لوجعِ الحب رونقٌ خاص و ألمٌ رقيقٌ لا يُحتمل ، كما أن للشوق نزعات تحبس الأنفاس و تخطفُ البريق من عيني العاشق ، الكُل قويًّا طالما أنه خارج إطار الحرب ، لكن أنا عليّ أن أكون قويّا و أنا الأول في صفّ الحرب و أكون الجيش و السلاح و الهدنة و أنا الخصم كذلك ، أحبها رغم اختلاف كل شيء بيننا ،
فأنا ابن لنجدٍ و هي ابنةُ للجنوب
لطالما كنت جافًا و رَوَتني ،
و كنت قاسيّا و ليّنت قلبي
لطالما كنت ثابتًا و هزتني
و كنت جامدًا و حركتني
دائمًا ما تقابلني بضد فعلي السيء
كنت أجزع ، فتهدأ
كنت أجن و تتعقل
كنت اصرخ ، لتهمس برقة فائقة العذوبة
كيف لليمامة اللينة أن تُوقع مهابًا عصيّ الطبع تحت جناحيها؟
كيف لرقتها أن تُخضع جموحي ؟
كيف لحنانها أن يُشتت قسوتي ؟
كيف لها أن تقيّدني في زنزانتها و أنا كنت حرًا طليق ؟
اهٍ من شوقٍ فتك بقلبي لتلك اليمامة ، كل شيءٍ فيها كان يُسقطني من علوِّي كلّ شيء !
عيناها الواسعةُ الذابلة ، رمشاها المصفوفةُ كأنها جندٌ مجنّدة ، حدّة أنفها المُستقيم ، و حُمرة شفتاها
و ما أضاعك يا مُهابٌ سواها ؟ سوىٰ شفتيها كالجمرِ الموقدة !
أه لله وجع قلبي و وجعي!
لم أعد أحتمل هذا الفراغ بيننا ، لم أعد أصبر !
" يمممه " يُنادي والدته بعد أن قفز من سريره و خرج ، " يمه وينك ؟"
لترد والدته من المطبخ : ها يا مهاب هلا امي في المطبخ تعال
دخل عندها قبل رأسها و يداها المُلطخة بالعجين : يمه اسمعيني
تجر يدها منه : ابعد لا يتوسخ ثوبك ، وش فيك ؟
-ابغا اتزوج !
نظرت إليه والدته بصدمة لا تدري بأي أشكال الفرح ستحتفل ، لطالما انتظرت هذه اللحظة من همام و ها الان مُهاب يفاجئها بها : تقوله صادق ؟
-اي صادق ، بس بداوم بكرا انا وسيّاف و اذا رجعت قلت لك
-زين تبيني ادو..
لم تكمل ما تقول ليفاجئها ثانية : لا تدورين ابي وحده في بالي
تركت والدته ما بيدها لتتجهه إليه و هي تنظر مباشرةً في وجهه فأكثر ما يفتضح به مُهاب هو وجهه : من بنته ؟
أدرك حينها أنه لا مفر من تحقيق والدته : اذا جيت علمتك لاحقين خير
لتنطق بسرعة : لا الحين تعلمني " تنطق بوجعٍ خفيّ : هي اللي بكتك سنتين ؟
سقط كوب العصير من يديه لينظر لوجهه والدته و الدم محتقنٌ في وجهه و عروق يديه و عنقه برزت : يمه فكيني من ذي السيرة
لتنطق والدته : والله انها هي
-يمه خلااصص
-هي يا مهاب والا لا ؟
-وش بتستفيدين لو عرفتي ؟ يهمك اني اتزوج خلاص هذا انا بتزوج
لتنطق ياسمينا و هي تدخل للمطبخ : اما بيصير عندنا زواج؟
نظر إليها مهاب قليلًا ثم قال : احتمال ما يصير ، اذا ما رضت ام عبدالله
قالت والدته و هي تدير ظهرها : وش اللي ما يخليني ارضى طالما انك راضي ؟
شعرت ياسمينا بشحنة فأشرت لمهاب بمعنى " وش فيها امي "
-وش دخلك يالملقوفة " قالها مهاب و خرج
التفت ياسمينا لوالدتها لمحت في عيناها دمعةٌ و آه ، عندها أيقنت أن هناك شيئًا ما حدث ، تخرج مسرعة تطرق الباب الخاص بغرفة سياف و دخلت عندما سمعته يأذن لها بالدخول : هايي
يدور سياف بكرسيّ المكتب : مرحبتييين
تتكئ ياسمينا على بابا الغرفة قائلة : عندي لك خبر
فجأة شُدت ذراعها للخلف ثم قال مهاب : ما تبطلين حركاتك يالاخبارية ؟ شغالة رادار في البيت
توترت ياسمينا قليلًا فهي تعرف أن لمهاب حنانًا خفيّ لا يظهر إلا عندما يتعامل معاها ، لكن بالمقابل تعرف جيّدًا حدة أعصابه إذا انفلتت : ها ؟ لا بس بقو
