Empty Crown | تاجٌ فَارِغ

By Mervadoz

77.3K 3.5K 2.5K

الرّواية من سلسلة Eigengrau " أحبّ كيفَ تراقِبني دائمًا يا أرغوس! " تحدّثت ساخرة و أناملها المضطربة تسير على... More

INTRO
تمهِيد : الظّلال الدّائمة.
١. أعِدنِي الى اللّيلة الّتي التَقينا بها.
٢. كارمِن
٣. المَغِيب.
٤ . نبَضات قَلب.
٥ . مِن جنّةِ عَدن.
٦. جنّة، انتَظِرِي.
٧ . أكرَهُك، لا تترُكني
٨ . مَن تكُون تِلك؟
٩. مُلاحظَاتٌ فارِغة.
١٠ . جينز ازرق
١٢ . المًقنّع
١٣. لأجلِ حبٍّ ابنة.
١٤ . طيورٌ سوداء
١٥ . قرِيب
١٦. شَجرةُ الاعدام.
١٧. لا وقتَ للموت.
١٨. نهايةُ العالم.
١٩. تِلفاز
٢٠ . لاَ أحَد.
٢١. انَا و الشّيطَان.
٢٢. القلعة
٢٣ . قُل نعَم للجنّة.

١١ . خالٍ من العيوب

2.5K 149 125
By Mervadoz

< قِراءة ممتِعة >

حرَسُ الأبراج.

الظّلال الدّائمة.

النّخبة.

المونديجوُ.

اربعَةُ كياناتٍ عاشت لقرونٍ في الظلال دون ان يلحظها احد... و ان حصل شيء كهذا، اختفى هذا الاحد عن الوجود.

يتم اختيارُ الظلال الدائمة لمدة عشر سنواتٍ كلّ عشرين سنة ، خاصّة الاطفال الّذين لا يتجاوزون السنة ... يتمّ منحهم ارقاماً في اولى سنوات حياتهم، و التي تمثل تواريخ ايجادهم.

و هذه الاخيرة تمرّ عبرَ امتحانات مصيريّة كل خمسِ سنوات.

الخمس السنوات الاولى لتحديدِ رُتبته الاولى و تصنيفه بحرفين من  S. A. B. C. D. E. F

F F : تعنيِ عدم تأهل الطفل الى المرحلة التالية... اي الموت.
غير ذلِك، فيتم منحه فرصة ثانية.

S تعني رتبة مميزة.

الخمس السنوات الثانية ترتكز اكثَر على قدرة الطفل على تنفيذ الاوامر... و بنهايتها يتم تصنيفه كذلك بنفس القواعد.

اما الخمس السنين الثالثة، فبنهايتها يحصُل الظّل الدائم على اسم يخصّه...

اما سيتم منحه واحدًا من الادارة ان كان قد تحصل عليه من والديه البيولوجيّين الّلذان لم يرهما بحياته من قبل... كجوهان.

امّا سيختار اسماً لنفسه، كما فعلت نانا و مورتا.

و مثلما سيحصل على اسم، سيتمّ تصنيفه ايضاً الى الطبقة الذهبية، الفضيّة و البرونزية.

الطبقة الذهبية هي الطبقة المرشحَة لنيلِ منصب المونديجو، و عادةً ما تكون رتبهم SS , AS.

الفضّية هي المرشحة لنيل منصِب مساعد و مستشار المونديجو الجديد.

البرونزية و هي الطّعم الذي يتم تقديمه بكلّ مهمة.

على الوجه الاخر من العملة، تواجدَ حرَسُ الابراج...
النسخة الموايزة للظلال الدائمة.

حينَ تنتهي العشر السنوات المخصصة لانتقاء الظلال الدائمة، تُفتَح ابوابٌ لمدة عشرين سنة لاستقبالِ حرسِ الابراج التسعة.

حياتهم لا تختلف عن حياة الظلال بكثير من حيثُ لعبة البقاء التي يمرون بها... لكنّ بدلَ الطاعة العمياء للمونديجو التي يتربى عليها الظلال؛ يتغذى الحرس منذُ نعومة اظافرهم على تقديس القوانين التسعة التي تحملها الابراج.... اينَ يُقسمُ المونديجو اثناء تتويجه على تقديسها.

و بالتالي، لا تختلف مهام حرّاس الابراج بكثير عن الظلال...

لكن الاختلاف الاساسي و الاكبر، هو ان الحراس لهم امتيازٌ يفوقون به على الجميع.

حقّ اعدامِ المونديجوُ ان قامَ بتجاوزِ قاعدةٍ واحدة.

و على عكسِ المونديجو، لدينا اعضاء النخبة الّذين قد يتعرضون لعقوبة الاعدام او النفي ان قاموا باختراقِ أربع قواعدٍ من تسعة.

اعضاء النخبة يتكونون من ثمانِ عائلاتٍ ذات اصولٍ قوية، صنعوا بصمتهم على هذه البلاد منذ بداية تعميِرها.

آلُ ديِزل.

آل ريمو.

آلُ سكازوس.

آلُ فُورد.

آلُ ليڤيرو.

آلُ سانتيَانو.

آلُ فانِينغ.

آلُ كلايد.

و بالاخير لدينا  المونديجوُ الذي يدوم حكمه من عشرين الى ثلاثين سنة - هذا ان لم يتعرّض للاغتيال او الاعدام -

كلّ هذا و زارا لاتزال لا تعرِف كلّ شيء عن الناس الّذين عاشت في ظلهم طيلة حياتها.

فَلَتَ فستانٌ من يديها كي يقع ارضاً فأيقظها من شرودها , تعود الى محل الملابس الذي قصدته هذا الصباح.

تنهدت بعمقٍ و هي تقرفص كي تلتقطه مجددا ثم تضعه مكانه... صوّبت اعينها ببطء نحو الظلين الدائمين اللّذان يتبعانها... الى نانا و جوهان اللّذان استقرا اعلى كنبةِ الانتظار، يطالعان كتاباً من خمسمائة صفحة عن رجل مافيا و حبيبته البريئة بكلّ تركيزٍ.

اصابتها قشعريرة باردة  بسبب هذان الاثنين اللذان يتصرفان كما لو ان كل شيء على ما يرام في حين ان لا شيء كذلك في حياتهما الغريبة.

" نانا "
نادَاها بِصوتٍ دون نبرة.

" نعم جوهان "
اجابته بعد ان تنهّدت بارهاقٍ لمقاطعته ايّاها عن القراءة.

" أنتِ تعلمينَ انّه لو وضعَ رجلٌ شيئا كهذا في عضو الانثى... فستُصاب بالتهابٍ حادّ "

قالَ بشيءٍ من التقزّز .

تنهدت نانا مجدّدًا و هو تلتَفت اليه اخيراً بعد ان اغلَقت كتابها بِشيءٍ من العصبيّة.

" جوهان، لما عليكَ افسادُ جوّ الرواية دائما؟ "

بدَا جوهان مصدومًا من ادّعاءات نانا التي لا تمتّ لما قاله بصِلة.

" انظري اليّ، اما انّ كاتبة هذا الكتاب لاتزالُ عذراءَ لم تُركّز جيداً في دروس الصّحة الجنسيّة ، او انّها كاذبةٌ سيّئة... هذه المشاهد الاباحيّة من ضربِ الخيال و لا تمتّ للواقع بِصلة "

تحدّث بِلهجةٍ ساخرة و هو يجمع ذراعيه على صدره و يتكئ على ظهر الكنبة ...

" و من اينَ لك ان تعرف؟ هل مارست الحبّ مع امرأة من قبل ايها الاعذر؟ "
لفظت آخر كلِمةٍ بلهجةٍ حادّة و هي ترمقه بدونيّة؛ جوهان بدورِه ضحدها بنظرةٍ جانبية ثاقبة، بدا غيرَ راضٍ بِلهجتها و لا بكلامها.

" أ تظنين انّني سآخذ مناداتك لي بالاعذر كاهانة؟ "

" لا اعلم، اسأل اذنكَ الحمراء "

ردّدت بلا مبالاةٍ و هي تفتح كتابَها مجدّدًا، تنفّس جوهان الصعدَاء و وقفَ، ثمّ راحَ يقترِب قليلا من زارا التي تتجوّل بالمحلّ الشّاسع، غير قادرةٍ على ايجادِ شيءٍ يروق لها.

اللّيلةَ ستُقام حفلةٌ كبيرة من معارِف عائلتها، و هناكَ ستُقابل خطيبَها العتيد.

بِيرلين خطّط للقاء، و هِي على عكسِ ما توقّعه، تبدو هادئة جدّا... غير مباليةٍ لكونها قد تتزوّج او تبرتبِط بأحد. 

