المغضوب عليها

_nataly_story

4.5K 420 660

إذا لم تعرف إلى أين ستذهب، فالأجدر أن تُدرِك من أين أتيت. حين تخوض في معترك الحياة دون أحلامٍ أو أمنيات، فلا... Еще

الفصل الأول: الحياة مع الكراهية
الفصل الثاني: جرحٌ يمشي.
الفصل الثالث: ما يذوب في الشمس
الفصل الرابع: علاقةٌ مشبوهة
الفصل الخامس: الغائبةُ
الفصل السادس: أولًا، لا عائلة.
الفصلُ السابع: إلى المقصلة

الفصل الثامن: صورةُ لقاءٍ ووداع.

350 41 64
_nataly_story

أين تكمن المشكلة؟ من الصعب التحديد حين يتعلق الأمر بحنان، ربما حين شعرتُ أنها نقلت الموقف الذي وقعَ إلى شقيقها بالحرف، أو جوّدت القصة بآرائها الخاصة عني، فصار يزدريني دون أن يعرف عني أي شيء، ليس الأمر أنني مهتمةٌ بنظرتهِ المُبجلةِ عني، لكنني سأكون سعيدةً إن كان هناك نظراتٌ أقل لتحملها والتفكير بما تواريهِ كل مرة.

كانت جدتي جالسةً على رأس الطاولة، عن يمينها ويسارها جلس سالم ومحمود وأزواجهما، رغم أن خالي سالم أصغر من أمي، لكن لأنها باتت مُطلّقة... يمكنني الشعور بما تفكر فيه جدتي دون أن تنبس ببنت شفة.

سُكِبَت الأطباق وحضرت خالتي رانيا سابقًا، حتى أنها جلست بجانبي، كانت في التاسعة والعشرين من عمرها، لكنني شعرت أنها أصغر، تقربني سنًا لسببٍ لم أفهم كُنهه.

حرَصَت على ملء طبقي بكل شيءٍ رغم محاولاتي لثنييها عن ذلك، لكن انتهى بي المطاف بطبقٍ متخمٍ حتى آخره. كان أولاد خالي محمود جالسين بعيدًا، إحداهما في الثانوية العامة والأخرى في الإعدادية، أما الأصغر فقد بدا مُدللًا وكريهًا لأنه رفض الجلوس أو إطاعة أمه.

عدا عن فوضى ذلك الفتى وسلمى وأسامة، كانت الأجواء تبعث الدفء لسببٍ ما، بينما انشغل الكل في الحديث أو تناول الطعام، أصوات احتكاك الملاعق والشوكات، كنت أنصتُ لكل هذه الأصوات، التي بثت الدفء في صدري، وجعلتني أشعر بغرابةٍ، ولو وهلةً، أنني لستُ وحيدة.

كنتُ متأكدةً أن طعام جدتي شهي، لكنها تفوقت على نفسها هذه المرة، ربما لأنني كنت آكل فتات الطعام الجيد، وأتخطى معظم الوجبات لألّا أتذكر كل ما أكرهه وأنا أتأمل الطبق البلاستيكي البارد.

انشغل خالاي بالحديث مع جدتي عن محل القماش الذي تركه المرحوم لها، ويديرهُ كلاهما، لكن بدا من الواضح أن الكلمة الأخيرة لمحمود، تحدثت النسوةُ عن المسلسلات التي ستُعرَض في رمضان، أين ينوون قضاء الصيف، وملاطفة زوجة خالي سالم له لأنه يكره الشاطئ وإحساس الرمل بين أصابعه.

كما لو أنني في صباحية عيدٍ جميلٍ، تجمعنا حول المائدة، وسنتبادل التهاني بعد قليل، ربما حتى وهلةٍ قصيرة، أردتُ أن أتخيل هذا، وأن أصدقه.