أمسك مهاب اذنها و هي يحركها يمينًا و يسارًا : والله لو ما تنكتمين مب صالحك يلا اذلفي
ابتسم سيّاف معلقًا : وش فيك عليها ، خلها تعلمني ، والا مب عاجبكم ان الاخبار تجيني قبلكم
تتألم ياسمينا و تحاول أن تفك يده منها : طيب خلاص نتفت اذني
-حق من نتف لسانك بعد
تركها مهاب تذهب ثم طرق على الباب قائلًا : خلص انت جهز نفسك بنمشي الفجر
-ليه مو بكرا ؟
-كذا غيرت رأي ، عندك اعتراض ؟
لاحظ سياف التغير الطارئ على مهاب و لم يستغرب ذلك : لا طال عمرك ، جاهزين
أغلق مهاب الباب خلفه ليقول سياف : اول مره تسوي شيء كويس في حياتك " تمدد على السرير و تناول هاتفه ، لينخرط في ضحكٍ هستيري كانت ياسمينا تخبره بما منعه عنها مهاب " ترا سمعت مهاب يقول لامي انه بيتزوج بس مدري وش فيها قلبت عليه " صمت قليلًا ليتدارك الامر ثم أرسل " ليه قلبت وش قايل لها ذا النفسية؟ " ليصله الرد سريعًا " ما ادري والله "
كيف يتخلص المرء من قلبه ؟ كيف له أن يكون كل شيء دون أن يشقى ؟
كيف يستريح المرء من نفسه ؟ كيف له أن يبقى هادئًا في ضخم هذا الضجيج ؟
كيف يتخلص همام من همّه الثقيل ؟ فهو الذي اعتاد الجميع على الاتكاء عليه كيف له أن يظهر الآن بضعفه ؟
و هو الذي حمل الجميع على كفيه ، كيف يهون عليه أن يضعهم أرضًا ليستريح هو ؟
أهلكه التفكير ، بل أهلكه كل شيء
هاهو الآن يتسلم نسخة من ملف القضية التي تلبس به عمه ظلمًا و زورًا ، فبعدُ غدٍ هي جلسةٌ مهمة في محاكمة المتهمين و الذين من بينهم عمه أبو عبدالعزيز ، و قد حمله عزيزًا أمانةً صعبة
يُقلب أوراق القضية ورقةً تلو الأخرى ، يقرأ في كل ورقة بتمعّنٍ كبير خشية أن يفوته سطرٌ ما
الكل يعلم أن المُتهم" حمد بن عبدالله " برئ لكنّ الأدلة تُشير إلى غير ذلك ، ليبقى المُتهم متهمًا حتى تثبت براءته
ست عشر عامًا مضت و هو بين قضبان الحديد ، شاب شعره ، وشب ّ أولاده و هو لازال مُكبلًا في دهاليز السجون
كيف احتملت أن تبقى ستة عشر عامًا مُكبلًا مظلومًا ؟
كيف صبرت أن يكبر أولادك بعيدًا عنك ؟
كيف تعايشت يا عمي في ظُلمة السجون ؟
لكن عليك أن تعلم ، أو أنت تعلم حقًا أن للحق سهمًا لا يُخطئ
و تعلم أن للحق شمسًا نورها لا يحجبه غربالُ الظلم حتى لو كبر و تشبّع ؛ لأن الحقيقة أمرٌ لا يمكن اخفاؤه
قاطع خلوته صوت رسالةٍ وصلت فتح الهاتف ليجد تركي يرد عليه بعدما بعث إليه رسالته قبل نصف ساعة
"هلا والله ، الحمدلله طيبين
علومك انت كيف احوالك ؟ " خرج همام من محادثته ليتصل به فهو يُحب أن يسمع الصوت لا أن يقرأه
ثوانٍ معدوده ليصله صوت تركي : يا هلا ارحب
يُغلق همام الملف و يرد الصوت عليه : هلا فيك ، البقى الله يبقيك و يخليك ، كيف حالك ؟
-ابد والله يسرك الحال ، كيفك انت ؟
-الله يسلمك ، شخبار سند ؟ اي بالله ان ودي اجيه لكن جتني شغله و انا اخوك
-ما عليه يا رجال بخير و نعمة ، و حياك الله في اي وقت
-الله يحييك ، يلا ما اطول عليك اتصلت اسلم و اسأل عن الصغير
-حياك
اغلق هاتفه و أطلق تنهيدةً لعل معها تخرج كل أوجاعه ، تمدد لتصله صورةً لسند ، تأمل الصورة كثيرًا
لا يمكن انكار حقيقة الريبة و الشك التي تلبسته في أول مرةٍ أخبره تركي بما حدث ، و على وجه الخصوص أن مُهابًا هو طرف القضية كلها ، فمهما كان مهابًا سيء إلا أنه يستحال عليه ارتكاب جريمةً كهذه ، فهو يعرف مهاب أكثر من مهابٍ نفسه
