بـومـة مينـرڤا

By Die-Nacht

13.9K 1.5K 8.6K

حقـبة جديـدة بدأت ما أن تم الاعتـراف بسحـرة الظـلام كجزء لا يتجزأ من عائلة حـراس التـوازن، لكن هذا وحده لم يج... More

-1- ذكرى (II)
-2- موسم الهندباء
-3- نورا
-4- الأيّم الشقراء
-5- لأجل أحدهم
-6- أدنى الهرم
-7- إرادة
-8- ضياء نجم مسائي
-9- جرع زائدة من السكر
-10- الـ منطقة
-11- السُخام الأسود
-12- لا تثق بالفراشات
-13- فنون الدم
-14- نوكتوا
-15- أجنحة وريش
-16- أوتار الشفق
-17- إنذار من الأومورا
-18- في مكعب جليدي
-19- ندوبه الغير مرئية
-20- غريق
-21- أرشيف الذكريات
-22- لعنات عابث
-23- أطياف
-25- البحث عن الحكمة
-26- تلك الساحرة
-27- رافيتوس ليلوي
-28- محاكمة
-29- الدم بالدم
-30- عهود غير منسية
-31- أبدي
-32- بومة مينرڤا

-24- ظلال البرق الأرجواني

341 44 369
By Die-Nacht

كنت أسير مع مايبل نحو قاعة الطعام على مهل، أخذ خطوة متحجرة كل بضعة لحظات فأبدو وكأنني عجوز متيبسة غير قادرة على الحركة وهذا.... لاحظته هي.
"كيف كانت ليلتكِ؟"
سألتني بتوتر، لابد أنها تظن بأن محتوى الرسالة تركني أذرف الدموع طوال الليل دون أي نوم، لكن وللحق الليلة الماضية كانت إحدى أهدأ الليالي التي مرت علي منذ فترة، فبالرغم من البرق والرعد والأمطار المتساقطة والتي لم تتوقف حتى اللحظة إلا أنني غفوت كطفل بلا هموم.

"جيدة."
أجبت بصراحة فهمهمت مايبل ثم رفعت بصرها نحو شابة مرت بقربنا لتلقي بالتحية عليها، تلك الأخيرة كانت تنظر لي بوضوح لكنني تجاهلتها وحسب فحتى لو كانت تعرفني أنا لا أعرفها.

ارتديت كالعادة أحد فساتيني المهندمة القديمة ومن أعلاه معطفي الصوفي، أبدو كالعلم بين أفراد ريغان الذين لم يروني منذ زمن الآن.

حركت بصري نحو نهاية الردهة فتوقفت عنوة على مرآى تلك السيدة دائمة التوتر أمام باب قاعة الطعام الواسعة، بدت كالعادة غير واثقة مما تريد فعله أو قوله، تتعرض للتجاهل من قبل الأفراد الذين يدخلون المكان وتتراجع عن طريقهم وكأنها غريبة.
إنها منهم لكنها لا تبدو وكأنها تنتمي، ذكرتني بالكثير.

وقع بصرها علي أخيراً فابتسمت وكأنها ترى منقذها، أجمل وجه قد تتمنى رؤيته.
"مينرڤا!"
هتفت باسمي بابتسامة منيرة واقتربت دون تفكير جاعلة إياي أشعر بعدم الراحة. ألم أكن قاسية معها منذ يومين، لما تبدو سعيدة لهذه الدرجة برؤيتي؟

"مساء الخير."
ألقت التحية فبادلتها إياها بواحدة.
"المثل لكِ."

"أنا حقاً مسرورة أنكِ ستشاركينا عشاء الليلة."
أفصحت بأسارير وجه مرتاحة فبسطت شفاهي قليلاً.
"لا، أشكركم على استضافتي."
تحدثت، لا يجب أن أبدو أنه تم إرغامي لأن هذا لم يحدث في المقام الأول. أريد أن أحصل على كل التعاون الممكن من ريغان علنا ننتهي ونحصل على أجوبة أسئلتنا سريعاً.

"لا تقولي ذلك، أنت لريغان ستظلين فرداً من الأسرة."
هي صرحت دون تردد بما لم يجرؤ أحد على المعارف الأقرب قوله، حتى مايبل بقربي حبست أنفاسها.
"لم يعلم بعضنا عن حالكِ لذا أرجوكِ، بحق، لا تؤاخذينا."
كان اعتذارها نابعاً عن أخلاقها الحسنة وحسب، لم تكن تُمثل. لابد أنها ممن يحسبونني كنت أعيش بطبيعية وهناء بينهم.

"لا تلقي بالاً لهذا الآن."
ابتسامتي المصفرة لانت لأخرى حقيقية.
"لا أحمل أي ضغينة."
أفصحت، لا أؤمن بالتعلق بمثل هذه المشاعر التي لن تساهم سوى في إضاعة وقتي وشغل عقلي عن أمور أهم، لطافتها حسنت من مزاجي.

"أتعرفان بعضكما البعض بالفعل؟"
سألت مايبل فجأة، تقوم بكسر الصمت الذي حل للحظات، بدت متشككة بأحد حاجبيها المرتفعين.

"إلتقينا منذ فترة، عندما كنت أبحث عن نورمانوس، هذه السيدة الودودة من دلتني على الطريق."
أشرت للسيدة بكفي وأنا أشرح كيف إلتقينا وتلك الأخيرة حمحمت لتجذب بصري مجدداً.
"على ذكر ذلك أنا لم أعرف عن نفسي كما ينبغي."
أشارت لنفسها معرفة:
"أدعى أويليف ريغان."
قدمت إنحناءة نبيلة ليظهر المشبك الكريستالي الذي رفع خصلاتها خلف رأسها، حرّكت التنورة الواسعة التي ارتدتها بطرف أناملها ثم استقامت مجدداً بلباقة.

"إنها والدة نورمانوس."
أضافت مايبل بهمس فنظرتُ في وجهها بعيون متوسعة لترفع تلك حاجبيها بنظرة 'أولم تعرفي؟'

"تـ تشرفنا مجدداً."
تلعثمت بحروفي وأنا أشيح بعيني، غيّرت رأيي وأود الآن حقاً المغادرة.

"مايبل..."
تنهدت السيدة وكأنها تعاتب مايبل التي عقدت ذراعيها أمامها مبررة.
"لا داعي لإخفاء من تكونين عن مينرڤا، هذا سيجعلها تاخذ إنطباعاً سيئاً عنكِ يا عمتي أويليف."

