بـومـة مينـرڤا

By Die-Nacht

13.9K 1.5K 8.6K

حقـبة جديـدة بدأت ما أن تم الاعتـراف بسحـرة الظـلام كجزء لا يتجزأ من عائلة حـراس التـوازن، لكن هذا وحده لم يج... More

-1- ذكرى (II)
-2- موسم الهندباء
-3- نورا
-4- الأيّم الشقراء
-5- لأجل أحدهم
-6- أدنى الهرم
-7- إرادة
-8- ضياء نجم مسائي
-9- جرع زائدة من السكر
-10- الـ منطقة
-11- السُخام الأسود
-12- لا تثق بالفراشات
-13- فنون الدم
-14- نوكتوا
-15- أجنحة وريش
-16- أوتار الشفق
-17- إنذار من الأومورا
-18- في مكعب جليدي
-19- ندوبه الغير مرئية
-21- أرشيف الذكريات
-22- لعنات عابث
-23- أطياف
-24- ظلال البرق الأرجواني
-25- البحث عن الحكمة
-26- تلك الساحرة
-27- رافيتوس ليلوي
-28- محاكمة
-29- الدم بالدم
-30- عهود غير منسية
-31- أبدي
-32- بومة مينرڤا

-20- غريق

290 44 342
By Die-Nacht

مرت أيام هادئة على رأسي لم يحاول فيها أي شخص الاقتراب مني وأعتقد أن السبب هو الكآبة التي توضحت في ردود فعلي وتصرفاتي.

لم أظن بأنني سأشعر هكذا، توقعت أن أستطيع دفع كل تلك الأحاسيس جانباً لكن بعضها تمكن مني بقبضة من حديد ودفعتني لأقصى الزاوية الضيقة كعقاب على محاولتي الاستخفاف بها.

حدقت بالريشة الثلجية التي كنت قد علقتها حول عنقي تتدلى بين أناملي ومن ثم رحت أشاهد من نافذة المنزل شبان وشابات الصرح يعودون من أعمالهم المختلفة والتي تباينت بين جمع المؤن والنباتات، تفقد الحيتان، الاستطلاع وإصلاح تصدعات الصرح.

البرايموس كانوا مسؤولين عن الإشراف وحراسة الأنحاء دوماً وفي كل وقت لذا لم أستطع أن ألمح ميكايل سوى صباحاً قبل أن تشرق الشمس حتى.
شاهدته من نافذة غرفتي يقف كالعادة في فجوة المغارة وينتظر...ينتظرني أنا ليأخذني في جولتنا التدريبية المعتادة لكنني تجاهلت الأمر ببرود. ربما لأنني فقدت الأمل عن التحليق وربما لأن ميكايل ليس الشخص الذي أردت رؤيته.

"أهذا هو شعور الهجران؟"
غمغمت لنفسي، تنهيدة متحشرجة تغادر صدري، من روحي تحديداً. ما كنت أخاف منه حصل في النهاية وحتى إن لم يكن ذلك النوع الذي توجست منه مراراً.

يجب أن لا أنسى أنني كنت من غادر نورمانوس في المقام الأول حينما كان مريضاً أيضاً، لا حق لي بالتباكي.

أخفيت وجهي بين كفي. أندم بشدة، كان يجب أن أفتح فاهي واعتذر له وليس محاولة تبرير موقفي للحفاظ على ماء وجهي فإنه كان قذراً بأية حال.

إنزلقت على بساط الأرضية على مهل.

لا فائدة من الندم فقد رحل نورمانوس ولن يعود وأنا مجرد كائن بلا أجنحة أعلى صرح طوّاف.

"إلهي، إلهي..."
أزلت يدي عن وجهي وألا بي أرى كلايمنت يقوم بهز رأسه للجهتين، بدا متململاً فسألته عن خطبه.
"ماذا بك تظهر الآن؟"
كنا راقدين أسفل شجرة الشتاء هذه المرة، الشمس الحامية التي أشرقت ضد بشرتي جعلتني أشعر بدفء يخدر أطرافي.

"انظروا من يتكلم، فالترحلي أنتِ من هنا."
تنهد وهو يكشني كبعوضة بكفه.
"لن أقدم لكِ الشاي والكعك وأترككِ تتجاهلين جسدكِ الحقيقي الذي يعاني من الجفاف ليموت."
قام بالتمدد على العشب عاقداً ذراعيه خلف رأسه، النسيم العليل يحرك خصلاته الناعمة ويرفعها عن وجهه.

ضحكت بلا فكاهة.
"ما الذي تتحدث عنه الآن؟"
سألت بلا فهم، أنا بخير أشعر أنني بخير.

"إنه حلم مينرڤا."
أجاب دون أن يفتح عينيه.
"مجرد خيال لا أستطيع السماح لكِ بالخوضِ فيه مطولاً فكل دقيقة حالياً تماثل ساعة في الواقع."
نبس بشفاه مستقيمة.

صحوة طفيفة أصابتني فقمت بمحاولة تلمس حجر القلادة التي تعلقت حول عنقي لكنها لم تكن هناك إنما ريشة غلاكوس البيضاء وحسب.

"تعلمين أنني هنا إذاً."
كلايمنت تحدث وهو يضجع على جانبه الأيمن نحوي، قام بإظهار حجر الزريكون المضيء بين سبابته وإبهامه.
"وبما أن الزريكون السحري هو السبب فهذا يعني أنكِ في خطر أو على شفير الموت."
رفع أحد حاجبيه البنيين نحوي.
"أتذكرين الآن؟"
سأل.

نفس مرتعش ترك صدري عندما استقمت بحدة.
أنا في موقف حرج مجدداً والسبب هذه المرة نفسي.
"أفعل."
أجبت في محاولة لاستذكار ما حصل لي.

"جيد."
حرك يده والحجر تناثر كالغبار مع الرياح.
"والآن اذهبي."
قام بإعطائي ظهره فزحفت نحوه سريعاً وسألت بحدة:
"أكنت تعرف عني؟"
ضغطت على كتفه حين لم يجب والدموع تجمعت في مقلتاي.
"أهذا ما كنت تتشاجر مع الجدة بشأنه على الدوام؟!"
استفسرت.

