|| كالينور هيليوڤان ||

By harlxim

1.6K 131 176

- منتصفَ عامِ ١٨٥٥، إنقلبتْ حياة كالينور هيليوڤان رأساً على عقب مُتسببةً برفعِ الستار أمام حدقتيها والكشف عن... More

[ عدمُ إتزان ]
[ مُريب ]
[ السِتارُ الأول ]
[ الجَزْع ]
[ ذبلانٌ وإندثار ]
[ الأصواتْ ]

[ وجهيْن ]

86 6 0
By harlxim

________

" إعذرني جلالتك." أردفتْ الخادمة ريثما تتمسكُ بمقبض الباب وتسحبهُ معها كي تُغلق الباب وتُغادر الغرفة بعد إنتهائها من تنظيف القيء والفوضى التي تسبَّبَ بها الإثنين.

" هل حقاً ستكونين بخير من دوني ؟" إستفسرها بنبرة قلقة وحزينة بعض الشيء ريثما يُمسد وجنتها بلطف فإبتسمت لهُ بالمقابل وربتتْ على يدهِ المحيطة بنصف وجهها ثم نطقتْ بتعب " بالطبع، مازالتْ لدي بعض الطاقة لأغتسل بنفسي ولا يُجدر بِك رؤيتي عارية من الأساس ليو فنحن لسنا أزواجاً."

إبتلع لسانهُ أمام كلماتها التي نزلتْ عليه كالصاعقة وقد كان على وشكِ الرد وإخبارها بأنهُ يُخطط لجعلها الملكة. بجانبهِ معاً. لكن الوقت ليس جيداً لرمي هذا الخبرِ عليها فهي تشُكُّ فيهِ بالفعل.

" مالذي تنتظره ! غادر لو سمحت جلالتك."

" حسناً، إذا إحتجتي أي مساعدة فهناك خادمة تِقفُ أمام الباب. فقط نادي عليها وستأتي لكِ." أحكمَ على يدها مُشدداً كطريقة لطمأنةِ نفسه عليها. كان خائفاً من أن تفتعلَ جريمةً بحقِّ جسدها وروحها.

" أجل أجل." دفعتهُ بيديها بعدما أدراتهُ كي تطردهُ من الغرفة لكنهُ لم يتزحزح بل بقيَّ هُناك كالصنم ينظر لها بهدوء، تصلبتْ هي الأخرى تُحاول قراءة ما يدورُ بخُلده لكنها لم تستطع.

" لماذا تتصرفين هكذا، هذا يُتعبني للغاية كالينور. منذ قليل كُنتِ ترغبين بسلخي حياً والآن تبتسمين لي."

تنهدتْ بقوة وكادت أن تقلِب عينيها لكنها إبتسمت مُجدداً بحزن مُصطنع وهمست لهُ قبل أن تستدير وتتركهُ ورائها " أنا أتألم لهذا أتصرفُ هكذا ، لكن لا تخف، أنا لن أنتحر أيها السخيف. الأميرة يجبُ عليها أن تُقاوم أليس كذلك ؟ حتى ولو كُنتُ منبوذة فأنا مازِلتُ أميرة."

أمسكتْ بمقبض باب الحمام وفتحتهُ مُقتحمةً إياه، حينما أرادت غلقهُ وجدت أن ليوسايدن مازال واقفاً بوسط الغرفة يُحدق بها كالعادة. كانتْ غاضبةً منه ولكنها تَحِنُّ لهُ من جهةٍ أخرى وهذا الوضعُ النفسي الغيرُ مستقِر أتعبها.

" أنا اُشعرُ بكِ كالينور. أعلمُ شعور الألم الذي يجولُ بقلبك." أخبرها بنبرة رخيمة مُقيماً تواصلاً بصرياً عميقاً مع خضرواتيها فقطعتهُ هي عندما أومئت له وأغلقتْ الباب. تأملتْ البخار الساخن الذي نتج عن المياه الساخنة التي تتوسطُ الحوض الكبير ثم ركزتْ بأذنيها على خطوات ليوسايدن وهو يبتعد عن بقعتها الحالية.

تقدمتْ من الحوض رويداً رويداً ثم بدأت بنزعِ ملابس المصحة من على جسدها، طاحت الملابس الخفيفة فوق الأرض الرخامية فرفعت ذراعيها كي تتفقد الندبات والخدوش التي سببتها آخر تحديثات حياتها البائسة.

لكن وللدهشة لم تجد شيئاً، بشرتها برقتْ من بياضها وصفائها.

غمرتْ تعابيرُ الإستغراب والتفاجئ وجهها وإنقبضتْ بطنها مُنذرةً إياها بشعور الخوف من المجهول، أحاطتْ خصرها ثم دخلت الحوض الساخن متوسطةً الورود السوداء والحمراء.

المياهُ من حولها كانت متوسطةَ الحرارة، لا ساخنة ولا باردة. وإنما مُستقرة ومُناسبة لما يحتاجهُ جسدها حالياً. مسَّتْ يديها الورود القليلة التي كانت تطفو فجذب نظرها وردة سوداء كانت تسبحُ لوحدها بنهايةِ الحوض عِند قدميها.

حدَّقَتْ بها بتركيز بينما الأخرى مُتجمدة بمكانها. ولسببٍ ما جعلها منظرُ الوردة السوداء تبكي مُجدداً. هبطتْ دموعها بسرعة وتشوهتْ تعابير وجهها الشاحبة، إنحنى رأسها قليلاً فرأت وجهها مُنعكساً في سطحِ المياه وقدّ صدمتها حقيقتها المُسايرة لواقعها الحاضِر.

لم تَكُن الأميرة كالينور هيليوڤان.

بل كانت عِبارةً عن شظايا لفتاةٍ محطمة.

إنعِكاسُها المكسور والمُفتَّتْ أحدَثَ إشمئزازاً وكُرها جسيماً بداخلها فهذا ليس ما كانتْ تتوقعهُ أن يحدُث بفترةِ شبابها. من المُفترض أن تكونُ مُعززةً مُكرمةً بقصر والديها. تعتني بشؤونِ شعبها والقصر وتتدرب على طقوس التتويج مع والدها ريثما والدتها تُعاتبها على عدمِ جديتها.

" لماذا أنا هكذا ؟ مالذي حلَّ بي !" همستْ بشجنْ ثم أرقتْ كفيها لوجهها ودفنتهُ هناك تنوحُ بلا توقُف. تبكي بدونِ رؤيةِ حقيقتها البائسة. بدون الحاجةِ لمحاولةِ تقبُّلِ صورتها المُعاكِسة لما أرادتهُ هي أن تكون عليهِ حينما تكبر.

