النّبضة الأَخِيرَة

By -elaf-

4K 427 1K

بينَ جُدرانِ عَالمٍ يَغمره البَياضُ والألمْ اُحْتجِز طائرٌ كسيرُ الجَناح ينتمِي إلَى غيومِ السَّماء. وبفضلٍ م... More

تَقدِيمْ
1|طَيرٌ جَامِح
2| سِتَار الصّدعِ
3|دَرَجُ التَّوبة
4|ضمائرُ مُتضاربة
5|عليلُ النّفسِ
7|هِبةٌ في غِشاوة ألم

6|الجَانبُ المُتجَاهَلْ| الرّحمة المَغرُوسة

246 21 65
By -elaf-

أصابهُ التّوتر عند سؤالٍ كهذا، فهو لا يريدُ التّحدث عنْ ذلك الجوّ الخَانق من ذلك المشهد المُوجع وَالّذي سبب في اختلال نبضاتهِ، هُو يكرهُ أن يَذكر سوءَةَ أحدٍ أيضًا، إضافة إلى أنّ الأمر يُرجع لهُ صوت إغلاقِ البَاب من ذلك اليَوم الكَئِيب.

وُقوعه في شِباك الأنظارِ هذا لم يدُم طويلاً، فسرعان ما سلبها منهُ الصّغير إسلام بحديثهِ البَرِيء:
«طعم السّمك غَريب! أيضًا هو خالٍ من الملح»

ردّ عليهِ ضياء بانفعال بينمَا يُسرع لسحب الطّبق من بين يديهِ:
«لا تأكل السمّكَ وتشرب اللّبنَ! فقد تُصاب بعسرِ هضمٍ»

وَبّخه أواب بشدَّة:
«أيّها الشّقي كيف تتناول طعامَ غيركَ دون استئذانٍ حتّى؟ والآن قد تسبب بضرر لنفسك بأكلكَ السّمك، لمْ ينقصنا إلاَّ حماقاتك»

سكنَ إسلام عن أيّ فعل عدَا ذرف الدمع الّذي مَلأَ محجريهِ، وَأخذ يُهوّل من المصيبة الّتي اقترفهَا.

لم تكن القسوة في توبيخِ أواب إلاّ تفريغًا عَمّا ألمّ بهِ من شُتاتِ التَّفكير، ولم يكن اهتمامًا حقيقيًا بأمر إسلام في تلك اللَّحظة، تدخل ضياء وربّت على كتف الصّغير وهو يُعاتب أوّاب:

«تذّكر أنه محضُ طفلٍ، وأنا من أَخطأ هُنا بتركِي للوجبةَ، لذا لا داعِي حقًا لكلِّ تلك الشّدَة، كما أنّني متأكدٌ من كونه لن يفعلها ثانيةً بإذن الله»

اختتم مواجهًا إسلام بابتسامةِ ودٍّ:
«أليسَ كذلكَ؟»

ردّ عليه الآخر بانهيارِ السّدود، ممّا أدّى إلى ارتباكِ أوّاب وإلى نهُوض والدتهِ من السّرير والمسارعةِ إلى حملِ الصغير البكّاء ثمّ الرجوعُ والجلوس مع التربِيت عليهِ لتخفف عنهُ، خاطبت ابنها البِكر تستفهمُ منهُ:
«لقد بالغتَ يا أوّاب، وخصوصًا أنّك لا توبخه في العادة هكذا، أتسرقُ دَوري اليوم؟ ماذا دهاكَ؟»

لاَنَ أوَّابَ لحالِ شَقيقه وامتدت أناملهُ باتّجاهِ رأسِ الآخر جوارهُ، في تلك اللحظاتِ القليلة الماضية كان يُنفِّسُ عن الداخل الّذي اكتظَّ بالقهر والعجز، نظراتهُ الخاطئة لِوجودُ مثالٍ للمثاليةِ يسبقه بمسافاتٍ طويلة رغم تعكّر ظروفهِ هِي منْ أطفأت النور عنْ جوانبهِ الحسنة، فَأضاع مفاتيح إحسان الظَّن بنفسهِ.
«لا إله إلاّ الله، لقد فقدتُ أعصابي! عليّ ألاّ أسترسل مع تلك الخواطر الآن؛ فهي ستفسد عليّ الوقت معهُ صديقي وأخي، كذلك قد تسبب في إساءَتِي للآخرين»

وسَّد شَعر شقيقه الكاتم بكاءهُ على جسد والدتهِ وملامحه تنضح بالأسف لمَا فعل:
«إسلام أنا أعتذر حقًا، سامح انفعالِي ذاك، هيّا ارفع رأسكَ»

ابتسمَ ضياء ولم يدم إخفاء الصّغير لوجهه عند والدتهِ، فسرعانَ ما التفتَ يمسحَ البلل بكفّيهِ الصغيرتينِ، ثمّ سألهُ بحماسٍ فلم يكنْ يدرِي بشأنِ مبيت أوّاب:
«سأسامحكَ شرط أن تلعبَ معي اليوم، أعذار التّعبِ وأخذ الاستراحة كلّها غير مقبولة»

ارتبكَ أوّاب وقطّب حاجبيهِ، تأخر في الرّد ليحسم أمر تخييب أمل شقيقهِ:
"لقد وقعتُ بالفعل! إلى متى سأستمرُّ في تغيير المَوضوعِ؟ بما أنّه يبكِي والآن، سأجعله يُكمل بكاءهُ ولا يسرف في دموعٍ أخرَى لاحقًا"

ربط ضياء ما جرَى وتوقّع مأزق ابنّ عمّه، أخذت الأمّ الرؤُّوم تترقبُ تلك اللحظة التّي تُلقى فيها الحقيقة على مسمعَيْ صغِيرهَا، وأخذت تدعو الله أن يتقبلها بأقلِّ حزنٍ وألاّ يُسمعهم ضَجِيجًا أو يثير الشّفقة.