حدقتاه أنارتا لضوء الشمس بألوان الكراميل الدافئ حين فتح عينيه أخيراً على مهل.
"كلايمنت ريغان لم يكن يهيم بكِ وبالطبع لم يكرهكِ أيضاً يوماً."
استلقى على ظهره، أنامل يمناه تتخلل خصلاتي المموجة برقة.
"كنتِ آخر شخص قد يود استغلاله، أراد لكِ الحرية من قيود ريغان لكنه لم يستطع فعل شيء سوى صنع الزريكون."
نثر شعري ثم أسدل أهدابه مجدداً. أردت طرح المزيد من الأسئلة لكن نور النهار أصبح قوياً لدرجة أعمى بها بصري.
"لكنكِ ها هنا تصعبين الأمور على نفسكِ بنفسكِ."

لا أعرف متى أو كيف بالضبط لكنني كنت قد فقدت وعيي في مكاني ولم استيقظ سوى على سماع صوت خطوات سريعة تعدو في ممر المنزل وصراخ سونالي الهالع باسمي.

"ريڤ! ريڤ! مينرڤا!"
شهقت على مرأى ابنة خالتي تلهث كمن ركض لأميال لكنها سرعان ما تنهدت براحة عندما رأتني استقيم وأفرك عيني بنعاس كان قد تمكن مني على ما يبدو.
"أنتِ بخير... جيد."
نفخت أنفاسها الضائعة وهي تسقط أمامي لتضع كفيها عن كتفي ثم تحركهما كأنها تتأكد من ما ترى.

"لكن..."
تفاجأت من رؤية ميكايل خلفها وصُعقت بشدة ما أن لمحت أخيراً ذلك الطائر الجريح يتدلى بين ذراعيه.
"غلاكوس لا يبدو كذلك."
أنهى كلماته. غلاكوس بين ذراعيه كان غارقاً في المياه وبالكاد قادراً على الحركة.

نهضت كمن أمسكت به الكهرباء والتقفت جسد صاحبي من بين ذراعيه بفزع لأدثرته بالأغطية الفروية المترامية أعلى سريري في محاولة عويصة لتجفيفه.

ضممته لصدري ورحت أرتجف كما يرتجف جسده بين يدي.

"ما الذي حدث؟!"
سألت ميكايل بهلع فتبادل الأخير نظرة قصيرة مع سونالي التي ضمت جسدها بين ذراعيها، بدت في حالة من القلق العظيم فقضمت أصابعها.

"كان يحلق أعلى الصرح كالعادة لكنه فقد قوته فجأة وتهاوى ليسقط في البحر."
شرح ميكايل ما حدث بهدوء فلاحظت أخيراً أن ملابسه الخفيفة كانت مبللة بالمثل.

"أمريض يا ترى؟"
سألت سونالي بشك فهز ميكايل برأسه نفياً.
"لو كان كذلك لما حاول التحليق أو غادر جانب مينرڤا من الأساس."
أفصح عن رأيه ثم نظر لي بعيونه الجليدية ليقول:
"لكن ربما أنتِ كذلك."

"ما الذي تعنيه؟"
تلعثمت بحروفي فسأل رغم أنه بدا وكأنه يعلم الجواب بالفعل:
"مينرڤا، أنتِ لم تكوني تهتمين نفسكِ كما ينبغي، أتفعلين؟"

آثرت الصمت وأخذت المسح على ريش غلاكوس المتجمد. لم أستطع الكذب ولا حتى سونالي التي كانت ترافقني دوماً على وجبات الطعام التي لم أستطع وضع سوى لقيمات صغيرة منها في فاهي.

"صحة غلاكوس متعلقة بصحتكِ بشكل وثيق والعكس صحيح."
استطرد ميكايل بنبرة أقرب منها للمعاتبة من تلك العملية الهادئة المعتادة منه.
قبض أنامله بجانبه، رأيت ذلك بطرف عيني.
"لو كان غلاكوس قد غرق لكنتِ..."

"توقف عن التفوه بالهراء!"
سونالي منعته من الكلام بصراخها المفاجئ بضرب قبضتها ضد عضده ورغم أن الضربة لم تجبره على التزحزح إلا أنها أوقفته عن استكمال كلماته.

"سأحضر المزيد من البطانيات."
ركضت ابنة خالتي خارج الغرفة سريعاً دون أن تظهر تعابير وجهها الحقيقية أما ميكايل فاقترب ثم جثى أمام سريري.
"أمايثقل كاهلكِ يستحق؟"
سأل.

"لا أدري."
قمت بهز رأسي بضياع، عيون غلاكوس الذهبية ألقت نظرة سريعة علي. حاول التحرك لكنه متعب بوضوح فما كان مني سوى أن أدع دموعي لتنزلق على وجهي وتغرق عيني ريثما رحت اعتذر.

"آسفة!"
لم أعرف لمن كنت اعتذر حتى لكنني أردت فعل ذلك والبكاء، وقد فعلت بشدة، فحين أحاط ميكايل بوجنتي وابتسم لأول مرة بحق لي بطريقة تركت تلك الدموع لتهطل.

ميكايل ظل بقربي رغم كونه مبللاً بالمياه المثلجة حتى انتهت نوبة بكائي فترجيته وأنا أمسح وجهي بخجل:
"النور شارف على الاختفاء وأنت ستمرض إن ظللت هكذا، أرجوك فالتذهب لتحصل على بعض الدفء والطعام الساخن."

"أنا بخير."
نبس، أهدابه تتباعد لتظهر عيناه، يبدو مرهقاً من العمل طوال اليوم وأنا تسببت بالمزيد له رغم أن جروحه قد تماثلت بشكل كامل للشفاء مؤخراً وحسب.

"أرجوك."
كررت فنظر باتجاه النافذة فجأة قبل أن يرفع بصره نحوي مجدداً.
"بشرط."
طلب وأنا لم أستطع رفضه بعد كل ما فعله لأجلي.

بعد عدة دقائق كنت أسير بخطوات ثقيلة خلف أجنحة ميكايل الرمادية وبجانبي سونالي، طلب مني ببساطة أن أخرج وأشاركهم العشاء كما اعتدت ولكن هذه المرة تاركة غلاكوس خلفي في المنزل ليتدفأ ويرتاح.

"مساء الخير مينرڤا! سونالي!"
تلقينا التحية من المارة، وحين جلست حول النار وجدت عيوناً زرقاء طفولية مألوفة ترتمي في حضني فجأة.
"أين كنتِ آنستي؟"
مط الفتى شفاهه.
"لقد اشتقت لك."
أفصح دون تردد، بعض الحمرة الطفيفة تدفئ وجهه الجميل الفتي.

