Empty Crown | تاجٌ فَارِغ

By Mervadoz

77.3K 3.5K 2.5K

الرّواية من سلسلة Eigengrau " أحبّ كيفَ تراقِبني دائمًا يا أرغوس! " تحدّثت ساخرة و أناملها المضطربة تسير على... More

INTRO
تمهِيد : الظّلال الدّائمة.
١. أعِدنِي الى اللّيلة الّتي التَقينا بها.
٣. المَغِيب.
٤ . نبَضات قَلب.
٥ . مِن جنّةِ عَدن.
٦. جنّة، انتَظِرِي.
٧ . أكرَهُك، لا تترُكني
٨ . مَن تكُون تِلك؟
٩. مُلاحظَاتٌ فارِغة.
١٠ . جينز ازرق
١١ . خالٍ من العيوب
١٢ . المًقنّع
١٣. لأجلِ حبٍّ ابنة.
١٤ . طيورٌ سوداء
١٥ . قرِيب
١٦. شَجرةُ الاعدام.
١٧. لا وقتَ للموت.
١٨. نهايةُ العالم.
١٩. تِلفاز
٢٠ . لاَ أحَد.
٢١. انَا و الشّيطَان.
٢٢. القلعة
٢٣ . قُل نعَم للجنّة.

٢. كارمِن

3.9K 158 287
By Mervadoz

طبعا، هناك أمور تتجاوزنا، ولكن في أغلب الحالات نبقى الفاعل الحقيقي لشقاواتنا.

نصنع عيوبنا بأيدينا، ولا يمكن لأحد أن يتبجح بأنه أقل جدارة بالشفقة من جاره. أما ما نسميه بالمصير ، فما هو إلا عنادنا بعدم تحمل نتائج إخفاقاتنا الصغيرة والكبيرة...

آمنَ جُوهان الّذي اعتقَد دومًا انّه قادرٌ على رسمِ قدرِه؛ لم يكُن يدرِي انّه يقِف الانَ امامَ لُعبةِ القدرِ الأخبَث الّتي ستبرهِن له انّه سيبقى للأبدِ ممثلاً بمسرحية الحياة و ليسَ أكثَر...

و فِي ضبابِ عينيهِ لم تستطِع زارَا قراءَة شيءٍ منه غيرَ انّه لم يُوجد هنا لايذَائها... هو هنا فقط لإعادتها الى قصرِ والدها.

" من أنت؟ "

همسَت بِصوتٍ يكادُ يُسمع... ردّ عليها بابتِسامةٍ متعجرِفة، يسخرُ منها بكلِماتٍ متحاذِقة.

" الشّرّ و الخيرً معاً... بشريّ يتأرجح في مهبّ احزَانِ العالم، و يحبّ ذلك "

تجهمت سحنَة وجهها من اصرارِه على استصغارِها.

" حسنًا يا سيّد الارجُوحة، تشرّفت بمعرِفتك... و الآن وداعًا "

شدّت زاراَ حقيبتها بِسرعة و حاولت تجاوزه لكنْه اعترَض طريقها بذلك الجسدِ الطّويل المنتصِب كالموت...

" هل بامكانِي المرور؟ "

سألت بابتسامةٍ مهذّبة حملت شيئًا من التّهديد.

" لا "
اجابها بابتسامةٍ مُلتوِية و هو يحنِي رأسه اليها قليلا، تأففت بصوتٍ عالٍ و ابتسامته تخنِقها.

" ارجُوك! "

" أرجوكَ ماذا؟ "

ردد وراءها على عجل، مع تلميح قذر، انطلق منها صياح قلة حيلتها و هي تغطي وجهها الاحمر بيديها الاثنتين...

" دعنِي أذهَب يا هذَا! "

صرَخت بغضَبٍ و هي تحاولُ تجاوُزه لكنّه اغلَق الطّريق عنها بجسدِه العريض الطّويل، لم يترك امامَها مفرّا.

" آنِسَة سكَازُوس ، حظرً التّجوّل خاصّتك يبدَأ على السّاعة التّاسعة و ينتَهِي مع السّادسَة صباحًا "

تحدّث بنبرَة منمّقة ثمّ رفـع معصَمه كي ينظرَ صوبَ ساعته الانيقة البسيطة.

" و للأسَفِ السّاعة الان تُشِيرُ الى السّادِسَة الاّ رُبع "

بقِيَت زاراَ مكانها تنظُر الى هذا الرّجل الغريب الّذي يبدو كما لو انّه خرَج من أفلامِ تيم بورتن... صاحِب الملابِس الانيِقة و الذّوقِ الغنيّ بالبسَاطة، و الابتِسامةِ الغامضَة التي لا تبرَح شفاهه الجميلة.

كان يبدُو كأمِيرٍ، و ستكُون زارَا ملعُونةً من نفسِها اذاَ استسلَمت قليلاً لسِحرِه... بعد كلّ شيء، كان لديها ايمَان راسِخ انّ الشيطَان ليسَ مخلوقًا مخيِفًا بقرنين و ذيل... الشّيطان كان جميلاً، و جماله ما سمَح له باغوَاء الاتقيَاء.
لِذا و بكلّ بساطة، رسَمت على هذا الرّجل الوسيمِ علامة اكس باللّون الاحمر.

" حسنًا... "

تمتمَت بِغضب خافتٍ و عقدَت ذراعيها ببعضٍ اعلى صدرِها و أشاحَت بناظرِها عنه... لا يزال يرسم تلك البسمَة الهوجاء على ثغرِه و هو يشاهِدها دون رفرفَة عين.

مرّت ربع ساعةٍ و هما على هذا المنوال ، الى ان دقّت السّاعة السّادسة، نظرَت الى ساعتِها و زفَرت نفسًا طويلا.

" انتَهى حظرً التّجول يا سيّد، وداَعا "

اخذَت زَارا خُطاها الى الامَام و هو لم يمنَعها .... لكنّه فعل ما هو أسوء، اتّبعها خطوَة بخطوَة.

توقّفت فتوقّف، التَفتت زارا الى الوراء، اليهِ فقابلَها بتلك الابتِسامة مجدّدًا.

" من انتَ ؟ انا اتحدّث بجديّة "

" حدّدي سؤالك جيّدًا آنسة سكازوس كي أمنحكِ اجابَةً ترضِي فضُولك "

بدأت كلِماته المنمّقة تثِير أعصابها.