تعانقَت نظراتهما لوهلة من بعيد، احتدّت عيناها حينَ شدّت حاجبيها، لكن سرعان ما كسَرت التواصل النّظريّ ما ان اشَاحَت بنظرها بعيدا...

كما لو انّها غاضبة منه.

أ و لا يحبّها؟ أ و لا يناديها بجنتي؟ يرسمها و يجبرها على شرب الرمان؟ لماذاَ يسمَح لرجلٍ آخر بالاقتراب منها؟

أمضت زارا ليلةً كاملة و هي تتساءل عن بروده المتعلّق بموضوع خطبتها ، خاصّة بعد ان نهتهُ عن قتلِ المرشحين ... و قد آذتها فكرَة انه لا يهتم، و انه لم يحاول مجددًا اقناعها بقتلهم.

مثلها عادَ جوهان الى القاء النظرِ على الفساتين المعروضَة على عارضاتٍ من الخشب...

كان هناكَ فُستان شدّ انتِباهه، أبيض بقماشٍ شفاف فوق قماشٍ لحمي ، كورسيه ضيّق ينحتُ الصدرَ و الخصر، ثم تنورةٌ خيطَت لأجلِ وركَيها النحيلين العريضين...

ذراعانِ صغيرتان برّاقتان، و ذيلٌ مزيّن بالكريستالات الصغيرة.

مزيجٍ باهٍ من البراءةِ و الجرأة، كله اجتمع فيه...

و هو ينظُر الى الفستَان على العارِضة، تخيّله على جسدها النّحِيف، انسِيابَ القماش على خصرِها المقعّر، ثمّ وركِها المنحوت... هذا الكورسيه و هو يشدّ صدرَها النّحيل كي يرفعه .

وضع انامله على منتصف البطنِ و انزلق بها على طوله دونَ ان يَشعر بِحركتهِ الغريبة... فكّر انذاك في كم انّه يريدُ رؤيتها بهذا الفستان... و كم يرِيد نزعه عنها.

- عليهِ ان يتوقّف عن قراءة كتُب الرومنسية المظلِمة مع نانا -

التَقطته من افكارِه الجامحة اصواتٌ قادمة من جهة زارا، فتحرّك نحو الصّخبِ للاستماع.

" يا الهي زارا ! كيفَ حالكِ؟! اشتقنَا اليكِ جميعًا! "

تحدّثت فتاة شقرَاءُ بنفس عمرها و قد بدَت مبتهجةٍ لرؤيتها.

" انا بخير، و انت؟ "
اجابت زارا و قد ازهرَ خدّاها باحمرارٍ لطيف لرؤيتها صديقة قديمة.

" آه، اعاني مع الجامعة حاليّا! بأي جامعةٍ انتِ على ايّ حال؟ لم اركِ في الجوار "
تذمّرت بتعبٍ ثم نظرت الى زارا تنتظر اجابتها... تغيّر سلوكها فجأةً و انكسَفت شمسها.

" حاليّا لست بالجامعة "

اجابت بحرجٍ و هي تهذّب شعرها من الوراء.

" حقّا؟ لكنك كنتِ متفوّقة! "
عبّرت عن اندهاشها، فلا احد لا يتذكّر كم كانت زارا مثابرةً للحصول على المنحة حتى و والدها يملك كلّ تلك الاموال.

" ظروفٌ خاصة "
همست بصوت منخفض و هي تبتسم بضيق... ابتسمت صديقتها مجددا مخففةً الجو الكئيب الذي حلّ بينهما.

" بالمناسبة، تبدين جميلةً بالشعر القصير "

احمرّ خدّاها مجددا من المجاملة فتشكرتها بلطف.
" شكراً "

" لكنّ لأكون صريحة، اشتَقتُ كثِيرًا لشعرِك الطّويل... كنتِ تبدين فاتنةً به! "
تلاشَت ابتسامتها تدرِيجيّا الى اخرَى ضيّقة ، و مات الجو اللطيف الذي حاولت الصديقة خلقه اسرعَ ميتةٍ بالتاريخ...

" أنا آسفة عليّ الذْهاب، سعيدةٌ لرؤيتِك جدّا! رقمِي لم يتغيّر ان أردتِ بعضَ الرّفقة! "
اعتذَرت بادبٍ حينَ نادتها صديقاتها الجديدات للخروج، فلوّحت زارا لها مودعة بنفس الابتسامة الصغيرة.

كانت هشّة جدا حينما تعلّق الامر بشعرها، اكثَر من اي فتاة عادية... لم يكُن مجرّد خصلاتٍ لها، كانَ يحمل ذكريات سعيدة لها، يحمِل لها كلما نظرت عبر المرآةِ انعكاَس والدتها التي لم ترَها من قبل الا عبرَ صورٍ لا تستطيع الدخول اليها.

اخبَرها ايزاك كثيراً كم هيَ تُشبِه والدتهما حينَ تفرد شعرها الطويل على كتِفيها، فما كانت تعقِده يوماً، و كم كانت تقضي وقتها في الاعتناء به... كما لو انها تحاول التمسّك ببقايا والدتها ليس الا.

" وجدتُ لك الفستان المثالي زارا! "

هتفت نانا بجانبها فأيقظتها من شرودها، اشارت لها ان تتبعها ففعلت... و بابتِسامةٍ ماكرةٍ نظرت نانا نحو جوهان و هي تقف امام نفس الفستان الذِي أثار اعجابه.

لوّح جوهان بيده امام رقبته كما لو انه يقطعها، ثمّ اشار لنانا بابهامه... تهديدٌ علنيّ بالقتل قابلته نانا بابتسامةٍ اكثَر اتّساعاً.

" عرِفت انه سيعجبك! "
هتفت مجددًا بفخرٍ و هي تراقص حاجبيها امام جوهان.

و بالفعل كانت زارا مبهورةً بجماله، بريقِه، نعومتِه و جرأته في نفس الوقت ، مثاليّ لنوع الحفلِ الّذي ستحضره ... كانت مُغرَمةً به.

تتساءَل كيفَ لم ترَه و هي منذُ ساعةٍ تتجوّل بالمكان...

لكنّ و يدها تلمس العنقَ المطرّز بكريستالات صغيرةٍ بدقّة، أصابها الاحباط مجددا حينَ تذكّرت ما اخبرته بها صديقتها.

" العنُق مفتوحٌ للغاية... سيكون انسَبَ مع شعرٍ طويل "
همسَت ببرودٍ و هي تنزِل يدها عن العنق.

" لِنبحَث عن فُستانٍ آخر "

رحلَت زارا تاركةً وراءَها ناناَ تحدّق بحسرةٍ الى الفستان، قالت بلا مبالاة.

" ان لم يَنَل اعجابها، سآخذه انا "

صفع جوهان يدها قبل ان تلمسه، أنـت بألمٍ و هي تنفُخ على ظهر يدها.

" ستجعلينه بشِعا "

ابتسمت نانا بخبثٍ ، غمزت له.

" انظروا يا سيّداتي و سادتي الى جوهان الّذي كان يتخيّل العارضة الخشبية حبيبته الجميلة! "

قبلَ ان يحتدّ الصراع بينهما رنّ هاتف نانا بِاغنيةٍ يابانية لطيفة، تراقص اسمُ فيليكس على شاشة هاتفها الزهري فرفع جوهان حاجبه باستفسار.

" من يكون فيليكس هذا؟ "

ابتلعت نانا ريقها بتوتر و هي تُبعد الشاشَة عن مرآه، اعتراها ارتباكٌ واضح مِمّا فضح امر انها تكذِب.

" انّه فقط شخصٌ احتاجه في عملٍ ما "

" اي عمل؟ "

" لا شأن لك! اهتمّ بحبيبتكَ بدلَ مضايقتي!! "

صاحت بانفعالٍ في وجهه، ضيّق اعينه و هو يضع يده على اذنه من حدّة صوتها، و قبلـ ان يفتح فمه بحرفٍ رحلت نانا دون قولِ حرفٍ آخر.

و بالطبعِ جوهان لم يدَع امرَ فيليكس هذا يفلَتُ قبلَ ان يُجرِي تحريَاته.

من الصعبِ التمييزُ بينَ الجراح الجديدة و القديمة على وجهه الوسيم ، نانا تذوب كالشمعِ في حضور فيليكس الذي يدلّلها كما ينبغي.

" اوه، قتلتَهُ بِشبشبٍ اذاً؟ "
تمتمت و هي تفتح فمها، تعتريها صدمة زائفة و هي التي قتلت احدًا بجزرَة.

