بـومـة مينـرڤا

By Die-Nacht

18.7K 1.9K 8.6K

حقـبة جديـدة بدأت ما أن تم الاعتـراف بسحـرة الظـلام كجزء لا يتجزأ من عائلة حـراس التـوازن، لكن هذا وحده لم يج... More

-1- ذكرى II
-2- موسم الهندباء
-3- نورا
-4- الأيّم الشقراء
-5- لأجل أحدهم
-6- أدنى الهرم
-7- إرادة
-8- ضياء نجم مسائي
-9- جرع زائدة من السكر
-10- الـ منطقة
-11- السُخام الأسود
-13- فنون الدم
-14- نوكتوا
-15- أجنحة وريش
-16- أوتار الشفق
-17- إنذار من الأومورا
-18- في مكعب جليدي
-19- ندوبه الغير مرئية
-20- غريق
-21- أرشيف الذكريات
-22- لعنات عابث
-23- أطياف
-24- ظلال البرق الأرجواني
-25- البحث عن الحكمة
-26- تلك الساحرة
-27- رافيتوس ليلوي
-28- محاكمة
-29- الدم بالدم
-30- عهود غير منسية
-31- أبدي
-32- بومة مينرڤا
الكتاب الثالث

-12- لا تثق بالفراشات

517 62 262
By Die-Nacht

"بصدق... أولستِ متعبة؟"
نورمانوس سأل للمرة الثالثة. كنا نسير على طول النهر لمدة عدة ساعات كل يوم منذ بضعة أيام الآن لنتأكد من بقعة منبع نهر تونيا الحقيقية وتقفي آثار أي من كان يتبعه بالمثل علنا نتوصل لبعض البراهين على أن نظريتنا صحيحة.

"لا."
أجبت دون أن أتوقف.
يبدو أن خروجي من القصر لم يزعج أصحابه كما توقعت بل أن شتيفان رحب بالفكرة بغرابة، عكس شريكي الذي كان يسير خلفي ولا يراقب شيئاً سواي وكأنه قادر على استشعار معاملتي المختلفة له أو ربما نظراتي للدقة، لم أستطع النظر في عينيه مباشرة رغم حبي لهما، احتجت وقتاً لأهدأ واستوعب ماذا حصل منذ أيام في الغابة لأبتلعه إذ أنني توقعت ذلك، لكن لم أظن أنني سأشهده بسرعة وحسب.

تباطأت خطواتي ما أن صادفنا بعض الأطفال الذين كانوا يجمعون الطحالب المضيئة والتي يستعملونها عادة لإنارة طرق قراهم البعيدة عن المدينة ليلاً لألوح مرحباً بابتسامة بشوشة بعد أن ظهر القلق على ملامحهم. حمل الصغار أشياءهم ولاذوا بالفرار بعيداً دون أي رد على التحية.
لا يمكنني كغريبة الحصول على ودهم مهما كنت بشوشة وهذا يعيدني لسياق فكري الأساسي.
أجزم أن عائلة مودياس لم ترغب بأشخاص عدا سحرة الظلام من حراس التوازن على أراضيهم لكي لا يخيف المختلفون منهم شعبهم لكنهم اضطروا لاستقبال بعضهم على مدار السنوات الماضية لأجل الحصول على تلك الحماية الغير مشروطة إذ أن ولادة سحرة الظلام في ريغان أمر نادر ويحصل مرة كل بضعة عقود.
لم يخبروا نورمانوس حتى عن أسرار الجبال الإنكسارية، عن ما يمكن أن يكون لديهم ويسعى العابثون خلفه لكن شتيفان... مجدداً... شخص غريب إذ تركني لأبحث ضمن مكتبتهم دون تحفظ ولأتجول بحرية كاملة. إلا إن كانت هذه الحرية من صنع خيالي ونحن نتعرض للمراقبة.

تنهيدة تركت صدري، كان نورمانوس ليلاحظ أي شيء كهذا فدماؤه لا تعود سوى لسحرة الظلام وحسب.
هذا مربك.

ضغطت أناملي بشدة، أكان شتيفان متقصداً لذلك يا ترى؟ ربما لا يستطع أن يخبرني بشيء بشكل مباشر ولذلك وضع المعرفة بين يدي بصمت. يبدو أن مودياس... لا بل شتيفان من يريد نهاية لكل هذا. تلك الأخيرة لن تأتي دون تنازلات، خاصة اتجاه تحفظهم ضد حراس التوازن الذين قد يستطيعون المساعدة.

تجاوزنا القرية النشيطة وما أن أصبحنا على مسافة آمنة حيث لا يستمع أي كائن عاقل لمحادثتنا أجبت نورمانوس المترقب بعبارة جيدة:
"أنا بخير نورا، توقف عن المبالغة بالتفكير أرجوك."
تخصرت واستدرت لأبتسم في وجهه دون أن انظر مباشرة بسبب الشمس في عيني.
"ركز على المهمة التي بين يدينا."
أضفت.

"بإستطاعتي حملكِ."
عرض لأُعرض عنه وأهز رأسي للجهتين على مهل وأعلن بعناد:
"أرفض بامتنان، مازال باستطاعتي السير كما ترى."
هو على هذه الحال منذ أيام والسبب الرئيسي واحد.
لم يكن الإرهاق ما تسبب بإنتكاس حالتي منذ أيام ويبدو أن نورمانوس غير مستعد لتجاهل غموض الأمر أكثر أو تركه للنسيان فما أن تنهد حتى سأل مباشرة دون المزيد من اللف والدوران:
"إذاً ما كان ذلك في منتصف المدينة منذ بضعة أيام؟"
نظرت على مهل من فوق كتفي لوجهه الجاد فأنبني ضميري لتجاهلي إخباره عن أمر مهم عني كنت قد أخفيته عن الكثيرين، ولكن بصفته شريكي أنا أقوم بتضليله بعدم البوح.