" هل انتَ احد رجالِ والدِي؟ '

سألت و هِي تعتدِل بوقفتها، رفَع حاجبَه المرسومَ كالسّهم اعلى عينيه الساّخرة... بدَا مكسور الكبرِياء حينَ صنّفت رجلا مُحترِفًا مثله مع رجال والدِها - الذين يعتبِرهم جوهان عديميّ الفائدة -

" لا ... انتَ لا تبدُو كذلك "

" مع كلّ احتراماتِي لوالدك، لكنّ رجاله مخيبُون للظّنّ، أرفض ان اكون بينهم "

تحدّث بازدرَاء و صدرُه منفوخٌ بالغُرور... تمعّنت زارا النّظر اليه مجدّدا كما لو انّها تبحثُ عن الاجابةِ بينَ طيّاته.

" انتَ أحد رِجالِ بيرلِين موندِيجو '

" اجابتُك ليسَت صحيحَةً تقنيّا... لكنّ الى حد الان، سأعتبِرها كذلك ... يمكِنك القول انّني افضَل ما صنَعه آنسَتِي... "

" ماذا تفعل هنا اذاً؟ تراقِبني؟ "

" انا هنا فقط تنفِيذًا لأوامر بيرليِن و حسب "

" و ما هي اوامره؟ "

أخذَ جوهان ثانيَتين طويلتين كي يَصِيغ الامرَ لها بِنعومةٍ تليقُ بآنسةٍ مثلها.

" ان أصبِح ظلّك "

" أن تجعَلني دميَةً بين يديك "

صحّحت له على عجل فابتَسم ضاحكًا مؤكّدًا قولها.

" شيءٌ من هذا القبِيل ايضًا "

استمرّت زَارا بِالتّحديق في أعيُنِه الزّمرّديّة القاتِمة ، و فِكرُها يميلً اكثَر الى التفتِيش عن اسرارِ بيرلين هذا و علاقتِه بوالدها...

والِدُها الّذي كانَ كالوحشِ لها، لا يستمِع لأحدٍ غيرِ الشّياطين بداخله، هو محضُ عبدٍ مُطيعٍ حينَ يتدخّل بيرلِين في الوسط... كيفَ و لِماذا؟ هِي لا تعلم، و عليهاَ ان تعلَم بأقصَى سرعةٍ قبلَ ان ينتهِي امرُ اخيها.

" و انا لا أنصَحكِ باللعب بالجوار معي آنسَة سكازُوس... لأنني مثل آرغُوس، املِك مئة عين "

حذّر بلهجةٍ مُرهقة ؛ في داخلِه جوهان كان يحمِل ندمًا عظيمًا بشأن ما فعله بإخوتِه البارحة... ليسَ لأنّه آذاهم و ارادَ قتلهم ، بل لأنّه الانَ علِق مع آنسة لا يُعجِبُها شيء جزاءً لفعلتِه.

أظافِر مطليّة بالاسود كالذّهب الاسوَدِ الّذي تملِكه عائلتها، شعرٌ قصيرٌ و ملابِس من ڤيڤيان ويستوود...

حلْلها جوهان و وصَل الى استنتاجٍ واحد و هو : زاراَ سكازوس فتاةٌ متمرّدة لديها مشاكِل غضبٍ عويصة و عقدَة أبوّة... بمعنى آخر، زاراَ وجعٌ في الرّأس.

لكنّها الآن استكانت بِاعجوبَة، لم تناقِش و لم تجِبه حتّى... حدّق نحو عينيها، و بدَت لوهلةٍ تبكِي دون دموع.

كان قلبُها ينزِف لأجل أخيها، و ذلك الاحساسُ بالعجزِ شلّ لسانها و جسدها... كانت مضطرّة للعيش و التنفّس طالما اخوها هناك يُواجه نفس الالم الّذي واجهته، بل أسوء.

ماذا عن أخُي؟ "

انسابَت الكلِمات منها بِنبرةٍ خافِتة ضعيفة.

" أؤكّد لك انّه ليسَ ميّتًا، طَالما رأسه ليسَ بعلبَةٍ امام بيتِك... فهو حيّ يرزَق "

ردّد وراءَها بلهجةٍ غير مكترِثة، نظرت نحوَه بأعيُن غير راضِية بتاتًا.

" سأنتظُر الى ذلك الحين اذا؟ ! "

" لِما لا تستثمِرين وقتك في كسبِ القوّة لايجادِ طريقةٍ لانقاذه بدلَ البكاء على اللّبن المسكوب ؟ "

قال و هو يمِيل رأسه قليلا، بنبرةٍ هادلةٍ هدّأتها قليلاً...
كرِهت في قرارةِ نفسها انّه على حقّ، اعترَافها كان سيقتل كبرِيائها امام صاحب النظرات المغرورة، و مع ذلك امام هذا العرضِ ستقولُ للرّياح هُبّي كما شِئتِ، فلا هِي ربّان السّفينة و لا الغرَق جديدٌ عليها.

" ما اسمك؟ "
قَالت حينـ استكَان غضَبها منه قليلاً .

" جوهان "
رفَعت حاجبَها تبحثُ عن أكثَر من اسمٍ، فوضّح لها في مناورَةٍ بسيطة.

" فقط جُوهان ، كاسمٍ و عنوانٍ في آن واحد "

" سأنادِيك جُو ان لم تمنحنِي اسمك الكامِل "
هدّدت بِنبرةٍ باردة.

" جوهان ديِڤيلين "
ردّد على عجل، غروره لم يتحمّل تسديد اهانةٍ الى اسمُه المقدّس لديه.... لم يكُن هذا اسمه الحقيقيّ، بل محضَ اسمٍ استعمله في آخر مهمة له.

ابتَسمت زَاراَ بِنصر حينَ أجبَرته اخيرًا على السّير بطريقتها .

" ستُساعدني على استعادَة اخيِ؟ أ ليس كذلك؟ "

" بكلّ قوايَ آنستي "

" لكن كيف؟ "

" اجوِبةُ رجلٍ مثلي لن ترُوقـ لآنسَةٍ آدميّةٍ مثلك كثيرًا "

" كذلك،انت لا تثِقين في نواياي "
تذمّر بِطفوليّة.

" حدسِي يُخبُرني انّ الافعالَ خارج نطاق الحبّ اما هيَ خيرٌ او شرّ مطلق "
اجابتهُ بصراحة تامّة فضحِك بابتسامةٍ فاتِنة، يعلّق بصوتٍ أجشّ عميق.

" امرأة تعتمد على حدسها كثيرا، حياتُها ستكون مكللة بالمعاناة "

دحرَجت عينيها بمللٍ من الاعِيب الكلمات خاصّته.

" كيف لي ان اثق بك فقط لأنك قلت بعض الكلمات؟ "

فكّر جوهان قليلاً، و بعد صمتٍ دام لثوانٍ أخرجَ خنجره من غمدِه فسطع بلمعانه في الظّلام...

