكان.

ومن دون أي تفكير ونقاش نورمانوس لحق بآشر أما أنا فوثبت خلف مايبل. حارسة التوازن كان أسرع من الأطفال الذين يسارعون بالعودة لغرفهم ومني أنا حتى، أراهن أنها لا تركض بأسرع ما لديها حتى.

"فالتسبقيني مايبل."
حدثتها فالتفتت نحوي.
"لما؟"
سألت.
لهثت أنفاسي الضائعة ما أن وصلنا الطابق الثالث من خلال الركض على الدرجات الرخامية.
"أنا بطيئة، سأتسبب بتأخركِ."
توقفت وأمسكت بركبتي ألهث إنهاكي، أشعر بأن قلبي سيقفز خارج صدري.

"لكن..."
حاولت جدالي إلا أن غلاكوس أعلى رأسي تحرك ليقف على سياج الدرجات يراقب ما حولنا بعيون واسعة.
"سأتبعك، لن أضيعك، غلاكوس سيجدكِ."
أجبت.

مايبل نظرت في وجهي للحظات قبل أن تومئ برأسها وتقفز الدرجات بسرعة أكبر من سابقتها لتختفي عن بصري في رمشة عين.

غلاكوس هدل وهو يميل برأسه نحوي أنا التي ضربت ركبتيها بقبضتيها عدة مرات.
"لنتحرك."
استقمت وغلاكوس حلق أمامي يرشدني خلال الممرات الواسعة. لم يقم أحدهم بالاكتراث لطائري رغم قدرتهم على رؤيته فمما لاحظته جميعهم يملكون صاحباً من نوع ما، حيوان، جماد متحرك أو كائن سحري بلا أي ملامح مألوفة حتى.

الساعة أشارت إلى التاسعة مساءً ثم بدأت بالدق بأجراس عالية، الطلاب اختفوا من الممرات وأنا أمسكت بمقبض باب الغرفة المنشودة قبل أن أفتحه دون نقر وأدفع نفسي داخلاً لأغلقه بسرعة خلفي وأسقط بإنهاك.

حذاء أسود خطى أمامي.
"توقيت مثالي."
أفصحت مايبل فوق رأسي وهي تنحني لتريني المكعب الذي كانت تحمله بين أناملها، كان أسوداً لكن أسفل إضاءة الغرفة الخافتة استطعت رؤية ما في الداخل. شابة شقراء تناظر ما خارج النافذة بعيون ناعسة قبل أن تتجه لسريرها الذي كان طبق الأصل لما أراه حولي.

"حان وقت ذهابي."
مايبل وضعت المكعب في جيبها ثم فتحت النافذة لتتسلقها.

نهضت ولحقت بها.
"أراكِ قريباً."
أعطتني نظرة أخيرة، رأيت بعض القلق في عيونها رغم إدعائها التجلد.

همهمت بإيماءة بسيطة لتقفز مايبل وتهوي للأسفل، هبطت بخفة على الأرض دون استعمال سحرها رغم المسافة ثم ركضت بعيداً، ببوابة بسيطة ظهرت من اللامكان لتبتلعتها ثم تختفي كما ظهرت سريعاً.

حدقت حولي ونحو السماء، رأيت مياه المحيط القاتمة حول هيكل الدرع الشفاف تتلألأ كما لو كانت سماءً خالية من قمر ونجوم. أرجاء الأكاديمية منيرة بسحر السحرة وحسب، ذكرني المنظر بالقطب لكن هنا لا يوجد قمر ونجوم أو شفق، فقط سماء مزيفة مظلمة وفكرة أن ما يقبع أعلى رؤوسنا ماء جعلت بدني يقشعر.

"لا وقت للخوف."
أغلقت النافذة سريعاً وجلست لكرسي جانبي أستجمع طاقتي وأفكر بما سنفعله تالياً. لم أضع أي خطة رسمية مع نورمانوس لكن كبداية سندع الليلة لتمر ونبدأ بالتحرك غداً إذ لابد أن حراس الحرم الأكاديمي قد بدأوا بالتحرك الآن، على أشخاص بلا سحر مثلي ومثل نورمانوس الهدوء.