وحتى معَ غيابِ صورتها فأصواتها الداخلية لم تغِب بل زادتْ. البكاءُ كان أبغض صفةٍ بالنسبة لها فما بالكَ بأن اصبحتْ تنوحُ كلما سنحتْ لها الفرصة وتسكُت بدون سابقِ إنذار، وكأنها مجنونة لا تُفرِّقُ بين الحقيقة والواقع. بجوفها تسائلتْ مع صوتٍ يائِس : هل هذه أنا حقاً ؟

لماذا من بين جميعِ المخلوقات، إختارها القدرُ لكي تعيشَ بهذا الشكل؟

أبعدتْ يديها عن صفحةِ وجهها وتفقدَّتْ ذراعيها، منذُ يومين فقط كانا حرِشيَّ الملمس والخدوش لا تُفارقهما والآن كُل ما تراهُ هو بشرةٌ حريريةَ الملمس لم يمُسُّها أذى وكأنها لم تتواجد بتلك المصحة.

" هذا غريب أليس كذلك كولانور ؟" حادثتْ الرجل الذي تشكل جسدهُ ببطىء من اللامكان، خصلات فحمية قصيرة وهالات سوداء تمسكتْ بمنطقةِ ما تحت عينيهِ ، لم يقترب من الحوض بل إكتفى بالوقوف من بعيد ومراقبة كالينور .

" بالطبع هذا غريب كالينور، أنتِ مشعوذة وصِنفنا لا يستطيع معالجة الجروح، لربما تكونُ قواكِ الجديدة هي السبب." نبهها بنبرة مُشتاقة لها مُبتسماً بسخرية كي يُغير من مزاجها قليلاً لكنها لم تنظر لهُ حتى.

" لقد أخبرني بأنهُ يعلم بما أشعرُ به، يعرف كمية الوجع الذي أتعايشُ معه.أليس هذا مُثيراً للسخرية ؟" أنهتْ كلامها تُحرك رأسها بإستنكار وكأنها لا تُصدق ما يخرجُ من فاهها. لو قال ذلك لها قبلَ حدوثِ ما تسبَّبَ بإنقلابِ حياتها لكانت إبتسمتْ لهُ وإحتضنتهُ على مدى لُطفِ كلماته، ولكنها لم تَعُد بالماضي بل هي الآن بالحاضر...حيثُ تُعيشُ بكابوسٍ لم تحسبْ حِسابه.

" لم يفقد والديه ولم يتم نبذهُ من العالم السفلي، لم يتعرض للصعق والتحرش يومياً ، ولم يتم إتهامهُ بقتلِ والده ، لم يتعرض لما تعرضتُ له فكيف لهُ أن يعلم بما أشعر بِه !" سكنتْ لوهلة بعدها فتحت فمها مُجدداً " هو لا يعلمُ شعور الحرمان الناجِم عن خسارةِ كل شيء."

" من الواضح أنهُ كان يحاول مواساتكِ فقط."

" هو لم يواسيني بل زاد من حالي سوءاً، ليتهُ إكتفى بالصمت ولم يقل ذلك. أكرهُ مواساتهُ لي." أجابتهُ بسرعة ومع صوتٍ محنوق وحاقد فزمَّ كولانور شفتيه وتنفس بثقل من قوة الجو السلبي الذي أحاط الغرفة بسبب مشاعرها.

" هل تكرهين مواساتهُ لكِ أم تكرهين حقيقةَ أن خادمكِ يُشفق عليكِ ؟" فورما نطق بسؤاله إتجهتْ رقبتها نحوهُ بطريقة مخيفة، لمعت خضرواتيها بحدة وكأنها تُرسل رسالة عبرهما بدون الحاجةِ لفتح فمها والشروع بشتمه.

" أنت لئيم."

" أنا فقط صريح."

أخرجتْ تنهيدة مُرهقة من رئتيها ثم تركتْ جسدها يرتخي على الحوض، كانت ترغبُ بالبكاء مُجدداً والتنفيس عن ضيقها لكنها لم تستطعْ. هي تشعرُ بتلك الفوهة بداخل قلبها، تجذب الألم والوجع نحو البقعة المحفورة. تنقبضْ وتضغط على صدرها. فكلما سحبتْ الكثير من الألم كلما تضاعَفَ حجمها.

" لعلمك فقط، أنا لا أحتقِرُ ليوسايدن وإنما لا أقدِرُ على تقبل ما آل بهِ الوضع. لقدُ كنت أميرة المشعوذين والآن مجرد أسيرة لملك مصاصي الدماء والذي يكونُ خادمي." شرحتْ لهُ بهدوء.

" أنتِ لستِ أسيرة. هو يُعاملك بكل إحترام."

" ألم ترى نظراتهُ لي ؟ ليوسايدن مهووس بي وبإمتلاكي فقط. هو لا يُحبني." صحْحتْ لهُ وجهة نظرهُ بلامبالاة ثم إغروقتْ خضرواتيها مُجدداً وكأنّ ما خرج من فمها آلمها عكس تعابيرها الباردة.

حينما لاحظ كولانور لمعان حدقتيها إتخذ بضعة خطوات نحوها ثم جلس بالأرض بجانِبِ الحوض مُديراً رأسهُ جهة الباب، سكِن بوضعيتهِ عدة دقائق يِرتِبُ فيه كلامه بعدها مضى بجُملِه المُفصلة.

" حالتكِ لاتسمحُ بأي مخططات، أنتِ محطمة بالكامل وتمتلكين قوى مجهولة وغير مروضة، العالم السفلي يرفِض وجودكِ تماماً ولا أحد بجانبكِ غير ليوسايدن، سواء كان مهووساً بكِ أو يحبكِ كل هذا لا يهم، أنتِ بحاجةٍ إليه لهذا لا تبتعدي عنه حالياً إلى حينِ تبيُنِ بعض الحقائق."

" الكلام سهل، لا أستطيعُ أن أثق بهِ. إنهُ مثير للشبهاتِ كثيراً ولا يُجيب على أهم الأسئلة التي أطرحها عليه."

" سايريهِ فقط. لن يدوم وجودكِ معه."

صمتتْ لبرهة من الوقت بعدها بدأت تضحكُ بتقطُّع ، ترمي بقهقهة ولا تُكملها بل تسكتْ لبِضعِ ثوانٍ ثم تُعيد الكرَّة. إماراتُ وجهها كانت تتغير بلا إذنٍ مُسبق ولا تثبُت على حالها  فتبعثرتْ ملامِحُ كولانور بقلة حيلة من تصرفات أختهِ الغريبة. نهض من على الأرضية الرخامية ثم توجه نحو الزواية التي جاء منها منذ البداية ثم إختفى.

" أيتها الخادمة !" صرختْ كالينور مُناديةً على الفتاة الواقفة خارج الغرفة لتراها أمامها في نصف ثانية، تفقدتها بينما تُحني رأسها للأسفل غير ناظرةً لها فتقوستْ عينيها بحزن عندما تذكرت خادمتها جولييت.

" منشفة من فضلك."