بالطبع، لم يفوّتن الحديث عن الطهو، أو مدارس أولادهن، ومتى سيدخل حسام الحربية، وأن حنان ليست من الأوائل كما أخيها، لكنها ستكون دكتورة أطفالٍ ناجحة، فسرعان ما تداعبها زوجة خالي بأنها ستذهب بأطفالها إليها فورما تتخصص.

تحدثوا معي نادرًا، سرّني الأمر في الواقع، فقد انشغلتُ بتناول الطعام، أو بأسامة الذي يأتي ليُلقي ما يحمله عندي ويهرب بعيدًا.

رفعنا الأطباق معًا بعدما أنهينا طعامنا، وكُلِّفتُ بإعداد الشاي، حتى أن خالي سالم قال ممازحًا إياي: لنستعد لشرب ألذ شايٍ في العالم. وأعترف أن ذلك جعلني أبتسم كالبلهاء أمام موقد النار في انتظار غليان الماء.

واحدةٌ من أصعب وأغرب الأشياء التي كان علي إتقانها هو تحضير الكمية الملائمة من الشاي المفروط للكأس الواحدة، بما أنني كنتُ معتادةً على الظروف، ونادرًا ما كنا نشرب الشاي، يقول أبي أنهُ مضر بعد تناول الطعام.

المهم أنني أعددت الكؤوس، وكان زوج خالتي هو الوحيد الذي أرادها ثقيلةً وداكنةً، فيما تفضلها جدتي خفيفةً كي تتمكن من النوم. سكبتُ الماء من الإبريق في الأكواب بحرص، فآخر ما أريدهُ هو أن أقع في موقفٍ مُحرجٍ أمام أعدائي.

حملت الصينية ثم عدتُ إلى غرفةِ المعيشة حيث جلسنا معًا، ووزعتُ الشاي تحت نظرات أمي التي كانت تُشير إلى جدتي، كنتُ أعرف أنني يجب أن أبدأ بها، لماذا تحسبني بهذه السذاجة؟

وزعتُ الشاي حتى وصلتُ إلى حسام، فلاحظت نظرات المقت المتصاعدة منه، لم يحلق شاربهُ أو لحيتهُ منذ أيام على ما يبدو، لكن كما قلت، إنه يبدو سخيفًا بهما ليس إلا.

جلستُ أخيرًا قُرب زوجة خالي وأولادها الذين كانوا يريدون هاتفها، في حين تسللت نظراتهم إلي ساعة ارتحت، عرفتُ أن هذه النظرات لا تبشر بالخير.

انشغل حسام بالكلام مع خالي عن مبارةٍ وقعت قبل أيام، فلم أجد شيئًا لفعله غير فتح الهاتف قليلًا وتصفح الفيسبوك، لا أعرف عما كنتُ أبحث فيه على وجه التحديد، إنما لم أُرِد أن أحدق فيما حولي بسذاجةِ طفلةٍ تائهةٍ في المكان.

شعرتُ بيدي أسامة وسلوى على فخذي، فعرفت أنهما سيتوسلان للحصول على هاتفي في أي لحظة، لكنني تجاهلتهما قليلًا وتابعت تقليب هاتفي، يقولون أن هناك رحلةً ستُنظمها الجامعة إلى الإسكندرية، أظنها فكرةً جيدةً للهرب من كل شيءٍ والاسترخاء، لكن لا أعرف إن كانت الاختبارات تنتظرني لتفسد بهجتي، ليس لدي ذكرياتٌ جميلةٌ مع الرحلات الجامعية بعد كل شيء.

- ما المثير للاهتمام في هاتفك إلى هذا الحد يا نورة؟

سمعت صوت جدتي وهي تسألني، ولا أظن أن سؤالها خرجَ بصورةٍ عفويةٍ أو أنهُ استفسارٌ بريء، لعلها تنتظرني أن أقول أنني أُكلِّم حبيبي السري، لاحظت نظرات خالتي وأمي نحوي، حتى حسام ومحمود، فأجبت وأنا أضع الهاتف جانبًا: ليس هناك ما يهم، كنت أتفقد الفيسبوك فقط.

