شيفرة ليتوفيتشينكو

Per Tom_Manden

11.1K 1.1K 2.4K

فيلدسباث لم تكن سوى بلدة ريفية لا تكاد تظهر على خريطة مملكة إيلدينغار، ما الذي قد يجعلها مهد الثورة المنتظرة؟... Més

المقدمة
الفصل 01: الحفل
الفصل 02: العراك
الفصل 03: الزائر
الفصل 04: الفأس والقوس
الفصل 05: شبح القديسة
الفصل 06: المنقذة
الفصل 07: امتنان
الفصل 08: شمل الأحبة
الفصل 09: هالة البدر المكتمل
الفصل 10: جولة المطاردة تبدأ
الفصل 11: تحية الحاكم
الفصل 12: الحكاية الشعبية
الفصل 13: حوار مع معلمي المضحك
الفصل 14: مفاجأة في المتنزه
الفصل 15: الناجية
الفصل 17:مذكرات الخيميائية
الفصل 18: قطيعة
الفصل 19: هاجس العهد
الفصل 20: أحاديث الفتيات
الفصل 21: هوس المعرفة
الفصل 22: حنين
الفصل 23: القوطية والسائح
الفصل 24: المأدبة
الفصل 25: الوداع فيلدسباث
⁦\(゚ー゚\)⁩
ملخص الباب الأول
دليل الشخصيات
الفصل 26: حياة لا يتمناها أحد
الفصل 27: عودة المفجر
الفصل 28: رُهاب
الفصل 29: زوار سفانهيلد
الفصل 30: رسالة مشفرة
الفصل 31: حامل العار
الفصل 32: استفاقة
الفصل 33: البشرى المنتظرة
الفصل 34: عاطفة محتجزة
يوم خالٍ من الغضب
الفصل 35: الوافدان
الفصل 36: عملية سطو
الفصل 37: أداة فانغ
الفصل 38: الصبي الحاذق
الفصل 39: التجربة
الفصل 40: موعدنا الأخير
الفصل 41: سيارة في مهب الريح
الفصل 42: أزمة المشروع المدرسي
الفصل 43: الصفقة المشؤومة
الفصل 44: رياح طيبة

الفصل 16: اعتراف

143 21 43
Per Tom_Manden

الفصل 16: اعتراف

..
-"لقد عثرتُ عليها، آناركا تنغستن."

نبست أنجيلا في برود، لينقض عليها كريس الذي أوشك يصرخ من الصدمة؛ بسيل من الأسئلة..

-"متى؟! كيف فعلت ذلك؟! هل استطعتِ تحديد هوية حامل القوس الذي هاجمك أيضا؟"

صمتت أنجيلا قليلا كي تفكر في أقل عدد ممكن من الكلمات لتجيب بها، ثم أردفت..

-"صادفتهما قبل فترة وتحققت بنفسي."

-"إذن فقد كان كلام السيد هانسمورتن صحيحا، الأميرة وحراسها في فيلدسباث!"

همهمت أنجيلا موجبة، ليتابع كريس وشيء من القلق في عينيه الصغيرتين اللتين انصب كل تركيزهما على ملابسها المُدماة..

-"كيف هو حامل القوس، هل هو شخص راشد؟ أم هو في عمر الأميرة؟"

-"فتاة."

رمقها كريس بِحيرة، أما أنجيلا فحركت مقلتها البنية وحدقت في وجهه مليا، ثم زفرت عندما اعتقدت أنها فهمت ما يرمي إليه بعقد حاجبيه كالأبله.

أدخلت يدها اليسرى داخل سترتها لتخرج منها مسدسا فضيا ثم وضعته نصب عيني كريس، والذي انطلقت شهقة حادة من حلقه بمجرد أن رآه بيدها، ثم همس في توتر..

-"ما الذي ارتكبته أيتها المجنونة؟! ألم يطلب منا السيد هانسمورتن تجنبهم!"

-"لم أقتلها، تبعتها حتى حاصرتها برفقة الأميرة في مكان معزول، ثم رميت بضع طلقات كي أرى رد فعلها لحمايتها."

أرجعت أنجيلا المسدس إلى حيث اعتادت إخفاءه، ثم وضعت كفها على ذراعها اليمنى المصابة واستطردت قائلة بصوت فاتر..

-"لقد نجحتُ في دفعها لإظهار السلاح وذلك كان كافيا، لم أخطط لقتلها بعد."

-"ولكنكِ قلتِ أنها أصابتكِ بسهم، هل اكتشفَت أمرك؟"

-"كلا. إصابةٌ عشوائية موفقة لا أكثر."

أردفت أنجيلا وقد ظهر تغير طفيف على نبرة صوتها، فقد كان بها شيء من الحشرجة. نظراتها الفارغة ضاعت في شرود مؤقت، حيث لا شيء غير ذلك المشهد يتكرر للمرة الألف في ذهنها.
..

شاهدت الفتاة ذات الضفيرة القبيحة تقف على فرع الصنوبرية، ثم خلعَتْ قبعتها البيضاء عن رأسها بسرعة شديدة ورمتها في الهواء لتخترقها رصاصة طائشة، ويبدو أنها فعلت ذلك لكي تستطيع تحديد الاتجاه الذي ينطلق منه الرصاص.

انبعث بِيُسْراها قوس مضيء، لم يتفلت منها رغم أن قدمها زلَّتْ فإذا بها تفقد توازنها على فرع الشجرة لتنهار نحو الأسفل في لمح البصر، في تلك اللحظة لم تأبه أنجيلا سوى لشيء واحد وهو الانسحاب بأسرع ما يمكن بعد أن رأت القوس بعينيها وتحققت من أن الفتاة التي تظهر برفقة الأميرة كثيرا هي حاملة القوس، غير أنها لم تضع بالحسبان أبدا أن تلك الأعين البرتقالية قد ظلت تترصدها حتى اللحظة الأخيرة..

هي لم تكن منشغلة بأمر الأرض التي يوشك رأسها على الاصطدام بها والتفتت في أي لحظة، أو صوت صراخ رفيقتها الأخرى المتمسكة بجذع الشجرة في الأعلى، بقدر ما كانت تصب تركيزها كله على ظل أنجيلا التي ولحسن حظها كان تخفي وجهها بقلنسوة سترتها.