" هذه محضُ قصصٍ مخففةٍ عن قوّتي يا جميلة "
علّق فيليكس بتفاخرٍ و هو يلوّح بكأس الويسكي خاصّته.
" بالنهاية ان جرحت ملكًا، ينبغي عليك انهاء الامر "
اضافَ بغرورٍ... برقت اعين نانا كالنجوم و وجهها الاحمر يتوسّد يديها ريثما هي تنظر اليه بوَلَعٍ هائل.

" تبدو وسيمًا كما لو انّ مايكل انجيلو رسمك "
انساب مديحٌ لطيف من فمها و هي تتأمل وجهه الوسيم الذي يستوليِ عليه الغضب دوماً.

رفع فيليكس حاجبه باستفسارٍ و هو ينظر الى ناناَ كما لو انها قالت اتفَه شيءٍ بالعالم .

" مايكل من؟ "

" انه رسام مشهور، رسم لوحة الملاك الساقط "
شرَحت له بعد ان اعتدلت بجلستها، بشيء من الحرج و الخجل بعد ان قابل مديحها بهذا التعبير.

تأففَ فيليكس و هو ينظر اليها ذهاباً و ايابًا، ماتت الابتسامة على وجه نانا تدريجيّاً ككلّ مرةيُشعِرها انّها سخيفة و غريبة اطوار.

بدلَ استيعاب انه يقلل من شأنها، استمرّت نانا بِلومِ نفسها على عدمِ التزامها بالشخصية التي ارادت تمثيلها، اي الامتثال لمعاييره.

" لابد انه لم يكن يرسم النساء العرايا لانني لم اسمع به يوماً "
علّق بلامبالاةٍ و هو يُشير للنادل بملء كأسه مرة اخرى.

في تلك الاثناء كان جوهان في طاولةٍ بعيدة يختفي وراء نظارته الشمسية و قناعه الصحي يراقب نانا تتحرك  بدلعٍ و تضحك بغنجٍ لاجل ذلك الرجل الذي يبدو انه يشغل حيزاً اكثَر من قيمته.

" ما الذي تفعله هذه الخرقاء؟ "
تمتمَ بِتقززٍ و انبهار، لم يتخيّل انها بهذه الجرأة لمخالفة الاوامر .

" انها تراه منذُ اسبوع "
صدر صوتٌ ثقيل من ورائه، التفت جوهان بسرعة نحو كيليان المتنكرِ مثله، و قد أذهله الامر ضعفَ الاولِ.

" يشتري لها ملابس فارهة و اشياء كهذه، يدللها ثم ياخذها للمطاعم الغنية "
اضاف كيليان بلهجةٍ ساخطة و هو يعدّل من قناعه.

" ما الذي تفعله هنا؟ "

" ذلك الاخرق، انا على وشكِ القبض عليه "
شرح له و هو ينزع قناعه كي يحتسيَ قهوته.

" كيف هي حال الانسة سكازوس؟ أتمنى انها تشعر بحالٍ افضل "
اضاف كفكرةٍ متأخرةٍ مخفْفًا صدمة جوهان من تواجده.

" اعتقد انها رأت اياماً افضل من الان"
علقَ بصوتٍ ضعيفٍ.

" ما الذي تفعلانه هنا؟! هل تريدانِ افساد موعدي؟! "
صاحت نانا بينهما مُفزِعةً اياّهما... وضع كلاهما يده على قلبِه من الفزع... لم يرَها احدهما حين تقدمت نحوهما و لم يدركا حتى كيف امسكت بهما.

اطلق جوهان سعالاً قوياً مستعيدًا تماسكه.

" بل ما الذي تفعلينه انتِ مع ذلك الاخرق؟! "

" لا شأن لك بي جوهان! "

" نانا اقسِم انني سأخبر بيرلين عن هذا! "
همسَ مهددًا ايّاها لكنها رفعت ذقنها بِعدم اكتراث.

" اخبره! لا اهتم لاحد! ليذهبوا جميعا للجحيم! "

" هل اصابكِ الجنون؟ "

" بل انتم جميعاً هم المجانين! أ لا يحقّ لي ان احبّ؟! كأي انسانَة طبيعية! "
صاحت مجددًا باعينَ تبرق حزناً، نهض كيليان هو الاخر متأففًا بغضب.

" من بين كل الرجال تختارين هذا المعتوه؟! "

" القلب يريدُ ما يريد "
اجابتهُ و هي تطوي ذراعيها على صدرها بِكبرياء.

" و الان اسمحاَ لي، و استمرّا انتما بحياتكما العازبة المزرِية "

" انتظري نانا! "
هتفَ و هو يسحبها من يدها، همس قريبًا من اذنها.

" انا بحاجة اليك في امر ما "

عقدت نانا حاجبيها و نظرت اليه ذهاباً و ايابًا بصدمة... هل هو يسألها للمساعدة؟ و بملامح الجرو اللطيف ايضا؟

والِدها لم يقُل شيئاً بشأنِ الرجلِ الذي تقدّم لخطبَتها و لا حتى بشأن خطبتها...

جوهان لايزال محافظاً على ابتسامته المشرِقة...

بِيرلين لم يُرِها وجهه منذ ذلك اليوم.

لا توجد اخبارٌ جديدة عن شقيقها.

و هي لاتزال متشبتةً ببصِيص الاملِ الذي وعدها به جوهان.

لذلك ستسيرُ حسبَ الطريقِ الّذي عبّدها لها.

ارتدَت فستانًا باهت اللونِ ، هذّبت شعرها برسميّة، تعطّرت بسخاءٍ و جلست تحدّق في القناعِ الّذي اشترته.

الحفلةُ ليست عادية، بل هي تنكرِيةٌ لحدّ ما...

يوجبُ على الحضورِ اعتمارُ اقنعة، و ها هي الان تضغط على الخوف بداخلها، تًخبر ذاتها انها ستكون هناكَ رفقةَ جوهان... و لا احدَ سيستطيعُ ايذاءها.

ستتجاوز مخاوفها، و ستستطيع النظر الى الاقنعة كما نظرت اليها سابقاً قبل ان يقتحِم ذلك القناع الخالي من الملامح و الالوانِ حياتها.

اختَرق طرق البابِ سلسلةَ الافكار قبلَ ان تعودَ بها الى الماضي الذي حبَسته بقًمقُمِها... و بسرعةٍ نهضَت كي تفتح الباب.

" نعم جوهان؟ "

تمتمت بنبرةٍ عادية تزامناً مع فتحها للباب، تجمّدت مكانها حين التَقت اعينها باعينه.

" ما الّذي حدثَ لِشعرِك؟! "
صاحَت بِدهشةٍ و هي تنظر بأعينٍ واسعة غيرِ مُصدّقة  الى شعره القصير جداّ.

شعرُه الطويل اختفى دون وداعٍ كي يترك وراءه شعرًا قصيراً لا يكادُ يحتكّ بأذنيهِ لولا خصلاتُه الامامية الطويلة.

بدت زاراَ كمن توقّف قلبه حرفيّا.

" ماذا؟ أخبَرتني نانا انّني أبدُو أوسَم... "
تمتمَ باحراجٍ و هو يدفع شعره للوراء، بدا هو الاخرُ غيرَ متعوّدٍ على التّجوّل بشعرٍ بهذا القِصر.

" لِماذا؟! "
هتَفت بحُرقة؛ كانت مولعةً بشعرِه الطّويل.

" أعجبتني قصّة شعرِك، لطالما اردت مثلَها "
انسابت كلماتهُ بنبرةٍ هادلة، و سرعان ماَ حلّلت زارا الامر و ربطته مع التقائها بصديقتها القديمة... تداعت ملامحها المصدومة الغاضِبة، و حلّت مكانهاَ تعابِيرُ متحسّرة.

" ما بكِ حزينة؟ أ كانت نانا تكذِب علي ام... "
قصدَ اعيُنها الذّابلة تحتَ حواجبها المقطّبة، فقاطعته على عجل بصوتٍ باكٍ.

" احببت شعرَك الطويل "

" و انا أحبّ شعرَك القصِير "
ردّد وراءها بابتسامةٍ لطيفة حثّتها على ترك الحزن... ذابَ قلبها للمرّة الالف مجددًا امام الامورِ التافِهة التي يفعلها لاسعادها، و مجدداً اشعرها ذلك بالعارِ حين شكّكت في ميلِ قلبه لها.

ابتسمت بحزنٍ و تمتمت بِنبرة مخنوقة.

" لا تقصّه مجددًا... الا اذا لم يعد يهمّك امري "

ضحك متبَسّما و هزّ رأسه بِطاعة، و لكي تنسى امر شعره، أخرج ما أخفاهُ وراءَ ظهره و قدـمَ علبةً مغلّفة بعناية لها.

" اتمنّى ان يُعجِبكِ "

اتّسعت عيناها كالمُروج و هي تحمِل العلبَة و تعايِنها، كانت ثقيلة قليلا ، و بعلامةٍ تجاريّة مشهورة.

