Empty Crown | تاجٌ فَارِغ

By Mervadoz

77.3K 3.5K 2.5K

الرّواية من سلسلة Eigengrau " أحبّ كيفَ تراقِبني دائمًا يا أرغوس! " تحدّثت ساخرة و أناملها المضطربة تسير على... More

INTRO
تمهِيد : الظّلال الدّائمة.
١. أعِدنِي الى اللّيلة الّتي التَقينا بها.
٢. كارمِن
٣. المَغِيب.
٤ . نبَضات قَلب.
٥ . مِن جنّةِ عَدن.
٦. جنّة، انتَظِرِي.
٧ . أكرَهُك، لا تترُكني
٩. مُلاحظَاتٌ فارِغة.
١٠ . جينز ازرق
١١ . خالٍ من العيوب
١٢ . المًقنّع
١٣. لأجلِ حبٍّ ابنة.
١٤ . طيورٌ سوداء
١٥ . قرِيب
١٦. شَجرةُ الاعدام.
١٧. لا وقتَ للموت.
١٨. نهايةُ العالم.
١٩. تِلفاز
٢٠ . لاَ أحَد.
٢١. انَا و الشّيطَان.
٢٢. القلعة
٢٣ . قُل نعَم للجنّة.

٨ . مَن تكُون تِلك؟

2.2K 112 120
By Mervadoz

﴿ قِراءة ممتِعة ﴾

اشتدّ الضّجيج في احيَاء المافيا في هذه الامسيَة المُمطِرة، و ركَض الرّجال بِمضارِبهم ، يشقّون طريقهم وراءَ الفتاةِ القصِيرة الهارِبة، ذات الفستان القصير الزهري و الغرّة الذهبية...

انتَهى الامر بها في طريقٍ مسدودة و قد تبللت بالمطر، التَفتت ناناَ بأعين مموّهة بالدموع الى الرجال الذي حاصروها بابتساماتٍ ماكرة.

" اوه يا الهِي! لقد أمسكتُم بي! ارجوكم ارحموني! "

توسّلت بصوتٍ عالٍ و هو يجرّونها الى بيتٍ بِآخر الزقاق.

" لنأخُذها الى الزّعيم "

بكِت بصوتٍ عالٍ و هي تستمرّ بالترجيّ ، تقاوم و تضرب بساقيها و يديها في الهواء ريثما هي تُسحبُ مجددا الى البيتِ الذي كانت تتلصّص عليه.

نعم، فتاةٌ من اطفال الظلال الدائمة الّذي تعلّموا الاجرام قبلَ المشيِ قُبِض عليها بكلّ سهولةٍ من طرفِ رجال مافيا ذي كروشٍ متهدّلة يكفيِ شقّها بِخنجرٍ فتنفجر من كثرَة الاكل و الخمر.

او ربّما نجخت خطّة فتاة الظلّ الدائم في رؤية زعيم المافيا الذي سمعت عنه كثيرا!

ناناَ حرِصت على لعِب دور الفتاةِ الرقيقة المظلومة متقَمّصةً الشخصية من كتابٍ قرأته بالآونة الاخيرة... الملابس، التصرفات، و حتى اللعنات... كلّها استلهمتها من الكتاب.

و لم يبقَ الانَ سوى حبيبُ المافيا الوسيم!

" هذه هي الفتاة الّتي كانت تتجسّس علينا! "

اعلن الرّجل بصوت جهورٍ بعد ان رمى ناناَ تحت قدميّ الزّعيم، و هذه الاخيرة كانت تنظر بفاهٍ مفتوحٍ الى الاعلى.

اعينها السوداء انخفضت و تعابيرها اصبحت مظلمة...

الزعيم لم يكُن وسيماً... سمين ايضا... ليسَ بنوع نانا على الاطلاق.

هل قامت بالتدبير لكل شيءٍ و الركضِ بِكعبٍ عالٍ لأجلِ رجلٍ عجوز كهذا؟!

" هل انت هو الزعيم المرعب الثّريّ؟ "
تمتمت نانا بصوتٍ مملّ قاسٍ و هي ترمقه بنظراتٍ غير راضية.

من انتِ يا ايّتها اللّقيطة؟ "

تشنّجت ملامح وجهها و هي تعقِد حاجبيها من تلكَ الكلمة المهِينة .

" انا مخذولة لأكونَ صريحة "
اجابت باحباطٍ، نهضت و هي تنفض الغبار من ركبتيها،  استأنفت الحديث و قد ارتفع صوتُ انفاسها الغاضبة.

" انا فقط اردتُ حبيبًا وسيمًا يحبّني و يقتُل لأجلي! لماذا لا يمكنكم ان تكونوا هكذا؟!! "

صرخت و هي تظهِر مسدّسيها من ورائها، تطلق الرصاص عشوائياً على الجميع ثم ترحل باكية تحت المطر.

نانا لم تتوَقّف عن البكاء منذُ ذلك الحين، و دموعها لا تنفكّ تتدحرج على خدّيها كطفلةٍ ضاقَت بها الحياة.

تبكيِ انهارًا لأنّها لا تستطِيع ايجادَ قصّة حبّها...

هي تُرِيد ان تُحبّ و تُحَبّ اكثَر من ايّ شيء بالعالم... لكن يبدو انّه ليس فقط قوانين اطفال الظلال هو الوحيد الذي يمنعها، بل حتّى الكونُ لا يريد.

ترِيد حبّا بسيطا و حسب - حبّا يشبه الكتب التي تطالعها -

أ هذا كثِيرٌ لطلبه؟

و هي بغرفتها تبكِي على حظّها ، اخترَق جوهان خلوتها، في معطفه الاسود الطويل و ملامحه الحائرة استمرّ بالنظر اليها قليلا الى ان نبَس بصوتٍ مُرهق.

" ما خطبُكِ؟ "

لا يمكنها حتّى اخباره الحقيقة، لا يمكنها اخبار رجلٍ مهووسٍ بقوانينِ الظلال بِأنها تريد و بشدّة اختراق احد القوانين المقدّسة لاجل بعض الحبّ...لذلك باشَرت بمسحِ دموعها بحركةٍ عنيفة.

" لا شيء، فقط دخل شيءٌ بعيني "
همسَت وسط شهقاتها و هي تضمّ وسادتها الزغبيّة الى صدرها ، بدا جوهان متعوّدًا على رؤية ناناَ تبكي هكذا؛ ثمـ استدارت نحوه متبسّمةً بِحزن.

" كيفَ هي زارا؟ هل استيقظت؟ "

بدل الاجابة عن سؤالها صمت قليلاً، ثم قال بلهجة آمرة.

" أحتاجُك لحراستها مجددًا "

أشْرَق وجه نانا بابتسامةٍ لطيفة حينَ فهمت انّ زارا استيقظت اخيراً من غيبوبتها التي دامت ايّاما طويلة، فهزّت رأسها بتفهّم.

" هل انت بخير جوهان؟ "
سألت باهتمامٍ لكنّه لم ينظر ناحيتها... فقط مستمر بارتداء قناع البرود خاصته منْذُ تلك اللّيلة التي لم تسمع منه حرفا.

جوهان لا يصمت... حتّى و ان لم يجد موضوعاً للحديثِ بشأنه، فسيُطلِعها على ابرزِ الخطط التي حاكَها لِقتل اخوته... او عن نفسه...

تلكَ كانت اطول ليلةٍ قضتها بجانب جوهان المبلل بدماء زارا ؛ طويلةً بما فيه الكفاية لجعلها تتذكرها للابد.

شقيقها سمِع اجرَاس الموتِ لأولِ مرةٍ رغم انّه قابله مراتٍ لا تعدّ و لا تحصى... ربّما لانّ الاجراس هذه المرة كانت من معبدِ الحب.