"كنتِ ترتعدين بمشاعر الخوف، لا تحاولي الإنكار."
نبرته تحولت من تلك المراعية لأخرى متحفظة، أهذا تهديد الآن؟

"لن أحاول نفي شيء."
تنهدت، لا أشعر بأي استياء فأنا المخطئة هنا. عقدت أناملي خلف ظهري واستأنفت السير معلنة بصوت عال:
"إن الأمر يبدأ بقصة طويلة عن مينرڤا الصغيرة، أتود سماعها؟"
أحاول أن أجعل الأمر يبدو بغير جليل لكن يداي ترتعشان بالفعل.

"مينرڤا..."
تذمر ولكنه رغم ذلك تبعني أما أنا فتنفست الهواء النظيف من حولي وتحدثت ممهدة:
"كلانا ولد في قصر ريغان، عشت لفترة هناك قبل أن يأخذك والداك للعالم الموازي، صحيح؟"
درت حول نفسي وأخذت أسير للخلف لأرى أن عيناه الحمراوان كانتا تحدقان جانباً بنظرة تفكير بعيدة.
"عندما بلغت الخامسة تقريباً ظهرت أولى علامات طبيعتي ومنذ ذلك الوقت تقريباً أنا أعيش هنا."
أجاب.

"سيكون من الغريب مني أن أسألك إن كنت تذكرني لأنك كنت طفلاً لكن ألا تجد أنه من المستهجن أنني أنا التي كانت واعية حينها لا تذكر شيئاً عنك؟"
سألت وكأنني ألف وأدور فلمحت حاجباه يرتفعان بشيء من الاستدراك.

"أنتِ وأنا لم نلتقي قبلاً؟"
سأل لأهز برأسي يمنة ويسرة ضاحكة:
"هذا ليس رومانسياً، آسفة."
هذا في الواقع مؤسف. من المعروف أن الأطفال يقضون أوقاتاً طويلة في الرياض معاً لتكوين علاقات ودية بين أبناء الجيل ذاته لكن أنا ونورمانوس حالت الظروف بيننا فلم نلتقي قط، لا عندما كنا مراهقين ولا حتى أطفالاً والسبب لم يكن إبتعاده هو إنما سجني أنا.

"أنا لم أزر الرياض ولم أكن أخرج من حجرتي فما أن بلغت الخامسة بدوري وبدأت أعي العالم من حولي حتى تم تشخيصي بالأغروفوبيا..."
اعترفت، خطواتي تثاقلت فتوقفت في مكاني.
"المسماة أيضاً برهاب الزحام."
استطردت دون أن ألتفت خلفي:
"لم أستطع مواكبة الناس وتحمل مجالسهم، لا الصغار ولا الكبار فأغلقت والدتي علي في غرفتي وعلمتني أساسيات كل شيء. كنت من أولئك المحكوم عليهم بالعيش كعالة بسبب جسدي المريض ونفسي الهشة."

"تبدين بصحة جيدة الآن."
تلفظ نورمانوس من خلفي بنبرة مستغربة استوقفتني عنوة، تصرفي جعله يصحح معنى كلامه سريعاً.
"لا أعني الإهانة لكن أوليس من الصعب تخطي الاضطرابات النفسية عموماً؟ بالنسبة لشخص لم يخرج من قصر عائلته أنتِ تأقلمتِ مع كل ما هو موجود على أرض سحرة الظلام من أشياء وناس بسرعة."
حرك خصلاته الأمامية كما اعتاد كلما استغرق في التفكير. بدا وكأنه يقوم بمراجعة كلماته التالية.
"قمت بالتعافي من تلك الانتكاسة التي تعرضتِ لها منذ أيام بسرعة وكأنها لم تكن بالمثل."
كل كلمة فارقت شفاهه كانت صحيحة، هذا جعلني ابتسم وكأنني أرغب بالبكاء إذ أن شريكي لمّاح وذكي كما توقعت، لكن هل سيكون من الآمن إخباره بسري الأعظم؟

"هذا بسبب أنني لا أرى أفراد ريغان."
نبست ثم ضغطت إبهامي ضد بواطن كفوفي بشدة عل تلك الرعشة المرتعدة تغادرني لكنها أبت.

"عن ماذا تتحدثين؟"
استفسر وهو يقترب بضعة خطوات حتى غدا أعلى رأسي لكنني لم أتمكن من قول أي شيء، أريد أن أثق به لكن هواجس نفسي أقوى.
"أعني هذا... لم أخرج من العزلة التي وضعني فيها والداي حتى عمر العاشرة المتأخر وبذلك لم أستطع الانفتاح على أقراني بحق لهذا دائماً ما أتجنب الجميع."
ما هذا الهراء الذي أتفوه به؟
"ظننت أنني تماثلت للشفاء بشكل تام وكنت مخطئة، هذا كل شيء."
رميت يدي بقربي ونورمانوس من خلفي كان صامتاً، هل سيقتنع؟

"كيف بدأت بالتغلب على الرهاب؟"
سؤاله فاجأني لكنه استدعى لذهني ذكريات مشوشة ولطيفة.
"التقيت بأرشيف قصر ريغان في ذلك الوقت."
أجبت.

"دورغيلد؟"
تلفظ باسم عزيز على قلبي فقفزت في مكاني، تفتحت أسارير وجهي ريثما أرفع بصري نحو نورمانوس لأسأله ما إن كان يعرفه.
"التقيتما؟"
بدا الشاب متفاجئاً من تصرفي وعلى واقع أن وجهه أعلى خاصتي أشاح سريعاً مدعياً الخوض في محاولة للتذكر.
"كان أحد حراس التوازن القلة المسموح لهم بالقدوم هنا لذا أعتقد أن الجواب هو أجل، رأيته بضعة مرات لكننا لم نتواصل بحق."
نورمانوس كان يتحدث لكن تركيزي انصب على صفاء بشرته اليوم بشكل خاص من تلك العروق السوداء إذ كانت الأجواء بعد أول يوم لنا في الخارج هادئة. قال أن هذا طبيعي الحدوث وغالباً خبر أن أعداد حراس التوازن قد تضاعف أفزع العدو الخبيث، أتمنى أن يرتدع المجتمع الذي صنعه العابثون لأنفسهم بالقيل والقال.