لم ألحظ كم من الوقت مر علي على ذات الجلسة لكن حين نهض غلاكوس من نومه ووقف أعلى إطار الباب حبست أنفاسي.
أحدهم قادم باتجاه الغرفة!
أيوجد تفتيش من نوع ما!؟

الباب نُقر مرتين فوقفت متأهبة في ظلام الغرفة، ضوء المكتب الصغير الشحيح وحده ما ينير المكان.

حاولت تجاهله لكن حين وصلني صوت النقر مرة ثانية بدأت بالهلع.

ما احتمالات أن أقع في مشكلة إن استمررت بالإدعاء أنني نائمة؟ إن كان يتم إجراء تفقد شكلي الليلة وحسب فذلك مبرر لكن إن كان بشكل دوري فسيتم تحطيم الباب والتحقيق معي.

النقر استمر وغلاكوس نفش نفسه بجناحيه عالياً، لا يبدو سعيداً بالزائر بدوره.

قمت ببعثرة شعري وخلع سترة الزي الثقيل، جعدت أطراف فستان الزي الرسمي الخمري الذي ارتديته وتحركت بخطوات ثقيلة لأمسك بمقبض الباب وأفتحه على مهل، فكرة فتح الباب على مصراعه إلتغت حين لمحت طالباً غريباً أمام الباب خلال الظلام الدامس فوضعت قدمي خلف الباب وتأهبت لإغلاقه.

"إليانور... مهلاً!"
بصوت خافت همس الشاب وهو يتمسك بالباب ليمنعني من إغلاقه، هذا سيء، إن كان قريباً من الفتاة فسيلاحظ عاجلاً أنني لست هي. الظلام يمنعه من رؤية وجهي لكنني إن تحدثت فسأُفضح بلا ريب.

"لنتحدث، أنا آسف لم أعني إغاظتكِ بقبول طلب آشلي مشاركتها."
حاول ثني عما أريد فعله بكلمات لم أفهمها، ألم تقل مايبل أنهما وحيدان؟ ألا يشمل هذا الأصدقاء؟ لما أتعرض لهذا الآن والمهمة لم تبدأ بعد حتى؟!

"لنتصالح..."
الشاب دفع الباب أكثر وقواي بدأت تتزعزع، غلاكوس كان مستعداً لإيذائه وهذا قد يكون أسوأ حتى من اكتشافه أمري.

حاولت الاستعانة بحجر الزريكون علي أخيفه ليبتعد لكن وكما توقع كلايمنت الحجر لم يستجب للمستي.

دُفع الباب مرة جديدة فتعثرت للخلف، الفتى كاد أن يدلف ويتعرض لهجوم مؤذٍ من بومي لكن حين تم الإمساك بياقة قميصه من قبل أحدهم دُهش مثلي بل وأصابه الفزع من رؤية ذلك الشاب الأشقر الذي يسبقه بالطول والحجم يرفعه في الهواء وكأنه لا يزن الكثير.

"ما الذي تظن نفسك فاعلاً إياه في مهجع الفتيات؟"
الصوت المألوف صدح في أذني، كدت أن أهتف باسمه لكنني أحجمت عند أخر لحظة.

"هذا سؤالي."
الفتى إدعى القوة هذا فقط جعل غريمه يقوم بتقريبه من وجهه ليناظره في العينين.
"لا يحق لك طرح الأسئلة والآنسة التي تضايقها هي...."

"أخبرتي إيمانويل؟!"
الفتى هتف مناظراً إياي، لم أعرف ماذا علي أقول ولا يتوجب بي الحديث، أخفضت بصري وادعيت أنني لا أطيق النظر نحوه. هذا جعل الفتى يشهق بكية محبطة.

إيمانويل... بل نورمانوس ترك الطالب المسكين ليقع أرضاً، جمع الأخير شتات نفسه وركض بعيداً ليختفي في الظلام.
أتمنى أننا لم نفسد علاقة هؤلاء الشباب أياً كانت.

"أنتِ على ما يرام؟"
سأل نورمانوس بخفوت فما كان مني سوى أن أتنهد وأسحبه ليدخل الغرفة وأغلق الباب خلفه، لقد أحدثنا الكثير من الجلبة.

"ما الذي أحضرك هنا؟"
سألته مراقبة إياه يعرج باتجاه الكرسي الذي كنت جالسة عليه مسبقاً ليرتاح.