أزَالت الأشرِطةَ بِلُطفٍ و فتَحت العلبَة المميّزة... و بداخلِها وجَدت نفسَ الفستان الـذي أعجِبت به بالمحلّ مع قِناعٍ نصفيّ مناسبٍ له.

" سيبدُو رائعًا عليكِ "
اضافَ و هو يشاهد ردّة فعلها التي اعتقد انها ايجابية... كانت تنظر نحوه باعينٍ تبرق ، ملامح مرتبكة و جميلة في نفس الوقت.

بقِيت زارا صامتةً غيرَ قادرةٍ على نبسِ شيء، اقتحمتها الكآبةُ مجددًا حينَ استوعبَت انه قدّم لها هذا الفستان الجميِل لاجلِ مقابلةِ الرجل الذي يتقدّم لخطبتها.

" لماذا اشترَيته لي؟ "
سألت بصوتٍ منخفضٍ انطوى على عتابٍ.

" اللّيلة ستقابلينَ الرّجل الّذي اختاره بيرلين و والدك لك .... ستكونُ ليلةً مميّزةً لكِ "
اجابَ و هو يدفِن يديه عميقاً بجيبي بنطالها، يتحدّث بنبرة عادية.

" لكنّ... "
همست لكنه تجاوزها.

" انّه رجلٌ جيّد، من عائلةٍ عريقة كخاصّتك... يكبُرك قليلاً، لكنّني متأكّدٌ انّك ستكونين سعيدةً معه "

" سعيدة؟ "
رددت وراءَه بصوتٍ مخنوق، لكنّ مجددًا تحدّث كما لو انّ ما لها وجُود.

" ستعيشين معه، تنشئين عائلة معه ، و... "

" هل سيرتديِ قفّازاتٍ سميكةً لاجلي حتّى لو كان الجوّ حارّا؟ "
صاحت بصوتٍ مرتفِعٍ قليلا، تخللتْهُ بعض الحدّةِ غير اللازمة... رفع جوهان بصره الى اعينِها الّتي تعاتبُه على حبّهِ المُهمِل.

" هل سيعتنيِ بقطّة لأجلي؟ "
رددت مرةً اخرى حينَ تلاشت ابتسامته.

" هل سيَعبّئ كأسي بالرمان كلّما حاولتُ البحثَ عن نبيذ؟ "
سألت مجدداً و هي تقترب خطوةً منه، تسعى الى اجابةٍ صادقة منه او من عينيه... لكنه اكتفىَ باخفَاءِ ما فيِ داخله بابتسامةٍ ضيّقة.

" أعتقِد انّ عليكِ تجهيز نفسك الان "

قال و هو يستعد للخروج لتركها بمفردها.

و مثل زارا، أهدَى فيليكس حبيبته اللطيفة فستاناً قصيرًا لا يترُك شيئاً للمخيّلة، معظمُه شفاف... و به دخلت نانا معه نادي التعري و جلست و يده حول خصرها، يتباهى بها امام اصدقائه، شركائه المخيفين و حتى الفتيات.

" هل هذهِ هي فتاتكَ اللطيفة فيليكس؟ "
ردد احد شركائه و سيجارة كوبية تتدلى من زاوية شفاهه، ينظر بأعين جائعة نحو نانا التي لم تشعر بالراحة منه، خاصة و هو ينهض للجلوس بجانبها، و عيناه لا تتركان جسدها.

" تبدو يافعةً مقارنةً بعمرها "
همس بانفاسٍ منتشية و وضع يده على فخدها فكادت ترفع يدها لضربه، لكنها ذكّرت نفسها بالدور الانثويّ الرقيق الذي انبغى عليها تمثيله... فنظرت نحو فيليكس ثم همست له بصوتٍ انثويّ رقيق.

" حبي، ارجوك اخبر صديقك ان يبعد يده عنّ ساقي "

ضحك فيليكس بوجهها فصفعت رائحة الدخان انفها، بدا فيليكس كشخص آخر كليّا حينَ يحيطُ به اصدقاؤه.

" نانا حبِيبتي... انّه صديق لي، لا بأس "

طمأنها و اعينه النذلة تلمع بالاستمتاع، فأصابتها صدمة مؤلمة...

في الكتابِ كُتِب ان البطلَ يستحيِل ان يدَع احدًا يلمس حبيبته بهذا الشكل، يستحيل ان يدعها تشعر بعدم الارتياح كهذا...

لماذا خرج فيليكس عن نصّ كتُبِها الرومنسية بهذه الطريقة الفظيعة؟

" اشربي يا جميلة ، و لا تأبهي "

عرض عليها و هو يدفع المشروب الذي بيده الى فمها، يُجبرها بالقوّة على شربِ الويسكي لدرجة انّها كادت تختنق به.

كأسٌ واحد ثم اثنين، و بعدها ثلاثة... فستانها تبلل بالمشروب و عقلها اصبَح بطيئ الاستيعاب.

شعرَت بجسدها يثقل شيئاً فشيئاً، لم تعُد قادرة على تحريك ابهامٍ.... و لحسنِ حظها كانت تملك قليلاً من الوعي لادراك انها بخطر، و ان شعورها هذا ليس مرتبطاً بالكحول الذي شربته، بل بالمادة التي تواجدت بالكحول دون علمها.

حاربت فنزعت يده الجشعة عنها، لكنّه اعادها... وقفَت لكنها سقطت فورًا على الطاولة فتحطّمت الكؤوس و تدحرج جسدها على الزجاج الحاد...

انجرحت يداها و ركبتاها و هي تزحف للهروب، لا تشعر لا بالزجاج و لا بضحكاتٍ جشعةٍ تتردد فوقَ رأسها عليها...

انطفأت كلّيّا و ارتطم رأسها اخيراً بالارض حين خارت قواها كلّيّا.

كولِيمةٍ من القرن السابع عشر ، اجتمَع الضّيوف حولَ الطّاولاتِ المحمّلة بالاوعيَة الذعبيّة و الفضّية...

الرّجال بقفاطِينهم الفاخِرة، و النساءُ بِتيجانهنّ المرصّعة... لم تكُن حفلةً تنكريَة بقدرِ ما كانت حفلةَ تفاخرٍ بالمال و المستوى الاجتماعي.

و هناكَ قريبًا من نافورةِ الشامبانيا، وقف رجلٌ عجوز جشعه يتدلـى من وراء قناعه، يكاد صوته يخترق طبلة اذن زارا التي منعت نفسها للمرة الالف من دفعِه الى النافورة و اغراقه.

" دعينيِ أمتدِح هذا الفستان الرائع عليكِ مجددًا! "
قال مجددًا و هو يلوّح بكأس نبيذه.

" شكرا لك سيّدي "
تمتمت باكراهٍ و هي تدعو في داخلها ان تتوقّف اسطوانته و يرحل عنها.

" تماماً كما لو انّ مصممَه فَصّله لاجلِ جسدك الفاتن "
اضاف و هو يمدح جسدها بحرارة،  تشنجَ حاجبها و هي غير قادرةٍ على التصرّف بلباقةٍ امامه اكثر.

" سيدِي... "
قالت بنبرةٍ منخفضة لكن مهددة.

" هل أخبَركِ احدٌ ما ان جسدِك... "
نبس بلهفةٍ لكنها قاطعته حينَ انطلقت الموسيقى معلنة ً بداية الرقص.

" اوه الموسيقى! انها جميلة "

" هلاّ رقصتِ معيِ اذاً آنستي ؟! "
ظنت انها تخلّصت منه لكنه استمر بايجاد الحبال للتمسك بها... جزّت اسنانها بغضبٍ، كادت تلجأ الى جوهان الواقف بعيدا و الى اساليبه اللا اخلاقية.

لكنه بذلك سيفوز عليها...

لذلك اخذت نفساً عميقاً تهدئ به نفسها، ثمّ تحدثت بعجرفةٍ و هي ترسل نظرات مليئةٍ بالازدراء اليه.

" ان لم يكُن الرجلُ أكثَر اناقةً و وسامةً من شريكيِ، فلا ارقص معه ... اعتذِر "

احمرّ وجهه و مع ذلك استطاع تخفيف الجو الحادّ بضحكةٍ قذرة، نظر اليها كما لو انها فتاة صغيرة سخيفة قائلاً بغطرسة.

" و اينَ شريككِ هذا يا آنستي؟ "

رفعت زارا حاجبها و هي تقبل تحدّيه، و بسرعةٍ حملت مروحتهاَ و اشارت بها الى الرجلِ الذي انتصبَ بفخامةٍ في الزاوية مع صاحب الحفل.