" حاضر سموك." ناولتها حاجتها فخرجتْ كالينور من الحوض لافةً المنشفة حول جسمها الهزيل ريثما تبتسمُ للخادمة بلطف.

" هلا أحضرتِ مقصاً من أجلي ؟ أريدُ منكِ قصَّ شعري." إستفسرتها كالينور بأدب فلاحظتْ التوتر الذي غمر حمرواتيها من طلبها لكن ما أدهشها رُغم معرفتها بهِ ورؤيتها له لعديدٍ من المرات هو برود تعابيرهم مهما كانت نوعية مشاعرهم.

" لا داعي للخوف، أرغبُ حقاً بقصِّ شعري كبداية جديدة." طمأنتها بنبرة حنونة فإنحنتْ لها الأخرى وإختفت من مرآها جالبةً المقص بعد ثواني فقط، إنتظرتها الخادمة أمام الباب كي يخرجوا من الحمام فتحركت كالينور ناحيتها ببطء مُميت.

ما إن وصلت لجانبها حتى إنتشلتْ المقص من يديها وغرستهُ بصدرها مُخترقةً قلبها الشبه ميت، سالَت الدِماءُ من عينيْ الخادمة فإبتسمتْ كالينور مُجدداً لها لكن مع ندمٍ ظاهر وكأنها تودِّعُها، سحبتْ المقص من صدرها ودفعتها مُتسببةً بإفتراشها للأرض.

جثةً هامدة.

قبل شروعِها في خطوتها التالية رفعت يديها للسماء وأغلقتْ عينيها مُستجمعةً قواها بالكامل ، إنتظرتْ طويلاً عكس المرة المُنصرِفة فخلقُ حاجز قوي يحتاجُ لفترة أطول وخاصةً لو كان حاجِزاً يمنعُ رائحة الدماء من التسلل خارجه ويصُدَّ نتوء صوت من بِداخله.

نزلتً لمستواها ثم بسطَّتْ كفيها فوق جسدها مُتمتمةً بتعويذة خاصة.

[ زوالُ الدمِّ والمياه، أعِدنَا لصفاء أرواحنا.]

ما إنْ كررتْ الجملة ثلاث مرات حتى بدأت دِماءُ الخادمة تتبخر وتتحول لهواء،  عُولجِتْ الفوهة التي بجهة قلبها وعاد جسمها نظيفاً وكأنها لم تتعرض للطعن. تنفستْ كالينور بتعب من إستعمالها لقوتها في حُين تحتاجُ  للطاقة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

" مالذي فعلتِه !"

إستدارتْ لمواجهة كولانور الذي عاد للغرفة مُتوقعاً أن يجدها قد سترتْ نفسها بالمنشفة ليَجِد جثةً تنتظرهُ. مشى نحو مكان الخادمة الميتة يُحدق فيها بصدمة غير مُصدقاً لما إقترفتهُ شقيقتهُ.

" منذ متى تقتلين ! ألستِ ضد أفعالِ جنسنا !"

" أُحب التغيير. كنوعٍ من الترفيه." لم تُجِب بجدية وإنصاعتْ للحنِ محادثتهِ معها بجدية مزدرية وقد توجهتْ مِجدداً للحوض داخلةً فيه مع المنشفة، تمددتْ فيه تغسِلُ الدم المُحيط بالمقص.

حملقَ فيها كولانور بدهشة من لا مبالاتها وتغير شخصيتها الكبير، شقيقتهُ الحقيقية لن تقدِّر على إيذاء أحد ولو بالكلام فما بالك بقتل روحٍ. ناظر جثة الخادمة لآخر مرة ثم فتح فمهُ قائلاً كلمة واحدة فقط.

" لماذا ؟"

" أحتاجُ لمعلومات، دراسة محيطي قبل التخطيط. ولن أستطيعَ التِجوال بالقصر بدون معرفةِ ليو ،حتى ولو فعّلّتُ تعويذة الإختفاء فهو سيشُمُّ رائحتي. لهذا أحتاجُ لجسدٍ آخر كي أتحرك بحرية."

فسّرتْ لهُ سبب قتلِها للخادمة بعدما إنتهتْ من غسلِ المقص ثُم جرحت بهِ إصبعها الإبهام ورسمت بدمائها نجمة خماسية أعلى صدرها ، تحديداً تحت عنقها وفوق نهاية المنشفة التي تُغطي نهديها. مصتْ إصبعها من البقايا ثم وضعت المقص على يمينِ رقبتها ورددتْ.

[ شيطاننا الأعظم، بجبروتك نستَلِذْ وبقوتكِ نستبِدْ.]

همست أول جملة بنبرة خافتة وباردة ولكن مع ثاني مرة وثالث مرة بدأ صوتها وهي تُرددها يُمسي خاشعاً، وكأنها تتعرضُ للتنويم المغناطيسي. تعيدُ قول الجملة مِراراً وتِكراراً بدونِ كلل ومع ملامح ثمِلة ومنتشية.

[ شيطاني الأعظم. بجبروتك أستلِذْ وبقوتكَ أستبِدْ.]

توقفت عن الكلام بعدها. أرجعت جسدها للوراء مُستلقيةً على الحوض ثم شدتْ على يدها التي تُمسك بالمقص وقالت ما يجبِ قولهُ من أجل تحقيق طقوس خروج الروح من الجسد.

[ إستعاضةُ الوجدان، القُربان فارِغ والآثِمُ مُحتشِد.]

مررتْ المِقص على رقبتها بسرعة فائقة حارصةً على عدمِ تعميق الجرح كثيراً  فهي ليستْ بحاجةٍ لذلك وإنما كل هذا العرض من أجلِ سببٍ آخر لم يستطعْ كولانور المُتجمد بمكانهِ معرفته. لم يقُل حرفاً بل فقط إكتفى بالنظر لشقيقتهِ المُخيفة والمتغيرة.

أيُعقل أن الألم كفيلٌ لتغيير شخصٍ بالكامل ؟

إنسدلتْ الدماء نحو النجمة الخماسية التي رسمتها منذ قليل فأضائت لثانية وخرجت شهقة متوجعة من كالينور. طاح المقص من يدها ومعهُ ذراعها التي غرقت بجانبِ فخذيها تحت الماء. لم يرتجف جسمها مثلما توقع كولانور فهذا ما يحدُث عادةً حينما تنتقل الروح لجسدٍ آخر بل خرج من فمها بخارٌ أسود.

إستمرَّ الصمت لبعضِ الوقت ثم تحركتْ جثة الخادمة على حين غرة وبدونِ سابق إنذار. صعقة حركية بعد الأخرى حتى تمكنتْ كالينور من السيطرةِ على جسدِ الخادمة بالكامل. رفعتْ رأسها بغرابة تحوم بداخلها فهذا بالأخيرِ ليس بجسدها بل يخصُ روحاً أُخرى.