أحكمَ أوّاب قبضَتيه على قبضَتيّ الآخر الصّغرتين، ونظرَ إليهِ بملامح مُستكرهةٍ لمَا سيلقيهِ صاحبها من كلِمة:
«إسلام، الحقيقة أنّني وعدتُ ضياءً بالمبيتِ معه هذه اللّيلة، فمنذ وقتٍ طويل لم نجتمع معًا، كما أنّه خرجَ اليوم من حُجرة العناية، ولا يعني ذلك أنّني غير مشتاقٍ للبيت ولكم عائلتي، اُعذرنِي لليوم وغدًا سأكون عندكم بإذنه تعالى»

بهُتَ حماسُ الصّغير وَفُتح فمهُ دون أن يُخرج أيّة كلمة، تابعت الغدد الدمعية عملهَا وعندما وارَى وجهه عن الأنظار صدحَ منهُ عتاب:
«لتجعلْ الغدَ لضِياء، أو ليرجع هو معنا، أنتَ وعدتني من قبل أن ترجع فور انتهاء امتحاناتكَ»

حاولتْ ريهام مُواساتهُ وتنهد أوّاب مع تكرار الاعتذارِ على مسامع شقيقهِ دون أيّ جدوى، وعندها تدخل ضياء فلم يعجبه قضاء الوقت على حساب حزن الصّغير:
«أوّاب لا يمكنك حتمًا المبيت والدموعُ تدفنُ بهجةَ أخيكَ؟ لِذا لنبقيه معنا خفية عن كلّ من يعمل هُنا، سأبذل الجهد ليتّم الأمر»

كان عرضًا صادمًا ألغاه أوّاب بزلة لسانٍ:
«هذا ما كان ينقصنِي حقًا! إنّه ما يزالُ يبلل السرير لعلمك في بعض الأحيان، ولن أتحمّل تبعات مبيتهِ معنَا»

لم يعرف ضياء ما الرّد المناسب على ذلك؟ وصاح الصّغيرُ خجلاً، وَدَفن وجهه أكثر مع التَّشَبثِ بقوّة أَكبر بوالدتهِ:
"أمِّي، أخبرَ عنِّي،... لِضيَاء!"

رمقت رِيهام ابنهَا البِكرَ بنظراتٍ لا تُدْلِي بخير، فرفع كفّيهِ مُشيرًا لهَا مع محاولةِ الخروجُ من المأزق بُعذرٍ:
«لمْ أقصد فضحهُ أمّي، ألاَ يُعدُّ ضياء من العائلة؟ وَ...»"

أخرجتهُ من حيرة التّعذر بقرصِهِ أعلَى ساقهِ قرصةً مؤلمة، أفرغت فيها كُلّ ذلك الاِرتباك والجزع من هذَا الصّباح.

صاحَ أوّاب وسارعت قَبضتهُ لتضغط علَى الجزء المتضرر بِغاية تخفيفِ الألم، غلبتهُ دمعته من علَى اليَسارِ.
«أمّي ليست أمّي حال الجزع، إنّها لم تسحق لحمي كما فعلت اليوم من قبل ألبتة!»

«هذَا لكَي تحفظَ أسرار أخيكَ»

وبَيْنما مُرتكب الجُرم المِسكين ينالُ عِقابًا غير عادلٍ، سُمعَ لضياء ضحكةٌ خافتةٌ فقد استظرفَ مَا جرَى، فاِستنكرَ عليه أوّاب ذلكَ:
«أتَضحك؟»
«حالك لا يسمحُ بقولهَا لكَ، فوالدتك لا تقارن بوالدتِي على الإطلاق، فهي كانت ستخرسكَ بصفعتينِ بكلِّ دمٍ بارد»

قلّص ضِياء صوتَ ضحكاتهِ ناطقًا من بينها باعتذارٍ:
«لا تنزعجْ هكذَا! آسفٌ»

«مَا بِي؟ ما الذّي قلتهُ لنفسِي، الأمر لا يستدعِي الرّد عليهِ ولمس ذلك الجرح وإن كان بيني وبين نفسي، هناك تراكم فظيع من الخواطر اتجاه ضياء اتضحَ أمامِي اليوم، علَيّ حل ذلك ولكن لا أريد أن أُفسد اليوم، يا الله اِهدنِي ولا تكلني إلى نفسِي»

انتبهَ لبَعضِ ما قالهُ وَربطهُ بحادثٍ مُهمٍ كان قد نسي اتخاذ القرارِ بشأنهِ:
«لقد تذكرتْ! رأيتُ مشهدًا غيرَ مُتوقعٍ قبلَ مُدّةٍ، مُتأكدٌ أنّها هِي، لم أستطع الحديث معها أو أن أخبركَ يا ضياء لأنني خشيتُ أن تتصاعد وتيرةُ نبضاتكَ ويؤول حالك كَمَا اليومَ»

قبلَ حوالِي شَهر...
العَاشرُ من آب...

فِي حفلِ إحدَى المَراكزِ التّجارية الخاصة بالموادِ المَنزلية كان أوّاب أحدَ الضيوف؛ لكونِ صاحبِ المركزِ والد أحدِ رفاقِ دراستهِ المُقَربِين منهُ.

إلى جانب الحفل أُهديت إليه قسيمة شراءٍ من رفيقهِ بمبلغٍ مُحترمٍ، وهذَا ما جعلهُ يستغل الفرصة لشراء ما ينقصهم أو بدل التَّالفِ من أغرَاض بيتهم.