حتّى و قناعه يحجب ثلاث ارباعِ وجهه، الا ان الابتسامة الواثقة التي ظهرت منه كانت كفيلةً بجذب الانظار اليه...

شعره ذو الخصلات المقصبة بالذهب، سترته الفاخرة ذات الياقة المرصّعة بكريستالاتٍ متناسقة مع فستانها ، بذلتهُ لاءمت جسده المتناسق الطويل كما لو انها صُنعت لاجله.

حتّى من دونِ الفضل الذي يجلبه له وجهه الجميل، كان جوهان قادراً على جذبِ انظارِ الحضور اليه كما يجذب الشمالُ البوصلة... حضوره كان دائماً ملفِتاً.

رفع بصره الى زارا التي تشِير نحوه فتوقّف عن الحديث، و فوراً رسم ابتسامة فاترة لها مع ايماءة.

" و نعم، لقد قُمنا باعلام المدعوّين بِضرورة الابتعادِ عن قناعٍ من ذلك الشكلِ ، لذا لا داعي للقلق "

ردد صاحب الحفلة برسمية، مما جعل جوهان يومئ له تقديراً لتفهمه.

" أقدّر ذلك كثِيراً سيدي المحتَرم "
اجاب بنبرة تقطر ادبا، ثمّ اعتذر و اتّجه نحو زارا الّتي التفتت نحو الرجل العجوز بحاجبٍ مرفوع... و بفارقٍ زمني ضئيل رحلَ قبلَ حضور جوهان.

" هل ضايقَك احدٌ آنستي؟ "
سأل بِكياسةٍ و هو يقف بجانبها.

" ليسَ حقّا، كنتُ اتلقّى مديحاً جديداً و حسب عل  حسابِ الفستان "
اجابت بنبرةٍ عادية و هيَ تتنهد عميقاً بضجر.

بدت كمزيجٍ من النّبلِ، الرّقةِ و التوتّر و هي تلعبُ بقفّازها الذي انتزعته... كآيةٍ تنطوي على الرّحمة، او غصنٍ هشّ من شجرةٍ بالجنة في ذلك الفستانِ.

خاليةٌ من العيوب... هذا كان عيبَها الوحيد .

" كأس نبيذ لو سمحت! "
طلبت من النادل و هي متأكدة ان جوهان لن يعارض شربها كٱساً على الاقل.

" أحضِر للآنسةِ شرابَ رمّانٍ من فضلك ، و لي كذلك "

حطّم امنيَتها حينَ استوقَف النادل الّذي حلّق بنظره اليها ثم نحو جوهان الذي لم يتنازَل عن موقفه.

" حاضر "
اومأ بطاعةٍ و حلّق بعيدًا لتلبية الطلب.

" رمّانٌ هنا ايضاً؟ "
تحدّثت بضجرٍ و هي تميل رأسها لليسار متسائلة بتحاذق.

"بحقك! نانا تعتقد انّ هذا رومنسيّ للغاية "
قال و هو يتنهد بعمق.

" ناناَ تعتقد ايضًا ان الخروج رفقَةَ رجل مافيا رومنسيّ "
رددت وراَءه بتهكمٍ، هزّ رأسه بلا فائدةٍ و هو يشِير اليها لمرافقته الى الشرفةِ حينَ تضخم صخبُ ساحة الرقص.

" تلك الكتبُ افسَدتها، هي لم تكُن هكذا من قبل "
علّق بصوتٍ خافتٍ و هو يفتح لها باب الشرفة، كي يطلّ الاثنان على مشهدٍ للبلدةِ كلّها، حتّى سفوح التّلالِ المُحيطة .

الهوَاء كان يعبَقُ برائحةِ الرّطوبة الّتي تنبَعث بعد هطُول الامطار، ممزوجٌ برائحة جميلة تهبّ من الفساتِين البعيدة.

نزَع جوهان سترتَه الفاخِرة الثقيلة كي يغطيّ بها كتفيها الرقيقين من البرد الّذي جاءَ مع المشهد الجميل، تشكّرته زارا بابتسامةٍ رقيقة و هي تنزع قناعها عن وجهها الفاتن... ففعل هو المـثلَ كي ينظُر اليها دون اعاقةٍ .

بريقٌ شفافٌ على اجفانها و على شفاهها... حمرَةٌ طفيفةٌ على وجنَتيها المنحوتتين، و زُرقةٌ باهتةٌ تتلألأ كنجوم المدينة.

مجرّد النظر اليها يجعلهُ يبتلِع كبرياءهُ رغبةً في تذوّق قبلةٍ منها... خاصّةً و ذلك الرّمانُ يلوّنُ مجددًا شفاهها.

" منذُ متى تعرف نانا؟ "
سألت بابتسامةٍ ودودة و هي تضع يَديها على السور الصّامد، فاستند جوهان عليه بمرفقيه ينحني، كي يصِل الى مستواها فلا تضطر الَى رفع بصرها اليه اكثَر.

" كنّا نعرف بعضنا من بعيدٍ طيلة نشأتِي، كانت فتاةً قويةً و سريعةً للغاية، دومًا ما تفوز بالعراك و الركض، تتسلق الاشجار كالقردة و تسبَح كما لو انها عاشت طيلة حياتها بالمياه...  لكنها كانت غبية قليلا ، او بالاحرى، كانت تستمع لقلبها كثيرا "

توقّف قليلاً كمن يسترْجع الذكريات البعيدة، ثمّ نظر مجددا نحو زارا التي تُصغي اليهِ باهتمام.

" و بالنهاية استطاعت الارتقاء الى الطبقة الفضيّة، و اختَرتُها كرفيقةٍ عندها "

" و انت، كيفَ كنتَ من قبل؟ "
سألت كما لو انّها خبأت هذا السؤال له منذُ زمن بعيد، و ما أتتها الان الا الفرصة لطرحه.

" لطالما كنتُ ما انا عليه الان "
قال بابتسامة هادئة، لكن زارا بدت كمن يريد سماع اكثر من ذلك.

" نانا اخبَرتني انّك كنتَ تبدو كطفلٍ ضائع تائه، لا يهتم ان لقَى حتفَه، و لا ان عاش... "

" ليسَ حقّا، كنتُ اخشى الموت كأيّ طفل  ... ثم أحببتُ الحياة كثيراً، و كنتُ مستعدّا للقتال للعيش "
قالَ ثم رفع بصره للسماء.

" و ذات مرةٍ ، التَقيتُ بيرلين شخصياً لاوّل مرة... "

" متى؟ "

" يومَ بلغتُ الخامسة ، يوم الامتحانِ  "
اجابها كما لو ان الماضي أقرَب له من الحاضر حين يتعلّق الامر بتلك اللحظة.

عند نهاية اولى خمسِ سنواتٍ في حياةُ الظلّ الدائم، و بعد تعليمه كيفيّة حمل سلاحٍ بدل حملِ ملعقةٍ للاكل... يتمّ منح كلّ طفلٍ ضحيّته الاولى.

" ما كان امتحانك؟ "
سألت بفضولٍ و هي تقترب منه، ابتسم بصمت ثم احنى رقبته اليها هامساً.

" اجابتي لن تروقَ لفتاةٍ رقيقة مثلك "

من ذلِك القُربِ بدت اعين جوهان الخضرَاء ملوـنةً بشيء من الارتباك، الاحباط او الحزن...

ليس لانهُ اقترف سوءً، بل لانه يعلم انّها لن تحبّه بنفس القدر ان ادركت مجدداً سوءَه.

" قتلتَ احدًا؟ "
هتفت و تمنّت انّ ابتسامته لم تتلاشَ بهذه الطريقة، مخبرةً اياها انها اصابت.

" كانت تلك اول مرةٍ بحياتي "

ردد بصوتٍ منخفض.

" من كان؟ "
همست و هي متعطّشة للتفاصيل.

" امرأة ذاتَ اصابِع مبتورة، شعر ابيضَ طويل اشعَت...  كانت خرساء، كمن صرخ للرحمةِ في ذلك المكان "

" كانت ضحيّة تعذيب "
اضافت بدله فهزّ رأسه مؤكدًا لها.

اولُ امتحانٍ للظّل الدائم... كسرُ أولُ قواعد الانسانية التي خُلق بها، اي تلطيخ اليدين بالدماء.

" حين نظرت نحوي استكانت، كانت تنتظر الرحمة من الموت ... ماتت بابتسامة "

روَى لها و صورتها بين اجفانه لا تضمحِلّ...

كان اصغَر من ان يتذكّر بهذه الدقة ملامحها، ليتذكّر كم اعينها اتّسمت بالرحمة و هي تمدّ يديها اليه طلباً للرحمة من الرصاصة بمسدسه، اصابعها المبتورة، ثيابها الرثة و جسدها الهزيل... استأنفَ حديثه.