"أحقاً؟"
ضحكت وأنا أقرص خدوده الممتلئة ليهتف بعتاب:
"الجميع فعلوا!"
أصابه الحرج.

"آسفة، كنت مريضة."
اعتذرت منه فبدا مدهوشاً للحظات، عيناه تمسحان وجهي وهيئتي كاملة وكأنه يحاول تحديد المشكلة.

ابتعد خطوتين فجأة وكأنه يراعيني.
"فالتعودي بسرعة، حسناً؟!"
هتف، لم أعرف ما إن كانت هذه طريقته بتمني العافية للغير أم لا لكنني سأتقبلها بحسن نية.

سونالي بقربي ضحكت على مرأى الصغير يهرول بعيداً.
"قلتي أن الأطفال يحبون دروسكِ لكنني أرى أنهم معجبون بكِ أنتِ."
سونالي ضحكت كلماتها، شيء من الراحة تعتلي ملامحها.

"مينرڤا!"
هتاف متفاجئ هز إذني فالتفتُ خلفي لأرى شني ينفض جناحيه الأبيضين من الثلج وخلفه آكواريوم يتهادى.
"لم أراكِ منذ فترة، تبدين بصحة جيدة."
علق وهو ينخفض أمامي ممسكاً بركبتيه وكأنه يحدث طفلة، ضحكته التي أطلقها كانت صادقة بطريقة جعلت زميله آكواريوم خلفه يبتسم.

"أتعلمين...؟"
قرب كفه من شفاهه وهمس، سونالي اقتربت أكثر غير قادرة على منع فضولها.
"ميكايل لم يكن مركزاً في العمل خلال الفترة الماضية بسبب محاولة نيوبيس الدائمة الفرار منه والذهاب لكِ."
أفصح.

"هل أصبحت متمردة حتى هذا الحد؟!"
سونالي سألت بصدمة فقرّب شني سبابته من شفاهه وهشهش لها.
"سأتعرض للعقاب إن علم بأنني أخبرتكما بذلك."
أفصح بتردد فقاربت ابنة خالتي حاجبيها ونفثت نفساً حانقاً.

"إلهي، لم أعني الإهانة."
غمغم، بدا مستعداً لمزيد من القيل والقال لكن حين أمسكه آكواريوم من ياقة قميصه جعله يستقيم فيقف كلاهما بتأهب مفاجئ.

"ما خطب هذا التجمع؟"
صوت ميكايل أعلى رأسي جذب عيناي، كان يحمل أطباقاً خشبية ثخينة تتصاعد منها الأبخرة الحارة.

"أبداً، نلقي التحية وحسب."
شني هز بكتفيه أما آكواريوم فدحرج مقلتيه قبل أن يتحدث بعملية:
"اكتشفنا تصدعاً بسيطاً في الجزء الشمالي الغربي من الطوف."

"لابد أن رياح العاصفة الأخيرة كانت قاسية على الحواف."
جثى ميكايل ليسلمني أحد الأطباق الساخنة ويعطي الآخر لسونالي التي ابتسمت بسعادة من رؤية حساء البطاطا التي تحبها.

رفع بصره نحو زميليه مجدداً وأضاف:
"يجب أن نقوم بعدة جولات أخرى لتحديد مواقع الضعف والعمل على صيانتها سريعاً."

"هذا ما هو عليه الأمر، سنوافيك غداً أيها البرايموس."
لوح شني بكفه وسحب آكواريوم بعيداً معه قبل أن توقعه صراحته بأي مشاكل.

"ميكايل."
نبست باسمه فنظر في عيني مباشرة.
"بإمكانك تحرير نيوبيس، لا تقلق بشأني."
قارب حاجبيه على الفور أما سونالي توقفت عن تناول طعامها، سأعتذر من شني لاحقاً.

"شكراً على دعوتي للخروج، أشعر بتحسن بالفعل."
كورت الطبق في حجري بين أناملي.
"حان دورك لترتاح قليلاً."
لم أتوقع بأنه سيعطي أي إجابة صريحة لكن ردة فعله كانت مباشرة فحين تعانقت أجنحته إنصهرت في مظهر مهيب لطائره يتشكل من الرماد ويطلق العنان لأجنحته قبل أن يرفع أهدابه ويقوم بالنعيم وكأنه يعاتب أحدهم.

ميكايل تنهد عندما قفزت نيوبيس خلف رأسي وراحت تتجول أعلى كتفي الغير مريح لحجمها الكبير. كانت تتحدث لغة لا يفقها سوى صاحبها الذي اعتذر بخفوت:
"آسف، إنها تعاندني مؤخراً."

"لابأس."
رفعت طبقي بتردد أمام وجه نيوبيس فتوقفت عن الزقزقة بغضب ونظرت نحوي بعيونها الواسعة الجميلة للحظات اختتمتها بتناول إحدى حبات البطاطا الكبيرة من الطبق.

"نحن بخير."
ابتسمت.

.
.
.

تحسنت حالي بعد أسبوع آخر من انتظام جدول طعامي الذي راقبته سونالي بصرامة، وغلاكوس بالمثل نفض الكسل عن ريشه وعاد للتحليق مع السرب أعلى الصرح. اتفقنا على إخفاء ما حدث عن خالتي آلاين التي صدف أنها لم تكن في المنزل ذلك اليوم فلا تقلق، كان مجرد حادث عابر ولن يتكرر.

عدت لعملي في التدريس مجدداً ورؤية الأطفال كما توقعت أنعشتني، خاصة عندما وجدت أنهم كانوا قد حضروا لي هدية قيّمة تمثلت في لوحة لغلاكوس تم صنعها بريش طيورهم الفتية، لم تكن الصورة متقنة لكن تلك الريش الصغيرة المتلاصقة حملت معنى عظيم في قلبي.

قمت بزيارة آدلڤايس لأول مرة منذ أسابيع، تلك الأخيرة استعادت ابتسامتها لكنني لم أمنع نفسي من ملاحظة اختلاف طفيف في نفسها.

"لا تبدين كما اعتدتكِ."
تحدثت بخفوت وأنا ارتشف الشاي التي كانت قد صنعتها بنفسها في غرفة معيشة منزلها، بدت مهمومة البال.

"ولا أنتِ حتى."
اتخذت لنفسها مكاناً على كنبة مقابلة لي.