" نعم "
اجاب بنبرة فارغة و هو يَخرج من غرفتها تاركاً ايّاها وراءه.

سقَط مطرٌ خفيف من السماء الرّماديّة المنخفِضة، فبدا كما لو انّ النوافذ تذرِف دموعاً... تعوّدت زارا على مشاهدة الزجاج يبكيِ بدلها بكلّ مرة.

تدحرَجت الاحداث بسرعة، كانت رخوة و لم تستطِع متابعتها، فتضاعفت المسافة بينها و بين الواقع، و بقِيت على الهامش...

حينما لا نجد حلاّ لشقائنا نبحث عن مذنب، و زاراَ اختارت نفسها كمذنبَة لانّ الحياة اشعرتها انها آثِمة...

تنفَخ خيبة الاملِ شرايينها بِالسّمّ، تعبـئ قلبها بغضبٍ بشع... سخطت على نفسِها لأنّها نجَت.

و لأنّ الجميع سمع بقصّتها البائسة تضخّم البؤس بقلبها ؛ و من ضمن الجميع ذلك الرّجل المعتدِل المهندم الذي جلسَ جانب سريرها القاسي.

التَفتت زاراَ نحو الشّرطي المدعوّ كِيليانّ ترايس... شرطيّ شابّ كان مهتمّا منذ البداية بقضيّة اختفاء اخيها.

كانَ وجهه حسنَ السحنة، لا يحمل سوى معالم الجدّية... شعرٌ كستنائي و عيون بنيّة لوزيّة... قام بزيارتها هذا الصّباح بنوايا حسنة كما يدّعي.

" ان كان هناكَ ايّ شيءٍ تريدين التحدّث بشأنه، فأنا استمع اليكِ آنسة سكازوس "

كان صوته هادئا رتِيبًا جعلها تضحك متبَسّمة من الشفقة التي ادّخرها عليها.

" عن ماذا ؟ عن كم انا فاشلة حتى في انهاء حياتي ؟"

تمتمت بلهجةٍ ساخرة، فَتحدث بعدها بصوتٍ حادّ.

" آنسة سكازوس... لِماذا حاولتِ انهاء حياتك؟ "

تنهدت بمللٍ و هي تشيح نظرها عنه.

" أ لم يخبِرك مدِيرك الاّ تورّط نفسكَ بعائلتي؟ ام انّك مصرّ على لعِب دورِ الشرطيّ الصالح "

" انا لا أخشى أحدًا سوى الربّ "
قهقهَت بصوتٍ خافت، اناملها لمست اذنها المبتورة دون وعيٍ منها...

" ربما لأنك لم ترَ الشياطين بعد "

" قد أراها في الجحيم ان لم أؤدّي واجبي كما ينبغي "
اجابها بنبرةٍ جادّة جعلتها تجزّ اسنانها بغضبٍ من سذاجته...

" الجحيم فارغة يا حضرة الشرطي، و الشياطين هنا "

تواصلت نظراتهما الثاقبة لفترةٍ من الزمن الى ان صفقت نانا بابها مُعلِنةً عن مجيئها بضوضائها الخاصة.

" نانا هنا! "
أعلنت بصوتٍ مرح لا يُواكب السحَابة القاتمة المنتَشِرة هنا.

نظرت الى الشرطي ذهاباً و اياباً، وهذا الاخير كان يقابلها بنفس النظرات... عيناه الصقيعيّتان تسيران دون حرجٍ على ملابسها القصيرة الجريئة.

" اوه زارا، لم أعلم ان لديكِ اصدقاء غيرنا "
قالت بنبرة غير مرحبة و هي تتقدّم نحو زارا .

تنهدَ كيليان طويلاً و هو يستقيم.
" أستودِعك الإلهَ آنسة سكازوس "

ودّعها بِبرودٍ، ألقى نظرةً اخيرة على نانا التي رمقته بذات النظرات المفتّشة ثم رحل.

" من كان هذا الوسيم؟ "
تساءلت و هي تحدّق من النافذة تتبع بعينيها الشرطيّ الذي رفع رأسه ناحيتها...

" نانا، انتهت زيارتك "
أعلن جوهان نهاية زيارتها القصيرة بنبرة تحذيريّة.

" لم تبدأ بعد! "
احتجّت بصوتٍ باكٍ و هي تلتفت نحوه، رمقها بنظراتٍ قاتلة جعلتها تبتلع كلماتها ثمّ تتأفف بصوت عالٍ.

" تحسّني بسرعةٍ زارا "
ودّعتها بِصوتٍ حزين و هي تجرّ خيبتها معها حين طردها...

صدرُها النحيل يعوم في لباسها الصّوفيّ و هو مستمرّ في النظر اليها، بدَت هشّةً جدّا كتمثَالٍ من الخزَف الحزين.

و هو بدا مثيرا للشفقة و هو ينتظرُ نظرةً منها... لاتزال يداه ترتعدان في عمقِ جيبيّ معطفه منذُ تلك الليلة.

هو لايزال مرعوباً، ليس فقط لانّه كاد يفقدها لو تأخر بها ثانية واحدة.

بل لأنّه تأكد من خسارته لنفسه في سبيل حبّها.

حيَاة جوهَان لم تكُن سهلَةً كما يفتَرِض الجمِيع ، و قد مرّ بأشياءَ لا توصَف من الألم... لكنّه نجَى...

و لأنّه نجَى، اعتَقد انّ بامكَان الجمِيع النّجاة.

هو يحبّ الحيَاةَ لدرجَةٍ مهُولة... يكرَه الموتَ، و يهابُ القدَر... و عكسَه هناك تواجَدت زَارا.

لم تستطِع ان تحبّ الحيَاةِ و هي تستمِرّ باهانتِها، و لذلكَ توسّلت الرّحمةَ من الموت، و لأنّ الموتَ هو المصِير غير المرِن الّذي سَيحتضِننا جميعنا، لم تخَف القدَر يومًا.

كلّ شيءٍ بهذه المخلوقَة يُؤلم... أنامِلها الزّرقاء تنزِف وجعًا، و شفاهها الباهِتة تسِيلً حزنًا كما تحمل عيونُها احزان العالم.

الألم لَمسَ قلبَه عبرَ الفتَاة الّذي آمن انّ وجودَها لن يرُوق له ابدًا... لكنّ و هي تكادُ تختـفِي من أمامه، أدرَك ان اختِفاءها ايضًا لن يرُوق له.

شيءٌ بداخِله ينضُج فجأة، عاطِفةٌ انبـثـقت من اللّاشيء... و كأنّه يستعِيد انسَانِيّته التِي سَلبتها منه الحياة في الظّلال .

في هذه الغُرفة، المسافةُ بينَها و بين السّماءِ كانت تفوق آلاف الكيلومترات... و مع ذلك، شعر جوهان ان المسافة بينه و بينها - و التي تقدّر بأقدام - أكبَر من الاولى.

جوهان كان صامتًا على غيرِ عادتِه، و ذلِك جعلَها ترفَع بصرَها اليهِ ، اتّصل نظرَاهما بِبعضٍ.

" خذ صورةً لي، ستدوم اطول "
نظرَ اليها دون اجابة لوقتٍ طويل، و الصّمت يستمرّ، كسرَته زارا بِصوتٍ ساخر.

" هل ستبقى هكذا اذا؟! أ لا تعرف ان البقاء بغرفة آنسة قد يجلب لها السمعة السيئة "

" كي تتمكني من قتل نفسك مجددا؟ "
صوته كان منخفضًا و جافًّ بشكل مريب, يشدّ اسنانَه كما لو انّه يكتم عواطفه ؛ لم تحُز طبيعتها الساخرة الجديدة بعد استيقاظها على اعجابه.