بينمَا كان يقارنُ أسعار وأشكال أكوابِ الحليب ولجَ إلى سمعه رجاءُ طِفلينِ:
«ماما أريدُ حلوَى»

«وأنا أيضًا، دعينَا نذهب من هذه الجهة»

فالتفتَ يسارهُ وإذْ بهِ يَرى وجهًا ما كان يتوقعُ أن يراهُ مجددًا، كانت بينهمَا مسافةٌ، لذَا أخذ يسترقُ النّظر ويكملُ المُقارنة كتمويهِ:
«إنّهَا هِي! أجلْ هي، ليسَ محض شبهٍ بها متأكدٌ من ذلكَ، هي وضياء لهما ملامحُ متطابقة، الفرق الوحيد عن المَاضي هو في اِرتِدائها لعباءةٍ مُحتشمة، فقد كانت مُتبرجة، ربّما تابت ومع ذلك خصلاتها ما تزالُ تسرحُ على جَانبي وجْهها»

لفتَ الطّفلان المُرافقان لها نظرهُ، وبدَا لهُ الأمرُ كما لو أنّهمَا تَوْأَم
«طفلانِ مُتماثلانِ، بُنيَّا الشعرِ ولاَ يُشبهانهَا كَثيرًا، بعدَ أن تركت المنزلَ سمعتُ بعدها بمدّة أنها تزوجت وسافرت، ثمّ انقطعت أخبارها عنّا، إذًا هذان هما طِفلاهَا»

جذبت الطِّفلةُ مُنهما عباءةَ أُمّها:
«أمّي، هيّا لنذهب»

وتبعها التَّوأمُ في الجَذب من نَاحيةٍ أخرى، فرَدّت عليهما برويّة لم يعهدهَا أوّاب فيهَا:
«يا الله! ألم تقولاَ لي أنّكما لستمَا راغبَينِ في تناول الحلوياتِ المقدّمَة عند طاولةِ الافتتاحِ؟»

«أجل، ولَكنَّنا غيّرنا رأينَا»

تنفست المرأةُ بقلّة حيلةٍ:
«حسنًا سأرى إن كانت قد بقيَت بعضُ الضّيافة على الطّاولة ولكن لا تفعلاَ ذلك ثانيةً، مَفهوم؟»

تهلّلت أساريرُ الطفلينِ وسارعَا بِإلصاق رأسيهما بأمهما، كَان مشهدًا خياليًا بِالنّسبة لأوّاب فما كانت تُعطي سيرين هَذا الانطباع عَنها مع الأبناء، سرعان ما حضرت كُومة من الصُّور المؤلمة إلى ذهنهِ والّتي كانت فيها تجذِبُ ضياءً بخشونة من معصمهِ عندَ السّير معَها خارج المنزل، كما أنّه قلّما كان يقتربُ منهَا، فقربها لا يجلبُ الأنس بل الخوف وَالألمْ.

«سُبحانَ الله! كيف تتقلبُ القلوب؟ وتتبدلُ المشاعر، هل خالجها الندم فقررت التصحيح عند البداية الجديدة؟ أم أنّها ليست الخالة سيرين بل شبيهتها؟ لكنّ عينَا الطّفلين الضّيقتينِ والغامقتين كعينيها وعينَي ضياء»

سلكت المرأةُ الطريق بجانب أوّاب ممسكة يدًا من كلّ طِفلٍ بحنوٍّ، وعندهُا أوقف أوَّاب النظّر إليها ويداهُ تتنقلانِ بين الأكواب، لمْ يعرف عندهَا ماذا يفعل حيال الأمر؟ فحتّى إن كانت هي سيرين زوجةَ عمّه، فرّبما لن يكون هناك أيّ نفعٍ من لقاءِهَا.

كان الوقتُ ضيّقًا ليتخذ أيّ قرار، لذَا ظلّ يحدّق وراءها بحزنٍ حتّى اضمحلّ كيانها وكيان طفليهَا، ومنذ ذلك اليوم صار هذا الحادثُ حلمًا عابرًا يسترجعه وينشغل عن اتخاذ موقفٍ اتجاهَه، هو أيضًا يجهل ردّ فعل ضياء اتجاههُ، هل يستطيعُ تجاوز الماضي ومسامحتها؟ أم أنّ كلًّا منهما قرر النسيان وكأنّ الآخر لم يعدْ لهُ وجود؟

.........

«أوّاب!»

وعلى إِِثر نداء ضياء لهُ أفاقَ من جزء الماضي ذاكَ، ليجد ضياءً يلوّح أمَام ناظريهِ:
«ما خطبكَ اليَوم؟ إلهِي! فقدتم تَركيزكم لمجرد ما حدث، فما الذي كان سيحصل معكم لو أنّ مكروهًا أصَابني اليَوم؟»

ابتسم أواب في ردّه متكلّفًا:
«اعذرني، فأنا لم آخذ قسطَ الراحة المعتاد اليوم، لقد تصدع رأسي من المُحاضرات اليوم»

«أعانكَ الله»

وقعت عينا ضِياء على السّاعة الجدارية والّتي كانت تشيرُ إلى الرّابعة والنّصف وأردف عندها بتحسرٍ
«لقدْ نسيت أن أصلّي الظهر حقًا! يال خيبتِي، سيدخل وقتُ العصر قريبًا، أستأذنُ في ترككم سأتوضأُ وأدركُ صلاتِي»

وقبل أن يذهب ربّت فوق كتفِ أوّاب:
«استغل الفرصة فِي إصلاح ما حدث بينك وبين شقيقكَ الظّريف»

لم يُجاوز ردّ أوَّاب حلقهُ:
«أشكركَ ضِياء»

تسللت يدهُ لتربّت على ظهرِ المختبئ المُحرجِ في حضن والدتهِ، لم ينطقْ هَنيهاتٍ يرتبُّ اعتذارًا لطِيفًا.