"لا مجال للمقارنة."
وضعت كوبي جانباً معلقة على حروفها إذ أنها تتجنب مصارحتي بوضوح وتكتم شيئاً أكبر من ما اعتادت إخفاءه أسفل ابتسامتها هذه المرة.
"قد لا أستطيع إخباركِ بكل شيء آدل لكنكِ حرة لتفعلي."
شجعتها على الحديث، حتى سيدة الصرح تحتاج لأن تفضفض من فترة لأخرى.

"أنا كنت قلقة مؤخراً أكثر من اللازم وحسب."
رأيت أصابعها ترتعش بخفة في حجرها.
"العزلة تعني الكثير من الأمان لنا لكنها أحياناً تمنعنا من إدراك ما يتربص بوجودنا."
اعترفت بخفوت، عيناها تلاحقا النور خارج النافذة.

لابد أن التفكير المستمر أنهكها.
"زيارة حراس التوازن لنا وسعت من بصيرة عيني على أمور عدة عدة فأدركت أنني لست مجرد سانكتوس لحماية النوكتوا من برد الشتاء بل لأجل ما هو أعظم."
عقدت أناملها الرفيعة بقوة. آدلڤايس خائفة ولا يمكنني أن أنكر أنني السبب، بطريقة مباشرة أو لا، وصل حراس التوازن للنوكتوا، وهذا سيذيب شيئاً من جليد الصرح.

"لم أظن أنني سأرى آدل تتعلم درساً في حياتي قط."
ابتسمت رغماً عني، مزحتي لم تكن جيدة أدرك ذلك لكن آدلڤايس سايرتني حين قهقهت أمام بخار شرابها ونبست:
"بالطبع فلن يزورنا آل ريغان كل يوم."

"آدلڤايس!"
شني دلف للردهة وهو ينفض الثلج عن ريش أجنحته الناصعة بحركات عشوائية كالعادة، صدره إنخفض ثم ارتفع بنفس واحد.
"لدينا دخلاء!"
أعلن فقفز قلبي بين أضلعي.

"أم سيفعلون...؟"
تنهدت آدلڤايس حروفها وهي ترتشف ما تبقى من شايها قبل أن تنهض من مكانها وتقوم بتركيز لباسها.
"أهو ضيفنا المعتاد؟"
سألت وكأن الامر غدا رتيباً لكننا سرعان ما أدركنا من ردة فعل شني المتوترة أن نورمانوس لا علاقة له هذه المرة.
"لا."
أجاب باختصار، عيناه البحريتان تسيران في وجوهنا المصدومة للحظة.
"لم نقترب بعد من الدخلاء لكن، في موقع الصرح السابق، ظهر غريبان اثنان ونورمانوس ريغان ليس أحدهما."
استطرد بقلق.

آدلڤايس كورت أصابعها في قبضة، عيونها أنارت بحمرة مستاءة.
"يبدو أنه من الصعب الحفاظ على كلمة."
ضغطت أسنانها فأدركت غضبها وهرولت من فوري خلفها ما أن سارت للخارج.

"تمهلي آدلڤايس، نورمانوس لن يتجول ويفصح عن أسرار أخذ على نفسه وعداً بحفظها لذاته."
دافعت عنه، على الأقل هذا أمر كنت متأكدة منه، أخفى الكثير من أسرار سحرة الظلام عن حراس التوازن، لن يقوم بإفشاء أسرار أو مشاركتها النوكتوا ببساطة.

الأومورا بدأت تنوح من حولنا مما كان يعني أن الدخلاء اقتربوا من الصرح.
"سنرى بهذا الشأن."
هي صرحت دون أن تتوقف أما أنا فوجدت لنفسي مكاناً في باب الصرح حيث تجمع الشبان والشابات كالعادة بعد أن منعني شني من الاقتراب أكثر.
"قد تتأذين بحق هذه المرة."
حذرني بكفه الكبير في وجهي تمنعني من تخطيه، رأيت الاعتذار في عيونه التي غطتها خصلاته الثلجية متباينة الطول فأومأت برأسي وتراجعت.
"مفهوم."
هز برأسه ممتناّ ثم تحرك لعمله.

هل تم إرسال أحدهم للتخلص مني هذه المرة بحق؟ جسدي اهتز، يجب أن أكون جاهزة.

راقبت الغيوم تنقشع مع كل خطوة كانت تتقدمها آدلفايس أعلى الجليد، حيتان الأومورا حطمت صرحاً جليدياً آخر لكن ظلال الدخلاء كانت بالفعل قد لاحت أخيراً على أطراف جليد الطوف خاصتنا.

عيون ذهبية تلتمع غضباً ووجه لم آلفه لشاب ذو أنياب حادة أخذ بالاقتراب وهو يطوق عنق أكواريوم فقط بكفه ليجره بجانبه على الثلج، النوكتوا بدا فاقداً للوعي تماماً.

"لا وقت لدينا للعب معكم!"
رماه جانباً فالتقطه آخرون والشاب العنيف أشار لآدلڤايس بأظفاره الحادة.
"أأنتِ سيدة هذا المكان؟"
سأل فتنهدت آدلڤايس بحدة.
"ارى أن عيونك المبهرجة ليست للزينة فقط يا مصاص الدماء."
سمعت صوتها يصدح بعلو ووضوح تامين.

"مصاص دماء؟"
همست لنفسي بخفوت وحين حط غلاكوس على كتفي فجأة من اللامكان قام بالهديل بخفوت وكأنه يحدثني.

شهقات عالية بين الصفوف ارتفعت فعدت للتركيز على الشاب اليافع الذي اندفع نحو آدلڤايس بلا تردد، استنفر النوكتوا بالمثل لكن وقبل أن يقطع نصف المسافة نحوها جسد ضئيل اعترضه. بيديها تمسكان بكتفيه بقوة، رأيت شابة ذات خصلات ذهبية قصيرة لا تلامس عنقها تحاول الدفع للخلف حتى توقف مصاص الدماء في مكانه.
قدماها غرقتا في الثلج وزيّها الخفيف أظهر بوضوح أنها لم تكن مستعدة للقدوم للقطب.

"هل فقدتَ عقلك؟!"
صرخت بصوتها الرفيع الذي حرك ذكريات كثيرة في رأسي.

تراجعت الشابة التي لم أستطع رؤية وجهها بعد بسبب إعطائها ظهرها لنا، بلا أي خوف من أن تتعرض للغدر من النوكتوا خلفها هتفت بالشاب الثائر أمامها بتجلد:
"لديهم كلمة سيد ريغان وأنت هنا تخالف أوامره وتكسر كلماته، وأنا لن أسمح لك بذلك."