" لما انت غاضب ؟ "

قالت بِعدم اكتِراث.

هزّ كتفيهِ كما لو كان يقمَع العاطفةَ بداخِله، لكنه في النهاية فقد السيطَرة و صرَخ بحدّة.
" لقد حاولتِ انهاء حياتك يا هذه!!! قتل نفسك! ازهاقَ روحكِ بيديكِ!!! هل انت واعيةٌ بما فعلته؟!!! "

توقّف يأخذ انفاسه كما لو انه ابتلع جمرةً ساخنة، أمـا زارا فبقيت مكانها دون حراك، تنظر بأعين واسعة الى وجهه المشدود بالغضب... ثم اضاف بصوتٍ لاهث.
" قلبُك توقّف امامي... هل انتِ واعيةٌ بما حدث؟ "

" لا ترفع صوتك امامي جوهان "
صوتها كان هادئًا رتيبًا امام ثورانه.

" و الاّ ماذا؟ ماذا ستفعلين اكثَر مما اقترفتِه بحقّ نفسك و حقّي؟ "
فرَك وجهه كما لو كان يحشِد الصّبر؛ تمعّنت النظر اليهِ لثوانٍ طويلة كي تنبِس بِاستهتار.

" انتَ تأخذ اوامر بيرلين كما لو انها اوامر الهيّة يا هذا... انا اموت، و انت تعود الى عملك السابق كقاتل او مهما يكن "

اشتدّ غضبه من كلامها المملّ القاسي ، و هو يحشدُ صبرَه أخذَ نفسًا طوِيلاً عميقًا... ثم نظرَ اليها بصمتٍ كسرَه بنبرةٍ فارغة.

" ان متّ... انا لن اعود لسابِق عهدي مهما حاولت "

نظَرت اليهِ بعيونٍ ضيّقة حائرة و لسانها تجمّد بسقف فمها ...

" لمَاذا؟ لماذا فعلتها؟ أ لم اخبِركِ انّني سأعيدُه اليك؟ "
تجمدت كلّيّا من الحزن في عينيه ، أعادت نظرَها الى السماء الرماديّة المنخفِضة قائلةً بصوتٍ أبحّ عميق.

" انت لن تفهم جوهان... طالما لا تستطيِع ان تحبّ احدًا ، لا تستطِيع فهمي "

رنّ صوتها بلا نهاية في جوفه... شعر انّها ألقته في القاع وحيدا، تركته يتحدث لمفرده عن حّبّ لا معنى له.

فجأةً انفتح الباب على مصراعه، و أطلّ منه بيرلين مُضيفاً لونًا اكثَر قتامةً على الجوّ المظلم.

" هل قاطعتُ شيئاً مهمّا؟ "

ردد بيرلين بابتسامةٍ سمجة الطلّة و هو ينزع قبّعته عن شعره الاشقر الانيق... ها قد حلّت العاصفة الاخرى بوجوده.

محاولة انتحارها لن تمرّ بسهولة لا مع زارا و لا جوهان... كلاهما كانا بمأزقٍ مع هذا الرجل الذي يدرك جوهان فظاعته الحقيقيّة.

اتّصلت اعينه الخضراء الجاشيّة باعين بيرلين المظلمة، ثمّ تقدّم نحوها.

" كيفَ حالكِ يا زارا العزيزة؟ "

لفظَ كلماته بلهجةٍ متكلّفة جعلت ملامحها تظلم.

" رأيتُ ايّاماً افضل "
رددت بِصوتٍ مختنق... نظر بيرلين مجددا نحو جوهان و اشار له بخفقة اهداب ان يتركهما بمفردهما.

" ماذا عنكَ سيّد بيرلين؟ تبدُو مرتبِكًا قليلاً... "
سحبَته من صمته، حرك اعينه الفولاذيّة اليها، و ذلك لم يمنعها من الابتسام بِشكلٍ غامض.

" أم انّ الموتَ الذي استحضَرتُه لا يناسب حضرتك "

تلاشت ابتسامة بيرلين حين استشعرَ منها نبرة تحدّي و تمرّد.

" يبدُو انّ الموتَ منحكِ حسّ دعابةٍ سيئا "
جاءت كلماته بصوتٍ بارد يجعل من القارة الجنوبية تبدو كجنة شاطئية.

" ارجوك اعذرني، انّه تأثير الادوية "
علّقت بنبرةٍ مستفزّة تغاضى بيرلين عنها.

" أقلَقتِ والدك كثيراً بما فعلته "
قال مغيّرا الموضوع.

" نعم، لهذا هو لم يزُرني بعد "
رددت وراءه على عجلٍ و هي ترفع كتفيها بقلة حيلة.

" و أقلقتني انا ايضاً "
نبَس مدّعيّا الاهتمام، نظرت نحوه راقعةً حاجبها و هو يستأنف حديثه بنبرةٍ منمّقة محشوة بالرّياء.

" لم أنَم الليلة السابقة و انا افكّر حيال مستقبل الجيل القادم من عائلة سكازوس... "

ارتعَش حاجبها امام ريائه الفاقع للعيون، كرِهت اصراره على ادّعاء الاهتمام في حين انّها صارت تعلم نصف الحقيقة.

" دعنِي اتخطّى هذا الجيلَ اوّلاً سيد بيرلين "

علّقت بصوتٍ فارغٍ جعله يفقد مجددا تعابيره الادمية.

" تعتقدين انكِ ذكيّة هاه؟ "

" ابدًا... لن اكون يوماً بنصفِ ذكاء احد منكم "

" لما كلـ هذه الثقة التي ليست في محلها؟ "
قال رافعاً ذقنه بدونيّة... ازاحت زارا ملاءتها الرقيقة عن ركبتيها المجروحتين و هي تضعهما ارضاً، تنظر اليه من الاسفل بأعينها الحادة.

" لانه ليس لديّ شيء لاخسره الان... اخي سيكون في عداد الموتى بعدَ مدةٍ كما تعلم... و هو الشخص الوحيد الذي يهتم لامري "

" لذا شكراً لحضرتك، اخي سيموت "
اضافت و هي تبتسم بعُسر امام انسلاخه من حلّته الادمية... اعينه كانت تتوهّج كوحشٍ جائع.

" العائلة التي تضع رغبات ابنائها على القمة، هي العائلة التي ستزول قريبا "
قال بنبرةٍ انطوتَ على شيء من التحذير.

" ما الهدف من بقاء عائلةٍ كهذه اذاً؟ "

تساءلت و هي تحاول الوقوف رغم الوهن الذي شعرت به في ساقيها.

" اعلم انّه بطريقة او بأخرى، انّك هو المسيطر هنا... انت تسيطر على والدي... و الان انت تحاول السيطرة عليّ بما انني وريثته الوحيدة ... ستحاول جعلي اتناسل كالحيوانات لضمانِ جيل جديد من هذه العائلة، ستجعلني أرمي بأبنائي في الهلاك لأجلك... ستجعلني شخصاً لا اريده ... و ربما والدي ايضاً لم يكن كما هو الان، لكنّه لم يكُن بالجرأة الكافية للوقوف في وجهك "

تحدّثت بصوتٍ بدأ في الارتعاش ريثما استولى حزنها المتكدّس بأعماقها...

" و هل انتِ بالجرأة الكافية للوقوف بوجهي؟ "
همسَ بِصوتٍ بارد.

" لا... لكنني بالجرأة الكافية لانهاء حياتي "
اجابته بابتسامةٍ مختلّة واسعة...

بيرلين الذي تعرفه كان لِيجعل رصاصةً على الاقل تستقرّ بساقها جرّاء ما قالته... لكن لا، هو ليسَ بوضعٍ يسمح لها بايذائها، خاصة و هي بوضعٍ صحي حرج... لا يمكنه المجازفة.