"كنت أتجول في الأرجاء لأحفظ طرق حرس الحرم وانتهى بي المطاف هنا، كنت انتظر الفتى ليتنحى عن الطريق لكن حين استشعرت حضوركِ عرفت أنه يتحدث للشخص الخطأ."
انحنى على نفسه وأمسك بساقه المصابة. الأمر جعلني أتجاهل قصته الغير مقنعة وأتقدم لأجلس أمامه على الأرض بغلاكوس أعلى كتفي يراقب باهتمام.

"لابد أنها تؤلمك بشدة بعد كل هذا الركض اليوم."
حاولت لمس ساقه لكنه منعني بإمساك كفي، عيونه الزرقاء الزائفة نظرت في وجهي.
"إنه أمر معتاد، لا يمكن تجنبه."

"ماذا عن بعض المسكنات؟"
سألت فهز برأسه وهو يستقيم.
"مفعولها سيصبح ضعيفاً مع الوقت وقد أغدو محتاجاً لها بشدة كالمخدر إن استمررت بتناولها."
محق، العقارات الداوئية لن تقوم بأداء جيد على المدى الطويل.

"هل جربت بعض الأعشاب؟"
سايرته، بدا عليه شيء من التفكير.
"مثل هذا يحتاج دراسة ولا يوجد أي خبير في ريغان قد يساعدني."
أجاب فابتسمت وأنا أنهض على مهل لأنفض لباسي.
"النوكتوا يعتمدون غالباً على بومهم والأعشاب الطبيعية للتداوي، سأعد لك بعض الخلطات التي كنت قد تعلمتها عندما نعود، قد تساعد."
هو حدق بي وحسب فاعتذرت:
"آسفة، لا أملك أي شيء قد يساعدك مع الألم الآن."

"لا عليكِ..."
نبس وهو يستقيم ليعقد ذراعيه أمامه ويسدل جفونه.
"اعتدت هذا الوجع منذ زمن فغدا بسيطاً."
لا أحد يعتاد الألم يا نورمانوس، توقف عن الكذب.

"نورمانوس."
تراجعت لأجلب كرسياً صغيراً كان أمام طاولة الزينة وأجلس بقربه.
"لدي شيء لأخبرك به لم أقله لأي شخص بعد."
استطردت.

"ما هو؟"
استفسر دون أن يفتح عينيه.

عقدت أناملي في حجري، يجدر بي إخباره الآن فقد لا يوجد لاحقاً وقت.
"عندما كنا أنا وأنت هناك في الجبال القديمة لأول مرة وفقدتَ الوعي بسبب السم سقطتَ في ثقب الحدود ذاك، وفي محاولة غبية مني لإلتقاطك سقطتُ معك."

شعرت برموشه تتباعد، يسترق النظر نحوي بطرف عينه.
"غرقنا في لب فضائه اللامتناهي لمدة دقيقتين أو ثلاث وغلاكوس كان من أنقذنا من الاختناق والضياع في اللامكان، كانت أول مرة حلقت فيها وآخر مرة."
هززت برأسي.
"لكن هذا ليس مهماً الآن بل حقيقة أننا لم نتأذى أو نقابل 'الأطياف' جعلتني أؤمن لفترة بأنه الحظ لكن بعد التفكير أظن أنه كان هنالك ما يشدنا للأسفل لكنه غير مرئي لا
للعينين وما حمانا منه كان هو حجر الزريكون."

تنهيدة تركت شفاهه.
"كنت أعرف أن شيئاً ما قد حصل لكن أمر كهذا...."
مسح وجهه.
"ألم تشعري بأي إختلاف بعدها؟"
سأل فرفعت عيني نحو وجهه:
"أنا بخير."
إن كانت الأطياف هي الطفيليات التي تتسبب بالسخام الأسود فنحن كنا مهددين بخطر الموت بأكثر من طريقة.

"لما تبكين إذاً؟"
سأل نورمانوس فجأة، أصابعه تتلمس وجهي وتفرك صوب عيني اليمنى. أنا لم ألحظ أنني كنت أبكي حتى.
"أعتقد أنني استنفذت كل حظي في ذلك اليوم، حلقت لأول مرة واكتشفت من أنا، أنقذت نفسي والشخص الذي أحب بعد أن حماني من الموت بدوره."
أنا ممتنة في الواقع كثيراً الآن.