"أنتِ لم تري ما رأيته..."
استقام الشاب بعد أن كان في وضعية التأهب للعراك. لباسه الجلدي الأسود يتطاير مع النسيم. راح الدخيلان يتبادلان أطراف حديث لم أستطع إلتقاطه كلياً، لكنني أعرف الآن بشكل جازم أنهما ريغان.

"فاليكن!"
هتف الشاب بنفاذ صبر وعقد ذراعيه أمامه أما الشابة فاستدارت نحو آدلفايس أخيراً لتظهر ملامح وجهها الفتية، خدودها وشفاهها محمرة بشدة بسبب البرد.
"نعتذر على التطفل بهذه الطريقة البربرية، لكن أود لو نتحدث قليلاً."
طلبت بأدب لكن آدلڤايس لم تبدو مرحبة.
"لا."
رفضت.
"والآن... ارحلا."
رفعت كفها وتمسكت بموقفها الذي بدا مُتفهماً، كثرة الطباخين ستفسد الطعام. كلما زاد عدد من يأتون هنا كلما تعرض النوكتوا لخطر أكبر يتمثل باكتشاف الغرباء لهم.

لكن... أنا أعرف هذين الشابين.
لم أرى وجهيهما يوماً بوضوح لذا تهيأ لي أنني لا أعرفهما حتى اللحظة.
التصرفات والكلمات، حتى الهيئة الضبابية البعيدة مألوفة.

"أرأيتِ؟ الكلام لن يفيد."
بدا الطرفان على وشك الاقتتال حين لوح الشاب بأظفاره الطويلة معاتباً الفتاة.

"يجب أن نوقفهم."
همستُ دون شعور وغلاكوس غادر كتفي متجهاً نحوهم مثلماً فعلت بدوري.

بومي رفرف في وجهيهما ليشتتهما سريعاً فهتفت الشابة بفرح بعد أن تمكنت الحيرة من ملامحها للحظات:
"أنت غلاكوس!"

"إن كان هذا الطائر هنا فيعني أن..."
كلمات الشاب انقطعت من فاهه على مرأي أتقدم من حيث وقفت آدلڤايس وحاشيتها.
"مينرفا!"
نبس بأنسام اسمي، وعلى مقربة تأكدت تماماً من أن هذين الشخصين هما اثنين من طلابي الكثر الذين قضيت معهما أوقاتاً ممتعة في الماضي.

"مينا!"
هتفت الشقراء بفرح لكن سعادتها لم تدم طويلاً، بل تحطمت من على وجهها حين خاطبتهما ببرود:
"عودا من حيث أتيتما، نورمانوس هو سيد ريغان ومعه وحده يقبل النوكتوا بالحديث. هذا ما كان بيننا من اتفاق."

"لن تقفي لصفنا بالتأكيد..."
استدركت الشابة خيبتها وبسمتها تلاشت.
"لكننا نحتاج مساعدتكِ."
اعتصرت أناملها، بدت وكأنها تترجاني لكن...

غلاكوس عاد لي ووقف أعلى كتفي بصمت.
"أنا لا أعرف من أنتما حتى، أخشى أنني لا أستطيع فعل شيء سوى أن أطلب منكما الانصراف بهدوء."
طلبت وهما لم يجيبا كلامي وكأنها يبتلعان صدمة إنكاري لهما.

فرويد، ريم، لابد أنكما تعرفان بحلول الآن بشأن ما كان يتم فعله بي في ريغان. رغم محاولتهم العديدة لصهري في مجتمعكم إلا أنه كان يتم نبذي بالآن ذاته. لا أحمل أي ضغينة لكن اعذرا كذبتي.

لم أتوقع بأن لدى فرويد ملامح حادة تكاد تجعل نظراته تخترق الصخر ولم أدري أن عيون ريم صافية كسماء نهار ربيعي باهر، ومع نموهما بهذا الشكل كانا بالفعل كالغرباء لي الآن.

"قمنا بخوض هذا الحديث بالفعل."
آدلڤايس تحدثت مشيرة لعدم رغبتها بالسماح للنوكتوا بالخروج من الصرح.

"نورمانوس مريض بشدة!"
هتفت ريم ملوحة بكفيها أمامها بقلة حيلة.
"وداء السخام الأسود يتفشى بين سحرة الظلام."
من الواضح أن أمر السخام لم يعد سراً إذ لم تبدو ريم وكأنها تعبأ بمشاركة المزيد من المعلومات التي لا يعلم عنها أحد هنا، لكنني أستوعب ما تقوله، ولما عل السخام الاسود الذي دام لعقود شبه موجود يتفشى الآن بالذات بعد أن توقع نورمانوس وقتاً طويلاً من القرون ليحدث ذلك؟ وما هو المرض الذي أصابه؟ أوليس التغيير الذي حل عليه سببه السم؟
لدي الكثير من الأسئلة.

"داء؟"
اتجهت آدلڤايس بوجهها نحوي، لم أستطع إدعاء الجهل أمامها، خاصة بملامح وجهي التي لم تتغير.

"إن لم نقم بتنظيف آثار العبث فإن المرض الغريب قد يتفشى في كل أرجاء العالم الموازي."
فرويد تحدث هذه المرة ببرود، لم يبدو متلهفاً كريم وكأنه لا ينتظر أي شيء مني، لكن أظفار يديه بقربه عادت لطولها الطبيعي وهذا يعني أنه مستعد لاستعمال الكلمات.

"يمكنهم الذهاب لعالم المرآة."
عرضت آدلفايس بتململ، لا أحد يمتلك خططاً احتياطية في العالم كالسحرة. لديهم عالم مواز آخر بأكلمه ينتظرهم.

"يمكنهم فعل ذلك لكن ماذا إن انتقل المرض كالعدوى معهم؟ وعن أولئك في العالم الحقيقي؟ مازلنا غير متأكدين بنسبة مئة من عدم وجود اتصال بين العالمين."
ريم شرحت، القلادة المعدنية التي تدلت حول عنقها أنارت بمخطط بياني يظهر نظرية العالم الموازي والحقيقي. خطان متوازيان لا يلتقيان وربما خط واحد انفصل إلى اثنين.
"ما إن كان هناك تلامس ولو بسيط فسينتهي الحقيقي بالمثل."
أضافت بعتاب والمخطط السحري تبعثر في الهواء. أنفاسها تحشرجت فجأة للبرد بعكس فرويد الذي لم يعبأ بالصقيع.