" لازلتُ اراها باحلامي، لكنّها هناكَ بحالٍ احسن... في ملابس اجمل و بشعرٍ اشقرَ لامع... تبتسم اليّ دائما، كما لو اننيِ انقَذتها "
صمت قليلاً و هو يلتفت نحو زارا.

" اقناع نفسي في انّني انقذتها من عذابها يخفّف عنيّ بأسها "
اضافَ و هو ينظر الى الغشاء الرقيق الذي تجمع على عينيها...

وجدت نفسها غير قادرةٍ على ايجاد كلمة لاجله، ببساطةٍ لانه لم يكن هناك شيءٌ لقوله امام رجلٍ يخبرها انهم وضعوا مسدسا بيده قبلَ ان يضعوا لعبةً لها.

حتّى و هي لم تملِك تلك الاسرة المثالية، الا انها نالت قسطًا كافياً من الاهتمام كطفلة، تمّ تلقينها تلك المبادئ التي حافظت بها على انسانيتها، و ليسَ قواعدَ ستنزف لاجلها طيلة حياتها.

" بيرلين حينها ايضاً ابتسم لي، أومأ لي و رحل... و اعتقدت حينها و انا انظر الى ذلك الرجل الضخم انّني اريد ان اكون مثله، ان اكون المونديجو "

تحدّث و اعينه المخمليّة لمعت بشيءٍ من الحياة فجأة...

لا يمكنها الانكارُ مهما كرهت بيرلين كميّة تقدير جوهان له و لا احترامه... اخبرها انه الاب الوحيد الذي حصَل عليه... انه من صنعَ له ذلك الخنجرَ خصّيصًا يومَ تعرّف عليه... بيرلين لم يكُن محضَ مونديجو عليه الانصات لاوامِره، بيرلين كان العائلة الوحيدة التي امتلكها.

" هذا هو حلمُك اذاً؟ ان تصبِح المونديِجو "
تمتمت بصوتٍ ضعيف بعد ان رسمت ابتسامة ضيّقة لاجله.

" ليس حلمًا آنستي، بل حقيقة ستحدث "
ردد بثقةٍ فهزّت رأسها بلا فائدة... أشعلت زاراَ عندها سيجارةً كي تخفّ الغصّةُ التي امتلأت بحلقها.

" ماذا عنكِ؟ ما هو حلمك؟ "
سأل فجأةً فاختنقَت بالدّخان الّذي ملأ صدرها.

" حُلميِ؟ "
همست بصوتٍ مختنِق و هو ينظرُ صوب روحها، يستنشِق معها الدخانَ القاتل .

" لطالما تساءلت عن هذا كلّما نظرت اليك... لا تريدين شيئا من عائلتك ، لا مالاً و لا قوةً ، لا تحاربين لاجل شيءٍ سوى شقيقك  .... ماذا تريدين من الحياةِ آنسة سكازوس؟ "

تراجعت كلماته الى همسةٍ مهتمّة و هو يلتقط السيجارة من يدها، يضغط بها على السورَ الحجريّ كي يطفئها.

لكن زارا لم تشعر بذلك حين غاض بصرُها في بصره .

تنهدت مُخرِجةً الدخان من رئتيها بارهاق...

" حُلمي سيبدو تافهاً مقارنةً بخاصّتك "
تمتمت و هي تسحبُ سيجارة اخرى.

" أؤمِن انّه سيصدمني "
رددَ وراءها.

" صديقاتي اعتقدنَ انّه ليس بحلمٍ حتى "
قالت و هي تُشعل سيجارتها بولاّعتها الفضيّة.

" تقصدين صديقتك التي لاتزالُ خزانة ملابسها عالقةً في سنة ألفينِ و عشرة؟ "
اختنقَت مجددًا بدخانها و هي تضحك، استغلّ ذلك في التقاط السيجارة الجديدة و اطفائها هي ايضاً.

" هل بامكانكَ ابقاؤه كَسِرٍّ بيننا؟ "
همست بصوتٍ مخنوقٍ لاهث.

" هل ينبغي علينا عقد ميثاقِ دمٍ لهذا كي تضعي كامل ثقتك بي؟ "
اجاب بسؤالٍ مستخفّ فهزّت رأسها ضاحكة، ثمّ رددت بجدية و هي ترمقه بحدّة .

" و هل بامكانك التوقّف عن سرقة سجائري؟ "

" سأتوقف ان توقّفت السجائر عن تعدي حُرمةِ شِفاهك "
اجاب بصوتٍ منمّقٍ ككلِماته... تلاشت ابتسامتها حين انتشَرت الحمرَةُ على وجهها كما لو ان احدًا سكب عليها قدرَ ماءٍ ساخن.

" أ لن تخبِريني ؟ "
انتشَلها بصوته الوديع من نبض قلبها المرتفع.

تردّدت كثيراً فصمتت ، لكن صمته هو الاخر حاصرها، و اجبرها على بصقِ ما بجُعبَتها.

" منذُ طفولتي، أردتُ ان انشئ عائلة "

"  عائلة؟ "
ردّد باستغراب، فتسرّب الخجل الى خدّيها و هي تعبثُ بكأسها دون شربه، تتحاشَى النظر الى وجهه.

" عندما كنتُ صغيرة، شعرتُ بباطِني انّ الحبّ الّذي خبّأته لوالدتِي كان كبيرًا، ضخمًا و عسيرًا عليّ للاحتفاظ به هكذا... كان عليّ صبّه على احدٍ، عسى الاّ يخنُقني "

" و آمنتُ انني ان أصبحت لديّ عائلة صغيرة، فسأغرِقها بهذا الحبّ الواسع و اتخلّص من هذا الفائض ...  كلّ مرةٍ تناولتُ فيها عشائي وحيدة، سواءً و انا بعيدة عن والدي و شقيقي او معهما... كلّ مرةٍ أمضيتُ فيها عيد الميلاد وحيدة... "

سرّت له ما بداخلها دون ادّخارٍ لمشاعرها التي انبثقَت بسخاءٍ على وجهها و عبر نبرتها.

لكنه قابلها بالصمت، ثم تعابير جديدة اعتلت محياه و هو ينظر اليها، لم تستطِع زارا تفسيرها.

الفتاة التي يحبّها اخبَرته للتّو انّ حلمها هو الحصول على عائلة، و هو محرّمٌ عليه اتّخاذ واحدة...

جسدُه ينتميِ الى المونديغو حتّى لو اصبح واحدًا، واجبه سيموت ان أحبّ شيئا ...

و لاول مرّة، تعفّن داخله بشيءٍ من الحسرة و الندم، حينَ آمن لوهلةٍ انّ طريقهما سيستمران بهذا التقاطع...

لا يملِك اسمًا يقدّمه لها، و لن يملِك حتّى شاهدَ قبرٍ...

لا يمكنُه منح شيء لها حتى لو قدّم لها كنوز الارض، هذا لانه لا يوجد حتى، هو ظلّ و حسب.

" و انتَ يا جوهان؟ أ لا تفكّر بتاتاً في الحصول على عائلة؟ "
نبَست فجأةً بابتسامة فاترة، تريد سماع اجابةٍ قد تدهشُها من رجلٍ غريبٍ مثله.

لكنّه صمت و حسب دون ان يقطع تواصله البصريّ ببصرها.

القانُونُ الثّاني : من خلافِ النّخبَة، يُحرَم على الكياناتِ الباقِية الارتباط الجسديّ ؛ الارتباطُ يوَلّد التملّك، و التملّكُ يقود للغيرة، و الغيرةُ الى الكره، و الكُره الى الخسارة، و معها يموتُ الواجب.

استوعبَ جوهان تحت سماء ليلةٍ لا يُنيرها قمرٌ انّ كِلاهما في طريقينِ لا يتصادمان و لو حتّى بأبعادٍ مُغايِرة  ، معادلتهُما من دون حلولٍ و سماؤهما دونَ اُفُقٍ.

اخترَق لحظَةَ انتظارها ترجّل رجلٍ غير مألوفٍ نحوها، حيّاها و عرّف نفسه على انه مساعد السيّد الذي انبغى عليه موافاتها هذه الليلة، اي خطيبها العتيد.

" آنسة سكازوس... اعتذر نيابة عن سيدي، للأسَف تعرّض الى حادثٍ مروريّ عندَ طريقه الى هنا "
رفَعت زارا حاجبها في صدمةٍ هائلة ريثماَ انتَشرت ابتسامةٌ مستمتعةٌ على وجه جوهان.
" هل هو بخير؟ "
رددت بِارتباكٍ و قد بدأ صوتها في الارتعاش .