" هل حقاً أنت كالينور ؟" جاء صوتُ كولانور من ورائها فإستدارت لهُ عبر رقبتها مُبتسمةً بإتساع مُجيبةً عليهِ بسخرية لاذعة " بالطبع أيها الغبي ، لا تستطيعُ روحها الرجوع مُجدداً لأنني قدمتها كقربانٍ لأتباعِ لوسيفر."

ثم نهضتً من على الارض نافضةً الفستان الرث ومُعدلةً شعرها الاشقر المشدود بواسطةِ قبعة تخصُ الخادمات.

" ومن يقدَّمُ للشيطان الأعظم ظِلهُ لا يُرى وصوتهُ لا يُسمع." ختمتْ كلامها مع سبابتها موضوعةً في منتصفِ ثغرها الذي يُعلِقُ إبتسامة باردة. توقفتْ عن مزاحها المسموم حينما لم يستقبِل شقيقها كلماتها وقد قلبتْ عينيها بملل من ردة فعلهِ الغير مُرضية.

عندما كادت تُغادر الغرفة كي تبدأ رحلة إستكشافها للقصر ناداها كولانور سائلاً ما كان يُخفيه منذ بداية الطقوس.

" ماذا عن جسدك ؟ أنتِ لستِ خالدة وبقطعِكِ لرقبتك مع كمية الدماء المُنهمرة ففرصةُ نجاتكِ ضعيفة للغاية." حرَّك فمهُ ريثما يمشي نحو جسم كالينور الحقيقي، توقف هُناك بجانبِ الحوضِ الذي أمسى بحيرةً من الدم. جُرح عنقها مازال طازجاً يضُّخُ سائلهُ الأحمر بلا توقف.

" لا تخَفْ.هُناك أشياءٌ أنتَ لا تعرفها ولا يُجدرُ بي معرفتُها أيضاً لكنني سأُزيف جهلي بها لمسرحيةٍ أفضل. فهذا بالأخير ما يبتغيهُ ليوسايدن." رمتْ بكلماتها الغريبة ثم صفعتْ باب الحمام خارجةً من تلك الزنزانة المدعوة ببيتِ الراحة. راحةٌ تقصُّ أجنحة من يدخلها.

تلبَّسها البرودُ على حين غرة وتصلبتْ تعابيرها مُقلِدةً صنف مصاصي الدماء. فتحتْ باب الغرفة وخرجتْ منها مع وقفة مُستقيمة ووِقار يتماشى مع شخصية الخادمات هنا، لم ترمي بنظرة نحو الحارسين الذين كانا يِقفان على جانبي مدخلِ بيتها بل تجاهلتهما ظناً منها أنهُ لا يُجدرُ بها محادثتهما.

" أيتها الخادمة، إلى أين أنتِ ذاهبة ؟ " نطقَ أحدهما ببرود فإلتفتتْ كالينور ناحيتهما مُحافِظةً على هدوئها التام بعدها أجابت بنفسِ نبرته " سموها لا تحتاجني ، وقد أرسلتني في تلبيةِ طلبٍ يخصها."

" أوامِرُ جلالته كانت واضحة، لا تتركِ جانبها البتة حتى ولو أمرتكِ بذلك فما معنى كلامكِ هذا ؟" إستجوبها الحارسُ الآخر وهو يُحدقُ بها بشك ومضَ على حمراوتيه فتزعزعتْ ثقتها قليلاً.

" طلبها كان نقلُ كلام خاص لجلالته."

صمتَ الحارسين بعد جملتها المختصرة فحَملقا فيها لوهلة ثم قرر أحدهما تحذيرها من قراراتِها الخطيرة " أنتِ تعلمين عاقِبةَ من يُخالف أوامره، ولو حدث شيءٌ لتلك السيدة فهو سيُحرقكِ حية."

" بالطبع أعلم. والآن إعذراني."

أنهتْ المُحادثة الموّترة أخيراً ثم صفعتهما بظهرها وحاولتْ بأقصى جُهدها ألا تتعثر أو تنعقِدَ رجليها من التوتر، لم تقْدِر على التنفس جيداً طوال مشيها عبر الممر الطويل فالحرسُ كان بكل مكان والخادمات تتحركُ بسرعة.

إنعطفَت يميناً تَتبعُ خادمة كانت قد مرَّت عليها من ورائها منذ ثواني فإنتبهتْ لها الاخيرة وإستدارتْ مواجهةً إياها. تجمدتْ كالينور بمكانها غير قادرةً على التفكير بخطوة ما كي تُنجيها من هذا الموقف لكنها تنفستْ بأريحية عندما ضربتها الخادمة على كتفها بخفة مُردفةً.

" مالذي تفعلينهُ هنا أيتها الخرقاء ؟ ألم يأمركِ جلالته بنفسه بأن تُراقبي السيدة ؟" كلّمتها بنبرة باردة كمثلِ أي مصاص دماءٍ لكن عيونها إشتعلتْ بشعورِ القلق والخوف وقد أذهلتها هذه الميزة الغريبة فيهم.

" لقد أرسلتني لأطبخ لها بعض الطعام."

كان هذا جواباً غبياً.

" وماذا عن مكانك ؟ أنسيتِ أنها هربتْ البارحة ؟ لو علِم جلالتهُ بفِعلكِ ل..." أغلقتْ كالينور فمها بسرعة مما جعل الدهشة تعتلي حمراوتي الخادمة وكأنها لم تتوقع هذا من صديقتها.

" الملك يمتَلِكُ آذاناً بكل مكان أنسيتِ ؟"

وبالحقيقة هي قالتها كنوعٍ من معرفتها بليوسايدن وأفعالهِ بالماضي فقد كان يستَرِقُ السمع دائماً ولو كانت بعيدةً عليه بمئة متر. يأتي بالإشاعات التي يتادولها الخدمُ والحراس وحتى كلام مجلِس الشيوخ وبالرغمِ من إستغرابها آن ذاك من هذه الميزة التي لم ترها بأي مصاص دماء لكنهُ أخبرها بأنها طفرة جينية وهي الحمقاء صدقتهُ.

" معكِ حق، إتبعيني." أومئتْ لها الخادمة ثم أمسكتْ بيدها وسحبتها معها بسرعة نحو المطبخ. مروا عبر الكثير من الغرفة المغلقة وقد تمنتْ لو أنها لم تلتقْ بها لكانت الآن تُفتِش بهذه الزوايا. لكن المطبخ لم يكِن سيئاً فهو بالأخير عُشُّ الخدم حيث تنبثِقُ فيهُ الألسنة وتنطلقُ فيه الإشاعات نحو باقي القصر بدون مكابح.

وصلتا للمطبخ فبدأتْ بنقلِ بصرها من طباخٍ لآخر مُحللةً هيئةَ كل واحدٍ منهم لكنهم تقريباً بنفسِ العمر. كلهم شباب لا يكبرون بالعمر ولا يمسُّهم الشيب ولا التجاعيد وفوق ذلك ملامحهم  جامدة وهذا أسوأ من مسألةِ خلودهم.