«يومَ الخميسِ القادم سيُقام حدث ثقافيٌّ في الكليّة التي أدرس فيهَا، لن تكون هناك مُحاضرات دراسيّة، لذَا أَتُحبُّ أنْ تُرَافِقنِي؟»

كررت ريهام السؤال خلفهُ بلطفٍ:
«أترافقهُ يَا إِسلَام؟»

لمْ يردّ عليهمَا بل زادَ في دفنِ رأسهِ أكثر، بدا أنّه لن يتجاوز عن أوّاب بتلك السهُولة.

أخذت الوالدة الحنون تضرب بلطف قرب الوجهِ المدفونِ:
«إسلام أخوك يكلّمكَ»

ردّ عليهَا بصوتٍ خافتٍ يُدلي بالغضب:
«أنا أسمعهُ، لكنني غاضبٌ، إنّه فقط يُحاولُ إرضائِي كَيْ أرجع إلى البَيت لوحدِي، إنّه يفضل قضاء الوقت معَ ضيَاء»

فوجِئَ كلٌّ منهما لقاء هذا الرّد، لقد أُحبطَ الصّغيرُ فقد كان يعدُّ الأيّام بشوقٍ وطفَحَ صبرهُ وسَالَ، اعتصر ردّهُ فؤَادَ أوّاب وأوقفهُ عن صِياغة الأعذَار، لحظتها امتلأ شفقة فقد تذّكر أنّ الحبيبَ المُصطفى أمر برحمةِ الصِّغار، ومن محبةِ الرّسولِ عليهِ الصلاة والسَّلامِ الاقتداءُ بهِ وطاعتهُ وهذه الطّاعة سبيلٌ لنيلِ محبة البارئِ جلّ في عُلاهُ.

أدركَ أنّ المَبيت قد يُسبب سوء فهم يَؤول إلى شرخٍ في نسيجِ الودِّ بينه وبين شقيقهِ.

ابتسمَ لوالدتهِ واختطفَ منها شقيقهُ وأخذ يبعثِرُ خصلاته لتعود إلى هيئتها المُجعدة.

استمرّ إسلام في البِكاء، ظانًا منه أن فعله محض إرضاء وَتعويض لقاءَ المبيت، ورغم كلّ ذلك لم يرفض يدَيْ أخيهِ، وإن دلّ على شيء، فهو يدلُّ على محبتهِ لأوّاب.

«إسلام، سأؤجل مَبيتِي مع ضِياء إلَى الغد، فأنتَ انتظرتنِي طويلاً وليس من العدل أن أخذل لهفتكَ إلى روجعِي إليكم، لذا فلتمسح دُموعكَ ولتسامحنِي على كلّ شيءٍ»

ما إن ولجَت الكلمات سمعهُ حتّى رفع رأسهُ غير مصدقٍ لها ووجههُ في حالٍ كارثيّةٍ جرَّاءَ الدُّموعِ.

أخذَ أوَّاب يُبعثر الدُّموع من محجري أخيه المُحمرَّينِ
«يَا الله! كلّ هذا من أجلِي، إن لَم أرجع فإنّنِي أجْوَفُ قلب»

كان تعبيرهُ عندهَا فيضٌ آخرَ مِن الدَّمعِ واندفاعٌ قوّيٌّ إليهِ.

وَسَّدَ أوّاب ظهر شقيقهِ برفقٍ:
«لا تبكِ، لا تبكِ، لقد انتهى الأمر كما تحبُّ»

أحسّ باشراحٍ في صَدره وكأنّ السَّكينة أخذت طريق الرُّجوع إليهِ.

اِلتفتَ ناحية والدتهِ حينمَا شعر بكفٍّ تربِّتُ أعلى كتفهِ الأيسرِ، خاطبتهُ قائلةً:
«أي أوّاب لقد أحسنتَ، رضي الله عنكَ وأرضاكَ يا ولدِي الغالِي، حافظ على هذه الرّحمة في صدركَ»

خالجها نبضُ الفرح بما رأت، فما أجمل أن تقرَّ العينانِ بمشهد الودِّ وهوَ يُزهرُ بين أفراد عائلتهَا.

حمد الله لما أُثلج صدرهُ من كلماتِ الرِّضا، إنّ هذا النّوع من السَّعادة لاَ يُدرك إلاّ بسموّ الخلقِ، الّذي حببنا ربُّ العباد إليهِ، ويضيعها غالبًا الأشخاص الفارغون الّذين يؤثرون السّعادةَ المَادية.

رفعَ أوّاب عينيهِ عن أخِيهِ لينتبه على الّذي يُقطّر من ماء الوضُوء وَهُوَ يرمقهما بابتسامةٍ وقال ملَاطفًا الصّغير:
«أحسنت لقد غلبتَ أوّاب، لا تسمحُ له بالنّوم الليلة»

ضحك الصّغيرُ بخفّةٍ، وعلّق أوّاب على كلامه مجاريًا لهُ:
«أتحرضهُ عليّ؟»

«لاَ، أحرصُ على أن تخوضَا في سهرٍ لطيف، عليّ أن أصلّي أستغفرك يا رب»

انسحبَ ناحية الأدراج ليسحب سجَّادة الصلاة وَيشرعَ يأوِي لأعظم صلة، الّتي لا تُغنِي عنها أيّ صلةِ أخرى، منبع انشراح الصّدر، إلَى السند والملجأ الوحيد الّذي يمكنك أن توقن كلّ اليَقين وأن ترخي أجفانك في راحةٍ، أنّك لن تُخذَل عندهُ أبدًا.

