بـومـة مينـرڤا

By Die-Nacht

13.9K 1.5K 8.6K

حقـبة جديـدة بدأت ما أن تم الاعتـراف بسحـرة الظـلام كجزء لا يتجزأ من عائلة حـراس التـوازن، لكن هذا وحده لم يج... More

-1- ذكرى (II)
-2- موسم الهندباء
-3- نورا
-4- الأيّم الشقراء
-6- أدنى الهرم
-7- إرادة
-8- ضياء نجم مسائي
-9- جرع زائدة من السكر
-10- الـ منطقة
-11- السُخام الأسود
-12- لا تثق بالفراشات
-13- فنون الدم
-14- نوكتوا
-15- أجنحة وريش
-16- أوتار الشفق
-17- إنذار من الأومورا
-18- في مكعب جليدي
-19- ندوبه الغير مرئية
-20- غريق
-21- أرشيف الذكريات
-22- لعنات عابث
-23- أطياف
-24- ظلال البرق الأرجواني
-25- البحث عن الحكمة
-26- تلك الساحرة
-27- رافيتوس ليلوي
-28- محاكمة
-29- الدم بالدم
-30- عهود غير منسية
-31- أبدي
-32- بومة مينرڤا

-5- لأجل أحدهم

410 50 178
By Die-Nacht

رأيت الريش الأبيض يسقط من السماء وعيون البوم الذهبية إنبثقت من اللامكان لتوقظني من حلم فارغ.

استقمت في سريري على مهل وحدقت حولي بنعاس. ما رأيته لم يكن كابوساً بالتأكيد لأنني لم أشعر بالخوف ولست أتصبب العرق البارد حالياً ولكنه لم يكن بحلم حميل أو ذو مغزى أيضاً.
"ماذا كان؟"
غمغمت.

نهضت نحو شرفتي بتلقائية لأجد غلاكوس يقوم بإدارة عنقه المرن نحوي على الفور ويرمقني بنظراته الحادة البعيدة ما أن فتحت الباب. مسحت على رأسه وتحديداً قرب الريش الذي ارتفع من رأسه كالأذنين ليغمض عينيه للحظات.

"أكنت تحرسني أم تنافس السيد لوبو على فئرانه الغالية؟"
سألت بابتسامة باهتة. مرت بضعة أيام ولا شيء تغير عدا أن مواعيد دروس ريم وفرويد عادت لمنوالها الطبيعي.
"هذا هو الطبيعي بالفعل."
ورغم أنه كذلك شعرت بوحدة لا أحس بها عادة سوى حينما يغادرني طلابي.

استمتعت بزيارة نورمانوس للمكتبة. كان واعياً وأول شخص أقضي معه الكثير من الوقت في نقاشات ممتعة منذ فترة.

"لا يجب أن أعتادهم فجميعهم سيرحلون."
نبست بكلماتي لنفسي إذ أن موعد تخرج فرويد بات قريباً ولن يبقى في القصر طويلاً، لن أراه سوى في المناسبات المهمة...فقط كالآخرين. سيكبر وعيناي لن تدركا هيئته وأذناي لن تألفا صوته ولن أعلم إن كان يحترمني أم لا كما هو الآن فطباعه ستتبدل. سأستقبل مع ريم أفراداً جدد آخرين والحلقة ستتكرر. هكذا هي حياتي وهذه هي مهنتي التي اختيرت لي.

نور الصباح أخذ يرتفع في الأفق ومعه حلق غلاكوس وكأنه يتبع خيوط الشمس بعد أن أصدر صوت نعيق عالي ورفرف بجناحيه يدعوني لمراقبته يستعرض قدرته على التحليق.

حدقت به حتى تلاشى خلال الضوء ثم ملأت رئتي بالهواء النقي ودلفت للداخل بشعور جديد. أغلقت باب الشرفة وأسندت رأسي لزجاجها. يجب أن أطلب من الجدة باتريشا أن ترسل طلباً بعودة نورمانوس لأعتذر منه وأوضح للجميع أنه سوء فهم وأن ظنونهم السيئة مخزية.

.
.
.

أنهيت أعمالي مبكراً ورحت أرتب ما تبقى من أوراق على مكتبي فأغلقت علبة الحبر الأزرق السائل بإحكام وقمت برص الأوراق الغير منتهية في مجلد خاص ابقيه أعلى المكتب على الدوام.