"ألابأس بأن أسأل عما يتحدثان بالضبط؟"
نبست آدلڤايس بقربي بخفوت والجواب كان بسيطاً، بما أنهما من جلبا الموضوع فلم يعد سراً مجبرة بالتكتم عليه وبما أن ريم وفرويد يعلمان، هذا يعني أن كل ريغان يعلمون الآن بالفعل بشأن السخام الأسود.

"لست واثقة بالمثل."
حدثتها بهدوء. أحتاج لترتيب أفكاري قبل التفوه بما لا يمكن استرجاعه.
"لكن يبدو أن الأمور بدأت تخرج عن سيطرة حراس التوازن بطريقة سيئة."
لم يكن مهماً قدرتهما على سماع حديثنا من عدمها، أردت من آدلڤايس أن تستشعر جدية الموقف علها تسمح لنا بالخوض في الحديث أكثر.

ما مدى جدية مرض نورمانوس بأي حال؟ لم يبدو وكأنه مصاب بالسخام؟ ولما هو رب أسرة ريغان بحاله هذه أيضاً في المقام الأول؟

ضوء ذهبي باهر إلتمع من خلف رأسيهما فبديا مفزوعين بحق.
"أعلم؟"
شهقت ريم بدهشة وهي تتحرك لتحتمي بفرويد سريعاً لكن تلك الأضواء الباهرة لم أرى أحداً يخلفها في ريغان سوى سحرة النور وتحديداً...
"مايبل."
نطقت باسم من اعتبرتها شقيقة لي لأكثر من عقدين من الزمن. خصلاتها المموجة الشقراء لم تتغير ولكن ملامح وجهها بدت ممتلئة بالسقم حين دلفت جهتنا، لابد أنها تبعت أثار حيوات ريم وفرويد.

"المزيد."
آدلڤايس أسدلت أهدابها، لم أكن راضية بالمثل عما يجري هنا.

"عالم المرآة غير كامل إذ أنه يتأثر بالموازي مباشرة، يوجد نظريات قديمة على أنه يتأثر بالحقيقي حتى ولأن كل أسطورة ينتهي بها المطاف أن تكون حقيقية لن نجازف ببعد كامل لأجل أمر قد نستطيع تجنبه."
تلفظت مايبل بكلماتها بتجلد وهي تعقد ذراعيها أسفل صدرها، رأسها مرتفع للأعلى بفخر وعيناها تشعان جبروتاً تحاول فرضه علها تخيف النوكتوا. يبدو أنها كانت تستمع للحديث، هذا يعني أنها من استطاع إيصال ريم وفرويد حد هذا المكان في المقام الأول. بالنسبة لحراس للتوازن حتى المحيط الشاسع صغير.

"أعيدوا لنا أرشيفنا."
طلبتْ وهي تُسيير عينيها عبر الوجوه نحوي ولم أتوقع قط أن يتم النظر لي كأداة يوماً، لكن يبدو أن الوقت قد حان.

"أرشيف إذاً."
أدلڤايس رفعت عصاها، بدت مستعدة لأن تستدعي جناحيها العظيمين وتنسفهم جميعاً بعيداً لكنني أمسكت بمعصمها لأمنعها من التسرع بحكمها.

"ما الذي تفعلينه مينرڤا؟"
سأل ميكايل، كان يراقب كل ما يجري بصمت فأجبت بخفوت آسف:
"أثق أنكما أكثر من يعي أنه لا طائل نجنيه من الاقتتال مع حراس التوازن."

"ارحلوا!"
هتاف سونالي من الخلف استوقفني، تملصت ابنة خالتي من الأيادي التي كانت تمسك بها واقتربت، هيوستوس أعلى كتفها صرخ بحدة حين استطردت معاتبة:
"لم تجلبوا سوى المرض والألم لشقيقتي! لما قد تظنون بأننا سنسمح لكم بأخذها!؟"
كورت كفيها على شكل قبضتين.
"سمعت أن حراس التوازن متعجرفون لكنكم الآن مجرد مجموعة من المجرمين الذين يحاولون إيذاء كائن تعهدتم بحمايته!"
عيونها الكرستالية غدت دامعة، لم أرى سونالي بمثل هذه الإنفعال. كانت ترتجف بشدة فتذكرت كلماتها. إنها تراني كشقيقة وأغلى، أنا الوحيدة التي لم تكن تقدس الدم الذي نتشاركه في شرايننا.

"فالتقولي ما شِئت..."
مايبل تحدثت بجفاء. أهذه شخصية حارسة التوازن التي كانت دائماً تظهرها في العلن؟
"كرهكِ لحراس التوازن أمر ليس بجديد علينا، شيء عظيم يتشارك به أبناء الاجناس المختلفة."
أردفت.

"ومعرفة متى يجب أن يتم إيقافهم عند حدودهم بالمثل."
آدلڤايس قررت أخيراً التقدم من حيث وقفت مايبل، فارق الطول كان شاسعاً لكن الكلمة الأهم كانت لسيدة نوكتوا الشمال حين استطردت تفرض سلطتها:
"أنتم تتعدون صلاحياتكم الآن والثمن لمثل هذه الأفعال يكون غالياً."

محقة، لن يساندهم ريغان الآخرون، خاصة ما إن كانوا يتصرفون تبعاً لأهوائهم الخاصة ومن دون إذن سيد المنزل. إن قرر النوكتوا حبسهم للأبد أو قتلهم لن يكون هنالك عواقب مترتبة على ذلك.

"إذاً تعلمين أننا في وضع حرج يتطلب إجراءات مستعجلة."
مايبل عاندت، أرادت أن تبدو في موقع قوة لكن أدلڤايس كسرت نفس تلشابة المعتدة حين صرحت بفتور:
"لا يهمنا."
رياح قاسية هبت في وجه حراس التوازن حين أعطتهم سيدة الصرح ظهرها مضيفة:
"حراس التوازن وضعوا وزر نتاج أفعالهم على أكتافهم وتحملوا الأسوأ وحدهم لقرون."

"عندما تعلق الأمر بالقوة فقط...."
مايبل فجأة جثت على ركبتها اليمنى وتطلعت لآدلڤايس مضيفة برجاء:
"لطالما امتلكنا القوة لكننا نعاني في أحكامنا ونتوه عندما يتغمدنا الجهل، تماماً ككل الكائنات الحية الأخرى."
اعترفت بنبرة مهزوزة.