أومأت بتفهمٍ لم أشعر من خلاله باقتناعها، فسألتني: متى ستنهين الدراسة؟

- في منتصف شهر يونيو تقريبًا، لم أتأكد من الجدول الرسمي بعد.

هزّت رأسها وهي تدعو لي بالتوفيق، في حين انضم خالي سالم إلى الحديث بأن شجعني: متأكدٌ أنكِ ستكونين دكتورة أسنانٍ رائعة.

ضحكتُ بسماجةٍ لم آلفها مني على كلامه، لم أعرف كيف أرد على مديحه، ثم قررتُ أن أمازحه: هذا إن نجحتُ في مادة حفر الأسنان بالشمع، أشعر أنني محشورةٍ في هذه الأسنان منذ سنين، لذلك ادعو لي بالتوفيق.

تحدث أسامة فجأةً: لكن بابا يكره أطباء الأسنان!

همست لهُ أمهُ كي يصمت، ففرت ضحكةٌ لا إراديةٌ مني، في حين تابع خالي الحديث: فورما تتخرجين سأبدأ في حبهم، لا داعي للقلق. وانضم زوج خالتي للحديث بقوله: كما أن هذا النحت سيُعلمكِ الصبر وإن لم تستفيدي منه، على الأقل ستنتهين سريعًا من سنين الدراسة وتبدئين عملكِ.

لا أعرف متى تصاعد الأمر إلى هذا الحد وصرتُ محور الحديث، لكن سرعان ما تدخلت خالتي كي تعلق: وظيفتها جيدة ويمكن أن تفتح عيادةً قُرب عيادة حنان المستقبلية، بما أنها ستتخصص في الأطفال، فمازحتها أمي وهي تضع كوب شايها على الطاولة: نعم، يخرج الأطفال من عيادتها كي يتفقدوا أسنانهم عند نورة، هل سيبني حسام العيادتين يا ترى؟ فضحك الكل على التكامل الغريب الذي انتهت به القصة، لكنني أعرف أن خالتي تعمدت الحديث هكذا، وكأنني لن أستطيع النجاح دون زوار ابنتها.

تعاقبت الأحاديث بعد ذلك الموقف، لكنني لم أُشارك في أغلبها، وسرعان ما رأيتُ حنان وهي تنهض فجأةً، ثم لكزتني أمي وهي تهمس لي: ماذا تنتظرين؟ هيا انهضي وساعديها في المطبخ.

عظيم، أنا عالقةٌ مع أكثر إنسانةٍ كريهةٍ عرفتها، في الواقع، لن أعطي حنان هذا المنصب، فهناك من احتلوه بجدارة دون أن أقوم بأي شيءٍ لهم. حين دخلتُ إلى المطبخ وجدتُ أنها وقفت لتبدأ في مسح الصحون، كان هناك حوضان فأخذت دوري في غسيل الصحون وتجفيفها دون أن أنطق بأي شيء أو ألتفت إليها.

ظللنا على هذا الحال معظم الوقت، نتبادل الأشياء دون كلام، أو نستخدم أوامر بسيطة مثل أحضري أو أعطيني أو ضعيها، وكان هذا الوقت هو الأكثر سلاسةً منذ عرفت هذه الإنسانة الغريبة.

أنهينا العمل سريعًا وعدنا إلى الجلسة، لم أشكرها ولم تشكرني، كنت أفكر في أن حياة هذه الإنسانة الغريبة، وكيف صنعت كائنًا مثلها.