تفاجأت بالنور الباهر الذي ظهر من خلفي فهو لم يصدر عن شخص سوى أختي التي حطت بقدميها أمامي ونظرت لي بما يبدو بإنزعاج ممزوج بالقلق.
"سمعت أنكِ طلبتِ لقاء الجدة باتريشا."
لم تكن تسأل بل تعلن لكي لا تمنحني خيار الإجابة بصدق أو الكذب لكن هذا لم يكن الأمر المهم.

"لما أنتِ هنا مايبل؟"
سألت مقطبة حاجبي باستغراب لتسير نحو مكتبي وتفترش مقعده المريح البسيط متجاهلة سؤالي.

"لما؟"
شددتْ مايبل على سؤالها، كانت تفرض شخص الأخت الحازمة الكبرى علي الآن. عقدت ذراعيها أمام صدرها ونظرت في وجهي مباشرة بعد أن سيرت عينيها على سطح مكتبي لتستشف ما كنت أفعله وكأنها مستعدة للبقاء في هذه الوضعية حتى أجيبها.

"يجب أن أصلح خطأي."
أجبت بتنهيدة إمتلأت بشعور الذنب وأنا أخفض بصري للحظات. لم يكن الجواب سراً بأي حال.
"لم يكن لدى أحدكم أي نية بإخباري."
أضفت بشيء من الاستهجان، غضضت الطرف عن محاولة استغبائهم لي لكن أسمعة نورمانوس لا تهم أحداً؟ كنت سأعيش في وهم سعيد لكن هو سيعيش في ذنب وهمي وسيتناول الجميع لحمه حياً.

"لست بحاجة للاعتذار أو إصلاح أي شيء. نورمانوس يعيش بعيداً عنا منذ زمن، لن يعبأ بما يظنه أهل القصر عنه."
الطريقة التي نطقت بها كلماتها بدت وكأن من نتحدث عنه مجرد جرو ضال.

"الشاب كان وبوضوح يحاول التأقلم والإنسجام مع أفراد عائلته."
وضعت ما حملته كفاي بهدوء جانباً واستطردت بشيء من الخذلان:
"كيف لكِ أن تقرري ذلك وأنت بالكاد كنت قد تحدثت معه؟"
أهذه مخيلتي أم أن شقيقتي تظهر وجهاً محزناً مختلفاً في ظهره عن ذاك الذي أظهرته في وجهه؟

"مينا أنا أعرف أنه ربما شاب جيد ولا أريد أن أظن السوء به لكن حقيقة أن كابوسكِ الذي جعلكِ تصرخين بحدة في الليل باسم كلايمنت بعد وفاته بثلاث سنوات راودكِ فقط بحضوره مريبة."
طرقت الخشب بأظفارها الطويلة. رأيت التوجس في عينيها والخوف من المجهول الذي يقبع في نهاية النفق المظلم يبثق منهما.

"لم يحدثني أحد عن مشاعري عندما توفي كلايمنت. تم تجاهلي وكل ما سمعته كان التعازي. الكابوس كان طبيعي إذ كانت تراودني الكوابيس عنه بعد وفاته بالمثل."
نقلت وزني من ساق لأخرى ثم حملت المراجع مجدداً لأعيدها لرفوفها ما أن سألت مايبل بدهشة مباغتة:
"هل تعلقتِ بكلايمنت لهذه الدرجة!؟"

زفرت أنفاسي بحدة حين لحقت بي مصرة على جعلي أتحدث.
"أخبريني مينا، أنا لم أعلم عن جروحكِ هذه لأنكِ لا تفصحين عنها."

"أوليست ندوباً طبيعية؟!"
هتفت بها لتتوقف بدهشة لصوتي الذي تعالى لأول مرة في وجهها منذ سنوات. سيرة شريكي السابق دائماً تجعلني مضطربة.
"إن توفي أحد أقاربك، أليس من البديهي أن يصيبك الحزن؟"
سألت. لم أكن قد تعلقت بكلايمنت بطريقة عاطفية خاصة لكنه غالي على نفسي بشدة. مايبل غرست أناملها في شعرها الذهبي لتهرش فروته بعنف معلقة:
"لبضعة أسابيع ربما... لكن أنتِ مازلتِ تنفعلين عندما ينطق أحدنا باسمه حتى الآن على ما يبدو."