" ما الذي تفعله؟ "

تراجعت خطوتين حينَ ظنّته سيقتلها، صعدت ضحكة خفيفة الى ثغره و هو يشقّ راحة يدِه بحذرٍ دون ان تنطَلِق آهة ألمٍ منه.
" ميثاق دم بما انك لا تثقين بي، سأمنحك دمائي كعربون "

وضّح لها و قد كان الامر غريبًا عليها قليلا رغمَ انّها سمعت بهذه الاشياء كثِيرا من قبل... ميثاقٌ عبر الدّم، اعتادَ الاطفال فعل اشياء كهذه و التعاهد بشيء معيّن .

كان من الغرِيب ان رجلاً بالغا مثله يُؤمن بميثاقٍ كهذا... لكنّه بدا جادّا للغاية.

" اجرحي يدك الان "
مدّها بِخنجره فرفعت يديها رافِضةً.

" مستحيل! لابدّ انّك تستخدم هذا للقتل! تخيّل كم من الامراض المعدية التي به "

" لا تبخسي قدرَ حبّي للنظافة آآنستي "
احتجّ بانفعال، و مع ذلك سحبت زارا سكينا كانت قد خبّأته بِجيبها.
" لديّ سكين "

قامت باتّباعِه و جرحِ راحة يدِها بعمقٍ ايضًا، رفَع جوهان يدها قربَ يدها، و على عجلٍ طمأنها

" لا تقلقي، لن اصافحك "

ادركت انه كان يعرِف الكثِير عنها بما انه يعلم بشأن رهاب اللمس خاصتها... منحها ذلك اسبابًا اكثَر كي لا تستخفّ به مهمَا ادّعى السّخافةَ امامها.

دِماؤهُ جاشَت على يدِها، في الظّلام بدَت كسيلٍ من البترُول... و نزَلت على جرحِها فامتزَجت عميقًا بدمائها.

" و الآن بما ان دمائي بعروقِكِ آنستي ، انا منكِ ... كلّ ما سأفعله منذ الان سيكُونُ لأجل صالحك، سأقتل و أحرِق لأجلك حفاظًا على الدّماء بداخلك ... لكنّني و قبل شيء لن اكون عبدا لديك "

صرّح بِوعدِه امامها و هو يلفّ يدهُ بِمنديل و هي كذلك... ظانّا انّ هذا العقدَ السّخيف لن يدوم كثِيرًا، لكنّها لم تأخذ فقط القليل من دمائه... بل اكثَر ممّا ادرَك كلاهما.

قصرُ المُوندُيغو :

عكَست المِرآةُ ذات الاطارُ النّحاسيّ الاسبانيّ الطّراز صُورَةَ رجلٍ في بذلةٍ انيقَةٍ باللون الاخضَر العفنيّ تمامًا كلون عينيه... سارَت يداهُ على فروةِ شعرِه البنيّ الطّويل و سحبَته للورَاء كي يربِطه في ذيل حصانٍ.

و هو يرفع ذراعيه المنسوجتين من عضلاتٍ متناسقةٍ كجسده الطّويل، كشَفت سترته عن الخنجَر المُعلْق حول خصرِه الضّيّق ، ذي المقبَض الذي يحمِل حجرَ قمرٍ كريمٍ.

أسرَع جوهان بِتثبِيته على حامله قبلَ ان يسقط.
يقِف على بلاطٍ فسيفسائي اندلسيّ الطّراز، بأشكالٍ مختلفة متداخلة بألوانٍ متبايِنة، لكنّ متناسقةٍ مع ألالوان الباهتة لهذا القصر و اثاثه العتيق.

كانت الممرّات الطّويلة تؤَدّي الى مِئات الغُرف بهذا القصرِ - الّذي لا يَعرِف مكانه احدٌ غير عددٍ معلوم معيّن - كلّها مزيّنَة بالر ّخام الابيَض، الذّهب و النّحاس و ايضًا الاحجار الكرِيمة.

علاوَةً عل ذلِك، كانت القاَعات مزيّنَةً بالتّحفِ الجميلة ، التماثِيل - التيِ كانَ قد ساهمَ في نحتِ عددٍ منها جوهان بِذاته - و اللّوحات النّادرة.

" اوه تبّا..."

أتى ذلك الهَمس الانثَويّ من ورَائه بِصدمة، فنظرَ نحوَ انعكاسِها بالمرآة... فتاةٌ ذاتُ أعيُن سوداء محاطةٌ برموشٍ فحميّة ، تجلِس أعلى مقعدٍ منخفِض و بِيدها كتابٌ من خمسِمئة صفحةٍ بعُنوان : التّفاحة المحرّمة.

سروالٌ قصير جدّا بالاسود يكشِف عن فخدِيها الممتلِئين، ريثَما شعرُها الاسود الطّويل الاملس يركُض على ظهرها، و غرّتها المصبوغة بالأشقَر على ملامحها االطفولية.

" لا ألفاظَ نابِية من فضلِكِ نَاناَ "
وبّخها جوهان بنبرةٍ هادئة لطيفة، رفَعت نانَا بصرَها الحادّ نحوه بِنظرةٍ غير راضية لأنّه قاطعها عن قراءةِ كتابِ المافياَ رومانس المفضّل لديها للمرة الالف.

" جدّيّا جوهان، ان كُنتَ تقلق بشأنِ استخدامي للالفاظ النابيَة و انتَ كِدتَ تقتُل اخوتنا للمرّة المئة فتحتاجُ رؤيةَ طبيبٍ نفسيّ عاجلا "

قالت بنبرةٍ ضجِرة لئيمة، تحادثه عن كيفَ تلاعبَ باخوتهم و دفـعهم الى الولوج الى مكانٍ انفجرت به قنبلة عليهم.

تبلورَت ابتسَامةٌ حزينة على شفاهه.

" للأسف فشِلت هذه المرّة ايضاً ؛ ثمّ توقّفي عن التحدّث و كأنهم اخوتيِ حقّا... لا تجمعنا قطرَة دم "

عبَست نَاناَ التي تكون ايضًا اختَه غير الشّقيقة... حياتهم و تصنيفُها بِالمصطلحات العاديّة كان أصعبَ من اقناع جوهان ان يتوقّف عن محاولةِ جعلِ موتِ اخوته يبدو كحادثٍ طبيعيّ دون تدخّل منه.

تحتَ سقفِ هذا القصرِ اجتمعَ اكثَر من مئة طفلٍ لا نسبَ او أصلَ لهم... اطفالٌ لا يهمّ امرهُم احد، اطفال لا يعرِفهم احد بهذا العالم.

تربّوا هنا كاخوة، كي يُصبِحُوا أطفال الظّلال الدّائمة ... بيادِق بيرلِين موندِيغو المثاليّة و ثِمارَ وحشيّته.

و ان تربّوا كاخوَة... فهم قتلُوا بعضهم ايضًا كَمتنافِسين في لعبَة بقائهم تحتَ رايةِ السّلطة.