كانت أمي قد وزّعت المشبك الذي جلبتهُ عليهم، وشكرني زوج خالتي لأنني اشتريتُ ألذ ما تذوقهُ منذ شهور، فشعرتُ بالإطراء فعلًا، أظنهُ كان أبًا صالحًا بما يكفي، ووهلةً أردتُ أن أخبر حنان كم أنها محظوظة، لكنني وأدتُ تلك الكلمات واتجهتُ إلى أسامة وسلمى اللذين أنهيا قطعهمت على عجلٍ، ثم منحتهما هاتفي قليلًا لأنني سأغادر قبل أن تغرب الشمس.

لم يكن اليوم سيئًا، على الأقل لم تحصل أبشع مخاوفي، لم تسألني زوجة خالي محمود عن سر ترك والدي لأمي، ولم يسب خالي أبي لأنه لم يكن رجلًا على حد زعمه، جدّتي توقفت عن النظر إلي كالخيبة التي يجنيها المرء مُجبرًا، إما أنهم يخفون ذلك جيدًا، أو أنهم قرروا تأجيل محاكماتهم حتى وقتٍ لاحق، لا تكون أمي فيه.

قد أجازف وأقول أنهُ كان يومًا جميلًا، لم أسمع هذا النوع من الفوضى والأحاديث منذ أيام، عدا عن رفاقي ومواضيعينا المكررة، استمتعتُ بسماعهم يتحدثون، بعيدًا عن أحاديث خالتي المُقدِّسة لتخصص الطب، وأنني مسكينةٌ لأنني لم أجد مكانًا فيها.

أخبرتني جدتي أن أمكث الليلة معهم، لكنني رفضتُ بأدب، فأنا لم أجلب ثيابًا بديلةً، عمدًا، وتحججت بامتحانات وهميةٍ أعرف أنها موجودة رغم أنني أجهل مواعيدها، أظن أن مروان سيفجر هاتفي بشأن المشروع أيضًا.

رمقتني أمي شزرًا حين أخبرتها عن ذلك، لكنني أتيتُ وتنازلت، لذلك عليها أن تتنازل أيضًا. تحدثت قليلًا مع خالتي رانيا، يبدو أن التدريس مهمةٌ شاقةٌ أكثر مما تصورت، لكنها لم تشكُ كثيرًا، اعتذرت لأنها تخلفت عن يومي الأول بسبب انشغالها مع صديقتها التي كانت تمر بأزمةٍ بعد وفاة والدها، فشعرتُ بالذنب لأفكاري المقيتة التي كونتها عنها. شاركتها زوجة خالي همومها مع أطفالها، وعلّقت متسائلةً إن كان يجب أن تدعو لها بالأولاد بعد كل هذا، فضحكتُ بسماجةٍ كي أقطع الحديث.

تحدثنا عن أمورٍ عشوائية، لم يخطر في بالي يومًا أنني سأتحدث عنها مع أشخاصٍ مثلهم، مثل فيلمي المفضل، أو أغانيهم المفضلة، التي لا تشبهني كثيرًا، لأنني أعرف أنني الشاذة في هذه الجلسة، الكثير من مواقف الجامعة التي حكوها، وأن أستمتع بها، وسرعان ما شاركتنا حنان الحديث بطريقةٍ غريبةٍ، لم أتوقع أن أتقبلها أو أن أواصل، لكنهُ لم يكن سيئًا، لم أكن مُستبعدةً كالمرةِ السابقة، لم يتحدث أحدهم عن أبي، لكن من تحدثت كانت أم حنان، وخالي الأكبر.

أمي أكبر من أم حنان، لكن لسببٍ أو لآخر، لا أشعر أن علاقتهما هي أفضل علاقةٍ يمكن أن تحظى بها أختان.

- وهل تركك أبوكِ كي تحمل مِرفت كل نفقاتك؟

سأل خالي في توقيتٍ ملائمٍ لإفساد نهاري، لقد بات المعتاد بعد كل تلك الليالي، أعرف أن نفقتي كثيرة، لكن هل أذكركَ أن أختك هي من اختارت طب الأسنان؟ هل أذكرك أن أختك هي من وضعت لنفسها تكلفة السكن؟ هل أذكرك أن أختك اختارته؟ لثمانية عشر عامًا؟

لم أُرِد إفساد ليلتي، ولا جلب الكلام وبدء نزاعٍ نحن في غنى عنه، فحاولت أمي إسعاف النهار الجميل بأن زجرته بنظرةٍ محذرة: لا دخل لنورة في أي من هذا، لنناقش الأمر بمفردنا لاحقًا.