حشرت آخر مرجع في مكانه وتخطيت مايبل مجدداً متفوهة بهدوء:
"لا تقولي أنك عدتِ لتخبريني بألا أقابل الجدة لأجل نورمانوس."

"ولأسباب أخرى."
تأبطت ذراعي وابتسمت بمودة نحوي حين رحنا نسير الممرات لنخرج من المكتبة.
"أنا أخاف عليك مينا، من العالم وريغان أنفسهم. لقد تأذيتِ بما يكفي حين تم دفعكِ نحو كلايمنت."
نبرتها كانت متجلدة نوعاً ما وتحاول أن تبقى لطيفة لكي لا تهزني، لكنها فعلت بالفعل كما الجميع.

"لقد كان بكامل صحته حين تقرر جمعنا. لم أكن خروف أو نوع من أنواع الأضاحي."
صرحت بهدوء لأشعر بها تضغط على ذراعي، بصري ارتفع نحوها فوجدتها تحدق بما بعد الطريق أمامنا معلقة:
"كان يعاني من بداية المرض. أرادوا أحدهم ليعتني به وربما ينجب أطفالاً منه للتأكد ما إن كان خط دم عائلته خطراً أم لا، خاصة لإمتلاكه عدة أخوة هنا وهناك."

"توقفي مايبل."
تنهدت وأنا أدلك جبهتي بصداع.
"مهما ظننت من أسباب أو فكرت بما أراده الآخرون لن يمكنك إنكار أن كلاي اعتنى بي كما اعتنيتُ به. كان شريكاً مثالياً في نظري."
علقت ثم فتحت باب غرفتي لأدخل. بدت مايبل مستعدة للحديث أكثر حين حاولت أن تدلف بعدي لكنني وقفت في إطار باب الغرفة ونظرت نحوها بتأسف لأنبس:
"نهاية النقاش يا أختي الكبرى."

"فاليكن."
زفرت أنفاسها وتراجعت لأدخل وأغلق الباب خلفي على مهل. تحركت نحو سريري ورميت بجسدي عليه بتعب.

.
.
.

مايبل أصرت على مرافقتي عندما يتم الموافقة من قبل الجدة على طلبي لمقابلتها وها نحن ذا بعد شهر من الزمن نقف أمام باب جناحها المذهب. عديد من الأفراد كانوا يركضون خروجاً ودخولاً مع إلقاء تحية سريعة دون التوقف.

"لندخل."
فرويد تحدث وهو يركز ياقة قميصه بقربي لتنزلق عيون مايبل نحوه بدهشة ماثلت خاصتي إذ لم يكن قبلاً هنا ولم نتحدث معه بهذا الشأن قط.
"وما علاقتك أنت؟"
سألت أختي بحاجب مرفوع ليتنهد الشاب الفتي وينظر في وجهها مباشرة مجيباً:
"أمضيت فترة معتبرة من طفولتي حول نورمانوس عندما كان والدي مشغولين عن رعايتي."

"أنت كنت قد نموت على أراضي سحرة الظلام بالمثل؟"
مايبل بدت مدهوشة وأنا استدركت الأمر على الفور.
"والدي ووالده ينتميان لذات خط الدم. كان مرحباً بي في أرض سحرة الظلام، خاصة وأن عمي -والده- كان مستعداً للاعتناء بي."
تحدث فرويد باختصار وهو يقوم بمسح شعره المصفف بأناقة للخلف فابتسمت له مدلية بدلوي:
"بإمكانك الدخول معنا."

"مينا، قد نناقش أموراً حساسة."
مايبل أخفضت صوتها وأنا هززت برأسي بلابأس. أي أمور حساسة قد تخوض فيها الجدة باتريشا ولا يعلم فرويد أو كل فرد في القصر عنها الآن؟ تعلقي بشريكي المتوفي؟ أم الشائعات حول تعذيب نورمانوس البريء لي؟ كل هذه الأمور دللت على ضعفي كريغان فضلاً عن لقبي الفخري كحارس توازن، هذا ليس جديداً. لقد ظهر على السطح بأنني فرد لا يستطيع التحكم بمشاعره أو حياته أكثر وحسب، كائن تائه بلا هدى ككينوته الضائعة.