حينَ لامست جبهتهُ الأرضَ دعَا أن يُغنيه الغنيُّ، يُغنيه عمّا سواهُ، تذكرَ ما جالَ في نفسه في لحظات الضّعف تلك، عن رجائه لعودة والدته إليهِ، واستغفر ربّه، وعاد ليسترسل في دعائِهِ:
«أغنني عمّن سواكِ، وحتّى هِي، رجوعها وعدمه لا يغنيني حقًا ولن ينتشلني مما أنا فيهِ، أنا فقط أطلب
منك أنتَ وأستغيث بكَ أن تكفينِي بكَ وحدكَ، وأن ...»
تقطّر دمعهُ وسارعَ في القيامِ كي يحيد عنْ تدفق تلك المشاعر، هو لم يستطع تجاوزهَا ودفعةِ الباب تلك تعلق كرنينٍ موحش.

...

بعد أن انتهَى من أداء الصّلَاة جهرَ بأذكار ما بعدَ الصّلاة، والبهجة أخذت بالخفوتِ من محياهُ، لقد مرّ زمنٌ على استحضار كلّ هذا الكمّ من الأحداث الماضية المؤسفة، وذلك الشاب أيضًا هو لا يردِي عمّا يجرِي معهُ منذَ أن نُقِل من غرفتهِ، وأيضًا شدّه الأسى ناحية الأمّ التي توجعت وهُشمت بكل قسوة، ولم ينسَ مشكلةَ التعلق الّذي أوهنَ أوّاب ووالدتهُ، ويأخذه القلق إلى بعد آخر، فهل سيكونانِ بخير إن آن ذلك الوَقت؟
أَسيسلمُ كليهما برضا؟
والكثير والكثِير لقد فاضَ اليومُ، وجميعهم بحاجة إلى فصلِ مَا اختلط واتخاذ القرار بشأن كلّ أمرٍ.

...

«اعذرونِي سأكمل ضيافتي، وأيضًا إنّي لا أملك عدا هذا اللّبن الرائب فلا يُمكنني أن أحتفظ ببعض الحلويات، سيُطحنُ رأسي عندهَا من قِبل سجّان المُستشفى حُسام»
«وضعفي أمامهَا قد يُودِي بيّ»

ردّت عليه الخالة بأن لا بأس وأنَّهم أتو لرؤيته فحسب وذاك كافٍ.

أخذَ ضياء يلاطفُ الصّغير بينما يناوله كوبًا آخر من اللّبن:
«أنتَ راضٍ الآن؟»

أحكم يديه على الكُوب بقوة، أجابهُ وقد دَبّت البهجة في صَوته
«أجل، أنا متشوق أيضًا للعبِ بِقطاركَ الخشبي، فقد وعدني أوّاب أنّه سيخرجهُ لِي حالمَا يعُود إلى المنزل»

«قطارِي الخشبِي؟»
أعادها دون أن يُدركَ ما يقصد، لقد غابت تلك الذكرى المتعلقة بالقطار الخشبي عنه للحظاتٍ.

اضطربت ملامح أوّاب واعتذرَ سريعًا حالمَا التقى مجالُ نظرهِ مع ضياء:
«إنّي آسفٌ، فبينما كنّا نرتب بعضالأغراض، فتحتُ أحد الصّناديق متسائلاً عن ماهية ما يضمهُ من غرض، ناسيًا تمامًا أمر تلك اللعبة، عندما أخرجته أثار فضولَ وشغف إسلام، أنتَ تعرف كم كان تحفة جذّابة ليس لها مثيل على الأقل هنا في المدينة، فأجّلتُ شغفه هذا بوعدٍ أفِ بهِ بعدَ انتهاء اختبارَاتي، في الحقيقة كنتُ ناويًا أن أستأذِنَك قبلها ولكنّني نسيتُ مع الأشغال»

رفع كفّه إلَى خصلاته المجعدة والمحاذية لأذنيهِ:
«أعتذر حقًا على قطع وعدٍ كهذا قبل استئذانكَ، فأنتَ من أقفلت على الصندوق إلى أجلٍ غير معروف»

انتقعَ وجهُ ضياء لونًا من الهدوء، لم يستطع أن يبادر بابتسامة ولا أن يُمثّل بل أخذَ يجوب في تلك الذكرَى، والتّي مزجت بين النقيضين من المشاعر.

...

كانَ عندهَا صبيًّا في السّابعة، كانت قد أمرتهُ والدته بجلب بعض العلب الزّجاجية من دار الخزينِ الخاصة بالبيت، وبينما هو يبحث في الأرفف سقطَ أحدُ الصناديق، وحمدًا لله أن لم يقع عليهِ، وبسبب السقوط من ذلكَ العلُّو قفزَ ما في داخلهِ وتبعثر على السّجادِ، إذ أنّ الصندوق لم يكن مُغلقًا بإحكام.

«يا رب! هذه القطع أليست قضبانَ سكّة القطارات؟»

أمسكها وتأملهَا:
«ملمسها لطيف! لعبةُ من هذه؟»

أخذه الفضول لأن يخرج القطع من أغلفتها الشّفافة ويباشرَ في تركيبها مع بعض وتثبيتها على الأرض ونسي أمر الزجاجات.

وما هي إلا بضع دقائق حتّى سمع توبيخ والدتهِ فساد الخوف جسدهُ وتوقفَ عن الحراك في الوضع الّذي يُمسك فيه إحدى المقطورات الخشبية.