" والآن دعيني اُكمل، مالذي تِفكرين فيهِ واللعنة ؟"

" ماذا ؟"

" ماذا ؟ دولوريس مالذي حلَّ بكِ اليوم ؟ أنتِ تتصرفين على غيرِ العادة." رمتْ الخادمة بملاحظتها بقلق يشوبهُ الشك فقرأتْ كالينور ذلك بعينيها فكادتْ تبتسم كي تُبعِد الشك لكنها تداركت نفسها وردَّت عليها بتعابير باردة " حلِمتُ بكابوس فقط، لماذا تتكلمين بالمطبخ ؟ ألم أقُل أن جلالتهُ يسمعنا ؟"

" أكانَ الكابوس سيئاً لهذه الدرجة ؟ حراسُ الظل لا يستطيعونَ الإختباء بالمطبخ."

" حراسُ الظل ؟ من هم ولماذا لا يستطيعون دخول المطبخ ؟"

إبتلعتْ لسانها بندم حينما فضحتْ نفسها أمام هذه الفتاة فخافتْ أن تشَّكَ أكثر لكنها إنصدمتْ مرة أخرى عندما إحتضنتها قائلةً أمام أذنها بهمس خافت " يبدو أنكِ حلمتِ بذلك اليوم ولهذا تتصرفين بجنون. لا بأس دولوريس."

" شكراً لك." سايرتها كالينور بتوتر بعدها أبعدتها عنها وتوجهت لطباخٍ كان يِقفُ أمام النافذة يُدخن سيجارته بإستمتاع فقاطعتهُ بحدة مُناديةً إياه فإلتفتَ لها مع صدمة بعينيهِ فشتمتْ روح دلوريس مُجدداً فما صلتها بهِ أيضاً لكي ينصدمَ من كلامها معه.

" سموها ترغَبُ بطبقِ لحم بقري تحديداً، مع بضعِ خضروات مسلوقة." أعطتهُ أمرها ثم تركتهُ بدون حاجتها لسماعِ رده وعادتْ للخادمة التي تكونُ صديقة صاحِبة هذا الجسد ثم سحبتها لزاوية المطبخ وسألتها راميةً خوفها من الإمساكِ بها عرض الحائط.

" من هُم حراس الظل، ولماذا لا يستطيعون الدخول ؟"

" اللعنة دولوريس ! أنتِ تُخيفينني، المهم...حراس الظل هم عبارة عن مخلوقات من الظلِّ لا تُطيع إلا الشيطان الأعظم لوسيفر أو جلالته. والملك يستغلهم في إمساكِ من يذمُّه أو يخطط لتمردٍ ضده. بالمختصر هم موجودون بالجدران، بالاسرة وبالأسقُف. وبما يُخص موضوع المطبخ فلا يدخلونه لأنهُ يحتوي على الدماء بكثرة.هم  مُجرد أرواح بشرية تم التضحية بأجسادها كُقربانٍ للشيطان الأعظم ولأنهم تعرضوا للذبحِ في حياتهم السابقة فهم لا يقتربون من الدمْ."

تمزقَتْ أفكارُ كالينور بعد سماعها لهذه المعلومات فخافتْ لو كان الحاجزُ الذي صنعتهُ في الحمام غير مُضادٍ لهم، أو لربما شعروا هؤلاء الحراس بشيءٍ غريب يمنعهُم من دخولِ الحمام وأخبروا ليوسايدن بذلك. ولكن لو حقاً حدث ما تخشى حدوثه لما كانتْ تتكلمُ بحرية مع هذه الخادمة.

هذا يعني أنَّ ليوسايدن لا يدري بعد.

" هل هذا يعني أن سموها كالينور تتعرضُ للتجسس أيضاً."

" لا أظُنُّ ذلك فالملك يُحبها ولن يدع أحداً يراها وهي عارية بالطبع."

كادتْ كالينور أن تضحك في وجهها ولم تعلم أكانت بسببِ نكتة الخادمة الباردة أم لسعادتها من كونِ خطُتها لن تفشل. هوسُ ليوسايدن يُساعدها في بناءِ مخططاتها لهذا يجِبُ عليها مسايرتهُ حالياً لحِين هروبها من هذا المكان الخانِق.

صمتتْ كِلتاهما بعد هذه المحادثات الغريبة فلاحظتْ كالينور تحديقَ صديقتها الخادمة فيها مما جعلتها تخافُ من إحتماليةِ كشفِ تلبسها فتحركتْ مُبتعدةً عنها لكي تسأل الطباخَّ عن طبقِ اللحم البقري.

" إنتظري لخمس دقائق إضافية."

" حسناً."

" غريب، تنتظرين لخمس دقائق من أجل طبق ولكن لا تُعطين حبيبكِ دقيقة واحدة لِيشرح موقفه." قال الطباخُّ بنبرة باردة تنمُّ على حنق بان من طريقة تحريكهِ للمقلاة بغضب فشتمتْ كالينور مُجدداً روح دولوريس وعلى علاقاتها الكثيرة. حبيب وصديقة وماذا ينتظرها أيضاً يا تُرى ؟

" علاقتنا إنتهتْ، لا أرغبُ بسماعِ حرف." إستجابتْ لهجومهِ عليها واثقةً أن هذا هو الردُّ المناسب لكي تنسابُ بهدوء بدونِ الحاجةِ لإثارةِ الشُبهات أكثر لكنها تعرضتْ لصفعة قوية من ردِّه.

" ألم تقولي بأن نبتعِد لفترة فقط ؟ كيف صرنا منفلصين ؟"

" هذا غريب أليس كذلك ويليام ؟ إنها تتصرفُ وكأنَّ روحاً تلبستْ جسدها ؟" جائتْ الخادمة الأخرى من ورائها مُعلِّقةً بحاجةٍ من الغرابة والشك فقام ويليام برفعِ المقلاة ووضعِ قطعة اللحم بالطبق . أنسقَهُم بالطاولة الحديدية المُتحركة ثم اضاف من بعدِ الأخيرة " حتى أنها بادرتْ بالكلام والبارحة تجاهلتني بينما اُناديها لمدة نصف ساعة."

" ظروف العمل من أجبرتني على مُحادثتك لا أكثر ولا أقل. أين الخضروات المسلوقة ؟" تهربتْ من الموضوع وقلبها ينبض بسرعة وكأنهُ سيخرج من صدرها ويركض راجعاً لغرفتها.

"إنتظري لخمس دقائق."

بعد قولِه البارد تركتهُ وذهبت للغرفة الثانية التي تكونُ متصلةً بالمطبخ وكانت عبارة عن مخزن للدماء واللحوم الطازِجة، وجدتْ ثلاث خادمات يَقِفن مع بعض ويتبادلون بعض الجُمل وما إن إنتبهوا لكالينور وهي تدخُل حتى حيووها فإستغلتْ الفرصة وتقربتْ منهن كي تسْحبَ المزيد من المعلومات."