"مينرڤا..."
ظهرت ريالين أخيراً من خلف الباب والممر غدا هادئاً حين سيرت أبصارها في الحشد المجتمع حولي لتردف بهدوء:
"الجدة باتريشا ستقابلك الآن."

دلفنا خلفها وكانت هذه المرة المرة الخامسة أو السادسة التي أدخل فيها جناح الجدة الخاص حيث أنه طلب مني تقديم تقرير شفهي عن حال الأرشيف والأطفال الذين أقوم بالتدريس لهم فمهمتي لم تقتصر على إطلاعهم على نفحات تاريخية وبعض العادات المرفقة بالإرشادات المتعلقة بالآداب بل ومراقبة نموهم والتأكد من أنهم أصحاء قلباً وقالباً، تماماً كالمقييم الذي يراقب تحفة فنية يتم نحتها من قبل أنامل النسيم.

في أقصى اليسار تواجدت مكتبة مذهبة عالية ومقاعد فارهة بجانب طاولة المكتب الذي جلس خلفه الحفيد الذي كان دائماً حولها لمساعدتها ما أن انتهى عهد والده، وفي الزاوية اليمنى سرير وثير ذو ستائر أرجوانية خفيفة وتكاد تكون شفافة.

"طاب يومكِ جدتي."
وجدت نفسي أول المتجهين نحو ذلك السرير حيث غالباً ما تجدها هناك ترتاح وتدير أمور القصر والأفراد بالآن ذاته.
قدمت ابتسامة وإنحناءة استشف من خلالهم ردة فعلها خلف تلك الستائر قبل أن أرفع رأسي عالياً.

"أهلاً بكم يا أعزائي وخاصة أنتِ مينرڤا."
سمعت صوتها والستائر تم لفحها بالهواء المشبع بغبار النجوم الذي طالما صدر عن سحر الجدة.

قامت برفع قبضتها نحو فاهها وسعلت أنفاسها الضعيفة لتهرع ريالين نحوها وتقدم لها كوباً من الماء الفاترة هامسة شيئاً عن وجوب عدم استعمالها لطاقة حياتها بحالتها هذه.

الجدة طمأنتها بأنها بخير بقهقهة قصيرة وتناولت الكوب لترتشف شيئاً مما بداخله ومن ثمة ترفع رأسها نحونا مجدداً قائلة:
"أعتذر عن عدم استقبالكِ حتى الآن فصحتي لم تكن بالجيدة المعهودة خلال الفترة الماضية."

"لأنكِ تحمست كثيراً أثناء حفلة ميلادكٍ. ليتك تركتني لأتدبر الأمور المبهرجة يا جدتي."
لم أجد فرصة للحديث حين عقدت ريالين ذراعيها أمامها وعاتبت الجدة، بضعة خصلات من جديلة شعرها الداكن تتناثر حولها حين هزت رأسها بلا رضى لضحكات الجدة التي علقت:
"اوه ريالين، أردت تقديم شيء بسيط من صنعي لكل من أتوا للاحتفال بي."

"وانتهى بكِ المطاف بصنع الدمى المتحركة لكل طفل في القاعة."
ريالين تنهدت حروفها، ويبدو وللحق بأن الجدة انكمشت أكثر مما لاحظته على هيئتها يوم حفلة عيد مولدها.

مايبل حافظت على صمتها كنوع من الاحترام لكنني لم أتوقع من فرويد أن يلتزم بالأداب، لم يتململ أو يطقطق بلسانه كما اعتدت منه، وكأنه يرسخ موقفه وأنه هنا لمساندتي والدفاع عن ابن عمه. شعرت بدفئ غير ملحوظ في خلدي لشعوري بالفخر.

"هذا ليس عني الآن بل عما قد تريده مني مينرڤا."
لا أعلم نوع النظرة التي رمقتني بها لصورة وجهها المشوشة لكنني حين رأيت مايبل تعقد حاجبيها وسمعت أنفاس فرويد تخرج مرتعشة من بين شفاهه شعرت ببعض القلق، خاصة حين استطردت الجدة باتريشا:
"صغيرتي لم تتقدم بطلب لرؤيتي بشكل خاص منذ زمن وفضولي تمكن مني."