بصره إنزلق نحوي مجدداً فتنحنحت لأستأنف طريقي وقصتي.
"كنت دائماً ما أتسلل للمكتبة مساءً بعد أن يرحل دورغيلد لكنه باغتني في ليلة ماطرة لم أستطع فيها سماع خطواته وأجبرني على الموافقة على حضور دروسه برفقة من هم بمثل عمري."
ابتسمت على ذكرى ذلك الذئب الكهل ذو اللحية البيضاء، كان يرتدي دائماً جلباب طويل داكن ومعه العصا (شتاب) أينما ذهب. صوت خافت ودافئ وعيون بحرية صافية لم يستطع حتى ما يحول بيني وبين رؤية الوجوه من جعلي أنساهما.

"والداي عارضا تدخله بي لكنه كان أعتى وله كلمة تماثل في قيمتها كلمات الجدة باتريشا."
قمت بالإنحناء لتفقد أثار أقدام الحيوانات على الضفة.
"عندما بدأت الذهاب لدروسه، أخذت أتعلم التواصل مع أقراننا مجدداً."
آثار غزلان، يبدو أن لا أحد من السكان يبتعد أكثر.
"الجميع تخرجوا من دروسه ولاحقوا المهام التي عُينت لهم، ظننت بأنني سأتسكع في أنحاء القصر بلا عمل لكنني تفاجأت من دورغيلد يطالب بي كخليفة له بحفظ الأرشيف ومدرسة لأطفال ريغان."
استرسلت ونورمانوس علق من خلفي بهدوء:
"لابد أن هذا قد أثار بعض البلبلة في القصر آنها."

"بالفعل."
استقمت واقفة لأنفض لباسي.
"لا أحد وثق بي آنها ولا حتى الجدة لكن إصرار دورغيلد على أنني الشخص المناسب وعدم تقدم أي شخص للمنصب لم يترك بيديهم الكثير من الخيارات."
لم يبدو نورمانوس مسروراً بسماع كل ذلك، التقطيبة بين حاجبيه كانت قاسية.
"تدربت كخليفة عنده لمدة سنتين، رحل في نهاية الثالثة عنا تاركاً إياي كالشخص الوحيد المؤهل لإدارة أعماله ومنذ أن بدأت بحفظ الأرشيف والعمل بحق لوحدي كمدرسة لم أصادف أي مضاعفات فتحسست أنني على ما يرام."
عبثت بأصابعي ثم ضحكت من نفسي بطريقة مصطنعة ساخرة أبتلع فيها الألم الذي تجمع في حلقي:
"حتى فترة قريبة على الأقل، فيبدو أنني تجاوزت الخوف من الزحام العائلي فحسب."
أخفضت بصري غير قادرة على النظر للأعلى، أنا أخفيت حالة نفسية جزمت بنفسي وفي أول مرة أخرج بها للعالم الحقيقي بأنني سأكون بخير، مر الأمر بسلام سابقاً لحسن تصرف شريكي ومراقبته لي لكن ماذا كان سيحل بي لو كنت وحدي؟

"اعتذر بشدة عن عدم إخبارك سلفاً نورمانوس."
استجمعت شجاعتي ونطقت كلماتي بندم وتأسف حقيقيين. لقد تصرفت بتهور وأنانية كبيرة -مجدداً- إذ أنني كنت خائفة من أنه فقط سيهجرني ما أن يدري عن عيوبي الأعظم.

"لهذا لا تمانعين قضاء ساعات طويلة لوحدكِ إذاً."
استنتاجه كان منطقياً، تصرفاتي كانت إنعكاساً لحالي نوعاً ما ولكن هذا ليس كل شيء خلف ما أفعله.

"أنا أقلق من الزحام المهول وليس حُفن الناس، وبالتأكيد ليس من أفراد عائلتي، ليس منذ فترة طويلة، كما أنني أقضي الكثير من الوقت في الدراسة والقراءة لأنني أحب ذلك."
طمأنته وأنا أميل برأسي نحوه على مهل لأستشف ردة فعله لكنها كانت غريبة نوعاً ما، ظننت بأنه سيستاء ولو قليلاً من إخفائي للأمر أو سيعاتبني إلا أنه يبدو غارقاً بالتفكير بأنامله تلك تنزلق على فكه.

"كانت الحالة واضحة ومؤثرة على تفاعلي مع من حولي في طفولتي، لا تقلق ببعض التدريب سأتخطى رهابي من الزحام بكل أنواعه قريباً!"
هتفت عباراتي الأخيرة بحماس لأشجع نفسي، لا يمكنني أن أغدو حملاً زائداً على شريكي. أنا حاضرة لمساعدته في المقام الأول.

"لا."
هزة نفي حركت رأسه قبل أن تترك الكلمة المشؤمة فاهه بطريقة جعلت بملامح وجهي ترتفع بهلع. أوعدي غير كافي له؟ هل إخباره كان خطأ فادح؟ هل...

حبل أفكاري إنقطع حين أصبح على بعد إنشات مني، كفه الباردة إنزلقت على وجنتي فرفعت بصري نحو وجهه بفاه مفتوح كالسمكة خارج الماء.
"لا بأس إن لم تستطيعي تخطي الأمر. لا... بل لابأس إن لم تريدي مواجهة الناس. أخبرتكِ بأنني سأعتني بكِ."
كان يبتسم وهو يتلفظ بهذه الكلمات التي جعلت ذراعي تسقطان بجانبي عندما شعرت بسكينة لم أحس بها لأيام.

قرص وجنتي فجأة فعصرت عيني للألم اللاسع وعقلي عاد للعمل سريعاً.
"لا تتألمي لأجلي أو لأجل أي شخص."
بنبرة موبخة تحدث مقتبساً الكلمات التي نطقت بها بنفسي قبلاً وهو يجلب خدي بين أصابعه ذهاباً وإياباً.