«أيّها المشاغب ما الّذي تفعلهُ عندك؟»

لم يستطع المواجهة ببصرهِ وسارع بالدّفاع عن نفسه علّها تشفق عليهِ:
«آسف، أدرك خطئِي في عدم استئذانِي ولكنني نسيت بسبب إعجابي بهيئتهِ»

ظلّ يردد سامحيني مغمضَ العينين مُرتعدَ الأطراف، ما حدث لم يكن بالحسبان فقد تجاوزتهُ! وباشرت إكمال وصل المقطوراتِ ببعضٍ.

كانت من المرّات القليلة الّتي لمْ تمتد يدها عليهِ لتقْسُو وتُتلف الودَّ بينهما، نقرت بأصابعها على رأسهِ بخفّةٍ مخاطبة إيّاهُ خطابًا لم يعتدهُ:
«أيّها الشَّقي لا تعدها ثانيةً، ثمّ لا بأس يمكنك اللعبُ بهِ فهو لكَ على كلّ حال»

فُوجِئَ بحدثَينِ لم يكُونا بالحسبان، وسارعَ بسؤالهَا عن لعبته الّتي لا يعلم شيئًا بشأنها:
«متَى اشتريتها لِي؟»

باشَرتْ في إِنهاء تركيب القطعِ بينما تحادثهُ:
«أنا لمْ أشترها لكَ، كلّ ما في الأمر أنّني عندما كنتُ طفلةً صغيرة رغبتُ في السَّفر معَ والدِي في أحد القطارات، لظروف خاصة لم يستطع أبِي أخذِي معهُ فحزنتُ كثيرًا، لكنّه وعدني أن يُحضر لي لعبةَ قِطَار ذات تصميم فريدٍ،
وبعدَ أن تزوجتُ أحضرتهُ معِي وقلت لنفسِي بإنّنِي سأعطيهِ لأطفالِي إن أنجبتُ أطفالاً، يبدُو أنّني نسيتُ مع الوَقت، وها أنت تُرزَق به اليوم، فَسُبحان من يُسخّر لنا هذهِ الأَحداث»

انتعشَت ملامحهُ وسارعَ بطرحِ طلبهِ:
«أيمكنني اللعبُ بهِ حينَ يأتِي أوّاب؟»

«يمكنك ولكن ألاَ تُريد تجربتهُ معي أولاً؟»

شدَه قليلاً ونظراتهُ إليها، توقفَ مع اللحظة، لَيسَ وكأنّه لاَ يُريد ولكنّه لم يعتقد بأنّ ذلك الخيار مُتاحٌ لهُ، وها هو يقفزُ تلقائيًا إلى الشخص المُتاح والّذي كانَ ابن عمّه وصديقه المُفضل.

«ألاَ تريدُ؟ ... أنتَ تبكِي»

لمْ يحتَمِل ذلكَ، تلك اللحظة أشعرتهُ بمدَى اتساع ذلكَ الفراغ، لم يتجرأ على سؤالها وهِي كذلك لم تقوى على المواجهة فقط استطاعت أن تحيدَ بتحايلٌ عن تلك الدمُّوع، ضمّته إليهَا وهدّأته دون أيّة أحرفٍ، ثمّ أشغلتهُ باللَّعب.

«سأسمعكَ صوتهُ الجَميل والّذي يشابه صوت قطارات الفَحم على الوَاقع»

...

«هناك قطعةٌ ناقصة، وأنتِ لم تسمحِي لِأي شخص برؤيتهَا، لطالمَا تجاوزتُ وتجاهلتُ أيضًا، هذا القطار هو من الأشياء التّي تركتها عند رحيلها، إنّ صوت تحرّكه المطابق للقطار الواقعي ما يزَال عالقًا بِي، الوقت غير مناسب الآن كما أنني أخشَى أن يعود ذلك الاضطراب، أعِنِّي يالله»

أردفَ والملامحُ تصطبغُ جدّية:
«لا بأسْ، يمكنك اللعب به، الحقيقة أنّ أمّي تركتهُ وسواء كان تركهُ عمدًا منها أم كان نسيانًا، فهي أعطتنِي إيّاه ولذَا يمكنني السّماح لك باللَّعب بهِ»

اندفعَ الصّغيرُ بفضول:
«أمّك؟ أين هِي أمّك يا ضياء؟ أمّي لم تُجبنِي لِم أنتَ تسكنُ معنَا وليس مع أهلك؟»

أرجعهم الصّغير إلى جوّ التوتّر.

سارعَ أوّاب بإغلاق فمِ أخِيهِ، وسحبهُ مُبتعدًا محاولاً سحب أسئلته معهُ بتغيير الموضوع:
«أظًّن أنه حان موعدُ مغادرتنا، أليس كذلك أمّي؟ لندع ضياءً يرتاح»

وافقتهُ والدتهُ بينَما يحاول صغيرهمْ إبعاد يديّ أوّاب والمطالبة بتحريرهِ من حيرتهِ:
«سنعود بعد أن أعرف، لماذَا لا أحد منكم يجيبنِي؟»

«ولمَ سنعودُ إن عرفت؟ أيّها العنيد، هيَّا تحرك أمامِي وإلاّ لن أبيت في المنزل الليلة»

استنشقَ ضياء الهوَاء بعمقٍ واِسترسل في الجواب آخذًا دورَ محامِي الأطفال:
«توقّف يا أوّاب، وما المشكلة في سؤال إسلام؟ إنّ سؤاله في محله، من حقه أن يستفسر عن هذا الكائن الّذي اقتحمَ منزلهُ فجأة»

ضربَ أوّاب جبهتهُ:
«سيبدأ بالتفلسف»

فرّ إسلام من بين يدي أخِيهِ وسَارعَ للجُلُوسِ بِجَانب ضِياء، وضياء بدوره قام بِرِفعه ليجلسهُ عليهِ، لمْ يفعل ذلك من أجل إسلام فَحسب بَل من أجل نفسهِ، تلك الذكريات جعلتُه يفكّر في كونه كانَ يصبُّ كلّ التّركيزِ علَى ذلك السّواد فحسب، فهناكُ بُقعٌ بيضاء تظهرُ بين الحين والآخر:
«أمّي غادرت المنزْلَ عندما كنتُ صبيًّا، لمْ تكن العيشة معنا أنا ووالدِي تعجبها، هذا كلّ ما في الأمر»

لم يكتفِ إسلام بهذا القدر، ففضولهُ يتّسع وكلّ جواب سيفضي لهُ بمزيدٍ من الأسئلة، كان الأمر شبيهًا بجذبِ أشجار الورد من أعلى سيقانهَا.