القوانين التي حكمتهم كانت اقرَب للخيالِ من الحقيقة، للجنونِ من العقلانيّة... و فقط من ينجو منها يستحقّ الجائزة الكُبرى... الانتماء الى الطّبقة الذّهبيّة اوّلا، ايْ المرشحون المستقبليون لأخذ أعلى منصبٍ بهذه البلاد.

منصِب المونديغو .

و جوهان ينتمُي الى هذه الطبقة، و الكثيرون راهنوا انّه سيصبح المونديغو القادم.

" أنت حقّا بحاجةٍ الى رؤية طبيب نفسيّ جوهان "

تمتَمت بِملل و هي تعود الى كتابِها، استقبلَ نصيحتها بابتسامة رحبَة.

" لا امانع، أ تعلمين لماذا؟ "

" لأنّ موضوع حديثِكما سيكون حولَك دائما "

اجابت بنفسِ النّبرة فاتّسعت ابتسامته بفخر، تقدّم نحوها و توسّد فكّاها يداه، يحمل وجهها و يطبع قبلَة فخورة اعلى جبينها .

" سعيدٌ جدّا انني اخيرا بلغتُ درجةَ من التفاهم مع احدٍ هنا من بينِ اولئك المتخلـفين ... "

" فقط توقّف عن محاولة قتلهم، لا احد هنا يريد الاستيِلاء على منصِبك "

" سأتوقّف عن ذلك ان قاموا بِقتل انفسهم بدلاً عني "

اجابها بصراحة و هو يستقيم مجددا... هزّت رأسها بلافائدة و عادَت الى قراءةِ كتابِها.

ريثَما انتهَى من تعدِيل شكلِه الانيق جدّا بِحرص ، و بِمنتصَف الرْدهةِ انفَتح البابُ ذي المصرَعين كي يقِف عل عتبَته رجلٌ لا يقلّ اناقَة عنه... بشعرٍ ذهبيّ و أعيُنٍ زرقَاء قاتِمة تحيط بها بعض التّجاعيد المثيرة، بابتسامةٍ رسميّة رحّب به بِيرلِين .

" تفضّل جُوهان "
قابله جوهان بِذات الابتسامةِ ، و بمجرّد ان اغلَق بيرليِن البابَ نبَس الاوّل بنبرةٍ تتصنّع القلق .

" هل اخوتِي بخير؟ اتمنّى ان... "

" انتَ كنتَ تعلم بوُجودِ قنبلةٍ بالداخل "
قاطعه بِيرليِن بِلهجةٍ باردة و هو لايزال يرتدي ذات الابتسامة... يتحدّث عن كيفَ أقنَع جوهان اربعةَ رجالٍ بالدّخول بارادتِهم الخاصّة الى فخّه .

" لا ! "
قال جوهان بِتعابِير لا تحمِل الدّهشة من اتّهام بيرلين، و كأنّه لا يهتم حتى ان أمسك به الرّجل الّذي ربّاه... كما لو انّه امسك به في مواقف أسوء، او انّه ببساطة يدرِك تمامًا ان بيرلين لن يضحّي به مهما حصل و خاصّة لأجلِ اولئك الّذين يعتبرون الاضعف هنا.

" و أرسلتَ اخوتَك للدّاخل ، رغمَ انك تجيد تفكِيك القنابِل ايضًا "

استمرّ بيرلين في اضافة التّهم الى الحديث، يجلس على مقعدِه الجلديّ اللامع وراء مكتبِه الخشبيّ... على مقدّمتِه النّصب التذكاريّ النّحاسيّ لِلاسطورةِ الفرعونيّة ماعِت و هي تحمِل في كلّ يدٍ قدرًا و على رأسها رِيشة منتصِبة.

ذلك التّمثال الّذي سلبَ تركِيز جوهان.

التّمثالُ الّذي هو و الجمِيع يستعدّون لقتلِ بعضِهم البعضِ لاجل الحصُول عليه.

تِمثالُ الموندُييغو الخاصّ، تِمثال القوّة و السّلطة.

" تعرّضوا لجروحٍ عميقة يا جوهان "

تحدّث بيرلين بنبرةٍ جهور عسَى ان يفصل جوهان عن شروده... همسَ هذا الاخير تحت انفاسه بعد تنهيدةٍ خافتة.

" للأسف لم يمُوتوا "

لم يحمِل وجهه الانِيق ذرّة من النّدم.

" ماذا افعل بك؟ "
ردّد بيرلِين بِارهاقٍ مع تنهيدة عميقة، جر َت في شفاه جوهان بسمَةٌ ماكرة و هو يدلِي بتعليقٍ مستفزّ.

" تتفاخر بي كما تفعلُ دائمًا "

استجابَ بيرلين لذلِك الاستفزَاز بِشبح ابتِسامة ، لم يكُن قادرًا على تجنّب حسّ دعابَته.

انّه اكثَر من يدرِك لِما جوهَان يسعَى للتّخلّص من اخوتِه بأيّ طريقة حتى لو كانت الموت... كي يُثبِت لبِيرليِن انّه الاقوى، القادُر على الوقوف الى النّهاية.

كان الامر واضِحا منذُ البداية، جُوهان كان طفلاً ذكيّا ماكرًا بطريقة مُذهِلة، قويّا ايضًا ، و رجلٌ كبيِرلين قدّرَ ذلك كثِيرًا.

كان الولد المثاليّ في اعيُن الجميع، و في اعين بيرلين بالطّبع...

و مع ذلِك، كان عليهِ شدّ رسنِه قليلاً قبلَ ان يعضّ احدًا مهمّا... و لذلَك عيّنه كي يُصبُح ظلّ زارا، مُشكلَة بيرلِين الجديدة.

نهضَ بيرلِين برَزانة، يعدّلُ من المشَدّ الرّجالي خاصّته ، يداه وراءَ ظهره مما منحه منظرًا مليئا بالوقَار و هُو يقُف امام النّافذة الواسعة التي تطلّ على حديقةّ قصرِه الواسِعة و حقولِ مسكِ الرّوم الّذي اوشَك على الازدهار.

"لم تُخبِرني، كيفَ هو انطبَاعك عن فتاة سكازوس اذاً؟ "

غيّر بيرلِين الموضُوع بصوتٍ هادلٍ، اختفَى السّرور من وجه جوهان حينَ ذكّره بيرلِين بِكارِثته المتشكّلة بجسدِ فتاةٍ لئيمة.

" هيَ انسانةٌ تبنِي خياَراتها على مشاعرِها؛ انها عيبُ الطبيعة البشريّة المطلَق ... لا اظنّني قادرًا على التّعاملِ معها "

تذمّر بصوتٍ فارغ، انبَسطت شِفاه بيرلِين الرّفيعة في ابتساَمةٍ ابوِيّة و هو يبسط يديْه على كتفيّ جوهان الشّامخين.