" هل تقومين بتهديدي؟ "
همسَ و هو يحني رقبته اليها بتهديد.

" لا معَاذ الرّب ، انا أقوم باعلامك و حسب "
اجابته بنفس نبرته، خطى خطوة نحوها فحاولت التراجع، لكنها لم تستحفظ على توازنها فسقطت.

رمقَها بنظراتٍ دونيّة قاتلة، ثم اضاف ابتسامةَ الاحتقار خاصته و هو يعيد ارتداءَ قبّعته.

" حسناً، حين تستطيع قدماكِ حملكِ، قد يكون بامكاني عندها وضع هذا التهديد الوضيع بعين الاعتبار... تحسّني بسرعةٍ زارا العزيزة "

قالَ ثم أومأ لها مودّعاً، كما لو انْ ما فعلته كان كافٍ لاغاظَته، لكن ليسَ بالقدرِ الكافيِ لجعلِه يَضع تهديدها بعينِ الاعتبار.

" لا يوجد لديّ شيءٌ لأدافع به عن نفسي ، لقد كًنتُ مُهمِلاً بما فيه الكِفاية لتركُ شيءٍ كهذا يحدث "

كانت نبرته فارغة من ايّ شعور... لم يستطِع بيرلين استشعار الذنب او العار او حتى اللّوم بأعينه الفارغة.

هو لم يَرَه بهذه الحالة من التبلّد من قبل ، و ذلك جعله يقفُ صامتاً امام باب سيّارة البنتليِ خاصته، دون قول كلمة فقط يُسقِط نظراته الحياديّة على جوهان .

" و ان أردتَ استبداليِ بشخصٍ اكثَر أهليّة للمهمّة، فأنا أتفَهم قرارك سيّدي المونديغو "

أضاف جوهان بنبرةٍ رسميّة للغاية جعلت بيرلين يرفع ركن شفته للاعلى و كأنّه يسخر بها من نفسه.

سيّدي الموندِيغو؟ آخر مرّة ناداه جوهان بهذا اللقب كان قبل عشر سنوات، حينَ برهَن له اخلاصه ، و سمَح له بيرلين بمناداته بأبي.

" لا... انتَ مثاليّ لهذه المهمّة "
تحدّث بيرلين بصوتٍ عادي فتفاجئ جوهانّ بِكلامه... كان ينتظِر عقابًا، توبِيخاً او حتّى ان يطرُده من مرشّحي المونديغو... فتح فمهُ يريد قول شيء، لكنّ بيرلين واجههُ بنبرةٍ حادّة.

" هل لديكـ اعترَاض على قراري؟ "

" لا "

استكانَ و هو يجيبُ دونَ تردّد، أشرَق وجه بيرلين بابتسامةٍ راضية و هو يركَب سيّارته في صمت.

و هُو شاردٌ بسيّارة البنتلي السّوداء الراحلة ، لوّحت نانا بجانبه بِباقة ازهارٍ بيضاء، و هي ترتديِ ابتسامتها الواسعة قالت.

" خُذها لِزارا "

نظرَ نحوها ببرود ثم نحو الازهار.

" و هل تبدو لكِ كفتاةٍ تحبّ الورود؟ "

تأفّفت بصوتٍ مسموع و هي تدفَع الباقة الى صدره فالتَقطها رغمًا عنه.

" حتى لو لم تحبّها، فكرةُ انّ احدًا جلبها لها ستدفئ قلبها "

تحدّثت بابتسامةٍ فاترة، ثم أضافت و هي تهزّ رأسها بِتأكيد.

" ستروقُ لها، و مزاجها سيتعدّل ... ثِق بي "

" لا اهتم بمزاجها "
ردّد وراءها على عجلٍ و هي يرمِي الزّهور ارضًا بِلًؤم امام نانا المبهورة بتصرّفه.

ثم سار بسرعةٍ الى داخل المشفى، ضغطَ على زرّ المصعد، فجاءت نانا وراءهُ محاصِرة ايّاه.

" لِماذا لم تنم منذُ ان حاولت الانتحار؟ "

رمقَها بنظراتٍ ثاقبة.

" نِمت "
قال و هو يرتدي نظارة شمسية لاخفاء الاحمرار الذي تصبغت به اعينه.

تنهدت نانا بِارهاق و هي تعتدل بوقفتها مبتعدةً عن باب المصعدِ الذيِ فُتح.

" فقط لا تدَع مورتا تراك بِهذا الشّكل، سَتصنَع منكَ اضحوكة ... انت تبدُو مزرِيا "

" سيكون جيدا لو عُدتِ الى عملكِ نانا ، انا لا ادفع لك مالاً لمنحي نصائح عاطفية "
ردّد وراءها بلهجةٍ باردة لئيمة و هو يستعجِل بِدخول المصعد تاركاً ايّاها في احباط.
" يا لك من لئيم "

تمتَمت حينَ رحلَ و عادت ادراجها الى المبنى المهجور المقابل للمشفى كي تراقِب منه زارا.

قامت بِفرشِ لحافٍ سميكٍ اسفل النافذة، ركّبت عليهِ سلاحَ قِناصَتِها في ظرفِ دقيقة، ثمّ وضعتهُ بزاويةٍ مثاليّة تسمح لها بِرؤية زارا جيدًا...

مرّ الوقتُ و هي تُراقب، لا شيءَ جديد، أصابها الملل.

تنهّدت ناناَ بِصوتٍ خافت و هي تسحبُ مرآتها، ترسُم محدّد عينها بسلاسة .

فجأة و عبرَ انعكَاس المرآة رأت ظلاّ من الوراء... ارتفع ركنُ شفاهها في ابتسامةٍ خبيثة حينَ تأكّدت من حدسها.

شخصٌ كان يتبَعها منذُ البداية.

أنزَلت نانا مرآتها، ثمّ بسرعةٍ رمَت خنجرَها للوراءِ الى مكان الظّل، وراء الجدار المتهتّك.

تراجع الظّل، و بتلك الثانية سحبَت المسدسَ وراء ظهرها و قامت باطلاق رصاصٍ عشوائي.

ترمِي الذخائر الخاوية و تغيّرها بسرعةٍ بالرّصاص كما لو انّها تأخذ ملعة ثانية من سكر، بوجهٍ جامدٍ جعلت من الجدَارِ غربالاً.

أفرغَت رصاصَها، و سيَكون من سابِع المستحيِلات بقاء انسانٍ حيّا بعد كلّ هذا.

سارت بِكعبِها الثّقيل على الشظَايا بثقل، نحو الجدار كي تطلّ وراءه... لم يتواجد احد.

فجأةً اختلّ توازنها و هي تشعر بِذراعٍ تخنقها و تعيدها للوراء... كانَ رجلًا قويّا يقيّد جسدها للوراء.

ركلَت ناناَ الحائط امامها بقوة، و بفعل قوّة الدّفع سقَط الرجل ارضاً و هي فوقه...

تحررت منه و بسرعة حملت شظيّة زجاج و حاولت طعنه بها، لكنه تصرف في اخر لحظة و امسك يدها ... أسقطها ثم اعتلاَها ، مثبّتاً يديها على الارض.

ابتَسمت ناناَ و هي تنظر الى عينيه القاتمتين.

اعينه اللوزيّة المحاطَة بِأجفانٍ رقيقة و رموشٍ ناعمة مقوّسة ...

" لديكَ اعينٌ جميلة للغاية ايّها الشرطي اللطيف "

همست بلهجةٍ مستمتعة الى كيليان، و قد اتّسعت اعينه فجأة، و تجمّد تلقائياّ و نانا لا تستحوذ عليه فقط بكلماتها بل بنظراتها الماكرة.