وتر القوس بين أطراف أصابعها كان قد اتخذ موقعه بالفعل لينطلق ذلك السهم الوحيد بسرعة هائلة، لم تدركه أنجيلا إلا وهو مخترق كتفها بعنف.

كانت ستتمزق لأشلاء لو أن السهم لم يختف قبل أن يعبر من الجهة الثانية، فقد تلاشى بمجرد أن لامسها، سرعة اندفاعه وحدها كان كفيلة بإحداث شرخ فظيع جعل دماء أنجيلا تتقاطر بلا توقف.

وعندما بلغت بها الدهشة حدا جعلها تنظر مرة أخيرة للخلف، رأت حاملة القوس وقد اختفى سلاحها من يدها، أما هي بالذات فكان لا يفصل بين حد أنفها وسطح الأرض سوى سنتيميترات ضئيلة، معلقة في الهواء بغلاف شفاف يضيء حدود جسدها ويمنعها من السقوط أرضا.

..

رفرفت رموش أنجيلا الذهبية عندما انتهى ذلك الشريط من ذاكرتها، ثم التفتت نحو كريس وسألته..

-"هل عثرت على شيء؟"

فأجاب كريس محركا رأسه يمينا وشمالا..

-"نحن نبحث منذ شهر وكل ما وجدناه هو كتب بطلاسم غير مفهومة. لا شيء عن الأسلحة أو الكائنات الأسطورية التي ذكرها السيد هانسمورتن."

اتكأت من دون عناء على يدها اليسرى وقامت من مكانها، بينما تبعها كريس بعينيه دون أن يقول شيئا.

أراد منها أن تشرح أكثر عن ما حدث معها، فهو إلى الآن لم يحصل من تجميعه لأقوال أنجيلا المختصرة على التصور الكامل الذي كان يرغب به، إلا أنه لم ينكر ثقته بأنها تعرف ما تفعل، فتلك الفتاة المخيفة على حد قوله لا ترتكب أخطاء أبدا.

كما أن هناك شيئا لا يخفى عنه أبدا، حين ترفض أنجيلا الكلام فلن يستطيع أحد إجبارها على التحدث. لذلك فقد الأمل من تلقي أي تفاصيل منها.

وريثما هو يتحسر بينه وبين نفسه على افتقاره لأي فرصة كي يشفي فضوله، وقع أحد الكتب مصدرا صفعة صاخبة على الأرض جعلته يفزع.

-"لِمَ فعلتِ هذا؟!"

هتف ظنا أنها أوقعت الكتاب من رفه عمدا، ولكنه أصيب بالجزع عندما نظر إلى وجهها الممتقع الشاحب فيما تصارع للوقوف، تلك النتيجة الحتمية لفقدانها كمية معتبرة من الدماء.

كانت تحاول سحب كتاب ما كي تشرع في قراءته بدلا من تضييع الوقت، ولكن الدوار أتى عليها فأفلتته سهوا.

-"من الأفضل أن تعودي إلى المسكن، يبدو أنك بحاجة للراحة."

خاطبها كريس بقلق بعد أن تراجعت عن نيتها في سحب كتاب آخر وعادت للجلوس، لتردف بطريقتها المعتادة..

-"لا تملِ علي ما أفعله."

ثم التقطت كتابا من الأرض وشرعت تطالعه متناسية وجود كريس في المكان أساسا.

تنهد الفتى في إحباط وقرر أن ينهمك بفعل المثل حتى لا تشي أنجيلا بإهماله كما يخشى، ولكنه ما فتئ أن ارتفع حاجباه وتهللت عيناه اللتان تشبهان قرصين دقيقين من حلوى الكراميل اللامعة، بمجرد أن لمح عنوان المجلد الذي أوقعته أنجيلا.

التقطه من الأرض وقرأه بإمعان حتى يتأكد من أنه أخيرا عثر على عنوان يدور في حدود المحتوى الذي أُرسل هو أنجيلا للبحث عنه.

كان له عنوان كبير مكتوب بلغة غير مفهومة وغير مألوفة، فلا أحد من الكتب الأخرى احتوى على طريقة مشابهة في الكتابة، ولكن ما أبهج كريس هو أنه استطاع قراءة العنوان الثانوي المكتوب بحجم صغير أسفل العنوان غير المقروء؛ "البوابة المُحرَّمة".

-"انظري إلى هذا!"

صاح كريس في حماسة مقحما المجلد في وجه أنجيلا بيديه الاثنتين. هي لم تُبدِ أي انفعال، ولكن همته لم تنطفئ بل تابع موضحا لها سبب سعادته..

-"انظري إلى العنوان! هذا الكتاب يتحدث عن البوابات والسحر على ما يبدو، إنه مثلما وصفه لنا هانسمورتن بالضبط!"

اتسعت عين أنجيلا باهتمام حين أردفت..

-"تحقق من محتواه. وعلينا إيجاد كتب أخرى مشابهة."

هز كريس رأسه إيجابا وفتحه ليحدق في كلمات الكتاب باهتمام شديد لأول مرة، وما دفعه للاستمرار هو أن الصفحات الأولى كلها مكتوبة بلغة مفهومة، لم يضايقه شيء غير أن محتويات الكتاب كلها مدونة بخط اليد، ليس بعسير القراءة ولكن كريس الذي حاله من حال جينوا، لم يقرأ كتابا في حياته وفضل لو أنه بدأ بشيء بسيط مثل قصة للأطفال مكتوبة بخط مطبوع عملاق.

ورغم ذلك، فإن هذه العقبة الطفيفة لم تقوض عزيمته، فريثما شرع بتقليب عينيه بين تلك السطور الكثيرة، استعاد كل كلمة قالها له الحاكم هانسمورتن ذو القناع الفضي بنبرته التي تمازج بين اللطف والحزم على نحو ينشرح له الصدر، عندما زاره هو وأنجيلا برفقة المدعو "ديفا" منذ حوالي الشهرين، أين وضح لهما دوافعه من وراء إرسالهما إلى فيلدسباث.

..