«ولمَ لم ترحلْ معها؟ لو كنتُ مكانك لما تركتُ أمّي تتركنِي؟»

صمتَ ضياء فقد كان سؤالاً مباغتًا وقاسيًا:
«حتمًا لم أكن لأمنعها من الرّحيل، كلّ ما فكّرت فيه أنْ التعاسة ستنقشعُ مع رحيلها، لقد كنتُ مخطئًا حينها ولم أتوقع أنّ والدي سيتأثر بذلك الانفصال»

وأنّب أوّاب أخاهُ بصوتٍ مُرتفعٍ جعلهُ يبكِي، وما إن بكَى حتّى انّفك ضياء عن صمتهِ وهو يوسّد شعرَ الصّغير:
«يا إلهِي! لا تصرخ هكذَا»

شاطرتهُ ريهام الرأي ورمقت أوّاب بحزم:
«شقيقك طفل عليك ألاّ تنسَ هذا، ثمّ ما لي أراكَ منفعلاً اليوم؟ وتستغلُّ أيّ فرصة للصراخ، تذكّر أنّك في عيادة وكفّ عن إحداثِ الجلبة»

«أنَا آسفٌ حقًا، اعذرونِي إنّني لستُ على ما يرامُ اليوم»

الوضعُ يكتسحُ الرماديّ بينهم فأراد ضياء أن يُختتم اللقاء بحادثٍ لطيف يزيحُ ذلك الثّقل فأردف وهو يحتضنُ الصّغير:
«فلتلتمسُوا العذر لأوّاب اليوم »

شدّ انتباه أوّاب بكلماته وظَلّ الآخر يُنصت للعذر الذي سيصيغهُ لهُ.

«لا شكّ بأنّ خطبة إحداهنّ بالجامعة استولت علَى تفكيرهِ اليومَ»

ارتعشَ أوّاب خجلاً وصرخَ مستغربًا باطلاع ضياء على أمرٍ كهذَا فهو واثقٌ بأنّه لم يجاوز حلقهُ!
«كيفَ علمتَ بهذَا؟»

أجابهُ بدهشةٍ يعقبهَا ضحك:
«إذًا هذَا صحيح! لقد كنت أمازحكَ فقطْ ولم أتوقع أنّ ذلك حدث بالفعل يا لها من مصادقةٍ لطيفة!»

لوّح أوّاب بكفّه قاصدًا ضربهُ ولكنّ ضياءً تفاداهَا:
«سأنتقم منك فكن مترقبًا»

«مرحبٌ بك في أيّ وقت، لا تنزعج! وأخبرنَا بالذي اتخذته من قَرارات»

«لم أتخذ أيّ قرار إنّما ما زلتُ أفكّر، لذا لا شيء لدَيّ لأخبرك به»

وعندما التقَت نظراتهُ بنظرات والدتهِ أحسّ بعدم الرّضا ينضح منها ولم تكن تنتظر سؤالهُ بل بادرتهُ:
«ألم نتّفق بأنّني سأخطبُ لكَ ابنة أخِي؟»

«لمْ نتّفق، أنتِ تحبينها وتريدينها بالقرب منكِ، وأنَا خَارج هذا المَوضُوع»

صمت ضياء يراقبها وهما يتراشقانِ الحجج والجدال:

« وما بها ابنةُ أخِي لترفضها؟»

«أمّي! لم أقل بأنّ بها خطبًا ولكنّني حرٌّ في اختيار الفتاةِ الّتي أرغب أن أشاركها السّنوات القادمة بإذن الله»

أشاحت بنظراتها عن ابنها واقتنعت أخيرًا أنها في عجزٍ عن اقناعهِ:
«ضيّع الفرص كما تُحب، لا تندب عندما تخطئ الاختيار لاحقًا»

ثمّ انتقلت نظراتهَا إلى الخِيار البدِيل إلى الصّامت المُراقب، صحيح أنها يئست من ابنهَا الّذي من كبدها، لكن لدَيها ابنها بالعاطِفة!

«سأخطبهَا لكَ يَا ضِياء إذًا»

« كيفَ سيجيبها؟ »

أجابها بينما تعبثُ كفّاهُ بخصلاتِ الصّغِير أسفله:
«لستُ موافقًا فليس الوقتُ مناسبًا للتفكير بالزواج، يكفينِي عدد الأشخاص المتعلقين بي، لا أريد أن يعلق بي شخصٌ آخر»

صاح بهِ أوّاب ساخرًا:
«أنت تجيدُ الهروب وبدهاء»

«لستُ أهربُ»
نطقها بكلّ جدّية وأعاد نفسهُ للجوّ المليء بالألم والّذي ظنّ أنّه تجاوزَهُ ولن يعُود إليهِ، اكتسب صوته أيضًا بعض الانزعاج:
«أجلْ، أنتمَا لا تسمحان للشخص بأن يرتاحَ حتى في قبرهِ، خالتِي الغالية، أوّاب إنّني أخشَى عليكما الانهيَار إنْ حدث وأن أخفق إرجاعُ قلبِي لوضعٍ مُستقّر»