تم نقله للمشفى ، و هناك يتم العناية به كما هو اللازم "
اكتفى الرجل بمنحها اجابةً غير واضحة، ثمّ رحل بعدَ ان ودـعها بطريقة لائقة.

بقِيت زارا في صدمةٍ لثوانٍ طويلة و هي لاتزال تنظر الى الفراغ الذي تركه الرجل وراءه.

اما جوهان، فكان قد اكتسبَ اشراقًا ملحوظًا و هو يعود لشربِ كأس الرمان خاصّته.

التفتت نحوه تتأمّله قليلاً في صمت، جزّت على اسنانها بغضبٍ و ابتسامته تلمع اكثَر فأكثر.

" هل كان هذا من فعلك؟ "

" ماذا تقصدين؟ "
تسلل صوته من شفاهه الباسمة بنبرةٍ تهكمية.... دقـ الغضب بعروقها، لم يعد بامكانها تحمـل تلك الابتسامة المتعجرِفة على وجههِ ريثما كاد يتسبب في قتلِ رجلٍ بريء.

" جوهان، كيفَ تنامُ بالليل قرير العين؟! اخبرني ايها الوحش ؟! "
صاحَت بانفعالٍ في وجهه، لكنه قابلَ انفعالها بهدوءٍ ساخر و كأس الرمان في يده يدور.

" على اغطية فراش مريحة ، ترِيدين تجربتها معي يومًا؟ "

جوهان استخدم للتّو سطرَ مُغازلةٍ قرأه مع نانا هذا الصّباح.... بدا فخوراً حين شاهد وجهها يتضرّج من الخجل، ارتعشت بدل الصراخ عليه، و بسرعةٍ حملت زارا اشياءها و هربت منه متجهةً نحو السلالم التي تؤدي لأسفل الحفل.

" ستموتين بسبب نبلِ قلبك يومًا آنسة سكازُوس "
تحدّث و هو يقفُ بطريقها، يمنعها عن الهرب و اعينه تحبس عينيها.
" آمل ذلك "

تمتمت بحقدٍ و هي تحاول مراوغته للفرَار لكنهُ اغلق الطريق حينَ وضع قدمه على الدرجة التي وقفت عليها، بينَ قدميها.

"أ تريدين الموتَ و تركي على قبرِكِ البارد؟ مُتوقّع من امرأةٍ قاسية مثلك "
تحدّث بدرامية و هو يوثقُ اصفادهُ على بصرها كي لا تنظر الى اي شيءٍ عداه.

" لستُ قاسية، انت هو المريض الّذي يقتل الناس فقط لانّه يريد ذلك "
همست بصوت متهدج من الغضب.

" حقّا؟ و لماذا تعتقدين انني اريد قتل ذلك الوغد؟ "

" اعلم لماذا،  لانكَ معتلّ اجتماعيّا! "

" لا اقبل نصف اجابةٍ هاڤن  "
تقوّس حاجبها على شكل استفهام ، لكن سرعان ما تراجعت خطوةً حين صعد الى درجتها ، كانت شاكرةً لانّ المساحة واسعةٌ بما فيه الكفاية لحملهما كلاهما.

" ماذا تقصد بنصفِ اجابة؟ "
تحدثت و هي تحارب نفسها الاّتبعد عينها عن عينه، فأجابها بصوتٍ هادلٍ منخفض...

" قد اكون معتلاًّ كما قُلتِ... لكنه كان سيُحضِر لكِ طقمَ ماسٍ الليلة ، لستُ متأكدا ان كانت المناسبة اول لقاءٍ لكما، او لاجل عيد ميلادك "

اتّسعت اعين زارا حين تذكّر ان عيد مولدها غدًا، تلك الذكرى الباهتة التي احتفلت بها كجنازةٍ كلّ سنة من عمرِها بسبب والدها.

" لكنّه أرسَل احدَ رجاله لاختياره، و البائعة هناك نصحته به بالطبع لأنه الاغلى و ستتلقـى ثناءً على ذلك  ... كما لو انّك لا تستحقّين عناءَ ان يفكّر احد في ما قد يعجبك، في البحث عن شيءٍ قد يتلاءم مع ذوقك، مع اختياراتك و حتى مع عاداتك "

اذهلتها كلّ كلمة صدرَت من هذا الرجل المولَعِ بتفاصِيلها... المصممُ على منحها اجملَ و أكثَر حبٍّ مُتقنٍ...

" كرِهته لاجل ذلك... انه بهذه الجرأة و الوقاحةِ لالباسكِ شيئاً كهذا بيديهِ السخيفتين... لم يتكبّد عناءَ رحلة الى متجر المجوهرات بنفسه... ذلك الفاسق "
تراجعت كلماته الى شتيمةٍ خافتة.

" عقدٌ مبتذَل على عنقِكِ الجميل... أ يوجد سبب اضافي لي لقتله؟ ... "

صوتُه يُشبِه الغرَق في مياهٍ فاترةٍ ، خاصّةً و تلك الاعين المنوّمة خاصّتهُ تستطيع اقناع شياطينها بالتوبة.

شقّت الالعاب النارية سواد السماءِ و انفجرت، انتشَرت الاضواءُ ساحبةً الظّلام لجزءٍ من الثانية... لكنّ جمالها لم يكُن كافياً لِسحبِ احدهما من العلاقة المحرمة التي خاضَتها اعينهما.

انتابتهُ لهفةٌ لا يمكن مقاومتها و ألوانُ الالعاب الناريةِ تغمرُ بشرتها الناصعة، الانوار تنشُر رذاذها اللامع على اعينها و احمر شفاهها البراق.

تحسّس عينيها، حاجبيها، انفها و شفاهها بعينيه...

نظرَ اليها كما لو انّها أندرُ من ان تكونَ شيئاً ممسوسًا.

أراد ان يطبع أثراً من حبّه عليها، اراد تقبيلها...

و هو بصراعٍ بين ارضاء ما بداخله، و رعبٍ من كرهها...
ألبسها قناعه الذي بيده، ثم طبَع قبلةَ على الخدّ ، قِبلةً لامست روحها دونَ جِلدِها ... يمشَي على طريق حبّ ملغّمٍ كبهلوَانٍ مُبتسم.

لكن هل هو مستعدّ لكسرِ يديه كي يصل الى مفاتيح الحبّ؟ ام سيكتفي بالعزفِ بهذه الوتيرة المنخفِضة؟

" انه لا يستحقّ حتّى التنافس معي عليك "
همسَ و هو يُبعد شفاهه عن القناع البارد بصعوبة، يكَافِح ضدّ الافكار الخبيثة التي انبثقت لاجلها.

ابتعد جوهان عنها و هي تقف مكانها كالصنم، غير قادرةٍ على نبس حرفٍ او فعل شيء.

اعينها تُمطِر نجوماً بدل الدموع، و قلبها يدقٌ الحب بدل الدم.

" عيدَ ميلادٍ سعيد هاڤن "

همسَ و هو يضعُ صندوقًا صغيرا على السور.

ترددت قليلاً في امساكه، لكنه حثّها بنظراته المترقبة لرد فعلها... حملته بين يديها اللّينتين، ثم فتحت اعينها على اجملِ عقدٍ وضعت بصرها عليه.

ثلاثُ جواهر زرقاء بلّورية تتوسط كريستالات صغيرة من الماس، تتدلّى من عقدٍ من الذهب الابيض .

خطَف جمال العقد انفاسها، كان مثالياً، خاليًا من العيوبِ و ملائماً لها... تماماً كما لو انه صُنِع لاجلها هي وحدها.

بدا صافِياً مثلها، نقيًّا كقلبها، غير مزدحم، و شاعري.

" ما اسم هذا الحجر؟ "
تمتمت بأول شيءٍ استطاعت اخراجه من فمها؛ زارا عاشت طوال حياتها في طبقةٍ خوّلت لها رؤية الكثير من الجواهر و حتى ارتدائها، و هي استطاعت تمييز الماسِ الحقيقي الصغير و حتى ان هذا ذهبٌ ابيض و ليس بفضة... لكن الحجر لا.

" هذا الحجرُ غير معروف،  يتحمّل الجحيم ، لكنّه يذوب في الصّقيع... دون داعٍ للتّحدث عن جماله"
شرَح لها بصوتٍ هادئ، ثمّ استأنف الحديثَ بنفس النبرة.