" مالذي أتى بِكِ لهنا دولوريس؟ ألستِ مُكلفةً بحراسةِ تلك الأميرة المنبوذة ؟" صرَّحتْ إحداهن فتصلَّب فكُّ كالينور وإحتدتْ عينيها غير قادرةٍ على التحكُمِّ بإنفعالاتها، إلا أنها بالأخير إبتلعتْ تلك المرارة.

" طلبتْ طبقاً لكي تستعيدَ طاقتها ،أنت تعرفون جِنس المشعوذين، ضًعفاء للغاية." شتمتْ نفسها وصِنفها الذي تُحبه فهربتْ بِضع ضحكاتٍ باردة لا تمتُّ بصلة للسعادة أو المرح، وكأنهم أموات. وكأنهم مجبورين على القهقهة.

" لقد رأيناها البارحة ، ليستْ بذلك الجمال وخاصة شعرها الفحمي. لقد سمعنا أنكِ ساعدتها بالإستحمام فهل جسدها جميل ؟ هل تمتلكُ خصراً منحوتاً ؟ " إستفسرتها خادمةٌ أخرى بفُضول فأومئن البقية وهم ينظرون لها بتطفل وكأن إجابتها سُتغير حياتهن.

" حسناً... جسدها نحيل ولكن ممتلئ في بعض الأماكن، وخصرها منحيٌّ بدقة وكأن والدتها قد قامت بنحتِّهِ بينما تحتضنها برحمها."

" تباً، علِمتُ بأن جلالتهُ يحبُّ الخصر المنحوت، ولكنهُ يستحقُّ واحدة أفضل منها بصراحة أليس كذلك ؟"

" بالطبع ! الملك وسيم ويمتلِكُ جسداً ضخماً ورجولياً. برأيي من تستحِقُّ الوقوف بجانبه كملكة لنا هي إمرأةٌ ذات شعر أشقر وكأنهُ آتٍ من خيوطِ الشمس البشرية، شاهقة الطول مع منحنياتٍ تُفقد العقل. حمراوتين قانيتينْ والأهم من كل هذا أنيابٌ حادة تخترِقُ القصبة الهوائية من طولها." شرحتْ الثانية مع وجهٍ ثابت لكن النشوة مرَّتْ عبر عينيها فرمشتْ كي تعودَ لرُشدها ثم وجهتْ بصرها لكالينور كي تُناقشها أكثر.

لكنها صُدمتْ لما رأتْ.

كانتْ كالينور ترسمِ إبتسامة عريضة على طولِ فمها لدرجة أن أسنانها كلها بانتْ، حمراوتيها مُتسعة على كبرها ويديها ترتجف من قوةِ ضغطها على فكها وعلى أعصابها.

" دولوريس ؟" تلفظّتْ من كانت تتكلمُ منذ برهة ثم أرستْ كفها على كتفها لكي تطمئنَّ عليها ، مالبثتْ أن تُعيد مناداتها حتى طاحتْ إبتسامتها وغادر ذلك الجنون الذي إستعمرَ ملامحها منذ قليل. خفتْ حِدَّةُ عينيها وعادت نظرتها الباردة مُجدداً فتوترت الخادمات من إنفصامها.

" معكم حق، الاميرة لا تُناسِبُ ملكنا البتة، فهي يتيمةَ الوالدين وقدْ تم نفيها من مملكتها ومن العالم السفلي بأكمله وهذا لن يُساعِد في علاقات مملكتنا مع باقي الأجناس بل سيُضاعف إنسِحاب حلفائنا أكثر. تندرِجُ من أضعف صِنف وكأنها بشرية عادية. جمالها لا يُضاهي جمال نساءنا." إستمرتْ بدون توقف ولو لثانية ثم قامتْ بتعليقِ إبتسامة خفيفة باهتة وأضافتْ.

" ولكن جلالتهُ يحبها."

سقطتْ الفرحة بعيونِ الخادمات فإبتسمت داخلياً بسخرية وردة فعلهم جعلتها تُلحقُ المزيد " لقد رأيتها تصفعه وهو لم يفعل شيئاً غير الركوع تحت رِجليها كالكلب الذي لا يستطيعُ ترك مالِكه."

" حقاً ؟ هل صفعته !"

" ماذا ؟ وهو ركع لها ؟ ملكنا ؟"

" فلتُقدّمْ روحي للشيطان الأعظم لو كُنت أكذِب، كما أنها مجنونة وليست بعقلِها ، لقد قامت بغرسِ سكينٍ في صدرِ رئيس الخدم لأنهُ رمقها بإستحقار وفوق ذلك جلالتهُ خنقهُ وكاد يقتُله لولاها، لم تعفو عنه بل أمرتهُ أن يكون كلبها والملك غار من قولها."

" ماذا ! "

"مستحيل ! لا أستطيع تخيُل ذلك."

حاربتْ لكي لا تنهار أمامهم ضاحكةً فأدارتْ جسدها ماسحةً وجهها ولكن لا جدوى فقد بدأت تعابيرها الباردة تتشقق وتظهر علاماتُ الضحك وفي تلك الثانية تذكرت واقعها فتجمد الوقت وتوقفتْ عن الإحساسِ بمحطيها.

" لماذا تضحكين ؟ "

رفعتْ بصرها للأمام ولم ترى الطباخ أو تلك الخادمة التي تزعم بأنها صديقتها، لم يكُن هناك أحد بل فقط والدتها جالسةٌ فوق حافة السطح الذي يطبخون فوقه وكأنها بنفسِ تلك الليلة.

" نسيتِ والدتكِ بهذه السرعة، تلهين وتضحكين مع أقرفِ صِنف بالنسبة لي . ألا يُمكِنكِ تمثيل الحُزن علي ولو لمدةٍ أطول ؟" عادتْ تُحادثها مُجدداً فإرتعشتْ مقلتيّ كالينور بهستيرية وإنفرجت شفتيها من كميةِ النكد الذي سقط عليها من ثِقل كلمات والدتها الميتة.

" معها حق، أما بالنسبةِ لي فلا بأس بنسياني يا إبنتي فأنا أعلمُ بمدى كرهكِ لي ولصورتي." جاء صوتُ والدها من اليمين فإتخذتْ خطوة واحدة كي تصِل للباب وتستطيعَ رؤية ظِلهِ فإنبثقتْ شهقةٌ من صدرها وتراجعتْ مُفترِشةً الأرض بسببِ تعثرها.

هاهو والدها. مِلك المشعوذين، يِقفُ بعيداً عن والدتها والسكين مغروسةٌ بعُمق داخل عنقه حيث الشريان السباتي ، الدماء تقطِرُ منه لكن الإبتسامة الدافئة مازالت تحيا فوق ثغره.