" و لهذا عيّنتك انت تحديدًا لِلعناية بها... من بينِ جميعِ ابنائي الّذين ربّيتهم، انتَ الوحيدُ الّذي اؤمِن انه قادرٌ على المحافظة على مجدِ تلكَ العائلة من وريثـة متهوّرة "

لم يكُن ذلِك كذِبًا، جوهان كان عالمُا بذلك و بيرلِين كذلك... و الجمِيع يعلم انه هو المفضّل لديه، هو ورقَته الرّابحة.

و كذلك الجميع كانوا يراهنون على انْ من سيأخُذ الدّورَ بعد بيرلِين سيكُون جوهان... او مورتا ، المفضّلة الاخرَى لِبيرلين.

و بالحديُث عن الشّيطان، و بينَ حشائش الحديقةِ المزيّنة بعنايَة ، تقدّمت امرأة ببذلةٍ سوداء يتبَعها عددٌ من الرّجال و النّساء كما يتبع النّحل قدرَ العسل.

يُحادثونها، بعضُهم يشتكون اليها، و اخرون يتأمّلون الجمال الّذي تجلّى في شعرِها الاشقرِ النّاصع، اعيُنها الزّرقاء و شفاهها الحمرَاء...

كلاسيكيّة الجمالِ في قرنٍ غير كلاسيكيّ... تخلَع الفُؤادَ من مكانهِ بنظرَةٍ واحدة منها ... تلكَ كانت مورتا الشّقراء الدّمويّة ذات الوجهِ الملائكيّ.

يُقال ان المرأةَ كائنٌ انتِقاليّ بينَ الانسانِ و الملاك.

تبّا لمن قال ذلك، لابدّ انه لم يعرِف مورتا .

و على عكسِ جوهان، هِي لم تكن محبوبَة فقط من طرفِ بيرلين نسبَة لذكائها و مهاراَتها ، اخوتها الّذين تربّت معهم ايضًا أحبّوها حبّا جمّا، وثِقوا بها و فضّلوها على جوهان الّذي لم تجمعه بهم علاقةٌ طيّبة.

كانت مورتا هي الكارمِن الّتي تدير لها الخدّ الاخر لتصفعه... الكارمن التي تكذب ثم تبكي و تعتذر... الكارمِن التي ستراقِصك في الجحيم بعد ان دفعتك اليه.

فجأةً و هي تستمِع الى اخوتِها الْذين اشتاقُوا اليها و عاتبُوها على غيَابِها ، رفَعت نظرَها نحوَ النافذة بالاعلى... و التقَت اعيُنها في ثانية طويلة مع اعيُن جوهان الزّمرّديّة .

كلاهُما فقدَا التّعابِير المسروُرة ما ان شاهدَا بعضيهما... النظرَات طلقاتٌ صامتة، و المسافة لم تفلَح في محوِ الطّاقة السيّئة بينهما.

يعيشانِ لقتلِ بعضهما.

" ماذا عن اخيِها؟ هل استسلَمت بالفعلِ عن ايجاده؟ "

أردَف بعد ان قطعَ تواصُله النظريّ بها، تلاشت ابتسامة بيرلين الفخورة و استبدَلها بِأخرى متحسّرة.

" ايزَاك يعلم ما يُريدونه منه، عكسها هي ، لذلك من المستحيِل ان يترُكوه كما تركُوا اختَه في السّابق "

اولويّاته لم تكُن ايجاد ايزاك... بل المحافظة على الوجه العام للعائلة و عل ثرواتها. و الاهم، على سرّ الغرفة ٩٩٩.

" مَاذا لو وجدتهً؟ حيّا؟ "
تحدّث جوهان جاعلاً بيرلين ينظُر اليهِ بِتفاجُؤ.

" أ تظنّ انّه يامكانك ايجاد جماعةٍ عجزتُ انا عن ايجادها لسنين؟ "

انتَشرت ابتسامةٌ خفيفة على شفاهه ببطء و هو يخفِض رأسه قليلا.

" لديّ حدسٌ يخبِرني انّني قد أجِد شيئا ان جعلتُ الآنسة سكازُوس تُطلِعنِي علَى ما حصَل معها "

أخبَره بصراحة، فهزّ بيرلين رأسه بتفهّم

" سأمنَحك ما تَتمَنّى ان أعدتَ ايزاك حيّا سالِمًا "

أعلَن بيرلين عن عرضِه المغرِي الّذي أدهشَ جوهان بشدّة.

" ايّ شيء؟ "

" عدَا نصبِ ماعِت"

حدّد بيرليِن مجالَ جوهان في التمنّي، ضحك متبَسّمًا و هو ينظُر للنّصب قليلاً... هذا النّصب كان كلّ ما يتمنّاه...

هذا النّصبُ هو ما يُقدّم للموندِيجو ليلةَ تشيِيعه...

و جوهان كان مستعدّا لاحراق العالمِ كي يحمله.

" اتّفقنا "

أغلَق جوهان البابَ وراءَه بعدَ ان انتهَى موعُده مع بيرليِن، و اثناءَ اجتيازِه للرّدهة، تصادفَت عيناه بعينيّ مورتا القادمة عكس اتّجاهه، و كذلِك تصادم عطرُه بِضرباتِ المعدن و القرنفُلِ بِعطرها...

اتّصلت اعيُنهما و ارتدّت الصّاعقة بينهما، لم يدّخراَ جُهدًا في اظهار بعض اللّباقة بينهما للثانية الاولى.

من بينِ جميع المرشّحين لِمنصِب الموندِيغو، مورتا كانت الأخطَر بالنسبة لجُوهان... ليسَ فقط لأنّ بيرلين يملِك غرفةً كاملة لها بقلبه منذُ ان كانت طفلة صغيرة؛ و لا لذكائها و مهارتها ايضا.

بل و ان كانَ الشيطانُ يعمَل بِجِدّ، مورتا تعملُ بجدٍّ أعظَم...

" مرحبًا جُوهان... مرّ وقتٌ طويل منذُ آخر لِقاء "

كان صوتُها انثويّا ثقِيلاً، مُغرياً في ذات الوقت.

" كنتُ مشغولاً قليلاً هذه الايّام "
اجابَ بنصفِ ابتسامة، اعتلَى الغرور و السخرية محياها فرفعت حاجبًا و هي تميل رأسَها قليلاً.

" اوه نعم، اخبَرني اخوتي عن مقالِبك الصّغيرة في غيابِي "

" و انا ايضًا اخبَرتنيِ العصافِير عن جرحِك البسيط..."

ردد وراءَها على عجلٍ مع تلمِيحٍ للرّصاصةِ التي اخترَقت بطنها بِمهمّتها الاخيرة... شعرت انّه يحتقُرها و يستخفّ بها، و لذلك أطلَمت عيناها الزّرقاوتان بالخطر و اتّسعت ابتسامة الاستمتاع على شفاهه.