هذا لم يحدث قط في الواقع، أنا دوماً الشخص الذي يتم استدعائه لأجل التقارير. المرة الوحيدة التي اجتمعنا فيها خارج حدود العمل كانت لأجل تعريفي على كلايمنت. مازلت أذكر بوضوح ذلك اليوم منذ قرابة الخمس سنوات حين دلفت الغرفة الفارهة ووجدت ذلك الشاب ذو العيون العسلية والخصلات الطويلة المعقودة يشتعل غضباً ويجادل الجدة مكرراً كلمات الرفض بلا أي تردد. كلايمنت كان أحد الأشخاص القلة الذين استطعت رؤية وجوههم بوضوح فكنت متفاجئة آنها لدرجة أنني لم أركز في حديثهم وحدقت به لفترة كما فعل ما أن التقت أبصارنا.

"أرى أن مايبل قلقة وفرويد متوتر. ما رغبتكم؟"
سؤال الجدة أعاد تركيزي على الحاضر والموضوع المطروح أمامي لأتنحنح أنا مشيرة أن الحديث سيتم من قبلي قبل أن أرفع رأسي وأتحدث باعتدال:
"رغبتي بسيطة يا جدتي الغالية، أريدك أن تعلني أن الشائعات التي تدول حول نورمانوس خاطئة، ولابد أنك تعلمين عما أتحدث بالفعل."

همهمت الجدة وكأنها تفكر. كنت قد أعدت احتساب فكرة طلب عودته في الأيام الماضية إذ يمكننا حل هذا بطريقة أقل إحراج له. بالطبع سأعتذر بنفسي له عندما يزور القصر مجدداً.
"لقد وصل لمسامعي بالفعل ما يتم الحديث به من القيل والقال ولكن يا عزيزتي أخشى أنني لا أستطيع نقاش أمر لم يتم الإعلان عنه بصوت عالي."
رفعت أناملها بكوبها لتلتقطه ريالين وتضعه بعيداً في حين أخذت تستطرد هي بذات النبرة:
"هدوئي سيساعد نورمانوس أكثر من رفع صوتي وإثارة بلبلة هو في غنى عنها."

"يتم اتهامه بأنه قام بالفرار بعد أن أجبرني على ما لا أطيق..."
تقدمت خطوة نحوها لكنني سرعان ما تجمدت من شعوري بنظرات ريالين تحتد علي. أمسكتني شقيقتي من كتفي وكأنها تدعوني للتراجع.

"أيضاً...كان بوده البقاء في الحقيقة، لكن أمر عاجل طرأ على الجهة الأخرى ولا يستطيع أحد سواه معالجته. عمله هناك يستعصي على أي فرد آخر. للأسف اضطراره للابتعاد عن القصر أمر واقع ولا مفر منه. لا يمكنه تجاهل واجبه لإصلاح بعض الشائعات."
هزت برأسها للجهتين بهدوء ورأيت أناملها تضغط الغطاء السميك على ساقيها عندما أردفت:
"نورمانوس عندما عاد هنا فعل وهو يعلم ما قد يحصل من مواقف وسوء فهم وما حل لكِ معه كان بسيطاً. دفاعي عنه سيجعل الآخرين يظنون أنني أغطي عليه ولا نريد جعل الأمور أسوأ بمزيد من إساءات الفهم."

"هو مستاء بالتأكيد. كان ليظهر وجهه لو لا يفعل قبل أن يرحل. كان يجب علي أن أدرك ما أوقعته به وتصحيح الأمور."
تحدثت باستياء من نفسي، لقد أخطأت بعدم البحث عنه من البداية وتفقد حاله. قبلت أن يتم حبسي في حجرتي بهدوء.