" أنا آسفة...أنا آسفة." خاطبتهما بهمسٍ خافت وقد اضافتْ سبباً آخراً لكُرهِ نفسها، أنى لها أن تضحك وتستمتع معهم بينما والديها مدفونين تحت الأرضِ بسبعة أمتار ؟ وُرغم معرفتِها بأن هذا من نسجِ خيالها وبأنها تكادُ تصبح مجنونة إلا أنها عِلمت بأن هذا الوهم يُشابه ما سيقولانه.

جلستْ هي ُهناك فوق الأرضية تنُظرُ لهما بإنكسار وبؤس لما آلت لهُ عائلتهم السعيدة ورويداً رويداً بدأ كلاهما بالإختفاءِ كالسراب ورجوع أصواتِ الاشخاص الواقعية بدخولِ رأسها، رمشتْ عدة مرات فتفاجئت بجميع من كان بالمطبخ يُحيطها والقلقُ يشوبهم.

" اللعنة دولوريس لقد أخفتِني ! مالذي يحدُث لكِ ؟"

تطلّعتْ لويليام بعد تعليقه فغلبه تأنيبُ الضمير حينما تذكرت بأنها قتلت حبيبته، رمقتْ باقي الخادمات بندم وحُزن وأرادتْ أن تبكي أمامهم وتجثو راجيةً العفو منهم لكنها لم تفعل ذلك بل جُلَّ ما قامت بِفعله كان النهوض وطمأنتهم عبر كلماتها المراوغة والتي إستطاعتْ خُداع الجميع ماعدى واحد.

" هاتِ الخضروات بسرعة، أخافُ أن تغضب وتقطع رأسي." سخرتْ من نفسها مُجدداً فضحك البعض ماعدى الخادمة الأولى، والتي كانت تعرف صديقتها دولوريس جيداً. وقد علمتْ أن بها خطباً ما.

وضعَ ويليام الخضروات بجانب اللحم البقري ثم سلَّم الطاولة الحديدية لكالينور والتي كانت مازالت تلهو مع اولئك الخادمات وبداخِل أعماقها قد عزمتْ على أن تهرُب مع معلومة أخيرة. عِلمها بحقيقة حُراس الظل وحقيقة أن من يسكُن القصر لا يستطلفونها لم يكن كافياً بل أرادت شيئاً أهم من ذلك.

" لكن هل تظنون حقاً بأن جلالته سيجعلها ملكة ؟" رمتْ كالينور بالطُعم مُزيفةً الفضول والجهل لكي ترى ما إذا كان هِناك مالا تعلمه وبالنهاية ظنُّها كان بمحله فما نطقتْ بهِ إحداهن جعل قلبها ينقبض.

" هل تُمازحيينا دولوريس؟ حفلُ التتويج بعد ثلاثة أيام."

إذاً ليوسايدن كان جاداً بكلامه.

مع أنَّ هذا الخبر نزل على مسامِعها كالبرق غير أنها لم تأبه كثيراً بل واصلت النميمة مع الخادمات لفترة من الوقت ثم قررتْ توديعهن والرحيل مع الطاولة الحديدية ذات العجلات ولكنَّ الحظ لم يُكن يوماً حليفاً لكالينور هيليوڤان.

دخل ساڤوي المطبخ مع ملابسه المليئة بالدماء جراء تعذيب ملكهِ له منذ ساعات ومن شِدة الألم الذي سبّّبَهُ له لم يقدِر على تغيير ملابسه بل إكتفى بتركيز طاقته على الشفاء والنهوض مُجدداً ليُمسِك أمور القصرِ كعادته فهو رئيسُ الخدم وبدونه ستُخلق فوضى من أبسَطِ ثغرة.

كمثلٍ فوضى الفتاة التي تِقفُ أمامه.

إعتدَلت الخادمات والطباخين في صفٍ واحد كإحترامٍ له ماعدى كالينور التي كانت كالصنم تَنظُر له بخوف عظيم، بالأخير أفاقتْ على نفسها وتحركتْ جاريةً تصطفُّ مع البقية فرمقها ساڤوي بإرتياب وشك.

" أنتِ ! لستِ جديدة فلماذا تتصرفين ببلاهة ؟"

تيبست دمائها وتبخرت أحبالُ عقلها من صوته الخشن والمخيف والذي لم يحتَجْ له فنظرتهُ الباردة والحادة التي إخترقت جسدها كانت كافية لجعلها تهابُه. حدّقتْ فيه بحدقتيها بعدها تركتْ لسانها يتكلم " أعتذرُ سيدي، اُعاني من بعض المشاكل الشخصية والتي لا أستطيعُ البوح عنها."

خيَّم صمتٌ مرعب بالمكان بعد إجابتها فقرصتها صديقتها من مؤخرتها فإستوعبتْ كالينور أنها كعادتها الجميلة أخفقتْ في إختيارِ الكلمات، عاينتهُ يقترِبُ منها ببطء فإبتلعتْ ريقها ولم تستطع النظر مُباشرةً في جبهته.

" لم أكُن أعلم أن لي عينُ ثالثة بجبيني."

ما إن قال ذلك حتى أنزلتْ بصرها لحمراوتيه في نصفِ ثانية، طاحتْ فيهما لتكتشِف أنه خاصتيه لا يمتلكان مشاعر بل فقط فراغ.

" قبل كًل شيء، أنا لم أسأل عن ماهيةِ مشاكلك ولستُ مهتماً ولو بمقدارِ حبة أرز، ثانياً، المشاكل الشخصية تُترك في المنزل أو الغرفة ولا يُؤتى بها للقصر الملكي ومن يفعلُ العكس يُدلُّ ذلك على مدى سخافته وعدم إستحقاقه لأن يكون خادِما بقصرِ جلالته. لأنها أول مرة تتعرضين فيها للتوبيخ والإنتقاد فسأعفو عنكِ ليس لأنني رحيم بل لأننا خسرنا العديد هذا الأسبوع أهذا مفهوم ؟"

" مفهوم سيدي." إنصاعتْ لهُ كالينور بنبرة ثِملة وكأنهُ قام بتنويمها عبر جليدِ حمراوتيه فأغلقتْ عينيها وفتحتهما مُجدداً كيلا تقع بفخِ هذا الصنف. كان قد إستخدمَ هالتهُ كنبيل عليها حتى يحفر هذه الذكرى في عقلها.

تراجع ساڤوي للوراء ثم رمى بنظرة على الطاولة الحديدية بغرابة فلا أحد يعيشُ بالقصر ماعدى الملك والأميرة التي جاء بها منذ يومين وبُحكمِ معرفتهِ لليوسايدن فإستَبْعد طلبهُ لهذا الطبق.

" هل هذا لسموها ؟"

" نعم سيدي. وأنا من أمرتني بذلك."