"هذا حقاً موجع."
تحدثت بتلعثم ونظرت بعيون دامعة معاتبة في وجهه ليرفع حاجباً ويسأل بنظرة استخفاف:
"ماذا ستفعلين بهذا الشأن إذاً؟"

أمسكت بكفه بكلتا يدي لأقتلع أصابعه من على وجهي بقوة ورغم أن عزمي لم يكن حقاً كافياً من جعله يتزحزح إلا أنه أفرج عن خدي الذي كان مازال يؤلمني وابتسم برضى معلقاً:
"جيد."

تذمرت بأصوات خافتة وأنا أنخفض أمام مجرى النهر لأغرف المياه بين كفي وأغرق وجهي علي أبرد وجنتي.

فعل ذلك بغرض تعليمي درساً، وكأنه يخبرني ألا أتفلسف دون أن أطبق فلسفتي على نفسي أولاً لكنه... آلمني.

شعرت بوجنتي تنتفخان بإنزعاج من المهانة، منذ متى يقوم هذا الشاب بتعليمكِ الدروس وأنتِ من كنتِ معلمته بالأساس مينرڤا؟

"مازالت محمرة."
بصري تحرك نحو نورمانوس الذي كان يجثو بقربي بالفعل، رفع سبابته وأشار لوجنته لألحظ أخيراً قصده.

"بشرتي لم تتعرض للكثير من العوامل الخارجية كما تعرف لذا تميل لأن تكون مغنجة."
ابتسمت في وجهه ونطقت كلماتي بشيء من التأسف. ولدت ضعيفة جسدياً بكل المقاييس والحياة المنزلية التي عشتها منعتني من التطور بغرض الحماية، نورمانوس يفهم ذلك لكنه يراه الآن لأول مرة. يجب أن أحتمل كل ما يحدث من الآن فصاعداً بهدوء.
"سأكون على ما يرام."
أضفت ثم أشحت بعيني بحرج على صمته، كيف علي أوقفه عن القلق بشأني الآن؟
القرصة التي افتعلها ستترك احمراراً طفيفاً لبضعة ساعات على وجهي وحسب، لن تكون بسوء إصابات كبيرة كالكسور أو الجروح.

أسهبت في التفكير ولم استيقظ سوى على شعوري بشيء ليّن يلامس بشرة وجهي. عندما ما أدرك بصري هيئة نورمانوس بجانبي يقوم بتقبيل خدي ساقاي خذلتاني فسقطت أرضاً بعد أن كنت جاثية في وضعية القرفصاء.

"اعتذر عما فعلته، لم أتوقع أن يؤذيكِ الأمر بحق."
نطق معتذراً وهو يشيح بوجهه لكن... إن كانت تلك القرصة قد جعلت وجنتي تحمر فهذه القبلة المفاجئة تسببت بصبغ وجهي كاملاً بالخمري إذ أنني أشعر بالدم يتجمع أعلى رأسي بالفعل.
"وعن ما شهِدته منذ أيام بالمثل مني، لم أكن مراعياً لحضوركِ."
قام ببعثرة خصلاته بحركة معتادة منه، مط شفاهه وبرر نفسه:
"خفت آنها أن تصابي بسوء فتسرعت بتصرفي."
كيف له أن يبدو بمثل هذه البراءة وهو يعتذر عن قتل أحدهم؟!

حرك رأسه أخيراً نحوي مجدداً وحين التقى بصره اللامع بخاصتي غطيت وجهي كاملاً بكفاي.

"مينرڤا؟"
نبس بشيء من عدم الفهم، شعرت بكفه تمتد نحوي ما أن أصبح جاثياً على إحدى ركبتيه أمامي لكنني زحفت للخلف وحسب.

"أنا آسف!"
اعتذر مجدداً عندما نهضت معطية إياه ظهري.

"لا عليك."
نطقت بنبرة خافتة، لا أود أن أبدو مستاءة لكنني غير قادرة على النظر في وجهه حالياً والسبب الآن مختلف تماماً عن الذي سبقه.
"لنتحرك قبل أن تبدأ الشمس بالمغيب."
هرولت أمامه عندما أحسست به ينهض واقفاً مجدداً.

بعد فترة من الزمن غدا النسيم بارداً فساعدني على الهدوء، كنت أتنهد خيبتي من نفسي طوال الوقت وأعتقد أن هذا سبب صمت نورمانوس الذي حافظ على مسافة بيننا.
"يا لكِ من طفلة كبيرة."
غمغمت بنبرة غير مفهومة خافتة، أتمنى أن شريكي لا يشعر بالسوء بسببي لكن وللحق لا أعرف ما حل بي هناك فرغم كون تصرفه عفوي وكلماته صادقة إلا أن ردة فعلي كانت فظيعة ومبالغ بها.

دلكت ما بين عيني، لما قد أفقد رزانتي لقبلة على الخد؟

سأحدثه لاحقاً عندما نعود كما ينبغي عل قلبي يكون قد هدأ حتى حينها أما الآن فيتوجب علي مراقبة الدرب والتركيز على المهمة الأساسية.

لم يظهر أي أثر معين في الأيام الماضية إذ يبدو أن نورمانوس كان يقوم بواجبه على أكمل وجه. فكرة أنه كان يواجه العابثين وحده لسنوات أرقتني مجدداً فوجدت نفسي أتساءل ما إن كان يستطعم مرارة القتل إذ كان مجبراً على تنفيذ حكم غليظ على الخاطئين وحده فقط لأنه لم يكن مسموحاً لأي أحد بمساعدته على حمل العبء.

أنا لم أحب ذلك وهو لاحظ بالمثل ولذلك اعتذر فعندما عدنا أول ليلة للقصر تسللت لطرفي من السرير بعد حمام دافئ ولم أستطع إغلاق جفوني لساعات طوال لم يحاول هو فيها زعزعة سكيتني. أنا أقلق عليه وليس منه، أريده أن يدرك ذلك قريباً.

النهر بدأ بالتوسع فجأة بطريقة ملحوظة، وحين رفعت رأسي لأتفقد الأفق لاحظت أخيراً أن الجبال الحادة غدت واضحة لعيني إذ كانت غارقة بغيوم السماء وخضرة الغابة فأصبحت غير مرئية من مسافة بعيدة.