" اتمنّى ان يكون الجرح المرة المُقبُلة قاتلاً يا اختِي الجميلة "
تمنّى بصدقٍ و من كلّ اعماق قلبه بعدَ ان سلخَ قناعه اللبِق عن وجهه الحقيقيّ معها، و هي فعلت ذات الشّيء و هي تسير بعيدا قائلة.

" اتمنّى ذات الشّيء لك اخي العزيز "

كلّ حياةٍ ثمثّل مقطوعةً موسُيقيّة، احيانًا تكون النّغمات متناسِقة، و احياناً متنَافِرة... و مورتا تمثّل آخرَ موسِيقى يمكِن للانسان سماعها قبلَ رحيله من هذا العالم.

هِي امرأةٌ مؤلمةٌ بقدرِ جمالِها.

امرأةٌ يتوقُ جوهان للتّخلّص منها... لأنّها اوّل من يهدّدُ حُلمه.

ثمّة احساسٌ شائع لا يوجد اسمٌ له..

الترقّب المفرِح للشّعور بالاحتِقار ... نفسُه الشّعور الّذي يتوقُ الاثنان للاحساس به يومَ يقرّر بيرليِن من سيأخذ منصبه بعده.

لَم يَكُن الصّباحُ وقتًا يسرُّ زَارا كثِيرًا... لا إهاناتُه و لا الصّداع المزمِن الّذي يُرافقه يَحلُو لها، خاصّةً بعدَ ليلةٍ أفرَطت فيها بالشّرب.

و الآن صباحُها كانَ مُباركًا - ملعونًا ربّما - بُزِيارة جوهان لها ؛ قالَ انّه يودّ طرحـ اسئلة عليها ...

توقّفت عن تجرّع قهوتها فوضَعتها فوق السّجّاد اينَ كانت هي جالسة و ذراعها كما هو جذعها مستندٌ على الاريكةِ... و هو هناك يجلُس على مقعدٍ امامها، كرجلٍ خرجَ من فيلمٍ بالعشرينات، نبِيلٌ مُقوّم يحمِل كتابًا باللّغة اللّاتينيّة، و بينَ ذراعيهِ القطّة النائمة التيِ رأتها معه ذلك اليوم...

أخذَ لها مئة صورةٍ بِهاتفه ، ثمّ أطعمها حدّ التّخمة، و وعدها بأخذها معه للبيت.

" شعرُكَ جمِيلٌ للغايَة "

و هِي تستند بِرأسِها على مسند المقعد بنظرات ناعسة ، ادلَت له بِاعترَافٍ فاجأه قليلاً فحرّك عينيه نحوَها بِسرعة... كانت قد أمضَت ليلَتها تتجرّع كؤوس نبيذٍ باسراف حسبَ ما اخبَرته مدبّرة المنزل، لابدّ ان تأثير المسكرات كان لايزال عليها.

أخذ جوهان نفسًا خافِتًا و هو يَقطع تركيزَه عن الكتابِ الذي بين يدَيه، يجلس فوقَ المقعدِ ينظرُ نحوها من الاعلى.

" شكرًا آنسة سكَازوُس... شعرُك... "

ودّ لو جاملها بُنفس الشّيء، لكنّ جوهان لم يكُن مُعجبًا بِالفتيات ذات الشعر القصير كزَارا.

تضرّج وجهها بُحمرة الخجل و الغضب حين ارتدَى وجهه تعابِيرَه الآسفة المصطَنعة.

" انا ايضًا كنت املِك شعرًا طويلاً، جميلا... بل أطول من خاصّتك، لقد كان بِحدود مؤخّرتي "

تحدّثت بِعفويّة تامّة، نبّهها تعبِيره المتفاجئ من ما تفوّهت به ... رفَع جوهان حاجِبًا بِحيرة.

تضرّج وجهها بالاحمر اكثَر، ، زاراَ كانت قد بدَأت تتوتّر بسبب اخطائها.

لكنّ جوهان لم يهتمّ حقّا، هذه الفتاة كانت نحيِفةً بشكلٍ يجعله يتساءَل ان كانت مريضةَ فقر دمٍ، لم يكُن هناكَ شيءٌ لمشاهدته في جسدها الصّامت حقّا... كما انّه كان يفضّل النّساء الممتلئات.

" و كيفَ لكِ ان تقصّي شعرًا بذلك الطّول يا آنستي القاسيَة؟ أ هو كسرُ قلبٍ تسبب فيه فتًى غبيّ؟ "

تساءلَ بُنبرة رسميّة و قلب ورَقته ثمّ داعبَ القطّة ، ينتظُر جواباً منها، قهقهَة او غضبًا... لكنّها صمتت فقط.

رفَع جوهان بصَره الى زارا من وراء كتَابه ، فشاهَد فتاةً بأعين أشدّ بُهتًا، تجلِس هناكَ فوق السّجاد بِفستانٍ أبيض مورّد بحدود ركبتيها كمَا لو انّها مُجوّفة، لا روح فيها.

لم يَستطِع جوهان فهمَ صمتِها، لكنّه ادرَك و هو ينظر الى تلك العيون الخاوِية انّها شرَدت بشكلٍ يدعو للحيرة...

كما اندلَع وبرُ الاوزّة على جلدها ، ظَهرت صورٌ من الماضِي بين اجفانها.

انبَثق الطّعم المالح لدُموعها على لسانِها، كما تكدّرت تلك الغصّة بحلقِها و هِي تنظُر الى شعرها الطّويل يتساقط على تلك الارضية البيضَاء ...

رداؤها الابيض الممزّق الوسخ القصير لم يستطِع حمايتها من البرد او الخدوش، و الان شعرها الطويل ايضًا لن يعود بامكانه تدفئة عنقها من الريح الباردة.

جسدها يهتزّ كالمنقار على ذلك الكرسيّ الحديدِيّ الذي قيّدها... خصل شعرها تنهال على الارضِ كالامطار و يسابق دموعها.

" أ لن تُخبِرينا بعدُ يا بيَاض الثلج عن ما نرِيده؟ "

همسُ صوتِه و هو يقطّع شعرَها الطّويل أرعبها، فانزلقت شهقَةٌ متألّمة من فمها... لم يعد بِامكانها ترجّيه او اخباره انّها لا تعلم شيئا، كان ذلك عديم الفائدة.

انّه لا يصدّقها، لا يصدّقها حتّى و بعد ان اذاقها العذاب لأيّام و ايّام.

" لا أعلم شيئا! ارجوكَ توقّف!! "

صاحَت بِنبرة مُختنُقة و هي تشدّ ذراعيها املاً في التّحرّر من القُيود ، لم تفقِد صوابها الاّ و شعرها الذي لطالما تباهت بِه يتداعىَ امامها.