أعادْ ساڤوي إتجاهَ عينيه نحو كالينور فإتَّخذ عدة خطوات مُتفقداً تحركات جسمها وإستجوبها " ومن الذي أمركِ بمراقبتها ؟ أكان أمراً مُباشراً من جلالته أم من أحدِ الخدم الأعلى رُتبة ؟"

" لقد أمرني جلالته بنفسه، حالياً سموها نائمة لكنها طلبتْ مني أن آتي بطبق لحمٍ بقري مع بضع خضروات لكونُها لم تأكل منذ فترة."

" ومن أخذ مكانك ؟"

" لا أحد سيدي. لكنها لن تهرب فقد أعطاها جلالتهُ قارورة ما جعلتها تغطُّ بنوم عميق لكن ذلك لم يمنعني من تلبيةِ طلبها بالإضافةِ إلى صعوبة هروبها من القصر فالحرسُ يحيطون كل الجوانب وحُراس الظل موجودون."

شاهد الخدمُ طريقة كلامها معهُ وكأنها تُحادث صديقاً تعرفه منذ زمن وحتى أنها قالت تفاصيلاً حدثتْ بين الملك والأميرة لم يُكن عليها قولها أمام مجموعة من الأشخاص فركَّزوا على ردة فِعل رئيس الخدم فوجودونهُ يخزرها بنوعٍ من المُتعة فغلبتهمْ الصدمة.

" حسناً أيتها الآنسة الغريبة، يُمكنكِ المغادرة."

" إعذرني إذاً." بصقتها بسرعة وأمسكتْ بالطاولة الحديدية وحرّكتها معها خارجةً من المطبخ المشؤوم وهي تشكُر عقلها على إيجادِ هذه الكذبات وتحْمدُ أنها لم تتلعثم أو تبلع أحد الحروف من شدةِ التوتر.

بينما في المطبخ إنتصبْ ساڤوي يُراقب ظهرها وهو يختفي من مرآى بصره. ما إن إبتعدتْ عن المكان حتى إستدار يستفسِر عما كان يرتابُ منهُ ولم يسكُت عقله عنه " رأيتها عديداً من المرات لكنها لم تَكُن هكذا، هل تعاطَتْ محلولاً ما ؟"

" لا يا سيدي، هي فقط حلمتْ بكابوسٍ معين جعلها تتصرفُ هكذا، دائماً ما يحدث لها ذلك." كذبتْ صديقتها الخادمة بالرُغم من إستغرابها منها أيضاً لكنها مازالتْ صديقة طفولتها. في السراء و الضراء.

" أي كابوس هذا الذي يُغيرُ شخصاً لهذهِ الدرجة ؟"

ترددتْ صديقتها من الإجابة فهي لا تمْلِكُ الحق لكي تقول عن مُحتوى الكابوس لأنهُ شخصي للغاية ويُعتبر موضوعاً حساساً بالنسبة لدولوريس، فإنتبه ويليام لذلك، تنهدَ بعمق بعدها فتح ثغرهُ واشياً بما تُعاني منهُ حبيبته " إنهُ عن ذلك اليوم يا سيدي، يوم مذبحةِ الملك."

تخشَّب ساڤوي بمكانه ثم إسترسل " هل هي إبنةُ المربية ؟"

" نعم سيدي، وإسمها دولوريس غاينسكت."

غرَقَ ساڤوي بأفكاره وراح عقلهُ يأتي بذكرياتِ تلك الليلة المأساوية والتي راح ضحيتها ثلاثة عشر عضوٍ قديم ينتمي لجلالة الملك السابق، إستذكر ملامح دولوريس وشعرها الأشقر فتدارك أن الشبه بينها وبين المربية كبيرٌ للغاية ولكنهُ لم يهتم يوماً بهويتها، جُلَّ ما كان يعلمه أنها توفيت تاركةً ورائها إبنة.

" المهم، جلالتهُ سيتناول العشاء اليوم مع سموها ، لا أريدُ رؤيةَ أي دماءٍ فوق المائدة فالأميرة تتحسسُ منه، أريدُ ثلاثة ماكولاتٍ فقط لا أكثر، مُقبلات وطبق رئيسي وتحلية، ضعوا لسموها البطيخ فهي تُحبه." شرعَ برمي الأوامر عليهم وقد خرج من قوقعةِ ذكرياته ، أشرف على إختيارِ أفضل قطعِ اللحم بعدها غادر مُسرعاً المطبخ.

بدأ الخدمُ يتهامسون بينهم.

" دولوريس لم تكذِب ! أرأيتم الدِماء على ملابسه ؟ لقد طعنتهُ بالفعل تلك المجنونة." علَّقتْ صديقتها بدهشة غمرتْ حمرواتيها.

" إذاً فهي قد صفعتْ جلالتهُ ايضاً ؟"

لم تَكُن كالينور تعلم بأن الحظ حالفها أخيراً، وأن كذِبها سيكبرُ لَيغدو مصيبة.


__________

أمبيهههههههه اطول فصل بالرواية حالياً 🫡.

طبعاً اخر تحديث كان بديسمبر فاحرجني الواتباد واضطريت انزل.

رأيكم فيه ؟ فيه شوية مغامرة صح ؟

ادري زهقتوا من الحزن وبعصة كالينور وسميتها فقلت خلي اطلعها تستكشف العالم فأتمنى صدق استمتعتوا ومن هالفصل اقدر اقول انه بتبدأ الأحداث أخيراً وكالينور راح تكشف عن الستار الثاني.

سالفة دولوريس وأمها هذي شي ثاني بعدين بتعرفونه وسالفة كولانور كمان فلحد يسألني لانه يعتبر عامل غموض فلا تبعصوا 😘.

ساڤوي ظهر بالفصل الرابع الي ما تذكر واندعس من ليوسايدن.

وهذي صورة مقربة لليوسايدن المعطوب :







وبس والله شكراً لا تنسوا الفوت عشان انزل اسرع 💚.

Continue Reading

You'll Also Like

353K 19.8K 31
يكرهون بعض لكن ينجبرون على الزواج هي فقدت اهلها بين ليله وضحاها والسبب عمها فأصبحت قاسيه كالحجر لاتلين وهو الى الأن قلبه متعلق بحب الماضي ويعيش مغامر...
ذات ليله By سيلا

Mystery / Thriller

214K 9.5K 36
فتاة من طبقة الفقيرة ذات الالفيين تعيش وتحاول العيش مع اصعب مواقف الحياة تتأقلم مع مشاكل ومفاجئات وحلاوة الحياة ومع مرور الوقت تمر عليها ذات ليله تغي...
2.2M 148K 102
ظننت أن قلبي هذا لم يخلق لهُ الحب ، ونسيت أن بعض الظن أثم
219K 11.8K 52
فتاه يتيمه الاب والام تمت تربيتها عند عمها اخ اباها ولكن بوسط الكره والحقد تذهب أسيرة إلى داع١١ هل يا ترى يأتي شخص ويخرجها من هل عذاب؟ ام القدر لها ق...