النهر ارتفع أكثر فأكثر ومن بين الأشجار العالية العتيقة أخيراً وصلنا الصخور الإنكسارية التي شكلت الجبال ورفعتها بمنحدرات حادة نحو السماء.

"وصلنا المنبع."
أعلن نورمانوس ومن تقطيية حاجبيه السريعة علمت أن الشاب لاحظ أخيراً ما لاحظته بالمثل.
"النهر لا ينبع من أعلى الصخور بالفعل..."
أشار بسبابته لبضعة تلال جبلية تبدو وكأن المياه تتدفق منها ثم أخفض اصبعه نحو تلك البقعة التي تجمعت فيها فراشات ربيعية ذات أجنحة برتقالية مميزة.
"بل من قاعدة الجبل ذاته."
نبس مستطرداً، يبدو أنه شعر بما لا أستطيع أنا رؤيته بعد.

الطيور كانت تقوم بنبش الطحالب التي تسلقت الصخور بحثاً عن الحشرات التي تسكنها، شاهدت غزالاً صغيراً برفقة والدته يرتشف من مياه الحوض العظيم أمامهم بنهم لكن مجموعة الفراشات تلك لم تكن تتعرض للهجوم من قبل الحيوانات الأخرى وكأنها غير مرئية، تجمعها بحد ذاته كان مريباً.

"يوجد حاجز سحري من نوع ما يخفي الطريق المؤدي للمنبع فيتهيء للناظر أن النهر ينبع من بين الصخور الطحلبية تلك."
شرحت مستنتجة، غصن ضئيل تحطم عندما تحرك نورمانوس بجانبي وأمسك بمعصمي أما صغير الغزال ففر مع والدته سريعاً عندما شعرا بنا.
"احذري فالصخور حول هذه البركة زلقة."
نظرت أسفل قدمي ما أن نطق بكلماته وكنت بالفعل أقف على كتلة من الطحالب الرطبة.

اقتربنا.
"سحرة الظلام لا يؤثرون أو يتأثرون غالباً بسحر النور البسيط لذا تعويذة كهذه يمكن دثرها بسهولة."
رفع كفه الحر ودماؤه راحت تنزلق على أنامله ثم تمتد لتكسر التعويذة والتي تمثلت بالفراشات الغريبة لكن شعور نابع من باطن عقلي دفعني لأمسك بذراعه وأطالبه بالتراجع:
"لا تفعل ذلك..."

أصغى لي رغم أنه لا يبدو مستعداً للتراجع حيث ترك يده معلقة في الهواء ينتظر تبريري.
"إن كان كسر مثل هذه التعويذة سهل فهذا يعني أن من وضعها لا يود حماية شيء ما بالضرورة."
تحدثت وقصدي بدى غير مفهوم الفحوى حتى لي فلم استغرب من نورمانوس حين قام برفع حاجبه علي.
"لا يمكننا الجزم، لكن من وضعها تركها غالباً كإنذار، إن قمنا بكسرها فقد ترسل إشعاراً له بوجود دخيل، ونحن لا نريد ذلك."
العابثون أو سحرة النور أو حتى عائلة مودياس، لا يجب أن يعلم أحد عن وصولنا هذا الحد وبالتأكيد لا يجب أن يدركوا أننا سندخل.

"مفهوم."
سحبني نورمانوس بلطف خلفه وقبضته على معصمي غدت أقوى حين سرنا باتجاه ما شعرت به كفجوة في الجدار الذي تم إخفاؤها بتعويذة وهم فذة. نورمانوس لم يتردد بالسير نحو الصخور المبللة البارزة وسرعان ما اخترقها لأفعل المثل فنصبح على الجانب الأخر لتلك الصورة المزيفة.

"كهف!"
همست بانبهار. النهر امتد لداخل هذا الكهف المجوف في قلب الجبل...أو العكس ماهو صحيح إذ يبدو أن منبع النهر يكمن في نهاية هذا الكهف أينما كانت.

من خلال الظلام في الداخل رأيت ملامح وجه نورمانوس تتبدل، لم يبدو منبهراً مثلي بل حذراً للغاية عندما تحدث بخفوت:
"التيار الهوائي شديد، هذا يعني أن هذا التجويف يمتد لمسافة طويلة وينتهي غالباً بمخرج أخر إن لم يكن عدة مخارج."
وجهه اتجه نحوي للحظات فأضاف:
"أنتِ غالباً محقة مينا، المنازل التي حفروها في الجبال يوماً مازالت موجودة، ما تبقى منها على الأقل "

شعرت بحماس طفيف، رغبة استكشاف ما في الداخل جرفتني فخطوت للأمام دون تردد لأشعر بكفه التي تحيط بذراعي تجذبني للخلف مجدداً لأرتطم بصدره.

"لا تتهوري مينا، هذا الكهف الضيق منزل لعشرات من الخفافيش إن لم تكن أعدادها قد تجاوزت المئات بالفعل، إصدار أي ضجة تجعلهم يهاجمونا أمر لا نريده."
تحدث بخفوت وأنا أومأت بتفهم ما أن لمحت أخيراً تلك الأكياس السوداء تتدلى من السقف.
"أنبحث عن مدخل آخر؟"
سألت ليبدو التفكير على وجهه.

"لا وقت، هذا كل ما نملكه ويجب أن نعمل به."
اعترف بالحقيقة، الجبال عالية وتمتد لمساحات واسعة. قد يستغرق إيجاد مدخل أخر وقتاً طويلاً ولا يوجد أي ضمان بأنه سيكون آمناً أيضاً.

السماء تلونت بالأحمر، الغروب اقترب.
"ما رأيكِ بالعودة اليوم؟"
اقترح فعقدت ذراعي أمام صدري معلقة بعتاب مرح:
"أتظنني طفلة؟"
يود إعادتي والقدوم هنا بمفرده.