"هو لم يردكِ أن تشغلي بالكِ به."
بسطت الجدة شفاهها وكأنها تواسيني فعلقت:
"كيف وأنا هي مدرسته التي من المفترض أن تساعده على التأقلم والعثور لنفسه على مكان في القصر وشحذ معارفه؟ نورا لم يعرف كيف يتقرّب من الأفراد حتى يعيش في مجتمع قصرنا هذا."
لا أدري كيف وجدت نفسي أتجرأ على عتاب ربة المنزل حين نطقت:
"من المشين معاملة ريغان وحارس توازن يكرس عمره لأجل السلام بهذه الطريقة."
تركه ليذهب وتجاهل الأمر وكأنه لا ينمو ويتضخم للأسوأ بحقه فقط لحجة أنه إن كان بعيداً فلن يهتم، أو أنه يمتلك من الوعي ما يكفي لغض الطرف عن الحكم القاسي الذي يوجه له أمور عويصة كآفات تنخر في لب العائلة، كل هذا بإمكاننا منعه ببعض الكلمات البسيطة وتجنب الأثار التي قد تترتب من تركها تتأصل في الجذور.

"مينرڤا."
وجدت ريالين تقف فوق رأسي على حين غرة ومايبل سحبتني أخيراً للخلف لتحيط هيئتي بجسدها قائلة لها بهمس حاد:
"تراجعي."

"لقد تحدثتِ كثيراً."
الأولى استطردت حديثها نحوي ومايبل زفرت معاتبة:
"أنتِ من يتدخل في هذا النقاش وبتبجح أثناء حضور الجدة."

أخفضت أهدابي نحو الجدة باتريشا التي كانت تراقب بشفاه مستقيمة ثم نطقت بأسف:
"آعتذر، لقد بالغت."
لم أتي هنا لأتشاجر مع أي شخص، أردت فقط إصلاح خطأي بحق الشاب إذ أنه إن لم يعد للقصر مجدداً فلن يكون الخطأ واللوم يقعان إلا علي أنا، وبإمكانهم لومي لا أمانع. لا أريد لذلك الشاب بأن يشعر بالرفض من قبل عائلته فحسب.

"مينرڤا، أنا أتفق معك يا صغيرتي لكن للحفاظ على تماسكنا يجدر بنا أحياناً غض الطرف عن صغائر الأمور كي لا تكبر."
كلمات باتريشا خرجت بشيء من الأسف من فاهها، عنت بوضوح بأنها لن تقوم بفعل شيء بشأن الواقعة.

دفعتُ مايبل عني بلطف وتقدمت متجاوزة ريالين لأقف أمام فراشها مباشرة وأضع كفي على صدري ناحية قلبي متحدثة بكل ما أملكه من دماثة:
"سأدع الأمر يمر بينهم بهدوء، يمكن للجميع اتهامي أنني حلقة مفرغة ضعيفة وسأتجاهل ما يقولونه عن الشاب البريء، سأغض البصر وأغلق أذني لكن مبادئي لا تسمح لي بتركه دون اعتذار شخصي ملائم."

سمعت ريالين بقربي تزفر أنفاسها بعنف وكأنها قد سئمت مني أما أنا فأخفضت رأسي قليلاً لإستياء حقيقي متمتمة:
"على الأقل ليعرف أن بعضنا لا يظنون به السوء."
قبضت أنامل يدي الحرة بقربي بشدة.

سمعت صوت نعيق غلاكوس ومع ارتفاع صدى تحطم النافذة من خلف ظهورنا هب نسيم النهار عاتياً فشعرت بمقلتي تتسعان في محجريهما بدهشة.

"هذا الطائر مجدداً!"
ريالين نطقت من بين أسنانها أما مايبل التي أصبحت بقربي فضغطت كتفي وكأنها خائفة علي وبالآن ذاته تخبرني أن أتصرف بشأن الطائر الذي فر من سياط سحر ريالين مباغتاً إياه بسلاسة.

"غلاكوس."
همست باسمه ليتجه نحوي ويتسلق كتفي الحر، ريالين أوقفت سياطها الصفراء اللامعة لكنها لم تخفض ذراعها. بدت على استعداد للهجوم مجدداً حتى وإن عنى الأمر إيذائي.

غلاكوس نشر جناحيه وصاح بها بصوته الحاد لتتراجع خطوة متضطربة للخلف وهي تغطي أذنيها بكفيها.
"ما خطبه بحق؟!"
انتحبت بألم.