يعرف كيف يتقي حُرمات المسلمين و لا يتعداها ، فكيف لهذا الغريب أن يقول أن أخاه تعدى على حرمة بيته ؟ يعرف كيف ثار في وجه تركي يومها ، لكنه سرعان ما هدأ عندما رأى الوجع يتفجر من عيني تركي ، لكنه وجعٌ تتلبسه الثقة التامة ، و الصدق الذي لا يخالطهُ شكٌ ، جلس مغتاضًا يتنهد و يستغفر ، حتى باغته تركي بصورةٍ في هاتفه وضعها أمامه
تأمل الوجهه الصغير ، لا ينكر حينها أن قلبه رقّ و تفتت من ألمه
أهذا الصغير ابنُ مهاب ؟ كيف سينكر ذلك و هو يرى دم مهاب يتدفق في وجنتيّ الصغير ؟
كيف سيُنكر و العينان تتحدث بفاضعة ما فعله مُهاب ؟
خرج يمشي لا يدري إلى أين لكنه يمشي ، فحقيقة أن أخاك مُجرمًا تقتل الروح
بعدها عاد ، اسبوعان كاملة و هو يخطط كيف سيقنع مهاب بما عرفه ، هل سيُنكر أو يعترف ؟
لكن الأمر نوعًا ما تسهّل أكثر مما توقع
لا يمكن لشيء أن يتغلب على حدس الوالدين أبدًا ، فكما كانت أم عبدالله تدرك حقيقة تورط ابنها مهاب مع فتاةٍ لا تعلم من أين خرجت له أو تفاصيل ما حدث بينهم ، كان والده كذلك يعرف و يدرك أن ابنه متورطًا في شيءٍ ما
لكنه ما زال معتصمًا بالصمت يراقب الأمر من بعيد ، لأنه يعرف تمامًا تدخلات همام في هذا الموضوع ، و يعرف تمامًا أن همامًا لا يخبئ عليه خبيئة مهما كانت ، لكنه يتحرى وقتًا مناسبًا لذلك
اليوم يومٌ جديدٌ أشرق ، ففي الفجر توجّها مهاب و سيّاف إلى الجنوب حيثُ عملهم
و توجهه كلًا من ياسمينا للمدرسه و رشادًا إلى الجامعة
و هذا همامًا أمامه ، يُقلب في أوراقه و ملفاته ، بينما ابنه البكر أبعد مما يكون في كالفورنيا
-وش صار على قضية عمك حمد ؟
يخلع همام نظاراته : سم ؟
-اقول وش صار على قضية عمك ؟
-اليوم عندنا جلسة مهمة الساعة عشر ، بجهز الاوراق و بنطلع انا و عزيز
-و عزيز وينه له يومين ما شفته رحت عند ابوي ماهو موجود
-اي كنا انا وياه ندرس القضية اصلًا صارلنا اسبوع ، عاد تدري اخر جلسة الملعون صبحي ما جا
-و اليوم بيجي ؟
-إن شاء الله انه يجي ، والله لو ما جا اليوم عزيز بيرتكب فيه جريمة
انتفض والده و هو يستعيذ بالله : اعوذ بالله وش هالكلام انت وياه ؟ قول لعزيز يقضب ارضه ازين له ، خواته من لهم من بعد عينه؟ و هو عاقل و عارف ان الشمس ما تتغطى بغربال و كله ب اجره
-ان شاءالله
سأله والده مستغربًا : طيب انت ليه ما تمسك قضية عمك و ترافع عنه؟
-ما اقدر ، ممنوع ، هذي نسخه من الأوراق اللي عند المحامي بشوفها
نظر له والده مطولًا ثم اردف قائلًا : مهاب وش وراه ؟
سكن همام قليلًا ليرفع عيناه في وجهه والده : وش فيه مهاب ؟
-أنا أسأل مب انت ؟
أيقن همام أن والده يعرف الأمر منذ بدايته لكن انتظاره طال و هو لم يخبره
-خلها على الله يابوي و ادع ان الله يفرجها و يهونها ، و ان شاءالله كل شي بوقته "ثم تحرك قائمًا و هو يجمع أوراقه
هتف والده بصوتٍ غاضبٍ نوعًا ما : اقول اجلس مكانك و علمني
شعر همام بالجوّ يختنق حوله ، و حرارته ارتفعت قليلًا ، جاء لوالده قبّل رأسه و يداه : يبه جعلني فداك هوّن عليك ماهو زين لصحتك هالعصبية
لينفض والده بجزع : انا من متى و انا انتظرك تعلمني ؟ كل يوم اقول بكرا و لا جا بكرا ! هالحين تعلمني وش مهبب اخوك !