لم يبدُ معجبًا بالطريقةِ التي أجابتهُ بها، فأنهى حديثه بفجاجةٍ تلائم وجهه المتجهم أغلب الوقت: أريد أن أتكأد أن حقوق أختي لا تؤكل وأنا موجود.

فمازحتهُ خالتي رويدة بقولها: مرفَت تأكل الآخرين ولا تدع أحدًا يأكل نصيبًا لها، لا تقلق. رغم أنني أتساءل إن كان هذا تعزيزًا أم إهانةً مبطنة.

كسرت خالتي رانيا الجو بنهوضها المفاجئ، ثم اقترحت عليهم: بما أن نورة ستغادر اليوم، فكرتُ في أن نأخذ صورةً جماعيةً للذكرى!

أبدى الجميعُ موافقتهم، وكأنهم قرروا التظاهر بأن الموقف الذي حصل لم يكن، فاقتربنا واصطففنا حول جدتي التي لفّتني بذراعها دونًا عن بقية أحفادها، تجمع الصغار قرب أقدامنا، وضبطت رانيا الكاميرا بعدما أسندتها على حاملٍ للهاتف كي تلتقط الصورة لنا، ثم هرعت إلينا ووقفت، شعرت بالحرارةِ في جسدي والجو المحيط لبضع ثوانٍ، كانوا يتهامسون لرفع الابتسامات أو تعديل الحجاب. لم أكن أشعر بالحر لأن التكييف كان يعمل، لكن نفحة دفءٍ ساخنةً مرّت من خلالنا، التُقِطَت بعدها الصورة.

بعدما انطفأ ضوء الكاميرا اتجهت رانيا إليها لتتفقد الصورة، ثم هتفت بابتسامةٍ لا تُضاهى: إنها جميلةٌ جدًّا! شعرتُ معها أنني كنت جميلة فعلًا، حتى وإن لم أكن كذلك. علّقت أمي وهي تعاود الجلوس على الأريكة ساخرةً: متأكدةٌ أن منال ستشعر بالغيرة حين ترى الصورة.

فنطق خالي سالم مبتهجًا وهو يحمل سلمى كي يضعها على حجره ويجلس: لا تقلقي، ستأتي في الصيف في موعد إجازة الأولاد، إنها متحمسةٌ بالفعل!

كنت أعرف أنها تعيش في الكويت مع زوحها وأولادها، فاقتربتُ من رانيا كي أسأل: كم ولدًا لها؟

- ابنتان وولدان، إنهم أصغر منكِ بقليل.

أدركتُ بعد ذلك أنني لم أكن الحفيدة الأكبر، إن استثنينا أولاد خالي محمود، كانت أم حنان هي أول من تزوج، ولهذا يكبرني المحروس ببضع سنوات، كان ذلك إحساسًا غريبًا، أن يكون هناك من يكبرني ويصغرني، يحيطونني من كل جانب، لكنه كان جميلًا حتى برهةٍ قصيرة، حشدٌ صغيرٌ، ليس خانقًا تمامًا، ولا مريحًا كُليًّا، لا أعرف عنهُ أي شيء، لكنهُ لم يعد مُخيفًا كما كان في السابق.

نهضتُ وأنا أسحب هاتفي من الأطفال كي أُصرِّح: لقد حان موعد عودتي، كي لا أتأخر في المواصلات.

تطلّعت عيون الجميع إلي، فراودتني مشاعر غريبةٌ أربكتني، ثم أيدتني جدتي وهي تسترق نظرةً ذات معنى للنافذة: معكِ حق، أعطِها الأغراض يا رانيا.