"لا لكن أنا سأتعافى بسهولة إن أصبت بالجروح أما أنتِ فهشة للغاية."
نطق بهدوء، لم يكن يعاتبني بل يتلفظ بالحقائق وحسب ورغم ذلك ابتسمت في وجهه وطلبت بأعصاب لم أعلم أنني أمتلكها:
"فالتحمني إذاً."
رفعت حاجباً على نظرة الاستغراب التي رفعت ملامحه ثم سألت:
"أولست تخاف من أن أتأذى بأي حال؟"
الحيرة في تعابيره تحولت لحرج فضحكت وكأنني منتصرة.

"لقد عنيت ما قلته."
صرح نورمانوس وهو يميل بجذعه فجأة نحوي. ظننت بأنه سيمسك بيدي وحسب حين سمح لنفسه بإلتقاط معصمي مرة جديدة لكنه قام بسحبي نحوه ليجعل ذراعي تلتف حول عنقه وحملني ضد صدره كما يفعل المرء مع الأطفال الصغار.
"قومي بتخبئة وجهكِ جيداً، لن يحتمل قرصة ثانية."
علق من فوق رأسي، شعرت بصدره يرتفع لضحكة إنتقام قصيرة.

لم أمتلك الوقت للإعتراض إذ خطى دون تردد في قلب الظلام. أسندت رأسي لكتفه بهدوء لأعطيه نصره فقد استحقه وشاهدت النور يتلاشى ببطء.

سمعت أصوات زقزقة الحيوانات التي تقطن التجويف لكن خرير مياه النهر الذي لم نصل منبعه الرئيسي بعد كان أعلى.

بضعة خصلات من شعر نورمانوس داعبت برائحتها أنفي، كان عطره اليوم نقياً، رائحة الدماء التي تعلقت به سابقاً تلاشت والسبب أنه لم يتلوث بأخرى منذ فترة.

حجر الزريكون حول عنقي بدا منيراً في عتمة الظلام.
"لم يكن هنالك أي داعي للاعتذار نورا."
نبست وشريكي استمع إلي بهدوء.
"أنا بدأت أتفهمك أكثر، ورغم أنني لا أعلم كل شيء عنك بعد إلا أنني أستطيع وعدك بأني سأكون بخير مع كل شيء يتعلق بك."
الظلمة اشتدت ولم أعد قادرة على رؤية سوى النور الطفيف الناتج عن الحجر الكريم حول عنقي.
"أنا قريباً بالمثل سأطلعك على كل شيء عني."
أضفت، لا أريد إخفاء أي شيء، مثل هذه الأمور قد تتسبب بسوء فهم لاحقاً والمشاكل التي لا طائل منها.

"أحقاً ما تقولين؟"
أراد تأكيداً، لا أعلم كيف تبدو تعابير وجهه الآن لكنني استشعرت من نبرة صوته بأنه جاد.
"لا حاجة بأن تخشى..."
سيرت أناملي بين خصلات لأستحكم طبع قبلة قصيرة على فكه المشدود.
"لقد وعدتك بالفعل."

شعرت بخصلات شعري تتحرك لرياح غريبة أشد من تلك التي أحسست بها ما أن دخلنا النفق. النور عاد على مهل ومعه توقف نورمانوس عنوة قبل أن يعلن بخفوت أننا وصلنا.

استقمت سريعاً بين ذراعيه لأرى منظراً لم أسمع به في حياتي قط ولم أقرأ شيئاً عنه حتى في الكتب.
المساحة كانت هائلة والبيوت المحفورة في حجارة جدران هذا الجبل بعناية بدت كمجمع حديث فالتجويف العرضي امتد بشكل أفقي فذ فجأة وكأنه يصل للسماء.

الجدران من حولنا بدت وكأنه تم زخرفتها بمختلف أنواع الأحجار الكريمة الخضراء المضيئة فأنارت الظلام. سلالم حجرية عريقة عالية قادت الطريق لطوابق عدة تواجدت على الجهتين وفي منتصف القاع الذي وصلنا منه تواجدت فجوة في الأرض ومنها كان ينبع هذا النهر العظيم وكأنها مياه بئر هائل لا ينضب.

"مذهل!"
علقت مشدوهة بهذا الفن القديم، استغلوا الطبيعة، المنبع، الجبال وبنيتها التي تم دعمها بالحجارة الكريمة اللامعة ومهاراتهم الهندسية ومعرفتهم. كل ذلك صمم منازل مازالت شامخة منذ قرون على حالها.

"ألا يعرف شتيفان وعائلته عن هذا بحق يا ترى؟"
سألت بفضول وأنا اتجه ببصري نحو نورمانوس لأجد أنه كان يحدق بي بالفعل.
"أعتقد أن تلك التعويذة جعلت الجواب شبه واضح لنا."
أجاب وصمت للحظات قبل أن يضيف بهدوء:
"إن لم يكن هنالك ما يذكر هنا فلن يكون للأمر داع، من حقهم التكتم عن مصدر ثرواتهم."
محق، المكان أعظم من منجم ذهب.

"لكن..."
ضغط جسدي ضد خاصته بطريقة مفاجئة وأظهر على ملامحه التفكير الشديد عندما أضاف بجدية:
"تكبد كل هذه المتاعب لأجل الثروة؟ العابثون يحاولون الوصول لما هو أهم بالتأكيد."
حمحمت بحرج بصوت عال فبدا وكأنه عاد لوعيه عندما التقى بصره القريب بخاصي لثوان استدرك فيها أخيراً أنه مازال لا يحملني فقط بل ويعتصرني.

"اعتذر."
همس بعد أن نظف حنجرته وأشاح بوجهه عني.
"شكراً على مرافقتي."
نبست سريعاً علي أرمي بحرجي مع خاصته بعيداً.