"محقة لكنني ظننت بأن حقيقة شخصي ستربككِ لذا آثرت الصمت، اعتذر."
والدة نورمانوس -أويليف- تأسفت مني بنظرة ذنب طفيفة أعلى ابتسامتها الودود.

"لا بأس عليكِ."
تحدثت، عيناي ترتفعان قليلاً لتنظرا نحوها.

"لا داعي للتصلب الآن، أرجوكِ عامليني كما اعتدتِ يا مينرڤا."
عندما تلفظت باسمي مجدداً بتلك النبرة الأمومية شعرت بالمرارة في صدري ترتفع حد حلقي.
"سأفعل."
قبضت أناملي.

"أويليف!"
إحداهن قامت بمناداتها فظهرت مستعجلة حين التفتت خلفها وهتفت بأنها قادمة بلسان متلعثم.
"اسمحا لي."
استأذنت منا ثم هرولت مبتعدة أما أنا فبقيت واقفة في مكاني غير قادرة على الحركة. كان من الغباء مني ألا أفكر باحتمال أن تلك هي والدته، ظننتها خادمة أو من هذا القبيل متجاهلة حقيقة أن مجرد فرد أدنى أو خادمة لن تنادي سيد العائلة بلقبه الخاص.

"والدا نورمانوس عادا للقصر عندما توفت الجدة باتريشا فقط."
سردت مايبل وهي تحدق بأثر أويليف.

"ظننتهما قد هجراه."
غمغمت بخفوت فهزت رأسها بقربي متنهدة:
"هذا ما ظنناه جميعاً لكن الحقيقة مختلفة على ما يبدو، لم يظهر عليهم أي عداء اتجاه بعضهم البعض."
قامت بإمالة رأسها يمنة ويسرة تعالج ما تذكره في رأسها.
"بل أم عطوفة وأب حازم في الواقع، والدان يقلقان على طفلهما. عائلة عادية تم لم شملها لأول مرة منذ سنوات."
تخصرت وهي تهرش فكها.
"فرويد قال شيئاً عن اضطرارهم للإبتعاد من أجل نورمانوس بالمثل إذ كانا يعملان كمراقبين في منطقة بعيدة، تكاد تكون نائية على ما أذكر."
همهمت معتصرة دماغها علها تصل لاستنتاج من كل هذا.

"كانا يدعيان هجره كي لا يُثقلا على كاهله بوجودهما حوله، هذا منطقي إذ لو لم يكونا يهتمان بأمره حقاً لما أخذاه لسحرة الظلام ليساعدوهم على تنشئته في المقام الأول."
مايبل تقهقرت على فرويد ينضم لمحادثتنا. عيونها تقدح شرار الغيظ من الطريقة التي يظهر بها من اللامكان.
"لم تعد طفلاً لأسامحك على مثل هذه التصرفات."
هي عاتبته لكن مصاص الدماء نظر نحوي وحسب.
"والداي بالمثل ابتعدا للسبب ذاته ولم يكترث أي منهم لحقيقة أن نورمانوس لم يتأذى بسبب ريغان إنما بسبب سحرة الظلام."
تلفظ بطريقة جعلتني أستدرك مجدداً كم أنه يهتم لابن عمه. لم يكن يعاتبه قط لأنه لا يطيقه بل لأنه لا يحبب ما يفعله بنفسه لأجل الآخرين.

"لابد أنه كان من الصعب عليك مشاهدة ما يضطر لفعله من أجلهم مراراً."
نبست بابتسامة متأسفة ونفس عميق رفع صدر فرويد بقربي قبل أن ينفثه مجدداً:
"كان يرفض أن أساعده، لم يرد إشراكي في قذارة دماء العابثين."
ومع كلماته تلك كان قد رحل كما ظهر تاركاً مايبل لتتأمل في وجهي.
"ما الذي رأيتماه بحق؟"
سألت فهززت بكتفي.
"لك الحرية في تخيل ما يبدو عليه مشاهدة عزيز يقتل دون أن يرف له جفن، كل يوم."
شهدت يوماً واحداً فقط أما فرويد فراقب ذلك لسنوات ومع ذلك لم يبرح مكانه بجانب نورمانوس.

أنا أشعر بشيء من السعادة لأجل نورمانوس الآن فبعد حصوله على منصب رب الأسرة لا يوجد أي قوة تمنع والديه من الوقوف بقربه. وحده له الحق برؤية تقصيرهما إن أراد فلو لم يتصرفا أيضاً لكانت قد ساءت الأمور بالنسبة له على الجهتين.

"لندخل."
مايبل أيقظتني من شرودي، بدت فضولية لمعرفة المزيد لكنها لم تنطق. الموضوع برمته لم يكن ملائماً ليتم مناقشته في الردهة وأمام أفراد ريغان الآخرين.

فعلنا، وعلى الطاولة شعرت بضغط رهيب يتموضع على أكتافي، كنت فرداً من الأسرة يوماً لكنني الآن مجرد غريبة.

تواجد الكثير من الأشخاص ولأنني أرى وجوههم لأول مرة وأسمع أصواتهم بعد سنين من الزمن كان من الصعب استدراك شخص الكثيرين لولا مساعدة مايبل التي جلست تُعرفني عليهم لسبب ما.
"توقفي."
طلبت منها فأنزلت سبابتها ونظرت لي مستفسرة.
"الجدة باتريشا بذلت جهدها بوضع تعويذة واحدة على جميع أفراد ريغان بسببي، لتمنعني من رؤية وجوههم."
أفصحت فعقدت حاجبيها.
"هذا كان مجرد إجراء إحترازي، لم نكن ندري ما إن كان النوكتوا بكائنات مسالمة أو بأسياد حرب."

"لا تثقي بي كثيراً."
ضغطت أناملي في حجري وركزت بصري على الطاولة التي أخذت تمتلئ ككل الطاولات الأخرى حولنا بالطعام، أصوات الدردشات الحيوية والسمر ارتفعت لتغطي على كآبة محادثتنا الخاصة.
"أو تضعي أوزار المزيد من المعرفة عنكم على كتفي."
أشعر بالإرهاق.

"مفهوم."
مايبل نبست بخفوت وبأي حال هذا لم يكن مهماً فلم يبدو أن أي شخص مهتم بمشاركتنا الطاولة التي جلست عليها مع مايبل سوى ريم التي ما أن دلفت القاعة حتى وثبت نحو جهتنا وجلست لجانبي الأيمن بعد إلقاء التحية بهدوء.
ظننت بأنها ستتجاهلنا لكن يبدو أن عنادها يمنعها.