-"المخطوطة. إنها الآن بلا شك بين دفتي أحد كتب الخيمياء المحفوظة في أرشيف المكتبة التي بنتها إيفيلين بنفسها، فحسب ما جاء في كتابها، فإنها قد دفنت المخطوطة في المكان الذي عاشت فيه بقية حياتها حتى توفيت، فيلدسباث."

كان صاحب القناع الفضي ما يزال يقف مواجها ضيوفه بظهره، عندما تابع موضحا..

-"ابحثا في كل كتاب، فحتى وإن لم تكن المخطوطة في الأرشيف، فلا شك أنهم سيلجؤون إلى إخفائها باستعمال الطرق المحرمة. ولسنا في غنى عن كتب الخيمياء والسحر فستعثران على كم وفير منها بين ثنايا تلك الأرفف قطعا."

بين كل معلومة وأخرى، كان هانسمورتن يفرض بعض السكينة كي يمنح مستمعيه قسطا من الراحة حتى يستوعبوا كلماته بحذافيرها، فبعد ثوانٍ معدودة تابع مجددا..

-"أسلحة ليتوفيتشينكو الفائقة هي أغراض بالغة القوة، إنها خطيرة للغاية إضافة إلى قدرة التنسيق الرئيسية التي تُعَد أسوء بمراحل، وهذه القوة هي سحر بالكامل. إن معلوماتي متواضعة، فأنا لم أكن في وضع يسمح لي بالتعمق في دراستها، ولكن أستطيع أن أحصر المعلومات الكافية كي نعثر على المخطوطة، فهي السبيل الوحيد لتقييد هذه القوى الغاشمة التي لن ندري من قد يستغلها للعبث بأرضنا الغالية."

نفض هانسمورتن بعض خصلات شعره الذهبي متوسط الطول عن كتفه، ثم التفت للجانب نصف التفاتة واستطرد..

-"لقد لجأ فينسنت ليتوفيتشينكو إلى استعمال أختام محرمة، فقد استدعى أرواحا شريرة من عوالم أخرى إلى عالمنا عبر بوابات مجهولة الخصائص، واستغلها في لعن الدماء الملكية بتلك القوى الغامضة. لذا فأريدكما أن تدونا كل ما تقع عليه يداكما من معلومات تدور في فلك هذه الأمور."

في ذلك الحين كان كريس كالأطرش في الزفة، فرغم أنه حفظ كل حرف مما سمعه لشدة حرصه، إلا أنه لم يستوعب شيئا، حتى حانت هذه اللحظة التي وقع فيها ذلك الكتاب المحظوظ بين يديه.

-"إن الأمر الثاني الذي أريد منكما التحقق منه هو، هويات أفراد الجيل السادس. يمكنكم تحديدهم باتباع علامات محددة، سيكونون أشخاصا من محيط أناركا الأشد قربا، هناك احتمال أن يكونوا أشخاصا بالغين، ولكن الأرجح إلى شكوكي هو أنهم سيكونون في حدود سنها. كلها احتمالات واردة لذلك ضعا هذا بالحسبان. العلامة الثانية هي أن تريا الأسلحة بأم عينيكما، إنها مميزة وتصدر إضاءات خافتة، سيكون من السهل تمييزها، والأهم من هذا-"

صحيح أن القناع لم يكن يُظهر شيئا من وجه هانسمورتن، ولكن التفاته المريب ثم تسليطه لأنظاره على وجهي كل من كريس وأنجيلا الذين جلسا مقابلين له، ونبرته التي انقلبت بشكل غير معقول إلى درجة مخيفة من التهديد قد نسفت كل الطمأنينة التي زرعها فيهما بلهجته اللطيفة السابقة.

مد كفه نصب أعينهما، ثم ضمها بقوة حتى أحدثت أصابعه فرقعة، وكأنه يشير إلى رغبة جامحة منه في سحق رأس أحدهم بتلك القبضة. وحشرج صوته الصارم منذرا..

-"إياكما، ثم إياكما، أن تزهقا روحًا. أنجزا المهمتين بكل السبل التي تناسبكما ولكن، إياكما والعبث بروح بشري. أرجو أن مقصدي واضح كفايةً."

..
امتعضت ملامح كريس، عندما تذكر تلك النبرة التي أُنذِر بها هو وأنجيلا من ارتكاب الخطأ الذي أوشكت ترتكبه هذه الأخيرة عند ملاحقتها لجينوا وإيفا.

ولكنه تنهد مزيلا من رأسه ذلك الهاجس ما دامت الأمور قد انتهت على خير، ثم تابع القراءة بنفس العزيمة التي بدأ بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التفت الجميع بمن فيهم ماديسون التي تقرحت أجفانها، نحو إيفا التي اصفر وجهها وانتشر رعاش حاد عبر أطرافها في تلك اللحظة.

لم تنبس شفتاها بحرف و ظلت تبادلهم نظرات الحسرة التي تشاركها أربعتهم، منتظرة التكملة من والدها، أرنست الذي استجمع كل شجاعته وحدق في عينيها مباشرة.

-" في ذلك اليوم المشؤوم، وصلنا متأخرين للغاية. كان جانب كبير من القصر منهارا و أخذت النيران تلتهمه من كل الجِهات.."

لم يستطع أرنست أن يستمر في مواجهة إيفا وتلك الأشياء تتسلل من بين شفتيه لأول مرة، صورتها قد أصبحت ضبابية جدا، كما توقع تماما أن يحدث معه. اضطر لدعك عينيه قليلا حتى انزاحت الغمامة عن بصره ثم انهمك بالحديث مجددا..