و بجانب تلك الركلة بأحشائه من تأثيرِ كلماتها الدافئة، أتتهُ ركلةٌ اخرى حقيقيّة ببطنه من قدمها فَازاحت بها جسده بِسهولة عنها و نهضت راكضة للهرب، لكنّه امسك قدمها فسقطت مجددا، زحفَ اليها موجها مسدسه الى وجهها الدامي.

"انتِ رهنَ الاعتقال بتهمةِ التعدّي على شرطي "

" لقد كانت تسأل عن والدها منذ ان استيقظت ، ان قام بزيارَتها "

تمتمت الممرّضة بصوت خافتٍ الى جوهان الذي أطلق نفساً ضعيفاً... توقّع منها ان تسأل عن والدها.

" فعلتُ كما طلبت مني و اخبرتها انه زارها و هي لاتزال فاقدة للوعي "

إستأنفت الحديث بنفس النبرة، أومأ لها جوهان متفهّمًا فرحلت الى عملها...

توجّه الى كرسيّ الانتظار، فتح كتابه على الفصل الذي لم يُنهه بسبب انشغاله مع الحوادثِ الاخيرة، و حين كان في الماضي يُنهِي كِتاباً في اقلّ من ساعتين... هذه المرة قضى ساعةً يعيد صفحةً لأنه لم يستطِع التركيز... الكلمات اصبحت اثقل، و الجمل بلا معنى، الاحرف غريبة.

انسابَ نفسٌ ثقيل من شفاهه و هو ينهض الى ماكينة القهوة، متأكّدٌ ان السبب لعدم تركيزه كان قلّة النّوم ليس الاّ، و كوبُ قهوةٍ مرّة الانَ سَيُوقظه دون شكّ.

لكنّه استهلَك أربعَ اكوابٍ ، و لايزالُ عند نفس الصفحة.

و حينَ استسلم، حملَ قلمه الخاصّ و اخذ يخربش، يرسم... يصوّرُ اشكالاً قد يودّ نحتَها عند عودته الى ورشَته الحبِيبة.

شرَد جوهان في رسمِ ما حاكتهُ انامله و وعيه... انفٌ مرفوعٌ قليلٌ في نهايتِه بجسرٍِ قصير، شِفاهٌ متوسّطة، و اعينٌ كبيرة خاوية... شعرٌ قصير و نمشٌ خفيفٌ منتشِرٌ كحبوب الرّمل على وجنتيها.

و هناكَ اسفل اذنها رسمَ زهورًا , الصفير البنفسجي للنّحيب، زهرة الثّلج لاعادةِ البعثِ و الشفاء، النرجِس لبداياتٍ جديدة...

وجدَ نقسه يرسُم هذه الزّهورَ مكانَ جراحها...

توقّف فجأةً يفكّر فيما قالته نانا.

زهور... هل ستُسعِدها؟

فتحَ كتيّب معاملة النساء المحفوظ بجيبه الداخلي ، و بالفعل مكتوبٌ هنا انّ الورود تُسعِد الفتيات.

أغلقه بعنفٍ و هو يفكّر في تصرفَاتها اللّئيمة، سترميِها في وجهه ان أحضر لها باقة...

لِما انت خائف من رفضها؟ تساءل بداخله و هو يعيش صراعاً نفسيّا عميقا.

أزمةُ هويّة، ام هذه تكون أزمةَ رُبع العمر... ؟

- او منتَصِف العمر لأنّه يوقِن انّ تجاوزه للخمسين سيكُون معجزة مع طبيِعة الحياة التي سيعيشها -

وجدَ نفسه جاهلاً كليّا لمشاعره، تفسيرها و تقبّلها.

نهَض كي يُلقي نظرة عليها بِهدوءٍ شديد، و قد كانت نائمة بعمق في سريرها...

رموشٌ رفيعة مبَلّلة، أجفانٌ حمراء و انفٌ متوهّج... لاتزال تصرّ على البُكاءِ في الخفاء، ادّعاء البرودِ امامه.

حتّى لو كانت اعينُها تتلألأ كالبلّور، احياناً تبدوُ مخمليّة... ميّتة.... كعيونُ جثّةٍ فارقت الحياة منذُ ساعتين.

قرّر جوهان اتّباع النّصائح، و شراء ازهارٍ لزارا.

تحتَ تلك السماء الرماديّة المنخفِضة، و فوق ضحلٍ من الامطارِ القليلة، كادت زارا تقعُ ارضا بعدَ ان نزلَت من نافذة غرفتها للاسفل بما انها كانت في الطابق الاول و حسب.

استغلّت غيابَ جوهان و فعلت ما تجيد فعله دائما.

الهَرب.

بقلبٍ بارد كهذا الجوّ الشتويّ سارت الى المجهول، دون وجهةٍ محددة، فقط لفّت وشَاحها الرّماديّ حول رقَبتها و تقدّمت...

محاولة انتحار فاشلة، والدٌ لم يتكبّد عناء زيارة ابنته التي عادت من الموت، الالم الذي يعبث بجسدها، و فوق ذلك خسارتها المحتّمة لشقيقها .

المرّة القادمة، ستجد رأسه بصندوق.

راودتها تلك الفكرة فتبللَت رموشها بِأمطار عينيها؛ و هانَت قِواها.

كان لفقدانها المُهلك للدمِ آثارٌ سيّئة، و ها هي الان لا تستطيع اجتياز شارع دون ان تتصبب عرقا...

تقرأ العداء على وجوه المارّة، و بسرعةٍ اصابتها تشنّجاتٌ مؤلمة... وقفَت بلا حولٍ و لا قوة امام عمود كهرباء تلهث بعمق، أطبقَت بقوّة على جفنيها آمِلةً في ان تختفِي صورة ايزاك من عينيها قبلَ ان تنهار...

لقد كان الانسان الوحيد الّذي احبّها دون قيدٍ او شرط ، حبّه الاخويّ الدافئ كان الشيء الوحيد الذي عتقَها من اليأس حتى بعد كلّ ما حصل لها من اذى...

حتى و والدها يتصرف كوغد، حتّى و هيَ نصفُ ميّتة، حتّى و هي غارقةٌ بحزنها و المها... لم يتوقّف عن محاولاته لابهاجها، لم يتوقـف عن نفخ الحياة بِقلبها، و طردِ سحابة الشؤم التي ظلّلتها.

و لكنه الان بعيد عنها، في مكان لا تستطيع انقاذه منه.

و هي تميلُ غير قادرة على الوقوف بِاستقامة ، شعرت بيدٍ تمنعها عن السقوط.

تكَهرب جسدها و هي تستقيم على الفور، تنظر بِأعين متسعة الى المرأة التي لم تسمح لها بالسقوط.

" مرحبًا هناك... هل انتِ بخير؟ "

من تكونُ تلك؟

ارادت معرِفة الجواب اكثر من شيء.

لم ترَ زَارا من قبل دوّامةً تمزِج بينَ الذّوق البسيط و السّحرِ المطلَق مثْلَما شاهدت ذلك في مُورتا...

جسدِها الانثويّ كان ملفتًا لللانتباه حتى و هو ملفوفٌ في ملابسها الدّاكنة المرتّبة، شعرُها الاشقر النّاصع كان أملس مسدولاً على كتفيها ، و شفاهها بشكلِ قلبٍ أحمر نبيذيّ.

لكنّها استطَاعت ان تمتلِك سحرًا لا يُمكِن تجاوزه... ابتسامتها الهادئة كانت تعلَق في الذّاكرة، اما اعينها الزرْقَاء فكانت تحفُر أمهَر من حفّار القبور.

" هل انتِ بخير؟ "
كرّرت سؤالها؛ صوتُها كان يمتلك شيئا من الخشونة مما جعله جذّاباً.