يوناس غالباً مع الشاب المريض في الأسفل وفرويد ذهب هناك ليتأكد من أن الطبيب لن يقتله لكونه أمانة يجب احترامها، أما ريالين ففضلت البقاء في غرفتها والالتزام بعقابها بهدوء رغم عدم وجود ذلك الحاجز الذي يمنعها من الخروج.

نفس حاد ترك فاهي حين امتد جذع السيدة أويليف بقربي لتنظر في وجهي.
"هل هذا المكان فارغ؟"
أشارت للمقعد الوحيد الفارغ بقربي واستأذنت ببسمة لطيفة.

"هو كذلك."
أجبت بنبرة مرتعشة. لم يكن خيار ردها موجوداً على أي حال، خاصة بأن ريم ومايبل لم تكونا لتجيبا سؤالاً موجهاً لي بشكل خاص.

"لم أرى الكثير من الأشخاص منذ سنوات لذا يستعصي علي الحديث مع أغلبهم..."
سحبت والدة نورمانوس المقعد وجلست على مهل.
"هذا محرج لكن لا مفر من الأمر."
ضحكت من نفسها، هذه السيدة تذكرني بنفسي التي لم تستطع رؤية الوجوه يوماً.

همهمت فقط على كلماتها، لم أشعر بالراحة بالدردشة معها، لا، لست هنا لأتجاذب أطراف الحديث مع أي شخص، فقط لأحقق طلب مايبل المتوسلة.

ضغطت معدتي بأصابعي لشعور غير مريح فبعد التفكير ملياً أدركت أنني حقاً لن أستطيع الحديث مع نورمانوس بطبيعية.

"أنتِ بخير يا ابنتي؟"
تحدثت أويليف بلهفة على مرآي أتألم في مقعدي، الطريقة التي مالت بها نحوي والصوت الذي نبست به كلماتها دللا على اهتمام حقيقي.

كدت أن أخبرها بأنني لست على ما يرام لألوذ بالفرار لكن التراجع لم يعد بخيار حين قام كل من بالغرفة بأكملها بالهبوب واقفيين على أقدامهم لاستقبال سيدهم الذي وصل الصالة أخيراً.

ضغطت كفاي ونهضت على مهل أسفل نظرات أويليف القلقة لأقف بدوري باستقامة، اجمعي شتات نفسكِ مينرڤا، أنتِ هنا تمثلين أبناء جلدتكِ، ابتلعي مشاعركِ السخيفة.

رفعت عيني أخيراً فرأيت نورمانوس في باب القاعة مصففاً لشعره الذي عاد أسوداً مجدداً، واضعاً ابتسامة على محياه الشاحب وبقربه رجل هزيل البنية اختلط شعره الأسود بالرمادي ذو عيون حمراء دامية وحادة كالصقور.

"طاب مساؤكم جميعاً."
ألقى سيد ريغان التحية ليتلقى عدة عالية وأخرى هافتة مع إنحناءات عديدة كتحية عندما أخذ يسير على مهل بين الطاولات الكثيرة، يستند لعصاه الخشبية بيسراه ويرفع كفه اليمنى كرد بسيط.

وصل طاولتنا أخيراً فعرض كفه على والدته لتسلمه إياها بنظرة حنون. قبّل كفها فعلقت بسعادة:
"تبدو نشيطاً اليوم."

لم ينطق بإيجاب أو نفي، فقط ابتسم في وجهها حتى سقط بصره علي أنا التي أشاحت على الفور نحو الرجل بقربه يلقي التحية بطريقة نبيلة علينا جميعاً وصوت وقور:
"طاب يومكن."
كفه لامست صدره للحظات.

"ويومك سيد إيان."
علقت مايبل باسمة وريم انحنت مضيفة:
"مساء الخير عماه."

نظر لي لكنني لم أنحني، فقط قمت بتقديم نفسي.
"مينرڤا، نوكتوا الشمال يرسلون تحياتهم الطيبة للجميع."
لأبذل جهدي، لسنا أعداءً يقومون بتوقيع معاهدة سلام.

"تشرفنا."
علق بنبرة معتدلة.

غلاكوس قام بالدخول كالعادة فجأة بطريقة مبهرجة ورغم الهمهمات لم يجرؤ أي شخص على إيقافه حتى وصل كتف نورمانوس.

"غلاكوس."
نبست باسمه، لم أظنه سيتمرد الآن من بين كل الأوقات لكن الطائر قام فقط بإغلاق عينيه أسفل أنامل نورمانوس تمسح على رأسه.
"إنه يلقي التحية."
عيون نورمانوس ارتفعت نحوي.
"لابأس بهذا."
أفصح.

لا بل هنالك 'بأس'، غلاكوس لا يجب أن يتعلق بأي شخص ليس بنوكتوا.

اتخذ نورمانوس لنفسه مكاناً على الطاولة وبفعلته ارتاح الجميع في مقاعدهم.

الطبق الرئيسي وصل، لاحظت أن لين كانت مازالت تدير المطبخ كالعادة ويجب القول أنها لا تبدو نشيطة حين أعلنت عما قامت بطهوه اليوم بصوت لم يتغلب على هزيم الرعد في الخارج.

"إذاً، إلى ماذا أفضت دراستكم لأحد الأشخاص المرضى؟"
سأل نورمانوس وهو يسلم غلاكوس كل خبزه بلا عناد، أطلعنا على أنه يدري بتفاصيل ما يجري ولابد أن فرويد من أخبره.

رمشت مرة واحدة باتجاه مايبل، لا يوجد داعي للتردد أمامه.
"مبدأياً، نحن نستطيع الجزم بأن سبب السخام الأسود هو طفيلي من نوع ما، يقوم بالتعشيش في الدماغ."
تحدثت مايبل بحروف مفهومة ونبرة واضحة لترمي كل ما توصلنا إليه دفعة واحدة.
"لم نجد أي دليل قاطع على أنه شيء قد أتى من ذلك الثقب لكن...لا يوجد ما ينفيه أيضاً."

"هذا مؤسف لكنه أفضل من الجهل."
علق نورمانوس بهدوء، لم يكن يلمس طعامه بعكس الأخرين الذين جلسوا من حولنا على الطاولة بل يسلم كل ما وقعت أنامله عليه لغلاكوس دون أن ينظر له حتى وكأنه يثق بأن ذلك المنقار القادر على نهش اللحم لن يؤذيه.

"ريالين قالت بأنها ستعمل على بعض الأفكار لإستئصاله، في محاولة لإيجاد علاج."
تحدثت مايبل منوهة لضرورة الإفراج عن قريبتها ونورمانوس همهم فحسب دون أن يعطيها جواباً شافياّ تاركاً عيونها الزرقاء لتنزلق نحوي طلباً للمساعدة في إدارة دفة هذا الحديث.