نهضت زوجة خالي الأصغر أولًا كي تعانقني مودعةً وهي تخبرني: لقد سُعِدتُ بلقائكِ يا نورة، أنت ذكيةٌ وستنجحين!

ودعتُ الجميع تباعًا بعدها، حتى بنات خالي اللتين ظلتا جالستين قُربَ بعضهما، ولم تنخرطا في أي حديث، كانت علي وجهها بسمةٌ فاتِرة، لعل توتر الأجواءِ كان محسوسًا لهما، لعل هذه الجلسة قد رفعت آملي وجعلتني أظن أنني قد أكون صديقةً جيدةً لهما.

راودني هاجسٌ غريب وأنا أُقبِّل وأحتضن الجميع، شعرتُ أنني لا أكره الحياة كثيرًا، فقط خلال تلك الدقائق القليلة، رغم أنني أعرف أنهم يتصرفون بهذا الشكل من باب التهذيب وعلاقتهم بأمي، ليس لأنهم يعرفونني أو يهتمون بأمري، لكن لم يراودني شعور مشابه لهذا من قبل، لدرجة أنني لا أعرف اسمه، أن تكون في مكانٍ لا يخصك، لكنه بطريقةٍ ما يتنكر كي تملِكه، ولو حتى لدقائق قليلة.

عندما انتهى رصيدي من الأحضان والقُبلات، قبلتُ يد جدتي بالقُبلةِ التي وُلِدَت في قلبي من أجلها خصيصًا، لقد ضمتني إليها في الصورة، ونظرَت إلى النافذة كي تتأكد ألا أعود ليلًا، ثم دعت لي بالرضا والتوفيق، وحين رفعت رأسي إليها، تبسّمت وبرزت تجاعيد وجهها، شعرتُ وكأنني نورا الصغيرة التي اعتاد الجميع على إطراءها على جمالها أو طولها كلما زارتهم، وأيقنت كم أن الوقت انقضى قبل أن أتأملها من هذا القرب، وأن أرى أن هذه الجدة قد تغيرت أيضًا، مثلي.

ربما الآن يمكنني أن أرى في نظراتها ما أردتُ رؤيتهُ ساعة نُفيتُ إلى هنا، تلك لم تكن غلطتكِ، أنتِ منّا، أنتِ موفقةٌ، ولستِ مغضوبًا عليك، لم يكن مغضوبًا علي، لم يكن مغضوبًا علي لأنني وصلتُ آمنةً، لأن أمي لم تتخلَ عني، لأن لي خالةً صُغرى ساحرة الفؤاد، لم يكن مغضوبًا علي لأن الله ييسر لي لقاء نجاة ونورهان، لم يكن مغضوبًا علي في نهايةِ المطاف.

وصلتُ إلى باب الشقة كي أغادر، فاقتربت مني خالتي رانيا وهي تمد كيسين مُفسِّرةً: هذا بعض الطعام لك، سيكفيكِ لأيام، ويمكنك وضعهُ في المجمدة كي تأكلي منهُ متى احتجت. كنت أتمنى لو أنني كنتُ موجودةً يوم استقبلوكِ، لكن هاكِ، هذه هديةٌ مني، كي تتذكري البيت دائمًا.

كانت قد منحتني علبة عطرٍ وصورةً جماعيةً مطبوعةً على ورق صور، لاحظتُ أنها قديمة، وحين تأملتُ تفاصيلها رأيتُ جدي وجدتي، خالي الأكبر وخالاتي وحسام، وجدي يضعني على فخذه، كنتُ صغيرةً، بالكاد تجاوزت الثلاث سنوات، لكن ضحكتي كانت ساذجةً وكنتُ قد رفعتُ يدي بعشوائيةٍ عكس بقية الأطفال الذين وقفوا باتزان. وتابعت: ووجدتُ هذه الصورة وأنا أرتب البيت، ظننتُ أنكِ ستحبينها.