جلس همام أمامه لأنه لا مفر من ذلك : يبه خلني أطلع الحين للمحكمة و نشوف قضية عمي وش يصير فيه و الله يسهلها ان شاء لله ، مهاب ما عليه خوف و اموره محلوله ب اذن الله
-زين اطلع الحين لكن ترجع من المحكمة للمكتب و لاني متصل عليك و لاني سألك انت بنفسك تجي و تعلمني والا والله ..
فزّ همام يُقبل رأس والده مرةً آخرى : يبه تكفى لا تحلف ، اعتقني من يمينك ، والله اني بعلمك
خرج همام من مكتب والده خشية أن يحكمه في أمر ما ، نزل إلى بهو المنظمة منتظرًا عزيز
ليسرح الآخر في أمر حياته ، اعتاد و عوّد ابناءه قبل كل شيء على الصلاة في الجماعة فهو على يقينٍ تام أن من صلحت صلاته صلحت حياته
علمهم على حب بعضهم و ألا يستقِم واحدٌ دون الآخر
ترك لكل منهم شخصيته يصقلها كيف شاء ، ما عدا أساسيات الحياة هو من علمهم إياها
أخذ بيد كل واحدٍ إلى حلمه ، فلم يجبر واحدًا منهم على تقمص مالا يناسبه
حتى ياسمينا ابنته الوحيدة لم يحكم حياتها في قبضته كأب
فلا يهون عليه أن يرى ابناءه يتهاوون في متاهات الحياة المظلمة ، قطع تفكيره و خرج من مكتبه كي يشرف على موظفيه و ما إلى ذلك " انت باقي ما رحت ؟ " يسأل بها همام متفاجئ من وجوده
شعر همام بشيءٍ من الحرج : ها هلا ، لا باقي انتظر عزيز مدري وشفيه ت.. ايي هذا هو جا " قالها بعجل عندما رأى عزيز يدخل الباب
ليسأل الاثنان معًا عزيز : وش فيك تأخرت ؟ " ليكمل أبو عبدالله سؤاله ب : يابوك ؟ عسى ما شر ؟
يرد عليهم عزيز : الله يسلمكم ، رحت اخذ نجد من المدرسة تعبت شوي و جيت
أبو عبدالله : سلامتها وش فيها ؟
عزيز : لا يبوي ماهو شيء كايد ، خذيت لها مسكنات و ان شاءالله احسن
-قدامها العافية ، يلا تحركوا عشان توصلون بدري ، لا تأخركم الزحمة و على مهلك انت وياه
-ابشر يا عمي / يا بوي
التفت همام لوجهه عزيز ثم نطق قائلًا : غيروا المحقق
وقف همام بصدمة : ليه ؟
يتنهد عزيز ثم يقول : والله مدري
-ان شاءالله خير يلا نتسهل
خرج الاثنان معًا ، أخذ الطريق منهم ساعة ليس لبعد المسافة و لكن لزحمة الطريق الطويلة
دخل عزيز يُسابق خطواته ، اللهفة في قلبه أكبر من كل شيء و شيء ، دخل مقر التحقيق جلس أمام باب غرفة التحقيق منتظرًا
جاء همام بعده بعد أن ركن السيارة بمكانها المخصص لينطق قائلًا : شسم المحقق الجديد
-ما بعد حصل الشرف ب اسمه ، بس احس ان صبحي هو ورا تغييره
-ما يحق له يغيره اصلًا
فجأة و دون موعدٍ مسبق تلاقت العين بالعين ، شعر ببرودةٍ سرت في اطرافه ، لم يفهم عزيز ما الذي حدث ، لكنه شعر بشيء ما ليقول متداركًا الوضع بعد أن قرأ البطاقة المعلقة حول عنق المحقق : هلا والله ، أنا عزيز بن حمد ، و هذا همام ولد عمي
طالت النظرات ثوانٍ معدودة ليمد الاثنين يدهم للسلام : حياك الله استاذ عزيز ، انا المحقق تميم بن سلمان " نظر قليلًا لوجهه همام ثم قال : هلا اخوي همام ، غني عن التعريف قد تقابلنا قبل
ثم قال همام بتوجس : اهلا و سهلا ، يا حضرة المحقق
نطق تميم بقليلٍ من السخرية : تشرفنا ياااا .. حضرة المحامي
التفت ماشيًا عنهم و سأل عزيز همام : وش فيه من وين تعرفه ؟ واضح ان العلاقة مش ولا بد
قال همام بهمس : الله يسهلها و انا اخوك ، الا المحامي وش فيه مقد جا ؟
-اتصلت فيه قبل ما اجيك و جاي تلاقيه على وصول