" نعم، شكرًا لمساعدتك "
شكرتها بِصوتٍ متهدّج و هي تقف باعتدالٍ امامها.

" انتِ متأكّدة؟ انتِ ترتجفين "
قالت بِاهتمامٍ و هي مستمرّة بِوضع يديها وراء ظهرها مما منحها ثقةً عالية بالنّفس.

" نعم "

تمتمت بعدَ ان حمحمت مطهّرةً حلقها من التوتّر الذي نشرته مورتا في الهواء.

" انا أدعـى مورتا على كلّ حال "
قامت مورتا بالتعريف على نفسها على عجلٍ قبلَ ان تفرّ زارا منها... قطّبت جبينها و هي تحاول الاّ تُبدِي استغرابها من اسمها.

مورت، ا... Mort, a...

كما لو انّها النسخة المؤنّثة من مفرد الموتِ بالفرنسيّة.

من قد يختارُ اسماً بهذه الفظاعة لابنته؟

ابتلعت زارا ريقها بتوترٍ و هي ترسم ابتسامة ضيّقة لتجاوز الامر.

" تشرّفت بمرفتك مورتا... علي الذهاب "

حاولت الهروب منها لكنّ مورتا وقفت في طريقها.... علِقَت عيناها الزرقاوتان البلّوريتين في اعينها الجليديّة لمدة من الزمن، زارا كادت تبلغ شاطئ اليَقِين و هي تتلقّى هذه النظرات الحازمة من مورتا.

مورتا هذه تُشبه جوهان... ليس في الشكل، بل في الهالة.

" ما الّذي تريدينه منيّ؟ "
همست بهدوء، فأشرق وجه مورتا فجأة.

" فقط اردتُ الحديث معكِ قليلا زارا سكازوس، ان لم تُمانعي "

تخلّلت الحدّة ملامح زارا بسرعة ما ان فهِمت الامر.

" ارسَلكِ بيرلين؟ "

انتَشرت ابتسامةٌ جديدة على ثغر موُرتا.

" لا، لم يـقُم بارسالي... اتـيتُ بمفرديِ "
اجابت بِنبرةٍ هادئة و هِي تفتَح مظلّتها حينَ شَرعت الامطارُ بالهطول، فوقَها و زارا معاً.

" و الآن، هلاّ شاركتنِي كوبـ قهوة في هذا الجوّ البارد؟ "
عرَضت بِنفس النبرة و الابتسامة.

تواجدَ وجهُ شبهٍ بينَها و بين جوهان في الاسلوب المنمّق، و ذلك لم يهرُب ابدا من ملاحظة زارا التي لم تلمَس كوبَها بتاتاً ريثما استمرّت مورتاَ باحتِساءِ كوب الكابوتشِينو مُحافظةً على ابتسامتها الضّيّقة.

أبقَت عينيها عليها و كأنّها تدرُسها بِحذرٍ شديد، و مورتا التي تدرِك نظراتها لم تكسِر الصمت الا بعد وقتٍ طويل.

" لم تلمسِي كُوبك "
علّقت مورتاَ و هي تضعُ كوبها بهدوء.

" ما الّذي تريدينه منّي؟ "
بصـقت كلامها بلهجةٍ مهاجمة.

" لا شيء بالتّحديد "
ردّها كان باردًا رغمَ الابتسامة التي حملتها شفاهها؛ استأنفت الحديث بعد اخذ نفسٍ صغير.

" لطالما شعرتُ اننَا متشاَبهتان، لهذا وددتُ الحديث معكِ منذُ زمن بعيد "

" متشَابهتان؟ "
ردّدت زارا وراءها بِاستغراب، اتسَعت ابتسامتها الضيّقة و هي تميل رأسها قليلا لليمين.

" الدم، الحب، المصالح... كلّها روابِط متينة قد تجمع بين البشر... "
تراجعت كلماتها الى همسةٍ و هي تنزِع قفّازها الاسود عن يدِها.

" لكنّ ، و لأنّ الالمَ مُتجذّرٌ في جنس الفتيات... رابطة الالمِ تكون الاقوى بين فتاتين "

وضعَت مورتا قفّازها جانبًا و هي تستأنِف حديثها.

" نحن ننزِف دائمًا، حينَ نعضّ على ألسنتنَا لنمنع انفسنا من الكلام... حينَ تنقبِض أرحِمتنا... و حينَ يضَع رجلٌ يده النّذلة علينا... "

جاءت كلماتها بِصوتٍ منخفض ريثما اعين زارا تتسع من شكلِ يدِها... اناملها التي حملت اظافر غريبة الشكل، سرعان ماَ حوّلت نظرها الى مورتا التي شرعت بِسردِ روايتها دون ايّ تغيِير بملامحها.

" كنتُ صغيرة جدّا حين حصلَ الامر، لهذاَ شكلُها مقرِف "

قالت و هي تحمَل كوبَها كي تتصرّد منه ثم تضعه ضاحكة بِصوتٍ عذب.

" لكن يجدرُ بكُ رؤيةُ ما فعلته به، تركتُه بمنشارٍ في الرأس..."

رفعت نظرها الى زارا مضيفةً.
" عميق بما يكفي لِدفنَه معه "

انتشَرت ابتسامةٌ خافتة على شفاه زارا التي أخفَتها بسرعة... شعرت بالعار لانها كادت تضحك على شيءٍ مؤسفٍ كهذا ، او لتشابُه اسلوبها المنمق بالحديث مع اسلوب جوهان ، لذلك اعتَذرت ثم صمتت و تجنّبت النظر نحو مورتا لوقتٍ وجيز الى ان نبَست فجأة.

" ماذا عنكِ زارا؟ "

رفَعت بصرها نحوها و قد اصابها الخرسُ لدقيقتين كاملتين... الى ان اجابتها بصوتٍ متقطّع.

" انا تركتُه بِجرحٍ عميق على ساعدِه الايسر ... حفرتُ اظافري عميقا به، لهذا هو غضب كثيرا... و قرر اقتلاعها "

انسابت كلماتها بنبرةٍ مرتبكَة، لا تعلم لماذا اخبَرت مورتا التي لم تقابلها من قبل عن تلك الذكرَى الشّنيعة، لكن دون شكّ... التقاؤها بشخصٍ يشاركها نفس الالم كان مُرِيحا لها.

" الرّجال! "

علّقت مورتا بسخرية و احتـست قهوتها بصوتٍ مسموع، ممّا جعلَ زارا تضحك متبَسّمة من ذلك التقليد السّاخر...

مُورتا كانت جذّابة، ليسَ لأنّها جميلة، بل لأنّها كانت تجِيد السخريةَ من الآمِها... شعرَت زارا بالغيرةِ منها للحظة، من القوّة التي افتقَرت لها لكنها تواجدت بوفرةٍ في مورتا.

" كيفَ تمكّنتِ من المضيّ قدمًا؟ "

همسَت بتيِهٍ، رفعت مورتا بصرها الواسع الى زارا التي ارتبكت من سؤالها المفاجئ.

" أ لا تكرَهين النظر الى هذه الندبات؟ "
همست بِصوتٍ مختنق...

وضَعت مورتا كوبها بِبطءٍ دون قول شيء... ارتدَت قفـازها مجددًا و هي تبتسم بخفوتٍ و اعسنها مغمورةٌ بِالنشوة... كما لو انها تنظر الان الى الاجساد الفظيعة التي دفنتها .

" اراه في كوابيسي، و احياناً يخرج امثاله من وراء بابِي دائمًا... حتّى انّ الحروق التي تركَها على جسدِي احياناً تدغدِغُني... "

نبَست فجأةً و هي لاتزال تنظر صوبَ الزّاوية ، ثم رفعت بصرها الى زاراَ مضِيفة.