أومأتُ مؤكدةً لها ذلك، ثم قبلتها مرةً أخيرةً مودعة، وسمعتُ الأطفال يهتفون من ورائي: مع السلامةِ يا نورة! ولسبب غير واضح، لقد أثلج هذا الوداع صدري.

خرجتُ من باب المنزل، وأبى الصغيران إغلاق الباب حتى أنزل السلالم وأختفي من مجال رؤيتهما وهما يلوحان لي، وحين وصلتُ إلى درجات الطابق الأخير، تباطأت خطواتي من رغبةٍ خانقةٍ بالبُكاء، وكأنني ذاهبةُ من منفى لآخر، بعدما كنتُ أحسب ذلك السكن منزلي.

سرتُ في ممر العمارةِ التي أضيئت بفعل الشمس الغاربة، ثم سمعت ضوضاء من جانبي الأيسر فالتفت كي أرى قطةً سوداء صغيرة، فتنهدتُ ورفعت رأسي كي تُقابلني مرآةٌ كبيرة، إنه حُلمي، أنا مُثقلةٌ أكياس غريبةٍ لم أتبين محتوياتها، يُجرجرُ صدري خيباتهِ وبقايا أحلامهِ ورائي، أما أحلامي، فهي مزعجة وتتحقق، يا ليتها كانت ما أريدُ فعلًا، لكن، ماذا أريد؟

حين خرجتُ من المنزل التفت إلى نداءٍ باسمي، فرأيتهم واقفين على الشرفة، يُلوِّحون لي بلهفةٍ وكأنني مسافرةٌ إلى بلدٍ آخر، كانت أمي تُمسك سلمى، وخالي سالم مع أسامة، حتى جدتي وقفت لأجلي، لماذا تغيرت المعطيات كثيرًا؟ لماذا تفعلون هذا، رغم أنني لم أُحبِبكم كثيرًا، لا يسعني أن أُسميِّكم بالضيوف بعد كل هذا، وهذا يُفرِحني ويُخيفني في الوقت نفسه.

حملتني قدماي في الشارع وأنا أتساءل إن كنتُ سأجد مواصلةً لأخذي إلى المنزل، المنزل، يا لها من كلمةٍ غريبةٍ، لا تُحضرُ إلا صور بيتي القديم إلى ذاكرتي، تُرى هل سيأتي يومٌ تتغير فيه هذه الصور؟ ويُعادُ تعريف الكلمةِ بما يلائم عقليَ المتخبّط؟

تمكنتُ بمعجزةٍ من إيجاد مكانٍ في الحافلة العائد إلى المنطقة، لكنهُ لم يكن بالقرب من النافذة، لذلك كان علي أن أتحمل الجو الخانق والروائح الكريهة ودخان السجائر المتطاير في الأجواء، فانشغلتُ بتأمل الصورة التي أعطتها لي رانيا.

كانت بالقرب مني سيدةٌ تتحدث بالهاتف، بدا أنها تُعطي التعليمات لابنتها لتجهيز الغداء ريثما تصل، أمامي رأيتُ طالبًا، أظنهُ عائدٌ إلى بيتهِ، مثلي.

انقضى الطريقُ سريعًا، وراقبت الشمس تبعثر ألوان السماء مرارًا، للغروب نكهةٌ غريبة، من النادر أن أتمكن من رؤيتهِ بما أننا اعتدنا على الخروج ليلًا، لكن عندما نكون على البحر من العصر، ننتظر الغروب بلهفةٍ، رغم أن النور سيختفي بعده، لكننا نثق بالنور معنا، ونعرف أن النسمات الباردة قادمةٌ رغم الليل الكثيف.

شعرتُ بالحنين كثيرًا، لأشياء لم أعرف ما هي بالضبط، ذكرياتٌ، أعشتها أم أنني أتخيلها؟ أأحبهم أم أكرههم؟ من الصعب أن أحدد، أو حتى أفهم.