"ربما يكون الطفيلي هو ذلك الكائن المسمى بالطيف الحدودي وربما لا شيء غير دنيوي."
تحدثت بهدوء مركزة على أناملي في حجري، لا أستطيع تناول الطعام بسهولة الآن.
"لهذا أظن بأن مساعدة ريالين مطلوبة بالمثل وأيضاً...يجب أن أعود للموقع من أجل المزيد من المراقبة."
استرقت بطرف عيني النظر نحو سيد ريغان الذي تجمد على طلبي كما توقعت.

"سنلتزم بنظرية كون الثقب بوابة تؤدي إلى الحدود إذاً؟"
سألت مايبل باستغراب إذ ظنت غالباً بأننا سنتخذ خطوات صغيرة نحو الفيل في الغرفة لكننا لا نمتلك رفاهية الوقت فداء السخام يتفشى والكثير من المشاعر السلبية في الأجواء لن تكون خيراً على صحة سحرة الظلام العقلية بحق، قد تتحور المصيبة وتتفرع لعدة أُخريات.

"لا شيء آخر يثير شكوكي، حتى يطرأ أمر جليل جديد هذه الفرضية كل ما لدينا حالياً."
أفصحت ببساطة، لست آلة لأخرج بنظريات متنوعة أو طفلة لأخاف من مواجهة حقيقة ما يحدث.
"ولأن كل ما قلته مجرد نظريات، ذلك الثقب هو فرصتنا من التحقق."
نظرت في وجه مايبل مباشرة فأومأت تلك الأخيرة بتفهم.

"لكن... نظريتكِ بكون المرض عبارة عن طفيلي كانت صحيحة حتى الآن، ألا يمكن العمل بما تبقى من أفكار لديكِ دون الذهاب؟"
قاطع نورمانوس إنسيابية الحديث وكما ظننت، مازال لا يريد من ريغان أن يذهبوا هناك رغم الوضع الذي هم فيه الآن.

أعلم أنني لم أعد مخولة بالمثل لدخول أراضي سحرة الظلام لكن هذا لا يهم، لن يعيقني مثل هذا الهراء عن هدفي من المجيء في المقام الأول.
"لا."
واضحة ومباشرة غادرت فاهي، عيناي ترتفعان لتنظرا في وجه نورمانوس الذي بسط شفاهه وحسب.

"المجهول خطير مينرفا."
السيدة أويليف التي كانت تقوم بفرك كفيها ببعضهم البعض بتوتر منذ أن بدأ حديثنا تدخلت أخيراً، تنظر نحوي وكأنها تحاول ثنيي عن ما أود فعله فما كان مني سوى أن أصارحها:
"هذا عملي حالياً، أدرك المخاطر."

"لا تفعلين."
نورمانوس تحدث مقاطعاً بهدوء مجدداً دون أن ينظر في وجهي حتى.
"لا تحاضرني، لستَ... لستُ بطفلة."

"يبدو أن في فاهكِ كلمات أخرى."
نطق، قهقهة قصيرة مشاكسة تغادر فاهه وحين رمقني أخيراً بطرف عينه ضغطت على أسناني في فاهي، شيء داكن كان يسبح في حدقتيه الحمراوين.

"اختنقت بطعامي وحسب."
غمغمت فطقطق بلسانه مصدراً ذلك الصوت التأنيبي الساخر الذي لا يُستعمل إلا مع الأطفال غالباً.
"لكنكِ لم تضعي شيئاً في فاهك منذ أن جلسنا بالفعل."
علق. أيظن بأن إحراجي سيجعلني أتراجع؟

"فالتركز على طعامك الخاص رجاء."
عاتبت من بين شفاهي، شيء من الإنزعاج يظهر في نبرة صوتي أخيراً لكنه فقط أراح برأسه لظهر مقعده.
"قوليها مينرڤا."
عيناه نظرتا في وجهي وعلى مرأى ومسامع كل من الصالة نبس دون تردد:
"رأيك يا حارس التوازن غير مهم فأنت لست رئيسي، لستَ عائلتي ولستُ زوجــ...."
توقف فجأة واعتذر بطريقة ميلودرامية:
"عفواً، لقد بالغت، ربما على بعض الأمور أن تبقى سراً بيننا."

تمثيله جعلني أنهض، لن أستطيع الجلوس لمدة أطول، والده كان صامتاً طوال الوقت بل لا ينظر لنا حتى وكأنه غفى بعيونه المغلقة في مكانه أما السيدة أويليف فكادت أن تمسك بمعصمي لكنها أوقفت نفسها خوفاً من ردة فعلي ونبست باسمي بخفوت.

"بحقكما."
مايبل دلكت ما بين حاجبيها بتعب، بدونا كمراهقين يتجادلان في أتفه الأشياء لكنني مستاءة بحق الآن فهو من بدأ بتصعيد الأمور.

"لا تغضبي مينرڤا."
غلاكوس حلق بعيداً ما أن دفع نورمانوس بكرسيه ليقف على مهل وقبل أن أهم باللحاق بطائري بدوري شعرت بشيء يلتف حول خصري من الأسفل فيرسلني محلقة في الهواء لأسقط بين ذراعي نورمانوس وحده لا غيره.

رباط شعري إنزلق لتتناثر خصلاتي على وجهي ونفس كان مكتوماً خرج من صدري أخيراً.
"كالعادة، لستِ أي شيء دنيوي لكنكِ هشة."
نبس بخفوت أعلى رأسي وهو يتأمل في هيئتي المدهوشة.

جلب الأبصار نحونا لكنني فقمت بإخراج بعض الكلمات الخافتة:
"ضعني...على الأرض."

"اعذروني عن مقاطعة هذا العشاء أيها السادة!"
تلفظ بنبرة عالية استوقفت الناس عن مضغ طعامهم حتى فحبست أنفاسي على تصرفه المعاكس لما أريده.
"لكن لدي أمر مهم لأناقشه مع ضيفتنا العزيزة."
بعبارته تلك سمح لنفسه بحملي بإرياحية خارجاً وأغرقني في بحر الإحراج الذي تمنيت أن يخنقني لأضيع في مياهه لكن ذلك لم يحدث.

"ما الذي أنت بصدده؟"
ضغطت كتفه ما أن أصبحنا خارجاً فدحرج عينيه.
"عنيت ما قلته هناك، يجب أن نتحدث."
أجابني بموضوعية.