"لكنني لا اقرف من نفسي بتاتاً ... لقد نجوت ، و كلّ هذه الندوبِ تخبرني بذلك "

مورتاَ لم تُمانِع تحصّلها على ندوبٍ في جسدها الجميل، الندِوب بالنسبة لها كانت جوائزَ و شهاداتِ نجاتها... أحبّتها.

صمتت زاراَ و عيناها الباهتتان الضعيفتان في اتّصال بصريّ مع اعين مورتا الباسمةِ الجليديّة... حتى لو حملت الاثنتان نفس لون العين، بالنظر اليهما، كانَ ازرَقُ مورتا مختلِفًا تمام الاختلاف عن ازرَقِ زارا.

أزرقٌ حين يلمسُه الاحمر الدامي قد يتحوّل الى سماءٍ ارجوانيّة مبهرة...

و هناك تواجد ايضا ازرقٌ لمسَه نفس الاحمر، لكنّه تحول الى بحرٍ اسود غاضب...

" جوهان؟ "
تساءلت و التعبير الذي أبدته زارا كان اجابةً واضحة.

" اجيبي، لابدّ انّه قلقٌ عليك ."

" لا اريد ان اراه "

" لماذا؟ "

تنهدت زارا عميقا تفكّر في اجابةٍ مناسبة... لا ترِيد لمورتا ان ترَى ضجيج قلبها على وجهها...

" وجهه اصبح يثِير اعصابي "

قطّبت مورتا جبينها بِحيرة.

" لماذا؟ أ و ليس وجهه فاتناً ؟ هذا الشيء الوحيد الجميل فيه... سيكون مخذولاً ان سمع بذلك "

نبست بسخرية جاعلةً ايّاها تتبَسّم مجددًا... انهَت مورتا كوبها و نهضت و هي ترتدِي أعيناً رحيمة.

" دعينِي ارافِقكِ الى المشفى ... لازلتِ بحاجةٍ الى الرعاية زَارا، اعلم انّك ترِيدين الاختفاء اكثر من اي شيء الان... لكنّ جسدَكِ بحاجةٍ الى الراحة "

اميرٌ آتٍ للانقاذ... رجلٌ على حصانه...

لا شيءَ يُقارن بقلقٍ صادرٍ من فتاة ذات ابتسامةٍ ملائكية كمورتا.

دافئة بقدرِ الصقيع في اعينها...

" استطيع ان ارتاحَ في مكانٍ بعيدٍ عنهم "

تمتمت زارا و هي ترفض النهوض، تغلق المكالمة مجددا في وجه جوهان.

" سيلاحقكِ جوهان و لو اختبَأتِ تحت الارض، هذا شيءٌ لا مفرّ منه "

" لماذا؟ "

" لأنّه واقِعٌ بحبّك "
بصَقت مورتا ما بجعبتها غيرَ آبهةٍ لشيء، لا لآداب اللياقة، او كونها الانَ تدعمُ علاقةً محرّمة بينَ ظلّ دائم، و احد افراد النخبة.

اتّسعت اعين زارا كالبحار بعد ان سارت قشعريرة باردة بجسدها... بدت مذهولةً من الكلمات التي انبَثقت من فم مورتا بهذه السهولة.

رنّت الاجراسُ بأذنها... اجراسٌ صاعقة، هزّت مدينتها اثرَ قدومِ العدوّ المحتل...

" ما... ما الذي تتحدّثين عنه؟ "
تحدّث بتهدّجٍ و قد ازداد الارتعاش بِجسدها، تضاعف النبض بقلبها، شعرت كما لو انها على وشك الاصابةِ بنوبةٍ قلبية.

ردّت بابتسامةٍ ضئيلة بدل الكلام، هزّت رأسها للامام تحثّها على الذهاب معها.

" هيّا لنذهب "

قبِلت زاراَ دعوةَ مورتا المتواضعة التي أوصلتها بسيـارتها الى باب المشفى، ودّعتها بكياسةٍ ثمّ نزلت لكنها نسيت وشاحها فاضطرت مورتا لمناداتها.

" نسيتِه "

تشكّرتها زارا بأدب و هي تلفـ وشاحها حول رقبتها تلقائيا.

" لديكِ وشاحٌ جميل... "
امتدحته مورتا و هي تنظر الى تفاصيله المتدرّجة، العقدِ المتشابكة بمهارةٍ في داخله رغم بساطة لونه.

ابتسمت زارا تلقائيا عند المديح و قد انتشرَت بعض الحمرة بوجنتيها الشاحبتين.

" تعتقدين؟ انا صنعته "

فجأة تلاشت ابتسامة مورتا لسبب لم تفهمه زارا، و هذه الاخيرة شعرت بِغرابة شديدة من التغير المفاجئ بسلوكها.

" تجيدينَ الحياكة؟ "
سألت بنبرةٍ باردة.

كان ذلك وجهًا جديدًا منها، وجهاً متحرّراً من قناعها الزائف المبتسم الذي كانت ترتدِيه طوال الوقت...

بدَت مورتا كطِفلة، و هي تشعر ببعضِ الغيرة من زارا التي تجيد الحياكَة، لكن هي لا... و هي المرأة التي تجيد كل شيء.

" نعم... جدّتي علمتني "
تمتمت زارا حين وجدت صوتها.

صمتت الاثنتان في ذلك الجو الداكن، و الذي كسرته مورتا بنصف ابتسامةٍ مجبورة.

" أحسَدُكِ "
قالت كما لو انها تعنيِها مئة بالمئة... مجددا، شعرت زارا بحاجتها للهرب من هذه المخلوقة المتقلّبة.

" ودَاعاً "
ودّعتها بابتسامة رقيقة و هي تغلق الباب، تدريجيّا تلاشت ابتسامة مورتا كما لو انها كانت ثقيلة عليها و هي تهمس...

" أراكِ فيما بعد "

و مع مرور بعض الثوانيِ انفتح الباب مجدداً و صعد الى جانبها نيلو، قام بوضع حزام الامان و هو يرتدي تعبيراً ساخرا.

" يبدُو انّها انخدَعت بوجهك الملائكيّ "

ارتفع ركنُ شفاهها الحمراء في ابتسامةٍ خبيثة جانبية و هي تشغل محرك السيارة مجددا...

" من اللّطيف انني استطعت ان اكون انسانة صالحة لها...  الى الان على الاقل "

ابتِسامةٌ في الوجه، لا تَقِي من طعنة في الظّهر... هكذا كانَ حال مورتا.

حتى اسوؤُنا و يَملك جانِبًا صامتاً، لكن صارخاً بالشفقة.

هكذَا هو الانسان... قد يملِك يدَ ملاك، و لكن قلب شيطان.

و العكس صحيح.

مثل مورتا، و التي كانت انساناً بجسدٍ ملطّخ بدماء غيرها و بالعار و الغدر... كَانت اعينها مغلّفة بغشاءٍ رقيق من الدموع الشفافَة كلّما جلست في مقعدها الهزّاز امام تلفازها، اثناء عطلة اسبوعها دائما.

الفيلم الكرتونيّ، اينَ تقوم الامّ بحياكةِ وشاحٍ احمر لابنتها، و تلبِسها ايّاه...

لا يستطيع نيلّو فهمَ لما مورتَا متعلّقة بهذا الفيلم الكرتونيّ السخيف منذُ طفولتها...

" هذا ما وجدتُه بِالكتاب الذي ترَكه بالمشفى ريثما كنتِ مع تلك الفتاة ... بعد ان ركضَ باحثاً عنها "

أطفأت مورتا التلفاز ما ان عرَض راي عليها ما وجد في هاتفه... رسوماتٌ لزارا .

" انّه يكنّ مشاعر لها... هذا سيَقتله ان عرف احدٌ بالامر "
تمتمَ بارتباك، ثم راح يذرع الغرفة ذهاباً و ايابً كما لو انّ اعصابه ستنفجر استمرّ بالتحدث الى نفسه.