-"اهتاج الخدم وأهل القصر جراء الحريق والدمار الذي حل بالمكان في ساعة متأخرة من الليل، انشغل الكل بالفرار ولم يكن هناك سوى شخص واحد آثر حياة أخرى على حياته الخاصة، فرغم أنه لم يستطع إنقاذ دانيال أو صوفي يومها، إلا أنه خرج مقتحما ألسنة اللهب حاملا بيده طفلتهما الوحيدة سالمة معافاة. وهو الآخر، رغم إصابته بحروق متفاوتة عقِب ذلك إلا أنه نجى. كان ذلك سكوت تنغستن ابن عم دانيال الوحيد. أنقذ حياة الأميرة، ولكنه لم يحظَ بالفضل كله في نهاية المطاف. عندما لم يستطيعوا العثور على جثته، اعتُبِر مفقودا بحكم أنه مستهدف أيضا لأنه من الأسرة الحاكمة. حينها كنا نحن فقط، وعدد قليل من الأشخاص الموثوقين من نعلم بأنه على قيد الحياة، وبما أنه الفرد الأخير المتبقي من عائلة الأميرة، فقد رغب في الاعتناء بها بنفسه، ولكن ذلك مع الأسف كان آخر ما يستطيع فعله، فبغض النظر عن حالة الصدمة التي أوشكت تدفعه للجنون، كان إصراره على رد الدين لمرتكب تلك الجريمة عقبة أخرى في وجه رغبته بتربية أناركا. اضطر للتخلي عن هذا الأمر لصالحها، وسلمها إلينا كي نأخذها كابنة لنا ونخفي هويتها، وكذلك من أجل أن تعيش طفولة طبيعية بعيدا عن مؤامرات العرش ومطاردات المغتالين، أما هو فسخر حياته ووقته لأجل الانتقام لأسرته واستعادة حق أناركا في تسلم الحكم بعد والدها الراحل. حتى أنه تخلى عن أحقيته في هذا الأمر الأخير، فباعتبار أناركا ميتة كما أشيع، فإن سكوت كان الوريث التالي كما هو متعارف عليه، كان بوسعه الاستيلاء على عرش المملكة دون أي عائق. ولكنه تخلى عن المنصب كالأحمق وقرر أن يسلك الطرق الملتوية للنيل من الذين كانوا سببا في ما حدث. وبسبب قراره المتهور هذا، أضحت إيلدينغار بلا ملك يحكمها حتى هذه اللحظة.."

تنهد أرنست ثم نظر مجددا نحو إيفا التي تذابلت ملامحها البريئة على نحو يحز في النفس، وتابع موجها حديثه إلى صميمها مباشرة..

-"استمعي إلي يا صغيرتي، إنكِ لستِ إيفا سييف، هذا الاسم لم يكن سوى أداة لحمايتك. أنتِ أناركا، السليلة الأخيرة لأسرة تنغستن الحاكمة وأميرة إيلدينغار، وريثة عرشها الشرعية. وسكوت تنغستن هو ابن عم والدك الذي كان يعده كأخيه من لحمه ودمه، وهو أشد حرصا عليك أكثر مما تتصورين. أما أنا.."

ارتبك أرنست قبل التلفظ بذلك، ولكنه شعر بحاجته الشديدة إلى قولها في وجه إيفا، فأعلن بعد تردد..

-"كنتُ أمتلكُ القوة، أمتلك سلاحا وكان يفترض بي أن أؤدي مهمتي في حماية ولي العهد، صديقي دانيال وأخي الذي لم تلده أمي وأن أفديه بدمائي، ولكنني لم أفلح.."

تآكلت الكلمات عند طرف لسانه، لم يستطع أرنست البوح إلا وقد ألفى عينيه تجمعان أثقالا من الدموع جعلت الصورة الضبابية التي تتشكل في العادة على مقلتيه أسوء وأعتم بأضعاف.

-"آسف يا ابنتي، لقد خذلتُ والديكِ وخذلتكْ."

راح صوته يتلاشى جراء غصة الندم التي اعترضته عن النطق، وفي الوقت ذاته أكثر انشراحا عندما استسلم لعواطفه وقال ما كان بخاطره، ثم أحبط بصره إلى الأسفل مُحاولا تصيد تلك العَبَرات الضئيلة التي أوشكت تغادر عينيه قبل أن تتجرأ وتفعل.

على نقيض ماديسون التي ذرفت دموعا غزيرة، ولم يكن حالها إلا من حال زوجها كونها هي الأخرى وقفت يومها عاجزة كأن بها هوانا وضعفا فاحشا، حتى أن كلماته قد وخزت فؤادها كالسكاكين.

عندها لم تُطِق إيفا الصمت والاستماع لذلك دون قول شيء.
اعتصر نبضُ قلبها العنيف أنفاسَها، احتشدت قبضتاها، ووجهها المتأثر أصبح مليئا بالرجاء حين ناظرت والديها بأعين دامعة وحركت شفتيها لتقول..

-"كَوْني أناركا تنغستن لا يمنعني من أن أكون إيفا سييف أيضا، ذلك لا يعني أنني لا يجب أن أكون ابنتكما..!"

بالكاد نطقت ذلك حتى انفجرت مدامعها، تعثرت كلماتها وصارت عسيرة الفهم بسبب ابتلاعها الحروف وتوقفها لالتقاط أنفاسها المحتقنة بين كل عبارة والتي تليها..

-"لماذا تعتذر إلي؟ أنا لم أعرف والدين لي في هذه الحياة غيركما-"

أجهشت بالبكاء كأن أحدا أبرحها ضربا، ولم يحتوي ذلك الانفعال سوى انتفاض ماديسون إليها، عانقتها وانتحبت الاثنتان في أحضان متبادلة لبعض الوقت.

انتاب أرنست الدوار والصداع، وغمرته الحيرة جراء النواح الذي آلت إليه الأمور بشكل لم يخطط لحدوثه إطلاقا، فقرر أن ينضم ليخفف عن إيفا هو الآخر.

بعد برهة من الصمت تخافتت أصوات البكاء، عندها تذكر الجميع أمر جينوا التي كانت معهم منذ البداية وفقدوا الإحساس بوجودها.

لقد لفت صوت أنفها الجاري انتباههم فدهشوا من منظرها المزري.

كانت تغطي عينيها بمرفقها، تتمتم لنفسها بصوت منخفض..

-"بئسا، هذا لا يطاق."

هي لم تقل ذلك على سبيل التعاطف، وإنما تعبيرا عن حنقها الشديد من تسببهم في جعلها تتعاطف رغما عنها.

تكلمت ماديسون نية الاطمئنان عليها، ريثما تنتهي من مسح بقايا الدموع من عينيها بحركة من سبابتها..

-"جينوا عزيزتي، هل أنتِ بخير؟"

أبعدت جينوا مرفقها عن وجهها لتظهر عيناها الدامعتان، وهتفت دون تفكير..