"لا شيء خاص قد نحتاج للحديث بشأنه بعيداً عن عيون أو مسامع الآخرين فضعني أرضاً الآن نورمانوس ريغان."
عاتبته لكنه لم يبدو مستاءً ولو قليلاً حتى. دماؤه الكثيفة امتدت من خلفه بعصاه وقامت بفتح باب غرفة كنا قد توقفنا أمامها أخيراً.

دلف بنا للداخل ثم وضعني أرضاً لأتراجع بخطوات متقهقرة عنه.

إلتقط عصاه واستند لها فلمحت دماءه تنزلق من على ساقه وتعود لسواره على مهل. هكذا كان يدعم ساقه المصابة للسير بسهولة إذاً.

دفع بظهره ضد الباب ليوصده عني وإنزلق على مهل أرضاً ليخرج زفيراً طويلاً من صدره.
"أنت بخير؟ أتتألم؟"
غمغمت بحاجبين معقودين متشككة مما يحصل معه فرفع كفه في وجهي.
"ألقِ بنظرة في الأنحاء، أحتاج لبضعة دقائق من الهدوء."
نبس بصوت خافت ثم أسدل أهدابه مستمراً بالتنفس بتلك الطريقة وكأنه يتألم، هو يفعل لكنه كان يخفي معاناته أمام أفراد ريغان.

لسبب... استيائي خمد.

نظرت خلفي أخيراً نحو الغرفة الواسعة التي احتوت على شرفة بعيدة أنارت المكان بضوء الغروب. كانت ممتلئة بالأثاث الذي تم تغليفه بأقمشة تباينت ألوانه ومن رائحة الخشب أستطيع التخمين أن هذه القطع جديدة.
"لا تبدو مألوفة."
علقت بهدوء وأنا أسير حول الكنائب والطاولة الزجاجية متجاوزة السرير الذي اندثرت أعلاه وسائد حريرة عدة.

شيء ذو رائحة أقوى لفت انتباه أنفي وبصري وقع أخيراً على علب الطلاء الزيتية على الأرض أعلى خرقة غارقة في اللطخات والفراشي التي جفت عليها ألوان الزيت الثخينة.

"بالطبع لن تكون لكن هل تستطيعين جزم ماهية هذا المكان؟"
نورمانوس سأل من بقعته البعيدة لكنني وجدت نفسي مأخوذة بفضولي نحو تلك اللوحة التي تواجدت خلف قماش داكن أعلى حامل خشبي كبير.

استرقت النظر كلصّ، عيناي تجحظان على الفورة من رؤية هيئة مألوفة جعلتني أقوم بسحب الغطاء بعيداً بسرعة لأتأكد من ملامح الكائن الذي تم رسمه بألوان الزيت الداكنة.

وجه مدور يبدو وكأنه يخص مراهقة، بشرة شاحبة من قلة التعرض للشمس وكثرة الأمراض، هالات طيفية بسبب السهر أسفل الأنوار الشحيحة.
خصلاتها الرملية المموجة تبعثرت حول وجهها بسبب جلوسها منحنية الظهر للأمام منكبة على كتاب ما، عيونها كان من المفترض أن تكون زرقاء لامعة كالسماء لكن الألوان الداكنة جعلتهما تبدوان داكنتين كبحر الليل ووجهها فارغ، فاتر، بلا أي مشاعر.

"هذا كان من المفترض أن يكون جناحنا."
شهقت متفاجئة من صوت نورمانوس أعلى رأسي والخرقة بين يدي وقعت ليلتقطها بنفسه ويقبض عليها بقوة.
"قامت باتريشا بتجهيزه بنفسها كهدية لنا، هذا ما أخبرني به الخدم."
نظر في اللوحة بدوره ثم حرك بصره نحوي وكأنه يقوم بمقارنة الحقيقية بالموجوة هناك.

"لم تعلم أن هديتها ستظل في أغلفتها لسنوات."
تجاوزني وحمل اللوحة ليقوم برميها أرضاً بين علب الطلاء الكثيرة.
فعلته جعلتني أجفل.
"لا أحد منا كان يتوقع ذلك."
نبست من خلفه حيث وقف هناك مستنداً لعصاه محدقاً بصورتي على الأرض بعيون مهمومة.

خطة باتريشا لم تجري كما أرادت لكن حقيقة أن نورمانوس يجد الأمر مؤسفاً لم تسمح لي بالخوض في مثل هذا التفصيل، ويجب علي أن أفعل المثل فحتى لو أن زواجنا كان ليصب في صالح ريغان فإنني لم أمانعه ولم أكن لأفعل و...مازلت لا أفعل.

"أكانت هذه هدية أيضاً؟ أم كنت أنت من رسمها؟"
سألته، بدت الصورة المرسومة بوضح مأخوذة من نقطة رؤية كان يجلس فيها نورمانوس دائماً في المكتبة وكم كان محقاً بشأن تعابير وجهي، ابتساماتي بدت أمام هذه التعابير مجرد تمثيلية سخيفة، قناع أرتديه لأشعر بالإنتماء.

"أنا فعلت، فرؤيتكِ..."
أجاب، كلماته تنقطع فجأة وكأنها هربت من بين شفاهه. دماؤه تحركت من حولنا لتقوم برفع دلاء الطلاء لتسكبها على اللوحة وتغرقها.
"تمزق دواخلي."
اختتم.

معالم الرسمة ضاعت على الفور والطلاء إنزلق ليغطي على مهل كل شيء بالمثل فبدت اللوحة مجرد مزيج عشوائي وحزين من الألوان الداكنة.
"أتكرهني الآن؟"
سألته ورغم أن هذا ما أريده إلا أنني شعرت بالخوف من كون جوابه الإيجاب، يا لي من شخص أناني وفظيع.

"لا."
دماؤه تراجعت ما أن أدت مهمتها تاركة الدلاء لتسقط أرضاً فتتناثر آثار الزيت هنا وهناك ولوثت ملابسنا.
نورمانوس استدار نحوي بنصف جذعه وأضاف:
"أنا فقط أكثر جنوناً بكِ."

ضغطت أناملي بشدة على الشعور المرير الذي تملكني، إنه الذنب.
"عندما استيقظت عتبت عليكِ لفترة لكنني أردت استعادتكِ بالآن ذاته، سحرة الظلام لا يمكنهم أن يكذبوا على أنفسهم والصوت في داخلي كان يعرف ما أريد ولأول مرة في حياتي تعارضت رغباتي مع ما قد فُرض علي بطريقة أثارت غضبي."
خطى نحوي على مهل وسرد بالتفصيل كيف شعر.
"تحملتُ كل شيء وكنت مستعداً لتحمل المزيد عندما غدوتِ معي. كنتِ بعناقكِ لي قبيل النوم تمتصين الألم، وتمسحين بكفكِ وأناملكِ بين خصلاتي الكوابيس."