شعرُ السّاحرة يحمِل قوّتها، ذكرَياتها و حكمَتها... اعتادَت مُربّيَتُها اخبَارها... فحرِصت على المحافظة عليه.

لكن امام هذا الرّجل صاحب القناع، زَارا انهارَت كلّيّا.

" آنسة سكازوس! "

عادَت الى الواقع كي تجد وجهه عند وجهها. .. ارتفَع ركنُ شفتيه في ابتِسامةٍ نذِلة.

" ان كنتِ قد استعدتِ صوابكِ ، هل بامكانِي طرحُ سؤال عليك الان؟ "

جاءَت كلماته بِنبرةٍ رتيبة لا تفصِح عن ايّ احساسٍ يضمِره... وضَعت زَارا كُوب قهوَتها الفارِغ على المنضَدة و جلَست على مقعدٍ يقابله، تأخذ نفسًا عميقًا كي تستقبِل أسئلته.

" تفضّل سيّد ديڤيليِن "

" بِيرليِن أطلَعني على ماضِيكِ آنستي "

تسبّب كلامه بِشللٍ مؤقّت لزارا الّتي اتسَعت عيناَها كالمُروج.

" من طُفولتكِ الى حادثَة اختطَافك، و هذه الاخِيرةُ احتوَت ثغرَاتٍ عديدة "

تحدّث مجدّدًا و هو يضَع ركبَة على الاخرى بكبرِياء.

" أخبَرني انّ حالتَك العقليّة و النّفسية... بل حتّى الجسديّة لم تسمَح لكِ بُرويِ ما حدث ... كلّ ما استطَاع فهمه عنكِ هو انّهم كانوا يرِيدون معرِفة سرّ من اسرار اعمال والدك و الذي بحدّ ذاتك لم تعرَفي شيئا عنه ,كما انْهم استخدمُوكِ لتهديد والدك من اجل الحصول على هذه المعلومات "

سرَد بنفس النّبرة الرّتيبة، قاطعته زارا على عجلٍ و هي تحمِل ابتسامةً تحمل شيئا من الغضب.

" هل أخبَرك انّ والدِي رفضَ مقايَضة معلوماتِه الثّمينة بِابنتِه؟ "

صمَت جوهَان قليلاً، ثم استأنف الحديث كما لو انّها لم تقُل شيئا مؤذيا.

" نعم، أطلَعني على ذلك ايضًا "

" كلّ ما اعرِفه كنتُ قد رويتُه من قبل... هذا كل ما لديّ "

تحدّثت زارا و قد بدأ صوتها يرتجِف من الذّكريات التي تسلّلت من قُمقُمِها.

" لقد رأيت الجحيم هناك، ذلك الرّجل صاحب القناع الابيض حرص على ان لا اموت، لكنّه حرص اكثَر على تعذيبي... كان يريد معرفةَ اسرار الغرفةِ ٩٩٩ ، و لكنّه في النهاية غطّى عينيّ و رمانِي في تلك الغابة، اطلق سراحي ... لا اعلم لماذا لكنه فعل "

تحدّث جُوهان عنهَا فنظَرت اليه بِرعبٍ و اندهاشٍ تامّ، صدَمها بِالاشياء التي لا ترِيد و لن ترِيد سماعها يومًا، لقد سرَد بالحرفِ الواحد ما اخبَرته للجميع قبل سنتين بكلّ برودٍ.

توقّف قليلاً يًطالع المشاعِر المُوجعة على وجهِها ببرود، ثم استأنفَ الحدِيث.

" هذا بالحرفِ الواحد ما قلتِه، قبلَ ان يتملّكك انهيار عصبيّ جعلَ الاطباء يتخذون اجراءاتٍ لنقلك الى اقرَب مصحّة نفسيّة "

توقّف جوهان عن سردِ الماضِي الّذي هو أحطّ من ان ترويِه ، و أسوء من ان تتذكّره... أشاحَت زارا نظرها عنه حينَ حاولَ اختراقَ روحِها بنظرَاته، بدَت كقطّة مبلّلةٍ ترتعِش من المياه... لم تكُن قادرةً على تحمّل وميض الذكرياتِ السّريع، و لا على فتحِ الغرفةِ الّتي اغلقتها قبل سنتين؛ لم تُرِد العودة الى نقطَة الصّفر بعد ان ظنّت انّها أصبحت اخيرا بخير.

" آنستي ... انتُ عالقةٌ في ذلك الفصل الرّهيب من حياتِك، لا تكذِبي عليّ و تخبِريني انّ ذلك كلّ ماحدث ... انت ايضًا ترفضِين فكرةَ ان ما حدث قد حدث... انتِ تؤمنين انّ التغيير يدنّسك ... تريدين التّصرّف كما لو ان لا شيء حدث، لكنّ كلّ شيء بهذا العالم يخبرك انّه حدث "

ردّد جوهان بِنبرةٍ رتيبة، لم يبدُ و لو لذرّةٍ متعاطفا معها - او يحاول - ... ثمّ اضاَفَ بنفس النّبرة.

" انت تحت اضطراب ما بعد الصدمة... و الذي يصيب الضعفاء دائما "

حرّكت زَارا نظرها اليه بحركةٍ سريعة، شدّت حاجبَيها الفحميّين بِانزعاج، لو يرُق لها كيفَ السّيّد مثاليّ يَسخر من مأساتها الّتي دمّرتها ، ثمّ تحدّثت بصوتٍ متهدّج.

" الضّعفَاء؟ اخبِرني سيّد ديِڤيلين أ و بِامكانِ الانسان المحافَظة على ايمانِه بالرّبّ و طفلٌ صغيرٌ يحتضِر بجانبِه؟ "

" لا اعلَم، لا احبّ الاطفَال... و لا يُصيبني شعورٌ و انا ارى انسَانًا يحتَضِر "

أجابَها بكلّ بَساطة كما لو انّه لا يتحدّث سوى عن أحوال الطّقس... و كان صادقًا، لم يَكُن التفاخر او ادّعاء القوّة من اهدافه.

" ربّما لهذا انتَ لا تفهَم شيئا فيما يتعلّق الامر بالبَشر... انتَ تتنفّس بينَ الكُتب... لكنّك و بكلّ الاحوال لا تستطِيع فهمَ البشَر... و اراهِن انّك لو قرأتَ كلّ كتُب الارض... فأنتَ لن تَفهمَ طالمَا ترَى العالم بهذه الخلفيّة "

" انا ارى المواضِيع بمنطقيّة، بعيدًا عن العاطِفة التي أدّت بالبشرِ الى الهلاك كلّ مرة ."