لا أعرف أين تكمن مأساتي، في الأشياء التي لم أخترها؟ أم باختياراتي السيئة التي أحببتها من كل قلبي، وبرهن العالم لي أنها لن تدوم.

عدتُ إلى السكن متأخرةً عن موعدي ساعتين، لكنني أبلغت السيدة ليلى باضطراري للذهاب والعودة في اليوم نفسه لزيارةٍ عائليةٍ طارئة، حتى أن أمي تكلمت معها، أضفت بعض البهارات للقصة كي تنتهي هذه الليلة، فتح لي الحارس أحمد الباب، ليس لكوني متكلمةً طليقةً أو لأن السيدة ليلى حدثته، بل لأنني وضعت بضع عشراتٍ على طاولته قبل أن أغادر، كي «أصل بالسلامة»

بعدما وضعت الطعام في الثلاجةِ كما أخبرتني رانيا، استلقيتُ على السرير وأنا أتأمل السقف المتشقق من فرط الرطوبة، لكنني لم أكره هذا المنظر كثيرًا، لأول مرة، شعرتُ أنني سأنام وكأن أمي وأبي ينتظرانني في الخارج، على بعد بضعة كيلومترات، لعلي وجدت أخيرًا نقطة البداية التي ستؤويني من خيبات النهايات.

لم يستقبلني أحدٌ منهن، رغم أن الوقت لم يكن متأخرًا كثيرًا، بالكاد تجاوزت الثامنة والنصف، لكن ذلك لم يجرح مشاعري كثيرًا، فأنا لا أُعوِّل على اهتمامهن بي، أو رغبتهِنّ في الحديث معي، إنما، شعرتُ أنني قد أستفيد إن تكلّمتُ مع أحد، حتى إن لم يكن مقربًا، كي يُشتت ما خالجني من ارتباكٍ وحزن، حزنٌ ذو مذاقٍ غريب لا يشبه أحزاني.

أما عن المشروع القادم نهاية الأسبوع، فيجب ألا أسهو عنه، لأن مريم أخبرتني عن سمعة الدكتور المسؤول السيئة، إن لم نفهم ما سنهذي به فستكون تلك نقطةً سوداء إضافيةً لحياتي الجامعية البائسة.

«الحياة يمكن تلخيصها في كلمتين، استقبال وتوديع.. ولكنها رغم ذلك لانهائية»
-نجيب محفوظ

_________

يتبع.

ما رأيكم بفصل اليوم؟ آمل أنني وُفِّقت في سرد اللحظات؟

إن كنتم مكان نورا، ما الذي ستفعلونه؟

من أحببتم من أفراد العائلة؟

الفصل القادم بعد ساعات. هل سنفعلها؟ أتساءل!

تصويت 🌟.
2850 كلمة.

Продолжить чтение

Вам также понравится

ذات ليله سيلا

Детектив / Триллер

214K 9.5K 36
فتاة من طبقة الفقيرة ذات الالفيين تعيش وتحاول العيش مع اصعب مواقف الحياة تتأقلم مع مشاكل ومفاجئات وحلاوة الحياة ومع مرور الوقت تمر عليها ذات ليله تغي...
2.2M 148K 102
ظننت أن قلبي هذا لم يخلق لهُ الحب ، ونسيت أن بعض الظن أثم
19.6M 637K 157
بريئة اوقعها القدر بين براثن شيطان لا يرحم ، حاول ايذائها فتأذي هو
أنتقام غضــب أمـيرة محمد🤎

Детектив / Триллер

755K 28.1K 46
القصه متوقفه لورا الامتحانات تقدمت عليه واني احس الخوف والرعب احتل كل جسدي وقلبي أحسه توقف واني اشوفه جالس گدامي مثني رجله وخال عليه ايده والايد الث...