"أصبحت رب الأسرة عندما لم يكن لدي أي خيار ففكرت أنها الفرصة السانحة، لا أحد سيجرؤ على أن يناقشني بشأنكِ إن أعدتكِ لكن ما أن رأيتكِ بين أشباهكِ...تراجعت."
أخذ لحظة ليمرمش مطولاً وكأنه يحاول كتم ألم لا أراه.
"مع أثار السم والعبث أدركت بأنني غير ملائم لكِ إذ أُصبت بداء عضال جديد تمثل في عدم قدرتي على التحكم بدمائي جيداً والكثير من التشوهات التي ترينها."
قام بفرك خصلاته بتلك الخرقة العشوائية ليزيل شيئاً من الصباغ الذي لوّن خصلاته الرمادية بالأسود فيُظهر الحقيقة التي كان يحاول تجميلها.
"وكانت كل خطاياي هذه جيدة لإقناع ذاتي أكثر بأن ما بيننا كالسماء والأرض."
تنهد كلماته بنبرة ساخرة وهو يرمي الخرقة بعيداً.

"لكن...مازلت ألاحقكِ."
رفع عصاه في يده وأشار نحوي بها، يدفع بها ذقني للأعلى مجدداً فيستطيع رؤية وجهي الذي تنكس أمامه. لا أستطيع مواجهته.
"يبدو أن 'استلطافي' لكِ غدا شيئاً آثماً."
سخر من نفسه ومن الكلمة الرقيقة التي لم تعد كافية لوصف مشاعره العنيدة.

"آسفة..."
تركت فاهي أخيراً، أغلقت عيني بشدة فقام بإبعاد تلك العصا عن فكي، تاركاً إياي أخفض عيني بنظرة الذنب الذي شعرت به.
"...على هجرك دون سابق إنذار. مهما كانت الظروف حينها لم يتوجب بي تركك، فأنت الشخص الذي وعدته بمرافقته والاعتزاز به وحمايته لما تبقى من حياتي."

"كانت مجرد كلمات توجب قولها مينرڤا."
تراجع معرضاً عني فالتففت من حوله لأقف أمامه مجدداً وانظر في عينيه مباشرة هذه المرة.
"لكنني عنيتها كما فعلت أنت بالمثل."
ضيّق بصره على كلماتي، أجل، لا أحد منا كان يكذب عندما نطق بتلك العهود، ومهما قام أفراد ريغان بتغيير التسميات، الجوهر في علاقتنا كان الزواج والزواج في كل العوالم وعند كل الأنواع رابط مقدس.

"تركي لكَ بتلك الطريقة كان ما تسبب بكل هذا الألم، أنا شخص لا يستحق ذرة من الاهتمام الذي منحته لي."
أفصحت مشيرة لنفسي دون تردد.
"كان يجب أن أتعامل مع الأمور بطريقة أخرى."
غمغمت لكن هذه الكلمات لن تصلح شيئاً الآن. تمني ما فات الآوان عليه أمر لا طائل منه. أنا رحلت واختطفت صورة ذلك الشاب الجميل معي عندما قمت بتحطيم قلبه.

"أنا فعلت هذا بنفسي."
ابتسم وهو يقوم بنطق تلك الكلمات فنبست بذنب فوق كلامه:
"بسبب قراري الفقير بالرحيل عنك في أسوأ أيامك وأكثرها ألماً."

الظلام بدأ يضغط الجو أكثر والسماء إلتمتعت بالبرق الأرجواني لتهدر، ومع هطول المطر ظهر غلاكوس المبلل في باب الشرفة، يراقب بعيونه الذهبية بصمت، ولأول مرة منذ زمن شعرت بطائري يكلمني، يحثني بنظراته على الإفصاح عن ما أحمله في صدري إذ لا يمكن لهذه الفوضى بأن تصبح أسوأ عند هذه النقطة.

رفعت يدي وأرحتها ضد كتف نورمانوس، نظرت في عيونه الحمراء الداكنة مباشرة ثم سألت ببسمة ملاطفة:
"أظننت حقاً بأن بعض الندوب ستعيبك في عيني؟"

"أنا فاسد."
حاول سحب يدي بعيداً عنه لكنني ضغطت أناملي بقوة وسألت بجدية:
"ما معنى ذلك بحق؟"
قبضته كانت رقيقة، لم يحاول مطولاً بل تركني أفعل ما أريده ثم أشاح بوجهه بعيداً.
"جسدك مريض لكن روحك مازالت ذاتها، سليمة وطيبة."
ضغط شفاهه بقوة على سماعه كلماتي. أنا لا أحكم عليه على مبدأ حراس التوازن لكن مبدأ شخصي.

"سعدت برؤيتكَ في الشمال."
اعترفت ببسمة سخيفة فأسدل أهدابه.
"رغم أنني لم أكن قد رأيتك لمدة سنين إلا أن قلبي قفز بين أضلعي بذات الطريقة التي ارتعش فيها عندما طلبت مني أن أغدو شريكتك."
قام بهز رأسه، لا يريد سماع هذا بوضوح لكن مشاعري تسربت ولا أستطيع التوقف.
"تحصلت على إعجابي ومازلت تمسك به أيها الشاب الأرعن."
دفعت كفي ضد كتفه فصحى ليتناول بسرعة أنامل يدي المعلقة في الهواء قبل أن أستعيدها.

ضغط كفي بقوة، صوت قطرات الزيت الثخينة تتساقط من لوحة الزيت على الأرض الخشبية فتصدر صوتاً ثقيلاً يوتر الصمت.

"أنا قضيت سنيني الفائتة -رغم محاولتي لنزعكِ من حياتي- بالتفكير بكِ وما إن كنتِ على ما يرام أو لا... ليس لأنكِ ضعيفة أو حساسة بل لأنكِ هي التي تعهدت بحمايتها."
اقترب فتراجعت بدهشة على اللهفة التي أظهرها بضغطه كفي ضد صدره وكلماته الواضحة.
"حبي."
ردد لأحس بقلبي ينتفض في صدري.
"الكائن الذي أود صهره ضمن كياني لأتأكد فقط من أنه بخير."
أضاف فدقت الطبول أعلى في أذني.

غلاكوس من اللامكان اصطدم بظهري وبدأ بالإنصهار ضد جلد عنقي حتى غرقت في الريش.
"غلاكوس!"
هتفت دهشتي علي أستطيع إيقاف تصرفه الغير متوقع.