"لسنا هنا لنبرر أي شيء أو نشرح ما يحصل إذ لا تودون سماع قصص واهية. تركنا مينرڤا ترحل بكامل ذكرياتها لسبب، ليس لأننا كرماء بل لأنها مفتاح التحكم بالأرشيف بأكمله وما في رأسها أهم من كل ما نعرف جميعاً، أيضاً مينرڤا لطالما أظهرت قدرات فذة لا يمتلكها سوى النوكتوا من إمكانيات تحليلية بناءً على معارف كثيرة لن تراود عقولنا فكرة ربطها معاً قط."
أهي اعترفت للتو بأن عقول الكائنات الأخرى قاصرة عن النوكتوا؟!
"إن مساعدة فرد واحد منكم ومينرڤا خاصة قد تكون عنصراً جوهرياً في حل ما نواجهه حالياً."

تراجعتُ خطوة مرتابة للخلف وأمسكت بعضد سونالي في محاولة لترجمة شعور غرابة مرير ومخيف ارتفع من أعمق نقطة في أحشائي وتعلق في حلقي.

أدلڤايس نظرت نحو مايبل من فوق كتفها.
"أمراقبتكِ لها ما أفضت لذلكِ؟"
استفسرت بحاجب مرفوع.

"كنا نقوم بفحص مينرڤا دورياً، لا سحر ولا خدع، هذه الملاحظات كانت نتاج فحوصات علمية دقيقة امتدت لسنوات طويلة بهدف اكتشاف كينونتها."
اعترفت مايبل ريغان، رأيت الدهشة ترفع ملامح آدلڤايس لجزء من الثانية إذ حين شعرت بالدوار أطرقت برأسي أرضاً.

المرارة غدت لا تطلق وأحسست بأنني على وشك التقيؤ عندما تذكرت كل ما تم إجباري على شربه وتناوله بحجة أنه دواء.

أنا لم أكن مريضة على الدوام لضعف جسدي بل بسبب التجارب التي تم إجراؤها علي، كنت فاراً أصيب وأنهك جسده بسبب الألاعيب التي تم ممارستها عليه.

"مينرڤا؟"
سونالي أحاطت بكتفي تساعدني على البقاء واقفة لكنني لن أستطيع طويلاً.
"ما الخطب؟!"
سألت بهلع.

الأنوار كانت تصبح خافتة في نظري حتى شعرت بأنفاسي تعود لي ما أن تم رفعي بين ذراعين مألوفتين عالياً.
"لستِ مضطرة للبقاء هنا والاستماع للمزيد."
ميكايل حدثني أما أنا فأومأت دون أن انظر بعيداً ثم أغلقت أهدابي، أردته أن يأخذني بعيداً.

"مينرڤا!"
هتفت مايبل باسمي.
"لمرة واحدة فقط، عودي وساعدينا في البحث عن حل والمقابل سيكون احتفاظكِ بكل معارفكِ عن حراس التوازن ومشاركتها إن أردتِ حتى دون أي داع للتخوف من العواقب."
ضغطت عيناي بشدة وصوتها تلاشى، أثق بأن لا اقتتال سيقع الآن، هذا كل ما أردته. لا داعي لأن أفكر أكثر لكن حقيقة أن من اعتبرتهم شقيقة، أب وأم راقبوني دوماً أتعرض للتعذيب مزقت روحي.

إدراك متأخر ليتني لم استوعبه يوماً.

"ما الذي حصل؟"
سأل ميكايل ريثما كان يسير بي ببطء لداخل الصرح، شعرت بالعيون والهمهمات المتسائلة ما إن كنت بخير ترتفع.

"كان يتم تسميمي في حين ظننت أنهم يقومون بعلاجي."
ضغطت أناملي على لباسه فهمهم بخفوت:
"أمتأكدة؟"

"ألديك أي تفسير آخر لاختلافي عنكم، لضعفي وعجزي؟"
دموع دافئة إنزلقت على وجهي كنت قد حاولت كبحها لكنني لم أستطع أكثر.
"عدم قدرتي على التحليق."
الفكرة لوحدها جعلت الدم يحتر في عروقي، كل شيء يؤلم فجأة.

الجو غدا دافئاً عندما دلف بي مبنى غير مألوف وتحرك من الردهة نحو غرفة خالية لم يتواجد فيها سوى سرير وخزانة إمتلأت بالمعقمات الطبية ذات الرائحة الفواحة.

"ما الذي تريدين منا فعله؟"
سأل وهو يضعني بلطف على السرير. مسح خصلاتي المبعثرة خلف أذني ونبس بخفوت من بين شفاهه الشاحبة:
"أنرسلهم في طريقهم؟"
تلمس بأطراف أنامله وجنتي المبللة.
"أم نحبسهم؟"
عيناه الجليديتان نظرتا في خاصتي.
"أو ربما نقطع أعناقهم."
لو لم أرى ملامح وجهه بوضوح لظننت أنه يمزح لكن ميكايل لم يكن من النوع الذي يلقي بالنكات عادة أيضاً.

ضحكت ولا أصدق أنني فعلت ذلك فرفع أحد حاجبيه الرماديين باستنكار.
"أرجوك لا تفعل."
أجبت وأنا أمسح عيني من الدموع التي تجمعت في مقلتي.
"هذا لن يصب في صالحنا."
تنهدت بأسى.

"لكنه سيبرد قلبك."
اقترب حتى لامست جبهته خاصتي، كفاه تتلمسان مفرش السرير بقربي وتضغطانه بقوة.
"لم تري تلك الملامح التي ارتسمت على وجهكِ هناك، كنتِ لأول مرة تظهرين الغضب الممتزج بالقهر، تعبرين عن مشاعركِ الحقيقية."

ربما هذا صحيح، شعرت بسكين تقطع في صدري وربما أفكار سوداء تكاثفت في رأسي وظهرت على وجهي لهنيهات في لحظة عمياء مني لكن ما أن ابتعدت حتى هدأت وتلاشت لحظة الصرعة.

أمسكت بإحدى كفيه بين يدي وضغطت عليها بلطف.
"أقدر اهتمامك بي ميكايل لكنني بخير الآن، ليس من الحكمة ترك لحظة لتتحكم بأفعالنا، خاصة إن كانت ستؤثر علينا بالسلب دهراً."
تلفظت أحرفي بابتسامة فضغط على يدي بالمثل وحين شعرت بجسده يميل أكثر نحوي تراجعت للخلف بآلية.
"آسفة."
تلعثمت بحرج عندما رأيته في حالة من الاستنكار.