"هذا الطلب الوحيد الذي سألتمسه منك أيتها الجدة."
وجدت نفسي أتجاهل كل هذه الجلبة وأخذ بصري نحو الجدة التي كانت تراقب.
غلاكوس قام بالنئيم مجدداً وكأنه يصرخ استيائي الخاص، لا أريد إيقافه أو الاعتذار عن تصرفاته حتى، ليس هذه المرة. لم أظن بأنني شعرت بهذا الإحساس المر الذي يكوي الصدر يوماً هكذا سوى في تلك الليلة المشؤومة الذي توفي فيها كلايمنت.

لا أحد بكى عليه. فقط أنا. حتى والداه وأشقاؤه اكتفوا بالنظر بلا أي ملامح لجثته الباردة في النعش. كان يشعر بوحدة أتسائل إن استطعت أن أؤنسها بما يكفي بمساعدة الأطفال من حوله. لم أكن راضية وإظهار ذلك لم يكن ليساعد الشاب المتوفي فصمتت لكني الآن لن أتكتم أو أتراجع.

"فاليكن."
الجدة باتريشا أسدلت أهدابها ونطقت كلماتها الرزينة بصوتها الخافت لأشعر بالضغط الذي كان متموضعاً على صدري يخف قليلاً.
"لكنني لن أجبر نورمانوس على مقابلتك."
أضافت معلقة.

"أنا سأذهب له وأدعوه لمقابلتها وسندع له القرار."
عيناي توجهتا نحو فرويد الذي نطق أخيراً لأول مرة منذ أن دخلنا، بدا وكأنه كان بترقب أو يتوقع الأمل. فاقت سرعة بديهته توقعاتي.

"مينا لن تضطر للخروج من القصر إذاً!"
مايبل هتفت ببهجة، بدت سعيدة لكوني سأبقى القفص الآمن. ما شغل بالها كان مختلفاً عما شغل بالي تماماً.

.
.
.

"أشعر وكأنه سيرفض، لكي لا يضعني في موقف محرج فحسب."
وقفت في منتصف غرفة فرويد عاقدة أناملي أمام صدري ووجدت نفسي أتمتم توجسي بصوت عالي للشاب الفتي الذي همهم دون أن ينظر لي وراح يعاني بحشر أشيائه في حقيبة الكتف خاصته معلقاً:
"أجل، هو غالباً سيفعل ذلك."

"لا تستلم بسهولة. أنا لا أريد كسر القانون بالذهاب له بنفسي كما أنني ضعيفة ولا أملك طريقة حتى."
وجدت نفسي اعترف بشيء من الأسف ولا أعلم إن كانت صورتي كمدرسة له قد تزعزت بالفعل أم لا بعد حيث أنني كنت شخصاً تطلع جميع الأطفال للحصول على معرفته واتسم بالذكاء الذي يتبعه بديهيا القوة. قوة لم ولن أملكها.

"سأحاول بجد."
وعد وهو يفتح أحد الدروج بقرب سريره ليعلق سلسلة برونزية حول معصمه حملت ميدالية مفتاح ضئيل بحرص.

تأملته للحظات ثم تحدثت بصدق:
"شكراً فرويد."

"أعلم أن هذا السؤال متأخر قليلاً..."
هرش مؤخرة عنقه بحركة جذبت انتباهي وعندها أردف:
"ألا تبالغين باهتمامكِ بالأمر؟ أنتِ فقط تعرفتِ على ابن العم منذ بضعة أشهر."

"أولاً..."
رفعت سبابتي في الهواء ونطقت بحزم:
"إنه طالبي ومن المشين أن تؤذي المدرسة أحد طلابها، أما ثانياً..."
رفعت جارتها الوسطى واستطردت بأنف عالي:
"فخري لا يسمح لي بترك الأمر ينزلق، لم يعتذر عن التغييب عن دروسه كما ينبغي."

فرويد ضحك بشيء من السخرية فأسندت كفي لخصري ورفعت حاجباً:
"أنت لا تفعل هذا لتتهرب من دروسي بالمثل، صحيح؟"

"بحقكِ أنا سأتخرج قريباً كما أنني أفعل هذا لأنني أهتم بأفراد عائلتي."
علق حقيبته على كتفه ورغم نبرته المشاكسة استشعرت الإنزعاج من الوضع في معنى كلماته فرسمت ابتسامة بسيطة وتحدثت وكأنني اكتشفت سراً:
"انظر إليك تدعي أنك لا تطيق نورمانوس وأنت في الحقيقة تعتز به بحق. هذا لطيف."