-"يا إلهي لم أبكِ منذ ثلاث سنوات، أشعر أنني سأعمى!"

كشرت ماديسون عن أسنانها وضحكت بقوة، ثم عقبت..

-"ليس هنالك مشكلة في البكاء من حين لآخر."

-"من حين لآخر؟ لقد أمضيتِ اليوم بطوله تبكين."

تدخل أرنست متهكما، فطاوعت ماديسون سخريته برحابة..

-"بكيتَ أيضا يا حبيبي، لقد رأيتك."

-"تتوهمين يا واهمة."

تشتت الرجل من إصرار ماديسون المُحرِج على مضايقته، فيما ازدرت جينوا المنظرَ دون حياء ونبست بشفاه ملتوية..

-"يا للابتذال، سوف أتقيأ."

ثم فركت أجفانها بعنف حتى تتخلص من آثار البكاء، صنعت أقبح تجهُم ممكن وفرقت الجميع بصياحها..

-"اسمعا! لقد جئت إلى هنا لأحصل على إجابات وليس لأبكي. أخبراني ما الذي يجري بحق.. بحق.. ستدفعونني لقول كلام فاحش!"

ما تزال وقاحتها العفوية تدفع ماديسون للضحك، أما أرنست فأصبح يفكر بجدية في رميها من الشباك.
..

انصرفن جميعا إلى أماكنهن، فيما اتجه أرنست نحو رف الكتب ومد يده ليسحب واحدا؛ كان موضوعا في زاوية وحده بعيدا عن بقية الكتب، مما أعطى لجينوا فكرة مناسبة على أنه أشد أهمية من غيره.

استمرت مثلها مثل إيفا في تتبع أرنست بعينيهما حتى عاد للجلوس. ثم إنه لم يتلكأ بل دخل في صلب الموضوع مباشرة..

-"إن هذه القدرة التي تمتلكها إيفا هي قدرة تنسيق، ولها علاقة مباشرة بكونها تحمل دماء ملكيةلأنها تنتقل تلقائيا إلى ولي العهد التالي بعد وفاة حاملها السابق. أي أنها لا تُتَوارث عشوائيا، وإيفا قد ورِثتها من والدها بعد أن توفي مباشرة.."

-"ورِثَتها عنه وهي في الرابعة؟"

استفسرت جينوا إزاء إحساسها بالغرابة، فإيفا قالت لها بنفسها أنها لم تشعر بامتلاكها أي قدرات خارقة قبل ما لا يزيد عن ثلاث سنوات، أي عندما كانت في الحادية عشرة تحديدا.

-"هذا صحيح، ولكن يكاد يكون استخدامها للقدرة منعدما، كما أنها كانت تحت مراقبتنا معظم الوقت حتى نحرص على عدم اكتشافها لأمر القدرة، رغم أن هذا لا يفسر لي حرفيا سبب تأخرها في التحكم بها، فدانيال مثلا استطاع التحكم بها بمنتهى السهولة عندما ورثها مباشرة بعد موت الملك والده وهو في الحادية والعشرين من عمره."

-"ربما لأنني كنت صغيرة جدا."

نظر الجميع إلى إيفا التي استطردت ملقية بتوقعها..

-"أليست هذه القدرة تحتاج إلى تدريب حتى أستطيع التحكم بها؟ ما زلت إلى الآن لا أتقنها."

حرك أرنست رأسه نافيا، ثم عقب..

-"كلا، قدرتكِ ليست مثل الأسلحة، إنها لا تحتاج إلى أي تدريب يُذكر. يكفي أن تفكري فيما تريدينه، تعمل كل خصائصها بهذه البساطة."

أمالت إيفا رأسها للجانب وقالت في تساؤل..

-"خصائص؟"

-"نعم، لقدرتك خاصيتان. الخاصية الثانوية وهي القدرة على العبث بجاذبية الأجسام، والخاصية الأساسية والأكثر أهمية، وهي التي وُجِدت لأجلها قدرتكِ بالأساس؛ التصرف في الأسلحة الفائقة التي ذكرتُها آنفا، وأعني بها السلاح الذي تملكينه يا جينوا، والأسلحة التي يحملها من هم معك."

بالنسبة لإيفا فقد فوجئت بعض الشيء لدى معرفتها بأن لقدرتها علاقة مباشرة بالأسلحة، بينما تمددت شفتا جينوا لترسما ابتسامة عريضة، فأخيرا صدق توقعها بشأن ذلك الترابط.

-"كنتُ أعرف! أخبرتك يا إيفا أن قواك تابعة للأسلحة بشكل ما."

-"بل الأسلحة هي التابعة لقدرة إيفا، إنها هي من تحدد الأشخاص المحتملين لحيازتها، وهي من تسحبها من حاملها إذا لم يكن كفؤا، كما تستطيع التبديل بين الأسلحة في حال ما إذا رفض أحد حامليها أن يحوز أحدها."

-"إذن على أي أساس يتم اختيار الحاملين؟"

ضيق أرنست عينيه على جينوا التي طرحت السؤال مليا، ثم التفت نحو إيفا وأردف..

-"سؤال وجيه، لماذا جعلتِها تأخذ القوس يا إيفا؟"

-"أنا فعلتُ ذلك؟"

-"ما أدراني، ألستِ تثقين بجينوا؟"

التفتت إيفا إلى جينوا ورمقتها من الأعلى الأسفل، ثم نظرت في وجه أرنست وأردفت في ثقة..

-"نعم، أنا أفعل."

-"ماذا عن الخمسة الآخرين. الذين يحملون بقية الأسلحة، أتثقين بهم؟"

ازدادت إيفا استغرابا ولكنها أجابت مباشرة هذه المرة..

-"أجل. حسب ما أعتقد، لماذا؟"

-"هذا كل ما في الأمر، عندما يصل حامل قدرة التنسيق الرئيسية إلى مرحلة حيث يقابل فيها أكثر الأشخاص الموثوقين، تتصرف القدرة تلقائيا لتوزع عليهم الأسلحة، وفي حال ما إذا كان هناك خلل ما أو أن الأسلحة لا تلائمهم، يستطيع مستخدم القدرة أن يغير بعض الأشياء البسيطة. إلا أن هذا لم يحدث قبلا بكل الأحوال، فدائما ما تقع كل الأسلحة في يد من يستحقها."