"أنتِ دائماً على الرحب."
نطق بتلطف وهو يضعني أرضاً لأحافظ على ابتسامتي إذ أني كنت ممتنة بحق.
أشار نورمانوس لأكثر الأحجار نقاوة ولمعاناً أعلى رؤوسنا وسأل:
"ما هو هذا بأي حال؟"

"أعتقد أنه الهاكمانايت، يقدر بثروة لدى البشر ويبدو أنه متواجد على هذه الجهة من العالم الموازي فلم أرى خضم ملفات العالم الموازي أي وثائق تحتوي على معلومات عن أمثاله."
نطقت وأنا أمرر أناملي على حجر أملس لامع مماثل من خلفنا والذي اندمج بحجارة الجدران الداكنة.

"أتظنين أن هذا ما جاء العابثون لأجله حقاً؟"
ضيّق بصره على الإطلالة الخلابة أما أنا فرحت أفكر على مهل معه هذه المرة.
"رغم أنني أجزم بأن هذه الأحجار الكريمة يمكن استخدامها لعلوم الخيمياء المحرمة والسيمياء الأكثر غموضاً إلا أنني لا أظن أنها مادة سيرمي عابث بما تبقى من نفسه أمام الموت لأجلها."
صارحته بما دار في خلدي ثم أضفت بموضوعية:
"ليس إن كان هنالك مادة غير معروفة ومشاع عنها في الأساطير ويلاحقونها. تعلم أن العابثين يبحثون في المحرمات والمحرمات نشأت بالأصل من خيالات جامحة."

"لنتعمق أكثر."
تحدث نورمانوس وعيناها اللتان تعلقتا بما حولنا بتشكيك إنخفضتا نحوي مجدداً. كفه امتد أمامي حين أضاف:
"لكن لنتخذ الحذر، قد تبدو كمنازل مهجورة لكنني أشعر ببعض الخطر."
ابتسمت للأمر وسمحت له بالإمساك بيدي فيبدو أن الأمر يريحه.

الأرض كانت جافة وغير زلقة بعكس الممر الذي دلفنا عبره إذ غالباً أن السبب بما حل به كان يعود للرطوبة العالية والخفافيش التي سكنت فوهته.

يوجد فتحتات تهوية هنا وهناك تسمح لنور الشمس بالوصول...أو كانت، ربما تم ردمها مع السنين فأصبح المكان مظلماً. أجزم أنهم خرجوا من هذه المنازل في المقام الأول لتطور علومهم كباقي الأجناس ولحاجتهم لضوء النهـ....

أفكاري قطعت وشهقت بشدة حين سحب نورمانوس جسدي ورماني في الهواء. سمعت شيئاً كتحرير الزناد عن سهم رفيع. رأيت الشاب بطرف عيني يتجنب خيوطاً رفيعة حادة التمعت لجزء من الثانية في الظلام وحين هسهس بألم علمت على الفور أنه تعرض للإصابة، رغم ذلك التقطني مجدداً ثم وثب السلالم الحجرية للأعلى حتى وصلنا أعلى نقطة وتوقفت الأصوات ليعم الهدوء مجدداً.

نورمانوس وضعني أرضاً أخيراً فأمسكت بكتفيه سريعاً أعاين علامات الألم على وجهه ونطقت بهلع:
"أين أصبت؟!"
كان مازال جاثياً على ركبة واحدة.
"لم يكن الأمر بالجليل، لا داعي لكل هذا الفزع."
ضحك في وجهي من بين تعابيره الممتعضة فعاتبته:
"إنه كذلك، سمعت عن الفخاخ القديمة وما أصابك غالباً كان إبرة سامة."
ما كان يجب أن نرخي دفاعنا. لا، نورمانوس لم يفعل، أنا فعلت وهو كان يراقب نقاطي العمياء.

رفع يدي فجأة وضغطهما بين كفيه لينحني قليلاً بجذعه ثم ينطق أمام وجهي بهدوء:
"أنتِ قلتها بنفسكِ، إنها قديمة ولن تؤثر بي بسهولة."

تنهدت بقلة حيلة ثم سحبت كفاً من بين أنامله لأشير بسبابتي لجلمود تم تحته لشكل هندسي تشوه مع الوقت.
"اجلس."
طلبت فقارب حاجبيه وفتح فاهه لأسبقه بالكلام بإنزعاج:
"لا جدال، افعل ما اطلبه منك."

"رجاء."
أضفت بخفوت ففعل على مضض وأنا جثوت أمامه، جمعت خصلاتي التي تمردت خلف رأسي مجدداً وسألت مرة ثانية:
"أين أصبت؟"

"في ساقي اليمنى."
أشار لنقطة دنيا من ساقه فبدأت بكفكفة بنطاله سريعاً لأشعر بعضلاته تتشنج للمستي.

"ما الذي تفعلينه؟"
سأل بإنزعاج أما أنا فسحبت الزريكون من على عنقي لأشكله على هيئة نصل رفيع صغير. رفعت عيني نحو وجهه، كان ينظر بعيون مترقبة لي فابتسمت قائلة:
"سأشق لحمك."

"عفواً؟!"
خرجت ممتزجة بالاستهجان من فاهه أما أنا فرحت أبحث بعيني بتمعن عن تلك البقعة التي خلفتها الإبرة إذ لابد أن تكون واضحة. ستترك أثراً أحمراً وعضلات متشنجة في البقعة التي أصابتها. آمل أن تسعفني حواسي.

"هنا؟"
تلمست بلطف شديد أول بقعة شككت بها أسفل العضلات الشظوبة فهمهم نورمانوس باتفاق كسول على تخميني.
"أظن ذلك."

تنهدت.
"أنت تستطيع علاج نفسك من الجروح لكنك لست بقادر على طرد السموم ومن باب الإحطياط فقط سأقوم بمحاولة متواضعة لاستئصاله قبل أن ينتشر في نظامك بأكمله ويحدث ما قد لا يحمد عقباه."
شرحت محدقة بنصلي بتركيز.

"أنتِ تبالغين لكن لا ضرر من فعل ما تقترحينه...أظن."
غمغم من بين شفاهه لأحافظ على ابتسامتي واعتذر مسبقاً عن جرحه.