" توجد جزيرة، و التي تكون من ممتلكَات المونديغو... قطنتُ فيها لمدةٍ قصيرة من الزمن و انا مراهق، و اثناءَ ذلكَ وجدتُ انا و اخوتي حجرًا ضخمًا عجيبًا تحتَ مستوطنات الارض... قيلَ لي انـها بنيةٌ تحتية انشأها سكان تلك الجزيرة القدم احتياطًا لاي كارثة ، و كانوا يخبئون بها المعادن و المجوهرات، الذهب و الفضة... "

توقف قليلاً و هو يتأمل عينيها المصغيتين، ثمّ نبسَ بنبرةٍ دافئة.
" ذكّرني بأعينك... انّها باهتَة، تُشبِه قطرَة مطرٍ صافيَة لم تلمَس الارضَ بعد... لكنّ بطرِيقة او بأخرَى، اشعُر كما لو انّني قادرٌ على الغرَق فيها "

مع كلّ كلمةٍ تداعَت قواها امامه، و امام تلك الاعينِ التي تنضحُ حبّا لها، لم يكُن بامكان زاراَ منع قلبها من الوقوع نهائيا...

" اتمنّى ان تُبقيه دافئاً "
همس مضيفاً و هو يضع يده اسفل الصندوق، و حين كادت انامله تلمس اناملها، استيقظت شاهقةً كمن يستفيقُ من حلمٍ غريب ، اغلقت الصندوق على عجلٍ.

" لا أستطِيع قبُول هذه الهديّة منك جوهَان "
تمتمت بنبرة منخفضة متهدجة كمن اصابهُ الجزع.

" لِماذا؟ "

جوهان كان غير واعٍ كفاية لادراك ان الخوفَ سيكون دائما قلبَ الحب... و زارا لم تشعر يوما بالرعب من المشاعر التي خبأتها له، بل من المشاعر الذي انبثقت منه.

" اذا كان بحوزَتك ايّ فكرَة تخصّني، فأطالبُك بُطردِها كي تعيدَ اليّ سلامي "
تحدثت و هي تبذل قصارى جهدها للنظر في عينيه... احتدت ملامحه و هو يأخذ خطوة اخرى نحوها، فتراجعت و صعدت درجَة.

" لا املِك ايّ سلامٍ كي امنَحك ايّاه زارا ، ليس بحوزتي سوى بؤس لا نهائي و انا انظُر اليك ، و انا لا استطيع لمسكِ ...  "

رددَ وراءها و اعينه تتوهجُ بلمعةٍ غريبة، كبرياؤه يشتعل بنيران مشاعره ، و الوقود رفضها.

" ثمّ لا تطلُبي السلاَم، و انتِ محشوّة بظلال الحرب "

" لا تفعلها بي... لا تدَع شيئاً مثلي يدمّرك "
همست و هي تخفض رأسها.
" دمّرتيني بالفعل "
اجابها دون ترددٍ.

" و ها انا امامكِ... اتلذّذ بدماريِ حينَ عجزت عن انقاذ نفسي "

تدحرجت كلماته على وريدها الى قلبها، مُشعرةً ايّاها انها في طريقٍ سريع لا مجال للتوقف فيه بعدَ ان افصحَ عن حبّه بهذه الطريقة.

" جوهان... "
مزّقت همسة متألمة حنجرتها باسمه ، و دون قول شيءٍ اخر ترجّته بعينيها ان يكون اقوى منها ليمنعَ هذا الدمار... لكنّه ظلّ مصرّا على العيش بهذا الحلم الذي سيتحول لكابوسٍ قريبًا.

فجأةً لمحت من جانبِ عينها، و وراءَ الابواب الزجاجية التي حمَت الحضورَ السّعيد من الصقيع بالخارج، طيفًَا من الماضي.

تتصادى في ركام دماغها لقطاتٌ من الكابوسِ الذي لم ينتهِ بعد، أيقظها هذا القناع الابيض الخالي من التعابير الذي يبتسم لها من خلفه...

استشعرت ابتسامته حتى و هي تتوارى وراء ذلك القناع البارد.

هناك يقف بين الحضور الغفير، ببذلته الانيقة و في قفازاته الضيقة... عيونهُ النّذلةُ يلمَع فيها الاستمتاع و التسلية بالرّعبِ الّذي نضحَ من وجهها.

الخوفُ يدقّ في عروقها ، جسدها يرتعش من التشنجات لدرجة انها فقدت قدرتها على الحراك ... تندّ عنها صرخةُ رعبٍ و هي ترى امامها كابوسها على ارض الواقع.

و فجأةً بدأ الحضور السعيد بالتساقط، و بدأت البذلات الانيقة الفاخرة بِالتبلل بالدماء التي تدفقت من الافواه، و حلّ الجزع بأرواح الباقين الذين لم يقرَبوا نافورة النبيذ المسمومة.

كانت على شفير الموت لولا جوهان الذي اصر عليها الاّ تشرب نبيذًا الليلة.

رفَع صاحب القناع ظرفًا ابيضَ مربّع الشكل بعد ان وضعَ كأسه، لوّح به كي تراه زاراَ جيدا، ثم حطّه بهدوءٍ على الطاولة...

لم يخطِف زارا من القوقعة التي شكلها الرعب عليها، سوى لمعان معدن المسدس تحت الاضواء الخافتة بجانبها، ثمّ صوتُ الرصاصةِ الصامتةِ التي خرجت من كاتم الصوت، مُخترِقةً الزجاج بسرعةٍ هائلة فكسره، ثمّ الى الداخل.

توقّف الرقص و الموسيقى بسبب انكسار الزجاج دون الرصاصة التي لم يشعر بها احد ، و مع اختفائهما و الجلبة التي احدثها الموت بالداخل  اختفى صاحب القناع كما لو انه محضُ طيفٍ لا وجود له.

اتّسعت اعين جوهان حينَ اختفَى شبحه بهذه السلاسة، و اكثَر حينَ لم يُصبه... لا اثر لدماء، و لا لدليل.

ركضت الى الداخل دون ان تراجع افعالها، الى الظرفِ الذي تركه لها...

" عيد ميلادٍ سعيدٍ يا بياضَ الثلج "

صنعت احرفه المتراكمة تلك التهنئة ، و حين فتحت الظرف كان بداخله قرصٌ مضغوط مع ملاحظة صغيرة مكتوبة بالدم... و اعينها كانت مموهةً بالدموع لكنها لم تستطع قراءة الكلمات بشيءٍ صحيح لكنّها كانت متأكدة من ان هذه الدماء تنتمي لاخيها.

" شقيقك يريد تمني عيد ميلادٍ سعيد لاجلك ايضاً "

< يُتبَع... >


هاي 🤍

- اعتقد اول مرّة اكتبُ بالهامش في هذه الرواية XD -

كيف الاحوال 🤍

بعد هذا الفصل ستدخل الرواية اكثر في موضوع النخبة و قوانينها 🦥

بالطبع قوانين النخبة لا تقتصر فقط على تسع قواعد، توجد قواعد فرعية، و هذه الاخيرة عقاب اختراقها لا يكون الموت دائما مثل القواعد التسعة الاساسية .

حرس الابراج هو كيان سَيحصل على حصّته من القصة قريِبًا.

حرس الابراج و الظلال الدائمة كلاهما يتبعان نفس القوانين، لكن الظلال تابعون للمونديجو اكثر من الحرس.

سأحاول شرح كلّ ما يحدث قدر الاستطاعة بالمستقبل ان شاءالله 🤍

هل توقّعتم هذا المنحى لقصّة نانا 🥲

فيليكس الكلب *

فستان زارا مستوحى من فستان كيندال جينير MET GALA 2021  🤍

جوهان بالشعر القصير : 🤌🏻🔥😩

افكاركم حول صاحب القناع ؟ 😗

زارا و جوهي 😭؟

و انتهت نشرتنا القصيرة 🤍

استودعكم الله و اراكم بفصل جديد ان شاءالله 🤍

Continue Reading

You'll Also Like

687 78 4
"ستسمع طبول النصر بين جبال الزرق ،" "سأقف فوق جثة القاضي الأول وأصرخ بإسمها ميلين ليست ساحرة هي خارقة شريفة" "ولدة من رحم مرأة ناثاروسية وصنعت من ص...
255K 12.6K 28
اكسري قيود وحدتي. وسأستمر كوني سئ للغاية. أنتِ لا تعلمين من هو. أبتعدي عنه ذلك الطالب المفصول. يدُعى جونغكوك. ـ جيون جونغكوك ـ يون ايريم.
2.5K 239 11
عندما يجتمع كل زعماء المافيا حول العالم رغبة في اخذ إقليم استراليا من تحت قبضة الميدوسا ظنا منهم انهم اختفوا و اختفت قوتهم معهم يأتيهم الرد منهم بتف...
1.9K 138 6
تَحولت تلكَ الحياة الّتي جاهدت لجعلها تنبضُ، حطامًا بينَ ليلةٍ وضحاها. «أيّ غبيٍّ سيرضى بالزواج من امرأة تُصارع الموت!». -فَتاة الانجيل والنّ...