-"لقد فهمت."

أردفت إيفا بتفَهُّم شديد، أما جينوا فبدت خائبة الظن بعض الشيء، فهي لم تتوقع أن الأمر بتلك البساطة والــعشوائية.

ولكن ذلك لم يُثنها عن طرح المزيد من الأسئلة، فبادرت إلى السؤال وفي عينيها ترقب شديد للإجابة..

-"إذا كان لا بد من أن تحصل إيفا على رابطة ثقة لا تهتز مع ستة أشخاص آخرين حتى توزع قدرتُها الأسلحة عليهم، لماذا حدث هذا سلفا مع خمسة أشخاص فقط؟"

فوجئت إيفا بالملاحظة، فهي لم تنتبه أبدا للأعداد التي كان يذكرها والداها، سبعة عند احتسابها هي مع حاملي الأسلحة، وخمسة حين يزيلها أرنست هي وجينوا من الحساب. أي أنه قد كان هناك شخص إضافي في حساباته طوال هذا الوقت.

أما أرنست فاكتفى بتعبير سطحي جدا عن الحيرة، فقد اعتقد من ناحيته أن جينوا تخلط بين الأعداد لذا سألها توضيحًا..

-"ماذا تعنين؟ الأسلحة ستة. لذا فحاملوها ستة، هذا بديهي."

-"لستُ أمزح، نحن خمسة فقط عند عدم احتساب إيفا."

-"أيها ناقص؟"

سأل أرنست مجددا، وقد أصبح يترصد جينوا بحدة، هذه الأخيرة بدأت تشعر بالتوتر فهو يضعها نصب عينيه كأنه يستجوبها بشأن جريمة ما.

-"ومن أين لي أن أعلم؟! لقد قلت كل ما أعرفه بالفعل!"

ثم رفعت أصابع يدها الخمسة وبدأت في العد، فيما امتقع وجه أرنست أكثر فأكثر كلما اقتربت من الانتهاء..

-"القوس، السيف، البندقية، الخنجر، والفأس، هذا كل شيء."

شعر أرنست وكأن هناك من ركله من قمة جبل حين سمع ذلك، فانتفض مستنكرا..

-"والرمح؟! نسيتِ الرمح!"

عم الصمت وجعل الجميع يحدقون في بعضهم في صدمة دون أن يتفوهوا بحرف، أرنست مصدوم لأن جينوا تقول وتؤكد أن لا حامل رمح بينهم، وجينوا مصدومة لأن أرنست يقول ويؤكد أن هناك رمحا، أما إيفا فكانت تشعر بالصدمة لأن جينوا تشعر بالصدمة بسبب شعور أرنست بالصدمة. ماديسون ابتسمت كأن لا شيء من ذلك يعنيها.

-"تمهل! كان هناك رمح بالفعل؟! كنت أعرف مجددا!"

خَضَّت إيفا من ياقتها على سبيل الاحتفال بينما تصرخ..

-"كان هناك رمح منذ البداية يا إيفا! لماذا تحققت جميع توقعاتي بالعكس؟!"

هدأت جينوا ثم أفلتت إيفا التي أصيبت بالدوار، لتقول بصوت باهت لشعورها بشيء من العار كون لا توَقُّعا من توقعاتها تحقق غيرُ واحد..

-"على الأقل تفوهتُ بشيء واحد صحيح. وبما أن علي عكس كل شيء ليصبح صحيحا فَـ.."

التفتت إلى أرنست الذي بدى خائبا ومنزعجا جدا أثناء غرقه في التفكير بشأن رمحه المفقود، ثم تابعت قائلة شيئا لفت انتباهه..

-"ما دامت الأسلحة الثلاثة المذكورة في أسطورة الحراس الثلاثة موجودة جميعا، فهذا يعني أن تلك القصة كانت حقيقية بعد كل شيء؟"

أردف أرنست ببعض الامتعاض..

-"ألم يكن هذا واضحا منذ البداية؟ أليست إيفا حاملة دم ملكي، و "وريثة العهد" المزعومة؟ أنت واحدة من الحراس لا غير. كل من حمل أحد الأسلحة فهو حارس للملك أو ولي العهد. هذا هو الهدف من وجودها أساسا."

تبادلت جينوا وإيفا النظر إلى بعضهما البعض في تعجب لبرهة من الزمن، تساءلت جينوا في ذاتها..

'حتى السيدة ماديسون؟ لا شك أنها كانت طباخة الملك. أو أنها كانت المسؤولة عن قرع طبول الحرب في حالات الحرب؟'

حملقت بماديسون في تيه، تلك السيدة الرقيقة كانت حارسة يوما؟ إنه لأمرٌ يرفض الاستقرار في عقل جينوا.

..

-"إذن، لماذا لم تتضمن القصة أي معلومات عن الأسلحة الثلاثة الأخرى، ولماذا لم يُذكر أن الأسلحة سحرية وليست عادية؟ كما أن كثيرين يقولون أن الأسلحة رغم ضعف هذه الرواية إلا أنها ما تزال موجودة ولكنها مخبأة في مكان سري لا يعلمه أحد، أتقول أن القصة حقيقية ولكنها خاطئة أو محرفة؟"

-"إنها ليست خاطئة، بل كانت صحيحة. كانت صحيحة قبل مئتي سنة من الآن، ولكنها خاطئة في وقتنا الحالي. أو بمعنى أدق، لقد تغيرت بعض الأمور ولم تعد القصة منطبقة تماما، ولم يتم تعديلها ببساطة لأن الأسلحة الجديدة وقوى التنسيق يفترض بها أن تبقى سرا لا يغادر جدران القصر الملكي."

أمسكت جينوا رأسها بامتعاض شديد، ما عادت تقوى على العثور على إجاباتٍ في كلام أرنست فكل ما يقوله لا يأتي سوى بالمزيد من الأسئلة وهو يختصر كثيرا لسبب ما.