" انّها تشتت جوهان... لا احبّها... ينبغي ان نتخلّص منها "

" لا يا راي، لا يمكنك ايذاء شعرةٍ منها... توقّف عن التصرف كالاطفال "
تكلّمت مورتا بنبرةٍ جادّة و هي تُلقي هاتف راي و تنهض للخروج، تبعها نيلو اولا.

" لِما لا نرِيه للمونديغو الان و نتخلّص منه يا مورتا؟! هذه فرصتنا! "

تنهدت بِعمقٍ و هي تجيبه بصوت منخفض.

" لا... انا لا اريده ان يموت يا نيلو... أ لا تتذكر الاتفاق الذي بيننا و بين راي... جوهان لن يموت، لكنه لن يصبِح المونديجو كذلك "

عقد نيلو حاجبيهِ من كلامها، منذُ متى مورتا تهتمّ بوعودها؟ خاصّة لراي الّذي يخطط كلاهما للتّخلّص منه في اقرب فرصةٍ ممكنة؟

تزامناً مع ذلك و قبلَ ان يفتح نيلو فمه بِأسئلته الكثيفة ، ظهَر في آخر الردهةِ رجلٌ قد خرج للتو من مكتبِ بيرلين، يرتديِ ابتسامته سمجة الطلة .

ذلِك الشّابّ ذي الاكتاف المنتصِبة بفخر... بنطال اسود مليء بالجيوب، جزمة عسكرية سوداء ثقيلة، قميص قطني ذي ياقة مرتفعه تحتَ معطفه ، كلْها سوداء كَسواد شعره القصير جداً...

سَاينت... الشرّ الذي لابدّ من وجودِه في ايّ قصّة.

" أ و ليسَ هذا ساينت؟ "

تمتم راي بحيرةٍ، و قد كان ساينت غائبا لسنين دون اخبارٍ عنه لدرجة ان الكثِيرين اعتقدُوه مات .

رفَع ساينت عيونهُ الرماديّة للأمام ، انعكسَت صورة مورتا المترقّية على اعينهِ الباسمةِ المغمُورة في الظـلام.

" مرحبًا شقيقتي العزيزة... "
ارتدَى تلك الابتسامة الزائفة و هو يرحّب بمورتا كما لو انّه رآها البارحة فقط  ؛ كانت خمس شاماتٍ موزّعةً على وجهه الجميل.

ثم وجه بصره الى نيلو مرحبًا به.

" نيلو الكبير "
و الى راي الّذي يرمقه بعيونٍ نصف مترقّبة نصفِ قلقة.

" راي الذي نجا لوقتٍ طويل "

و منه نقل بصره و بسمته الواسعة الى مورتا بالوسط كما لو انّه يرمي احتقاراً واسعا الى الاثنين الباقيين.

" كيف الاحوال؟ "
سأل بكياسةٍ و هو يفعلها مجددا... يميِل رأسه لليسار، كما لو انّه جاهزٌ لالتهام احد ما.
" بأفضل الاحوال بعد انسحابك من المرشحين لمنصب المونديغو "
نبَست مورتاَ بِلهجةٍ فارغة و هي تطوي ذراعيها على صدرها.

ضحك ساينت متبسّماً و هو يخفض بصره عنها.

" كنت سأسعد بمنافستك لولا رغبتي المطلقة في خدمة المونديغو ... اشعر كما لو انني خلقت لاكون دمية متحركة، و ليسَ صاحب الدمى... هذا هو مكاني على المسرح "

شرحَ بلهجةٍ منمقة شغوفة عن الدّور الذي اختاره بالحياة... رفضه للترشح للمنصب رغم اهليّته كان صدمَة للجميع.

الكلّ يطمح لهذا المنصِب، الجميع يريدون القوة، المال و النفوذ... لكنّ ساينت كان يُريد الفوز... و كان يدرِك ان الفوزَ و الحكم ليسَا بنفس الشيء.

ساينت كان وفيًّا لِلشرّ، بحروف اخرى، كان مُخلصًا لبيرلين .

" اتمنى لو تقنع جوهان بنفس الشيء، انه يصغي اليك احيانا "
تمتمت مورتا بصوت فارغ و هي تتنهد طويلا.

فجأة اشرقت اعينُ ساينت حينَ ذكرت اسم اخيه الحبيب الصغير الّذي شاركه سفك الدماء في قليلٍ من العمليات.

ساينت كان احد الاقلاء الذين احترمهم جوهان، نظراً الى التاريخ الطويل الذي جمعهما، منذُ ان بنى الاثنان معا رجال ثلج.

" كيف هو جوهان؟ لا اراه هنا؟ "

" انّه واقع بغرام ابنة آل سكازوس "
نبَس نيلو بطلاقة، وبّخه راي على عجل.

" نيلو! "

" تقصد زارا؟ "
فجأة نبَس ساينت بهدوء مرِيب ، و بسرعة صوّبت مورتا نظرها الثاقب عليه.

لماذا يناديها باسمها هكذا؟

" تعرفها؟ "

تمتمَت مورتاَ بِصوتٍ بارد و اعينها تترقّب اجابته... و لأنه يعرف انّها بالدّهاء الكافي لِلشّك فيه، رفع بصره اليها، نظر اليها بِتلك الاعينِ القاسية خاصته ثم رسم ابتسامة غامضة مُريبة قائلاً بصوتٍ فارغ.

" لا "

و رغم تلك النظرات المرِيبة، مورتاَ لم تتزعزع من مكانها، لا شيءَ تغيّر بملامحها، لم تبتسم حتّى عندما تبسّم ساينت في وجهها معلناً موعد رحيله.

" أوصلُوا سلاميِ لجوهان، و اخبِروه اننِي أتشوّق لرؤيته "
ألقى وداعه المتواضِع بهدوء عليهم و رحلَ امامها...

لكنّها وقفت مكانها تشاهده و تسترجِع ما لمحته عيناها قبل قليل.

مورتا كانت امرأةً،  لسوءِ حظّ اعدائها و لحُسن حظّها في لعبةِ الجوعِ الّتي مارستها منذُ نعومةِ اظافرها.

امرأةٌ مكلّلة بالحدس، و منه امرأةٌ تقفُ دوما على بعد خطوةٍ من الامام دوما...

ساينت الآن وقَع ضحيّة حدسِ مورتا، و التّي عاهدت نفسها ان تمنح حدسها العظيمَ برهانًا كما يليق به.

و عهودُ مورتا، تتحقق دوما.

Continue Reading

You'll Also Like

218K 5.4K 10
في لُعبَة مُحكمَة الإتقان، يَدخُل ثلاثَة عُملاء إلى عالَم المافيا، في هَدف تَحطيم أقوى العائِلات، بيروز باديشاه التي لا تُقهَر تَقع بين أيادي أخبَث ا...
29.3K 1.9K 17
-[مكتملـة.] «إذَن؟!» «حسَنا لنَقُل أن أحدَنا مُنجذِبٌ للآخر!» «حسنًا سأحاول إقناع نفسي أن أحدَنا هذا ليسَ أنت» «إذن وإن يكُن! هذَا الصَيّف الذي...
1.1K 62 1
" في عالم المافيا ، الولاء هو عقد لا يمكن كسره، حيث النخوة والشرف يتعايشان مع الخيانة" ᴠᴇɴsɪʟʀᴇ
255K 12.6K 28
اكسري قيود وحدتي. وسأستمر كوني سئ للغاية. أنتِ لا تعلمين من هو. أبتعدي عنه ذلك الطالب المفصول. يدُعى جونغكوك. ـ جيون جونغكوك ـ يون ايريم.