إنزلق الريش ضد ظهري وحتى ألواح كتفي، سمعت عظامه تتحطم ضد خاصتي ثم إنبثق جناحاي بعناد من حولي يمزقان ما ارتديه من أقمشة بسهولة فيضربا العارضة الخشبية لتتهاوى أرضاً مع اللوحة.

الريش البيضاء تطايرت في الغرفة، أمسكت بما تبقى من ملابسي وتراجعت خطوة عفوية لحرجي لكنني إنزلقت بفعل الزيت ووقعت أعلى الأرضية الملوثة بالألوان.

"مينرڤا..."
غمغم نورمانوس أعلى رأسي باسمي كاملاً بدهشة، بدا مشدوهاً من هول الصدمة فدفنت وجهي بين كفي بحرج.

"اعتذر."
نبست بنبرة مرتجفة، أعتقد أنه من الواضح الآن له أنني لا أسيطر على غلاكوس ولا أجنحتي التي إنطوت على جذعي لتداري ما كُشف من بشرة ظهري.
"أنا لا أتحكم بهذا."

شعرت به يجثو على ركبتيه أمامي ففتحت عيني أناظره من بين أصابعي يقوم بخلع معطفه. تعابير الألم كانت واضحة على محياه لكنه رغم ذلك قرب المعطف مني وسأل:
"أنتِ لم تتأذي، صحيح؟"

مسحت الدموع التي غادرت عيني بسبب الألم الطفيف الذي نجم عن إلتحام غلاكوس بعظامي وأمسكت بمعطفه لأرتديه بالمقلوب -بظهره لصدري- لأستر نفسي.

نورمانوس يرى شكلي هذا لأول مرة، أظن أن غلاكوس قام بأذيتي بفعلته؟
"لا، أنا بخير."
أجبت بهدوء ثم أشحت ببصري المحرج قليلاً.
"إنه أمر لم أعتده بشكل خاص بعد لأنني لا أستعمل أجنحتي عادة."
حاولت إخراج يدي لكن المعطف كان كبيراً وغير صحيح علي فاستسلمت لأحمي نفسي من المزيد من الخزي.

"لما؟"
سأل لأتجمد، جلست مستقيمة على ساقي متجاهلة حقيقة أن تنورتي بأكملها قد أصبحت لوحة فنية عجيبة.
"أنا لا أستطيع التحليق."
اعترفت فترك نفساً قصيراً ليغادر فاهه.
"أما تم فعله بكِ هنا في ريغان هو السبب؟"
استفسر أعلى رأسي فنظرت نحوه بابتسامة مريرة.
"أتعرف عما تم فعله بي؟"
سألت بلطف.

أومأ بخفة.
"مؤخراً فقط، ربما لا يجدر بريالين أن تكون الشخص الوحيد المعاقب. لما لم تقولي شيئاً حتى اللحظة؟
نبس، وجد كفوفي من أسفل القماش وضغطهم بلطف بين أنامله جاعلاً إياي أهز برأسي على مهل للجهتين.
"هذا ماض، ريغان يحتاجون طبيب قصرهم، جميع أولئك الأفراد الموهوبين."

استنكر:
"أتودين أن أسامحهم؟"
سحبت يدي من بين كفيه ورحت أقوم تركيز معطفه على استحياء حول عنقي وعلى أكتافي.
"لا، لن أمنعك من عقابهم إن أردت، أتمنى وحسب ألا تلحق بهم الأذى لأجلي."
أجبت بخفوت، حبس ريالين كان أمراً سهل التفهم للجميع لكن تحطيم معصميها كان انتقاماً أكثر منه عقاب وهذا ليس جيداً لصورته كسيد ريغان.

"لا شيء تغيّر..."
همس يعيد تركيزي نحوه، بسمة حنون على شفاهه.
"كل ما أحببته بكِ لم يتغير، قبلاً وقالباً."
ناظرته بمزيج من الدهشة والخجل الذي جعلني أحس بوجهي يصبح دافئاً على استطراده بضحكة عفوية:
"لكن يجب القول بحق...الآن تبدين ساحرة الجمال بشكل خاص."

قام بالإشارة بسبابته نحوي، تحديداً صوب أجنحتي.
"هل لي ربما... باللمس؟"
استأذن وأنا لاحظت أخيراً النظرة الفضولية في عينيه. صحيح، أنا كائن مختلف عما ألفه.

همهمت وحسب حين نظر نحوي وكأنه ينتظر جوابه وجناحي الأيمن ارتعش من لمسته الرقيقة، ربما كان غلاكوس السبب وربما أنا، ما أعلمه أن كلانا لا يمانع هذا.
"بديع."
بصري تجول في وجهه فوجدته يبتسم كطفل متحمس ودون أي شعور غرقت في تأمل الابتسامة الجميلة التي ارتسمت على محياه.

سير أطراف أنامله مراراً على طبقات الريش البيضاء وأنا لم أشعر بالشيء الكثير. جناحاي كانا جزءاً من جسدي عملياً لكنني لم أطور أحساسي بهما بما يكفي.

جذب كفه ليمسح تالياً على خصلاتي وأنا وجدت نفسي أسكب وجنتي ضد باطن كفه حين إنزلقت يده للأسفل على خدي.
"لما ترتعشين؟"
نبس وهو يقترب أكثر فضغطت كتفه بأصابعي حين شعرت بأنفاسه الدافئة تلفح وجهي، أنفه الحاد يلامس بشرتي.

قبّل وجنتي وأنا سمحت لكفي الحرة بأن تنزلق خلف عنقه تمسح الشعيرات الناعمة قبل أن تنغرز ضمن تلك الأطول وتقبض عليها بقوة حين سار بقبلاته على طول فكي وحتى عنقي.

"أردت هذا منذ زمن."
صرح بلا خجل. نبرته كانت جادة وفيها شيء من اللهفة.

"يجب أن نعود."
نطقت ما استعدت شيئاً من وعيي ونورمانوس صنع ابتسامة أظهرت أحد أنيابه البارزة حين رد على كلامي.
"أتستطيعين إستئصال غلاكوس؟"
سأل رغم أنه بدا على معرفة بالجواب بالفعل.

"لا."
أخفضت بصري، أناملي لم تتوقف عن العبث بخصلاته وهذا جعله يغلق جفنيه كقط أليف.

ثبتني بذراعه حول جذعي وتلمس ما تعرى من بشرة ظهري.
"جيد."
نبس بقرب أذني.

باعد أهدابه، نظرة مألوفة في عيونه.
"لم نقدم أي وعود لأي شخص، لا داعي للذهاب لأي مكان."
أعلن وشفاهه إلتقت بخاصتي لأول مرة بطريقة شاعرية لم تشابه تلك التي تم فرضها علينا في ذلك اليوم المشؤوم.