-"لم أعد أستطيع تحديد ما الذي لا أفهمه لدرجة أنني لا أعرف أي أسئلة يُفترض بي أن أطرح. ألا يمكنكَ التوضيح أكثر قليلا؟"

ثم ضمت سبابتها وإبهامها عندما قالت ذلك إشارة إلى مقدار ضئيل يخالف الكمية الهائلة من التساؤلات التي تتراقص في ذهنها كالفراشات المبعثرة.

حاولت عدم تنفير أرنست من الإجابة، إنه كسول ومستعد للموت في سبيل النوم. وقد رد على طلبها كما خشيت بالضبط..

-"اسمعي، أنا لا أستطيع الإجابة على كل شيء- حسنا أعرف الإجابة على كل شيء نوعا ما ولكنني سئمت من التحدث وفكي يؤلمني."

ثم قام من مكانه ومدد ذراعيه وتثاءب كأنه لم ينم منذ أسبوعين، أثناء ذلك أردفت عليه والغيظ ينبعث من صوتها..

-"وماذا يفترض بي أن أفعل الآن؟!"

-"ولماذا تُرَاني أحضرت هذا؟"

نبس أرنست، ثم راقب الكتاب الذي بين يديه بنظرات تنضح حبا، كان يحب ذلك الشيء أكثر مما يحب إيفا على الأرجح.

أظهرت جينوا مقدارا من السأم في رد فعلها تجاه كتابه وقالت..

-"عجبا، كنت أتساءل أيضا."

عنوانه خيمياء ليتوفيتشينكو، ذلك الكتاب بالي المنظر متآكل الأوراق، والذي انتفخ بسبب قِدَم أوراقه فأصبح يبدو أكبر من حجمه.

-"لطالما كانت الأسلحة سرا خاصا بالأسرة الحاكمة دون غيرها، ولكن كونها سرا فهذا لا يعني طمس معالم الرحلة التي قضتها الأسلحة وهي تُتوارث من جيل إلى آخر على مدار مئتي سنة دون تسجيل أي أثر لها، بل كان يتم اختيار كاتب موثوق من طرف حامل القدرة الرئيسية، يكون مُطَّلِعًا على أحوال ذلك الجيل مُؤْتَمَنًا على صحة المعلومات كي يقوم بكتابة مقطع كامل يخص جيله. لذلك فغالبا ما كان يتم اختيار أحد حاملي الأسلحة ليكون الكاتب الذي يسجل تاريخ الجيل الذي ينتمي إليه."

استعرض أرنست الكتاب نصب عيني الفتاتين وتابع الشرح..

-"من جاء بفكرة تدوين هذا التاريخ شبه المحظور في كتاب خاص، وأول من خط حرفا على صفحاته، كانت الملكة إيفيلين تنغستن، أو كما كانت تسمى قبل زواجها بالأمير آرثر إيرهارت، إيفيلين ليتوفيتشينكو. كانت كذلك أول حاملة للقدرة الرئيسية، وهي التي أورثت دماءها القابلة لحمل القدرة إلى بقية سلالتها."

تلك المرأة التي تحدث عنها أرنست، هي جدة إيفا الكبرى. هذه المعلومة قد أدركتها إيفا بسرعة وجعلتها تصغي باهتمام أشد.

-"سأعيره لكما لبضع دقائق فقط، وأريد منكما أن تقطعا لي وعدا.."

أبعدت جينوا وإيفا أنظارهما عن الكتاب ورفعتا رأسيهما نحو أرنست.

-"عداني بكل صدق، أن لا تتجاوزا الصفحات الخمسة الأولى. إياكما أن تقرآ غيرها، أهذا واضح؟"

نظرت جينوا جانبا في امتناع عن قطع أي وعد، فتكفلت إيفا بذلك قائلة..

-"نعدك، لن نقرأ غيرها."

بينما انهمكت جينوا بسحب الكتاب من يد أرنست بالفعل.

-"والآن هاته!"

بادئ الأمر كانت جينوا تحاول أخذ لكتاب من يده بهدوء، ولكنه لم يفلته. وحين رفعت رأسها لترى ما باله، ألفته مستاءً مشدود التعابير وحزين المُحَيَّا كأنها ستأخذ منه فلذة كبده وتقطعها أشلاء.

في الواقع هذا ما بدى وكأن أرنست يخشاه، أن تدمر جينوا الكتابَ بدون قصد، فهي لا تحاول أن تبدو بمظهر أقل عنفا رغم إدراكها لمخاوفه.

-"هاتِ الكتاب-؟ ما الذي- تفعله!؟"

جزت جينوا على أسنانها حين قولها ذلك، أثناء سحبها المستميت لذلك الكتاب لدرجة أنها بدأت تشعر بذراعيها تُقتلعان من مكانيهما.

أما أرنست فاستجاب برد فعل طردي مع محاولاتها، كلما شدت الكتاب نحوها أكثر كلما زاد تمسكه به، رغم أنه لم يظهر وكأنه يعاني لإبقائه بحوزته، عكس جينوا التي خارت قواها في النهاية وانزلق من يديها فجأة فأوشكت تتدحرج بعيدا.

-"فلتأخذه إيفا.."

اقترح أرنست، ثم سلم الكتاب لإيفا التي أخذته منه بحرص حتى لا يتفتت بين يديها، أما جينوا فراقبت ذلك باستهجان شديد ولم يهدأ لها بال إلا وهي تستنكر فعلة أرنست..

-"إنه مجرد كتاب لماذا تظن أنني سوف آكله؟!"

لكن أرنست تجاهلها وهم بالمغادرة بالفعل، واقتضب قولا قبل أن ينصرف..

-"تذكرا، لا تقرآ شيئا غير المقدمة فهي ستجيب عن تساؤلاتكما كلها، وعندما تنتهيان أعيدا الكتاب إلى مكانه."

ثم أشار بِبَنانه للرف الذي أخذه منه، بعدها نزل السلالم واختفى عن الأنظار.

-"سأنزل أنا أيضا، اتركا المكان مرتبا عندما تنتهيان، ولا تنسيا إغلاق الباب خلفكما."

نبست ماديسون بهدوء، ثم غادرت هي الأخرى..
لا بد أن عبارة 'اتركوا المكان مرتبا' دائما على طرف لسانها وإلا؛ كيف تسألهما ترك ذلك المكان المنكوب مرتبا.