"توقفي عن استعمال لطيف بوصفي."
تذمر وبعدها نطق ببعض الكلمات الغائرة التي وصلت فحواها أذناي.

"ما الذي قلته؟"
ادعيت أنني لم أستطع سماعه حيث ظن بكل تأكيد أن تلك الغمغمات أسفل أنفاسه لن تكون مفهومة لي لكن حاسة سمعي قوية ولن تفوتني مثل هذه الكلمات البسيطة في غرفة هادئة بالطبع. لقد قال أنه يريد دعمي كما دعمته.

نحن نعرف بعضنا منذ أكثر من خمسة سنوات، في أول لقاء تجاهلني وحين حاولت التقرب منه عضني في محاولة لإخافتي وتركه لشأنه، كان من الواضح أنه ولد خارج أسوار القصر، ولكن وعكس نورمانوس الذي أمضى مراهقته وشبابه على الجانب الأخر عاد فرويد لقصر ريغان وحصل على التنشئة والتعليم والحلقة الاجتماعية الخاصة مثل أي طفل آخر.

"قلت أنه يجب أن اذهب الآن!"
وجدته يهتف بصوت عالي لأكتم ضحكتي، أعتقد أن طبيعته النزقة لن تتغير بسهولة في النهاية وجزء منه.

قام برمي مكعب أسود أخرجه من طرف خفي أرضاً ليتدحرج لبضعة لحظات ثم يشتعل بلهب أزرق ليبدو وكأنه يبتلع الأرضية حوله.

"اعتني بنفسك."
لوحت بكفي حين وجدت فرويد يلقي نظرة أخيرة نحوي.

"إلى لقاء قد يطول."
بدا ولأول مرة ملماً أكثر مني، وكأن ما ينتظره على الجهة الأخرى شاق ولا يستطيع البوح به كاملاً ببضعة لحظات لي فما كان مني سوى أن أحافظ على ابتسامتي وأعلق:
"أنا صبورة."

فرويد اختفى والنيران خمدت لتظلم الغرفة ذات الأثاث الداكن من الأصل. وجدت نفسي أحدق بالفراغ وسؤال فرويد عن سبب اهتمامي يتردد في رأسي. رغم أن حالة كل منهما مختلفة إلا أنني أشبه ما عايشه كلايمنت لما سيعايشه نورمانوس إن استمر الحال على ما هو عليه، كلاهما لن يحصلا سوى على النظرات الباردة من أفراد هذه العائلة.

رأسي اتجه نحو غلاكوس الذي وقف أعلى الطاولة جانباً يأبى مفارقتي وعيناي وجدتا خاصتيه المصفرتين لأهمس:
"تكرار الماضي لنفسه لم يكن علامة خير يوماً."
لكن أولئك الذين يجلسون ويشاهدونه مكتوفي الأيدي هم الأسوأ.


**********

فصل جديد!
أعرف أستحق تصفيق شديد🍀

الاحداث تصعد ببطء لكن بثبات لذا ترقبوا القادم
أراكم على خير
ناخت♥️

Continue Reading

You'll Also Like

4.9K 543 10
داليا مالكوين..الدوقه مالكوين زوجه ادهي الرجال في الامبراطوريه بأكملها، لقد كانت زوجته ولكنه بالكاد يتذكر وجهها! و لم يعرف سوى اسمها و خط يدها فقط...
4.3K 877 29
دخوليّ كانَ كَتجربة بِدافعِ الفضول ، كَونيّ سئمتُ مِن عالميّ المَحدود ، أردتُ التماشيّ مَعهُم لمعرفةَ النِهاية ، لكنَ ما كانَ يحدُث غريب ! ، الكثير...
3.7K 352 4
فقط تأكد بأن ليس كل ما تراه أو تسمعه حقيقة ! #3 psychopath #3 watty2019 #سلسلة -غير متوقع-
10.2K 906 19
"لكلاً منا جانبه المظلم أما هي فلا تمتلك غيره" **** الفكرة اصلية تماماً اي تشابه بينها و بين اي قصة أخري فهذا محض صدفة ، جميع الحقوق محفوظه لي انا ال...