أعرف أن هذا سيء للغاية بالنسبة لوضعنا الحالي لكنه جيد جداً لقلبي فكيف لي أن أقاوم؟

فصل القبلة وأنفاسي اختلطت بخاصته الدافئة.
هذا ليس ما أردته لكنني أدركت على مهل شيئاً أعظم، هذا كل ما أحتاجه.

"هذا خاطئ..."
نبست على استحياء وأنا أخفض بصري بعيداً عن عيناه اللتان أشرقتا مرة ثانية وأخذتا تجولان في ملامح وجهي.

"أتظنين؟"
أنفاسه الحارة ضد بشرتي حركت حمماً ساخنة في أحشائي.

ضحكة قصيرة لا مشاعر فيها غادرت فاهه حين تراجع مستنداً لركبة ساقه السليمة.
"لأنني لن أكتفي بالقبلات وحسب لوقت طويل."
نبس فجأة وهو يلتقط عصاه من بين سياط دمائه يستعد للنهوض.

بدا وكأنه يعطيني فرصة للتراجع والابتعاد، ربما الهروب لأنه الأمر الصائب الوحيد لفعله.

نظرت بضيق جانباً، اللوحة التي ارتاحت بقربي كانت هناك فتلمست زيتها بأطراف أصابعي، الشعور الثقيل جعلني أتوقف وأتساءل للحظة، لما يجب علي أن أفعل أنا ذلك؟

"لابأس معي بذلك."
غمغمت وأملت برأسي صوبه لأرى حاجبيه يرتفعان على مسمعي أقول:
"إن كنت تستطيع الاستمرار فالتفعل."

نهضت على ركبتي صوبه لأمسك بياقة قميصه.
"سيكولوجيوتك العكسية إنقلبت ضدك."
ابتسمت في وجهه وأنا أمسح على شفاهه بإبهامي، بدا مصدوماً فاقتربت من عنقه لأهمس كلماتي:
"كنت تحاول جعلي أشعر بالنفور منك بتذكيري كم أنك كنت أناني عند اختياري أو بالتسلط علي بتكتمك أنني نقي."
أمسك بكفي التي تسلقت وجنته ولوثت وجهه لكنني استطردت:
"حاولت إظهار حبك كهوس أناني لكنني أرى من خلالك الآن بسهولة. تحاول مراراً جعلي أكرهك لكي لا يتأذى قلبي من الفراق إذ لو أنك أردت استعادتي لفعلت بسهولة من اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيناك علي."
أحطت بفكه بكلتا كفي، أناملي كانت ترتعش كما شفتاي اللتان راحتا تداعبا وجنته وأهداب عيونه الكثيفة.

"دفعت بميكايل ليحاول التودد لي دون تردد أو تحفظ، أردتني أن أحطم قلبك."
هذا أكثر ما أزعجني، حتى أن ميكايل ذاته أدرك منذ البداية ووصفه بالمتوهم.

نظرت في عينيه الغائرتين.
"تصرفاتك جعلت مشاعري نحوك تتأزم على نحو مختلف."
سيرت أناملي ببطء على صدره وللأعلى حتى كتفه.
"أنا لا أكرهك لكنني لا استلطفك ولست معجبة بك..."
أمسكت بفكه بين سبابتي وإبهامي لأجعله ينظر في عيني مباشرة بعد أن أشاح.
"لكنني مغرمة بطريقة سيئة بك...محرمة الآن في الواقع."
اعترفت مصارحة إياه بطريقة مباشرة إذ أنني سئمت من إدعاء أني لا اهتم أو أني بلا مشاعر أو أني كائن مثالي يتبع القوانين.

"لم تتوقع هذا كما تصورت، ظننتَ بأنني لم أحبك قط وبأنك لا تستحق الحب الآن فلم تستطع رؤية شعوري الحقيقي نحوك سوى كقلق."
أسندت مقدمة وجهي لجبهته، أرنبة أنفي تلامس خاصته حين نبست بخفوت:
"قلقي كان عليك وليس منك لذا من الأفضل أن تكون أنت من يتراجع في المستقبل نورمانوس ريغان لأنني. لن. أفعل."

حاولت تقبيله بتمشيط شفاهي ضد خاصتيه لكنه أشاح بوجهه بحدة وتعابير الضيق تأكل ملامحه. كانت الخطة أن أهرب منه لكنني فعلت عكس ما تصوره.

لم يمتلك أي فكرة أنني قد أكون مغرمة به لكنني أوده أن يعلم ولو أننا انتهينا بالفراق.

"أحسنت."
ضحكة قصيرة متألمة غادرت حلقي وأنا أمسح بكم المعطف وجهه المتسخ بلطف.
"فقط استمر على هذا المنوال حتى أرحل."
لم يعلق على كلامي وأبقى عيونه على الأرضية، لا شيء سوى صوت المطر يهطل بغزارة يصدح فخرجت عائدة نحو جناحي مباشرة. لم أكن أجر فقط جناحي خلفي إنما راحة لم أشعر بها منذ زمن في قلبي وألم شديد.



********

من توقع أن نورمانوس يستطيع الرسم؟ ⁦(⁠◔⁠‿⁠◔⁠)⁩
على أية حال
ما كل هذه الفوضى؟ -من صنعها يجرؤ على السؤال- وكيف ستنتهي؟
كيف تودونها أن تنتهي؟

أراكم
ناخت❤️

Continue Reading

You'll Also Like

647 56 9
كانَ ستَاورّوس جِسراً لِلملائِكةِ وَ الشياطينَ ، جَميعُهم سِواء . طَريقٌ قَادَهُم لمَوتِهم . كَالقَاتِل يَختَار ضَحَايَاه بِعِنَاية . يَصِلبُ المُخطِ...
3.7K 352 4
فقط تأكد بأن ليس كل ما تراه أو تسمعه حقيقة ! #3 psychopath #3 watty2019 #سلسلة -غير متوقع-
634 56 5
رمادُ حريقٍ كان اشتعلَ في قلبهِ جعل أُخرى هي من تمسكه بين اناملها القوية ترسم لوحةً مميزةً سمتها بإسمِهِ تحمل توقيعها على قلبه. وكما تأثيرُ الرمادِ ل...
14.6K 885 22
[مكتمل] بصفته شخصًا مهووسًا حقيقيًا ومحبًا للكتب المصورة والألعاب الإلكترونية، لا يعرف بارك جيمين ماذا يفعل مع أخته. الفتاة مفتونة بالرومانسية الم...