حملت عباراتُهُ عتابًا صريحًا لهما، كانت غايته تحريرهما من هذا الأسرِ الّذي صار عبئًا عليهم جميعًا.
«إنّها سننُ هذا الكَون، وعلينَا أن نسلّم الأمر لربّنا، منذ الوِلادة ونحنُ نؤول إلى النَهاية، زمنُ اختباراتنا يتناقص، الحمدُ لله فلو لم أستسلم وأسلّم بالحقيقة لما تجاوزتُ قبرَ والدِي ولا حتّى هذا الضّعف في جسدي، ولا حتّى رحيلها عنّي، ولا حقيقةَ أنّ لديّ أخًا شقيقًا أنجبتهُ بعد أشهر من انفصالها، في أفضل حالاته ستكون والدتها اعتنتْ بهِ، رغمَ أنِّي لم أتجاوز بعدْ بشأنها هي ولكنني سأفعلها بمشيئة الله»


كلّ منهما مقتنع بصواب ما قيلَ لحظتها، ولكنّ النفوس هشّة وما زال أمامها الكثير من التغيير لتنهض، كانت هناكَ نقلةٌ افتعلتها الخالةُ لكونها أشفقت عليهِ من نطقه بما يؤلمه في أسطرٍ صرِيحة:
«ضياء يا ولدِي، ما لم تعلمهُ أنّ والدتك سيرِين لم تبدُو راضية بالزواج من والدك، فقد أدلت ملامحها بذلك في أولّ أيام زفافها، كما أنّني تساءلتُ حول زواج شابّة ذاتُ جمال ومالٍ من عائلة متوسطة الحال، لا أستنقص بقولي ذلك من عائلة زوجِي ولكن مثل تلك العائلات في الغالب لا تزوّج بناتها إلاّ من أشباهها، ربّما لسبب نجهلهُ أكرهت على الزواج، كما يبدو أنها غير مهيئة نفسيًا لأن تكون أمًّا ولا أن تكون زوجة، فالعلاقات تحتاج إلى العطاء والوقت، وهي كارهة لأن تعطي عائلتها هذه شيئًا منهُ، أنا لا أبرر تعامل والدتك السيئ معك، لكن عليك ألاّ تركز على تلك الجوانب المظلمة من شخصها فقط، حاول أن تنقّب في ذكرياتك فلابد وأن تجد بعض ذلك الحب الّذي كان يتسلل منها، لكونها أمًّا وتلك الرّحمة أودعها الله في الوالدين»

أثلج الحرقة بانسياب تلك الدّمعةُ من عينه اليسرى وسقطت على وجهِ الصّغير، فقد كانت الذِكرى السابقة دليل علَى ذلك، كان الألم يحتّل كثيرٌ من أيامهما فكان يطغى على تلك اللّحظات الرّقيقة والّتي تُنعش النّفس.

«يا إلهي! ما الّذي فعلته أمّي للتوّ، أجئنا لننقب في الأحزان اليوم؟ يبدو أنّه أقوى عن ذي قبل والحمد لله فقهو تقبّل الخوض في حديث كهذَا»

رفع الصّغير رأسهُ إلى السّقف بعجب:

«أظنّ أن السّقف به شقوق فقد أحسست بقطرة مطر»

ابتسمَ ضياء من كونِ الصّغير لم ينتبه على مصدر الدّمعة، وأخذ يجيبهُ بينما ينزل رأسهُ بكفّيه باتجاهُ والدته وشقيقه:
«أجلْ إنّها شقوقٌ تجاهلتها سابقًا وتحتاجُ إلى ترميم»

«أدعُو الله أنْ أراكِ ثانيةً، وأن تخبريني بكلّ وضوح ما الذي جرى؟ ولمَ فعلت كلّ ما فعلتِ؟ »

|جُروحُ الأمسِ اِعترضتْ على لحافٍ ثقِيلٍ غُطِّيت بهِ دونَ عِلَاج، تصرخُ كلّما اُقتربَ من بابها، تُنادِي صاحبهَا بالمواجهة والرتّق|

يتبع...

السّلامُ عليكم؟
كمْ مرّ على آخر تحديث؟ -سنة أو ربّما أقل بقليل! -
الشغف في الحضيض، الله يعوضنِي خير.

كيف كان الفصل؟

أيّ توقعات؟

أيّ ملاحظات؟

عمومًا لم أصل أيضًا إلى ذلك المقطع الّذي طالما حدثتكم عنهُ -لا بأس لا بأس-

ألقاكم في القريب، وأرجو ألا يكون بعد عام ههه!

بِقلمْ إيلَاف.

ربّي إنّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كبيرًا، ولا يغفر الذنوب إلاّ أنت، لا إله إلاّ الله.
...

Continue Reading

You'll Also Like

32.9K 1.3K 33
قصه مختله وجديده حقيقيه واقعيه حب كوميدي عائلي قصه حب جميله نولد بين ثناي جميل قمر وياسر احمد وروان ورد وادهم
115K 2.4K 105
سلام عليكم.. بعد غياب فقصة #أحببت_رجلا رجعت برواية جديدة تحت طلب ديالكم قصة جديدة احداث متنوعة نايضة غيرة وتشوييق عقد كوميديا دراما مواااقف... #جن...
15.5K 470 9
كل من يرى القصر يتمنى العيش فيه وكل من عاش فيه يتمنى لو انهُ لم يولد
4.8M 136K 30
كانت تظن بانه سيحول حياتها الى جحيم... لكن لم تكن تعلم بانه انقذها من الجحيم.. من ظنت بهِ سوءً.. عاملها كالأميره.. ومن ظنت به خيراً.. عاملها كالعبيد...