"لا يهم."
نطق حين قمت بشق البقعة بمقطع طولي بسكيني الرفيعة. وضعتها جانباً ما أن سالت دماؤه ثم جثوت بجذعي لأترك شفاهي تلامس بشرته على مهل وأبدأ بارتشف دمائه الملوثة لأبصق كل رشفة جانباً بحذر.

"مينرڤا، هذا خاطئ."
علق نورمانوس من أعلى كتفي لأهز برأسي وأنطق:
"إنها ليست عضة أفعى بل إبرة، إن لم تبدأ بالذوبان في دمائك بالفعل فيمكنني استخراجها."

"بإمكاني محاولة إستئصالها بنفسي."
علق مشيراً بوضوح لقدرته على التلاعب بدمائه فنظرت في عينيه وهتفت بلا ناهية.
"إن فعلت قد تجب دماؤك الإبرة عوضاً عن طرحها وتذيبها أسرع."

سحبت كمية لا بأس بها من الدماء ودعوت أن تكون الإبرة أو السم الذي تم صنعها منه غير مؤذ.
مسحت فاهي بمؤخرة كفي ثم أخذت أدفن ما لفظته من دمائه أسفل التراب. يجب أن تكون هذه الكمية كافية لإستخراج الإبرة التي قد تكون تحللت بحلول اللحظة.

"لم يكن هنالك حاجة لهذا بحق."
نطق لأنظر له بطرف عيني، ترك بشرته لتشفى ونهض على قدميه بخفة. بدا بخير تماماً وهذا أراح قلبي.

"الوقاية خير من العلاج."
تلفظت بابتسامة. كان ما حل به خطأي فلو لم يشغل نفسه بحمايتي لما كان قد وقع في مثل ذلك الفخ بسهولة من الأصل.

نفضت التراب عن يدي ثم أمسكت بكفه حين عرضها علي مجدداً بلا تردد، ظننت بأننا سنستأنف المسير لكنه سحبني بقوة مفاجئة جعلتني أسقط ضد صدره بين ذراعيه.

أحاط بوجهي بين كفيه ونظر لي من بين أهدابه السوداء بضيق.
"أنتِ لم تبتلعي أياً من تلك الدماء، صحيح؟"
سأل بنبرة باردة لأجيب باسمة:
"لم أفعل."
لا أعلم إن كان المقصد هو الاستفسار عن ما إن كنت قد قمت بتسميم نفسي بالسم أو دمائه. لست بلهاء بأي حال لأبتلع السم ولن أسرق دماءه دون إذن مسبق.

إبهامه لامس طرف شفاهي.
"مازالت هنالك آثار للدم، كيف لي أن أكون متأكداً بأنكِ أنتِ الآن من لن يتعرض للأذى؟"
سأل. نظر في عيني مباشرة فوجدت جسدي يحاول التراجع عنه كرد فعل حذر من إلتصاقه المفاجئ والمبالغ به بي.

"أنتِ حقاً عنيدة مينا."
تنهد وهو يسمح لجبهته بأن ترتاح لمقدمة رأسي، أسدل أهدابه للحظات ثم ترك وجهي. ظننت بأنه سيحررني لكن ذراعه التي التفت حول خصري باغتتني بضغط جسدي ضد خاصته أكثر حتى كدت ارتفع عن الأرض. أمسك بفكي بين أنامل يده الحرة ثم تناول شفاهي بين شفاهه على حين غرة.

قام بخنقي فحاولت دفع نفسي عنه بلا فائدة. الطريقة التي حرك بها رأسي والجفاف الذي أصاب حلقي جعلاني أستيقظ على حقيقة أنه كان يقوم بسرقة سوائل فاهي لنفسه.

تراجع أخيراً عني بعد لحظات فقدت أنفاسي فيها وبصق ما سرقه من فمي جانباً، أما أنا فرحت أسعل ضياع الأوكسجين وارتعش بسبب الألم الذي خلفه بفعلته.

"توقفي عن التصرف وكأنكِ والدتي."
تحدث وهو يمسح شعره للخلف بأنامله بشدة. عيناه أنارتا كتلك الجواهر من حولنا ولكن بالذهبي. هو غاضب علي أنا.

"أحاول مساعدتك."
نطقت بصوت مبحوح فهتف بي موبخاً:
"ليس على حساب نفسكِ مينرڤا!"
أشحت بوجهي غير قادرة على النظر لمدة أطول في عينيه. شعرت بالحرج والحزن وأخيراً الظلم. أنا أبذل جهدي لكي لا أكون عبئاً لكن يبدو أنني أفسد الأمور أكثر. هذا الألم الذي ينهش بصدري الآن أسوأ من الاختناق.



*********

الأمور لا تسير دوماً كما نشتهي بل على العكس تماماً.
معضلة مينرڤا تصبح أكثر تعقيداً كلما ظنت بأنها وجدت بعض الحلول فماذا علها تفعل ؟ أو لا تفعل؟
أراكم على خير
ناخت ♥️

Continue Reading

You'll Also Like

1.2K 66 7
كان صباحاً جديداً يتمنى فيه كالعادة أن يرى ما حوله كما يراه الآخرون. و لكنه كان بداية جديدة لحياته إنه كفيف يرى بقلبهً
87.6K 6.8K 22
" لا بأس بالنسبِة لي ، ربما سيبدو ما أرويِه لكَ مستحيلاً أو ضربًا من الجنون ، أتفهمُ أنكَ بعدَ سماَع هذا سوفَ تحكم عليَ بالمبالغة أو الدرامية ِ المبت...
16.9K 1.8K 26
احْياناً نَحْنُ لَا نُفَكِر بِمَا قدْ نَفْعَل و لو لِلَحْظةُ وَ لَكِنْ قدْ نَنْدَم عَلَی مَا فَعلّنَا مَدی الحَيَاةُ؛ واحْيَاناً يَتوَجبُ عَليّنَا مُ...
75.1K 5.6K 31
داليا مالكوين..الدوقه مالكوين زوجه ادهي الرجال في الامبراطوريه بأكملها، لقد كانت زوجته ولكنه بالكاد يتذكر وجهها! و لم يعرف سوى اسمها و خط يدها فقط...