"مفهوم."
نطق بهدوء وهو يتراجع ليستقيم بجذعه أمامي.
"بولاريس ستأتي لتفقدكِ قريباً، أما حراس التوازن فسأترك قرار التعامل معهم لكِ ولـ آدلڤايس هذه المرة فقط."
ما أن أنهى أحرفه حتى سار نحو الباب.
"شكراً لك ميكايل!"
هتفت به فأومأ برأسه دون أن ينظر لي ثم رحل.

رفعت كفي وتلمست وجنتي الدافئة على مهل، لما كانت
فكرة أن شفاهه ستلامس وجهي مخيفة لي هكذا؟ أنا لا أكرهه، لا بل في الواقع هو شخص يجب أن أكون معجبة به بالفعل، ما فعله لأجلي لم يقم به أحد قبلاً سوى... ذلك الشاب الذي حماني من الموت بجسده دفع الثمن بصحته.

ظللت وحدي في الغرفة لبضعة دقائق انتهت ببولاريس تقوم بدفع الباب بساقها لإنشغالها بإطعام طائري البوم على كتفيها بعض المكسرات وأحدهما كما توقعت كان غلاكوس.
"إذاً، إذاً، إذاً..."
رمت بنفسها بقربي على السرير ورفعت ساقاً فوق الأخرى لتنظر في وجهي مضيفة:
"أنت لديكِ قلب..."

"أخشى أنني غير قادرة على فهم ما تلمحين له أيتها الطبيبة."
حدثتها بهدوء فرفعت حاجبيها ثم أشارت لغلاكوس الذي كان يقرمش الطعام.
"هو بخير، أنتِ أيضاً بخير، ما حدث لكِ في الخارج كان صدمة لمشاعركِ المرهفة -على غير المتوقع- مما تسبب بتعبكِ المفاجئ."
شاركت البوم مقرمشاتهم وهي تتحدث بلا أي تعابير تذكر. لم يكن لدي ما أقوله كتعليق على تشخيصها، كانت محقة.

"طمأنتني."
أسدلت أهدابي فحلت لحظة صمت انتهت بسؤال فضولي مباشر لم أتوقعه من بولاريس:
"ما هو داء السخام الأسود؟"

"لست أعلم الكثير بالمثل، المصابون به لا يتحكمون بتصرفاتهم لغياب وعيهم، لا يستطيعون الكلام أو الحراك بطبيعية. لا يدركون العالم من حولهم، يقومون بالأنين وكأنهم في آلم دائم وأخيراً يزفرون سخاماً أسود يتبدد في الهواء في لحظات."
شرحت ما أعرف فهمهمت الطبيبة بتفكير دون أن تتوقف عن المضغ. أردت بشدة سؤال بولاريس عن أمور كثيرة منذ زمن وخاصة السخام الأسود، هذه فرصة لا تتكرر.

"تم تسمية الكثير من الأمراض 'بالمرض الأسود' على مر التاريخ لكنني لم أسمع عن 'السخام' أو مثل هذه الأعراض مجتمعة قبلاً. يا للفضول..."
تنهدت الطبيبة أخر كلماتها بحدة وكأن الأمر ينغص عليها مضجعها وقبل أن تقوم بالتحدث أكثر ظهرت آدلڤايس في باب الغرفة ولم تكن ملامحها راضية، بدت مهمومة.

"سنتحدث لاحقاً."
نهضت بولاريس على ساقيها وتركت غلاكوس ليقفز في حضني حين وضعت بعض البسكويت بين كفي.

"إذاً..."
تمتمت.
"ما الذي ستقررينه؟"
سألت آدلڤايس بفضول ما أن اختفى إحساس الطبيبة فتقدمت بضعة خطوات من حيث جلست معلقة:
"ما أدراك أنني تركت مجالاً للنقاش؟"

ابتسمت بجانبية.
"لطالما رأيت رغبتكِ بمعرفة ما أعرفه في عينيكِ."
أجبت ببساطة، آدلڤايس امتلكت فضولاً لم ولن تتمكن من إخفائه.
"اتفاق لا يمكن رفضه بسهولة مع حراس التوازن، المعرفة التي يمتلكونها قد تخولنا لاستثمار المزيد من معرفتنا في أمور نفيدنا."
أضفت.

"ستسمح لنا من تحصين أنفسنا أكثر وربما فهم العالم من حولنا وذلك الذي لم نستطع اكتشافه حتى بعد."
اعترفت آدلڤايس بهدوء. بالنسبة للنوكتوا هذه فرصة عظيمة للحصول على ما ولدوا عطشين له، المعرفة والحكمة في استعمالها.

"تركت العرض مفتوحاً لأنني أردت من صاحبة العلاقة أن تقرر."
استدارت مستعدة للمغادرة، جديلتها البيضاء إنزلقت خلفها على الأرض وظلها اختفى تماماً في لحظات وكأنها كانت متأكدة من أنني لن أعطيها جواباً في هذه اللحظة بالذات.

********

كانت وعودهم بمحاولة شفائها مترسخة برأسها لتلك الدرجة التي لم تلاحظ بها أنهم هم من أذوها في المقام الأول.
كيف سيؤثر هذا من مينرڤا قادماً يا ترى؟
خاصة مع إعطاء آدلڤايس حرية القرار!
ما قصة نورمانوس بالضبط؟

أراكم قريباً
ناخت ❤️

Continue Reading

You'll Also Like

8.8K 1.2K 38
لن تجد كلمات تصف سطوري .. فها هي ساعة الصفر تدق . #منوعات . كتاب يحتوي على مجموعة خواطر و قصص قصيرة من تأليفي الشخصي لذا أرجوا عدم السرقة ! من يود ال...
14.5K 881 22
[مكتمل] بصفته شخصًا مهووسًا حقيقيًا ومحبًا للكتب المصورة والألعاب الإلكترونية، لا يعرف بارك جيمين ماذا يفعل مع أخته. الفتاة مفتونة بالرومانسية الم...
627 56 5
رمادُ حريقٍ كان اشتعلَ في قلبهِ جعل أُخرى هي من تمسكه بين اناملها القوية ترسم لوحةً مميزةً سمتها بإسمِهِ تحمل توقيعها على قلبه. وكما تأثيرُ الرمادِ ل...
5.4K 584 5
دع عنك يا هذا ذكوريتك المتعصبة جانبا فلا يدخلن إلى هنا أشباه الرجال وأمثالهم فقد نصبت طاولة مستديرة لحوار مصيري يضع كل ملك أمام خيارين إما التخلي عن...