ردّد بِنبرةٍ عميقة أفصَحت عن عدمِ توافُقُه معها...

" يُوجد فينا شيءٌ اكثَر حكمةً من عقولنا "

همَست زارَا بِصوتٍ خافت متهدّج، جرَت على شفاهه شبه ابتسامةٍ هازئة .

" من قالَ ذلِك؟ فتاةٌ تخشى ان يلمِسها احدٌ عن طريق الخطأ؟ "

عنَاها بِكلماته و أثَار غضبها .

" يقول الرّجل الذي لا يستطيِع دفعِي الى مسرحيّته الخاصة "

تمتمَت بحقدٍ، صعدت قهقهة خافتة الى شفاهه و هو ينهض، يسير نحوَها ثمّ يضع يديه على مسنديّ مقعدها... تراجع ظهرها تلقائيا للوراء خائفةً من لمسة، و اعترى وجهها تعابِير قلقة.

و بكل طاقة اليأس حبست صرخةً تحت ذقنِها حين أحنى رأسه اليها، و تمكّنت من استنشاق عطره احسن، و الشّعور بِانفاسه قريبةً... تُصبح فريسة سهلة للقلق و الرعب ما ان يتخطّى احدٌ حدودها الوهميّة، ارتعاشاتٌ تسري عبر عروقها، عرقٌ بارد يجري على طول عمودِها الفقريّ...

و مع ذلك بذلت جهدها في اقناعه بان قوتها غير مصطنعة، بل فطرية طبيعية و هو يَميل اكثَر فأكثَر كي يهمِس بأذنها و هو يرتدي أشرّ ابتساماته.

" دعِيني أخبِركِ شيئا احتفظِي به جيدًا داخل رأسك الصّغير... انتِ بالفعل إحد ممثّلي قصّتي آنسة سكازوس."

فجأةً شعرَت بِانامِله الهادئة تُزيح خصلاتها القصيرة عن أذُنِها المبتورَة التي تُخفِيها بِيأس، استيقظَت موجةُ قشعريرةٍ عارمة بجسدها فورَ ان اقترب منها بهذه الجرأة.

"تمامًا مثلَما والدك لا يتجرأ على رفعِ صوتٍ امام بيرليِن , مِثلما هو ينتَمِي اليه ... انتِ ستنتَمين اليّ يومًا ما ... "

همَس و هو يقصِد اذُنها فذُعرت كلّيْا و دفَعته بيدَيها، تراجع بابتسامةٍ ساخرة و هي تقف امامه، تردّد بسخط.

" لا تقترِب مني ابدا يا هذا!! سأقتلك ان فعلتها مجددا!! "

صرخت بعنفٍ بعد ان ابعدته عنها... رفع يديه باستسلامٍ هازئ، تفتّقت اوداجها و هي تنظر الى ملامحه المثِيرة للاعصاب.

" هيا اقتليني... حاولي "

تسمّرت مكانها، لم تستطِع حتى الادعاء بقدرتها على فعل شيء كازهاق الروح التي تعتبرها شيئا مقدّسا.

" أ رأيتِ؟ لا تستطِيعين حتّى توسِيخ يديكِ للنّجاة ... لهذا انتِ بقيت لديهم طويلا... رضيتِ بالاذى، فقط كي لا تؤذِي انسانيّتك المفرطة "

تدحرجت كلماته بأذنها كوسوسة الشيطان، بنعومة و سلاسة، استأنف حديثه المتلاعب، يُراقصها بين انامله كقطعةٍ نقديّة بأسلوبه الهادئ، و تلك الاعين البريئة.

" دعيني اخبِركِ شيئا مهمّا آنسة سكازوس ... نحن لم نخلَق هنا لنبحثَ عن سعادتنا، او من اجلِ ايجادِ ذواتنا... اغلبنا يموت دون ان يعرِف دوره بهذه المسرحيّة العظيمة ... وُلدنا لنتعلـم كيفيّة النجاة في ألعابِ الجوع "

" ألعاب الجوع؟ هل انتَ تمازحني؟ "
رددت وراءه باستهزاء، لكنه قابلها بوجه بارد.

" قتلت اطفالا، نساءً و رجالا في ألعاب الجوع هذه آنسة سكازوس... أ تظنينني أمزح؟ "

اعتراه الصدق المريب و هو يخبرها بِقذارته.

" لأجل ذلك الرجل الذي يتلبّسه الشيطان؟ بيرلين؟ "

" نعم... و انا هنا معك لاجله... افعل ايّ شيءٍ لاجله ، لاجل ان يكون فخورا بي "
اجابها دون ان ينطوي كلامه على ذرّة كذب.

" حتى لو طلب منك قتلي؟ "
سألت دون احتساب النتائج... فمتحها اجابتها دون تردد.

" نعم "

لقد كان جوهان حقّا طريقًا مصفوفـة للجحيم، شيطانا وسيماً بدون تكلّف... و الآن و هي تنظر الى عينيه اللتان لا تغادران عينيها... آمنت حقّا ان امامها هذه المرة ليسَ انساناً ينتشي بالالم؛ بل مخلوقٌ يعزف الموسيقى فوقَ باخرةٍ تغرق.

و بالباخرة، فهي زارا.

كارمِن عند امريكا هو اسم بنت، لكن يتم اسقاطه - في هذه الاغنية خاصّة - على فئة من الفتيات الجميلات خارجيا، لكن ذات شخصيات سيئة.

مورتا هي النظيرة الرومانية لأتروبوس - معناها التي لا يمكن تفاديها - ؛ اسطورة عن آلِهة الموت لدى الاغريق؛ ثلاث اخوات - الاقدار الثلاثة - " مويراي "

كلوثو : الغزالة
لاشيس : الموزعة
اتروبوس / مورتا : الموت.

Continue Reading

You'll Also Like

719K 15.2K 45
للعشق نشوة، فهو جميل لذيذ في بعض الأحيان مؤذي مؤلم في أحيانا اخرى، فعالمه خفي لا يدركه سوى من عاشه وتذوقه بكل الأحيان عشقي لك أصبح ادمان، لن أستطع ا...
Hyperthymesia By غَسق.

Mystery / Thriller

2.6K 350 5
إنِي لمتدَلية من نسج عنكبوتٍ إبتغى إلتهامَ طعمه عشية جوعه، فاحتلى ملبس الفَراش واقتدانِي صوب زهِر بخلفه الشباك المنسول خيطًا رفيع السُمكِ.. فكُنت...
2.8M 57.9K 76
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" التي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...
1.9K 138 6
تَحولت تلكَ الحياة الّتي جاهدت لجعلها تنبضُ، حطامًا بينَ ليلةٍ وضحاها. «أيّ غبيٍّ سيرضى بالزواج من امرأة تُصارع الموت!». -فَتاة الانجيل والنّ...