"هكذا إذاً."
أشاح بعيونه، رأيته يقضم شفاهه المتشققة في شعور غامر يحاول كتمه وإخفاءه.

"ألن تنام؟"
مسحت عيني حين استعاد يده وسألت بعفوية، يبدو مرهقاً.

"لا أظن أنني أستطيع."
هز بساقه. هذا الشخص يتألم بشدة لكنه يكابر.

"القلق بلا فائدة، نحن في مدرسة وأيضاً بعض النوم سيساعدك غداً على التركيز على ما حضرنا لأجله."
نهضت لأتناول غطاءً واسعاً، رميته على كتفي نورمانوس ثم عدت لأجلس على مقربة منه مجدداً، هذه المرة متمسكة بذراعه لأريح رأسي على كتفه وأدخل أسفل الغطاء معه.

"ما الذي تفعلينه؟"
سأل لكنه لم يقاوم أو يحاول التملص.

"أستغل فرصة."
تمتمت.
"مرت فترة لكنني الآن أدرك أن إحدى الأشياء التي افتقدها وأشتاق إليها تكمن في دفء جسدك بقربي."
سحب الغطاء عن نفسه ليغطيني أكثر فأسدلت أهدابي واعترفت:
"أعجبتني، وربما لأنها كانت ليال قصيرة ومعدودة أشتاق لها."

دفعت بوجهي ضد عضده أستنشق عطره الجميل.
"لا تفعلي هذا."
نورمانوس تنحنح بخفوت، لا أعني جعله يشعر بعدم الراحة لكن ماذا أفعل؟ هذه لحظاتي الأخيرة معه لوحدنا هكذا، ما أن تنتهي هذه المهمة سأتراجع وأعود للقطب.

"أنت من فُرض عليه ذلك وليس أنا."
ضحكت ساخرة، مجدداً لست مضطرة لإتباع قوانين ريغان بإخفاء مشاعري.

"ما أن نجد تلك الساحرة ستعودين لموطنكِ مينرڤا."
ذكرني -بلا أي داعي- أنه لا فائدة من التصرف بحميمية معه فلن يكون لي مهما حصل، كنا عائلة واحدة لكن الآن بيننا الأرض والسماء.

"لا تقلق، لا نية لي بالعودة لريغان لكن لا ضرورة لأن تكون قاسياً هكذا."
عاتبته بخفوت، أقبض على لباسه بقوة.

"أنا قلق لأجلكِ."
تحدث، صوته يغدو بعيداً، أنا مرهقة لم أنم منذ أيام كما ينبغي.
"فحتى أنا لن يكون لي مكان هناك قريباً جداً ولن أكون قادراً على الاعتناء بكِ."
همس، ما الذي يعنيه؟
"آسف، وعدي لكِ...يبدو أنني لن أستطيع أن آفي به في النهاية."
أخر ما شعرت به كان كفه يتلمس رأسي، يمسح به تعبي بعيداً.

**********

لا تعليق
لديك تعليق؟
علق
يلا باي

أراكم
ناخت❤️

Continue Reading

You'll Also Like

4.3K 877 29
دخوليّ كانَ كَتجربة بِدافعِ الفضول ، كَونيّ سئمتُ مِن عالميّ المَحدود ، أردتُ التماشيّ مَعهُم لمعرفةَ النِهاية ، لكنَ ما كانَ يحدُث غريب ! ، الكثير...
4.7K 731 22
لن أقول شيئ هنا،فلا أريد بعثرة جمال القصة. سيتحتّم عليكم عدم غلق أعينكم حتى تكملونها حتى النهاية. لأنكم ستستمتعون كثيراً.
5.7M 303K 41
لكل شخص جانب مظلم ،عتمة تغطي جانباً من شخصيته مهما كان نقياً، لكن ماذا لو كان هو الظلام بذاته !! خُلق منه ،ينتمي اليه ،يعيش في داخله ،كُلاهما وجهين ل...
87.3K 6.8K 22
" لا بأس بالنسبِة لي ، ربما سيبدو ما أرويِه لكَ مستحيلاً أو ضربًا من الجنون ، أتفهمُ أنكَ بعدَ سماَع هذا سوفَ تحكم عليَ بالمبالغة أو الدرامية ِ المبت...