..

لم تصبر جينوا ثانية واحدة حتى امتدت يدها لتنشل الكتاب من إيفا بعنف.

-"أعطني هذا الشيء!"

رفعته نصب عينيها وحدقت فيه مليا، وكانت قد همست لها مقللة من شأنه ربما بسبب مظهره المتهالك..

-"لماذا لا يُريدنا أن نقرأه، ما الذي يحتويه مثلا؟"

ثم فتحته على الصفحة الأولى وشرعت بالفعل في قراءته، حتى قاطعتها إيفا بحمحمة محتقنة واستطردت..

-"كان بابا محقا عندما لم يسمح لك بلمسه، لن يعيش لساعة أخرى وأنت تحملينه بهذا الإهمال!"

أخذت الكتاب من يد جينوا ووضعته بهدوء على الطاولة، ثم أشارت لها بالجلوس بجانبها على أحد المقاعد الجانبية بينما توجهها بصرامة.

-"ما رأيك بأن تضعيه على الطاولة هكذا، نستطيع قراءته معًا. والآن خذي مكانا وكفي عن التحديق بي."

رفعت جينوا ذقنها ونفثت الهواء بتفاخر، وتعمدت التأخر قليلا عن تنفيذ طلبات إيفا حتى لا تجعل نفسها وكأنها أقل مكانة منها أو أنها ستجلس فقط لأن إيفا أمرت بذلك.

-"لا تبدئي بإلقاء الأوامر من الآن."

انعقد حاجبا إيفا في استغراب، رغم أنها تعلم أن ما ترمي إليه جينوا هو إغاظتها لا غير.

-"ماذا تعنين؟ أنا لم أُلقِ أية أوامر."

ثم أمالت شفتها في امتعاض متجنبة النظر في وجه جينوا وهي على ثقة بأنها ستنفجر ضاحكة في وجهها وتُحَمِّمُها بِرِيقِها، أو أنها ستجد غرضها من جعلها منزعجة فتبدأ بإلقاء الدعابات المقيتة وتضيع وقتها كالمعتاد.

ولكنها لم تستطع ثني عنقها بعيدا عن جينوا لوقت أطول، فصوت هذه الأخيرة قد خرس تماما دون سبب وجيه مثيرا في نفس إيفا حيرة وريبة، لذا التفتت نحوها لترى ما أمرها.

قد لا يحدث هذا كثيرا، بل نادرا جدا. ولكن، حاجباها المرصوصان ببعضهما البعض طول ما طال نبض قلبها، وتعبيراتها المتجهمة التي تجعل كل من يراها يستغرب كيف لا تؤلمها عضلات وجهها جراء ذلك، كلها تلاشت وأضحت ابتسامة باهتة مكانها.

حاجباها انخفضا وتلين وجهها بعيدا كل البعد عن الحدة التي تظهرها في المعتاد.

اعتقدت إيفا للحظة أنها تحدق إلى شخص مختلف، تعلم في قرارة نفسها أنه مألوف، ليس مألوفا لأنه وجه صديقتها التي تألفها أكثر من أي شيء آخر، بل مألوف لأنها رأت الملامح ذاتها في وجه آخر غير وجه جينوا.

مضت في شرود تحملق في تعبيرها الراكد، فإذا بهذه الأخيرة تجفل فجأة وتشد ملامح وجهها مجددا بعد أن أدركت أنها تبتسم كالخرقاء.

باشرت إلى صب اهتمامها على الكتاب مجددا واستهلت..

-"علينا الانتهاء من قراءته بسرعة."

وبعد ارتباك بسيط، تفهمت إيفا أنها لا تبدو كمن يود النقاش حيال ما دهاها للتو.

لربما حزرت أن لحظة الهدوء التي اعترت جينوا، كانت أشبه بمحاولة للتعرف على شخص غريب، يدعى آناركا.

كانت جينوا تستطلع وجه الأميرة التي لم تكترث بأمرها يوما وبالكاد كانت تعرف اسمها، رد الفعل المذهول خاصتها ظهر متأخرا وباردا، إذ أنها ومن دون سبب؛ ليس لديها مشكلة مع الأشياء الغريبة التي علمت بأمرها توا، ولكن طالما يتعلق الأمر بإيفا؛ فهي لم تواجه مشكلة في تقبل أنها قد تكون أميرة.

أما ذلك الكتاب، فلو أن له قدمين لفر هاربا، فتلكما الاثنتان اجتمعتا فوقه ترقبانه من الأعلى بدهشة، وكلما تعدت أعينهما كلمات وأسطر أكثر كلما ازدادت اتساعا وإنكارا.

رغبتهما في أكل ذلك الكتاب ما انفكت تتضخم وتحركهما لتقلبا تلك الصفحات القليلة بسرعة شديدة.
..

انهمكت ماديسون بتجميع أكياس رقائق البطاطا التي تركتها في غرفة المعيشة في كيس بلاستيكي أكبر حجما، بينما أرنست على الأريكة يقحم وجهه وسط جريدة. كانت ماديسون تعلم أنه لا يقرأ، بل هو شارد تماما لسبب ما.

-"ما الأمر؟ تبدو شارد الذهن."

انتبه أرنست إلى صوتها فأبعد الجريدة عن وجهه ذي التعبيرات المتجهمة وتنهد مرة أفرغ فيها رئتيه تماما، ثم أردف مثيرا الأمر الذي كان يشغله..

-"ما كان علي ترك الكتاب بحوزتهما."

-"ما المانع؟ حتى وإن قرأتا الكتاب كله، لماذا منعتهما من تجاوز المقدمة؟"

طوى أرنست الجريدة ووضعها على الجانب، ثم رفع رأسه للسقف قليلا وأجاب دون أن ينقص من شعوره بالقلق شيء..

-"المشكلة ليست في إيفا. لو طلَبَتْ مني أن أتركها تقرأه بمفردها لما مانَعْتُ، ولكن جينوا هي المشكلة. لا أستطيع تركها تعلم بأمر عهد أليسيا سيلفاني."

..

-"جينوا لا تفعلي لقد قطعنا وعدا!"

أوشكت جينوا تقلب الصفحة الخامسة، حتى أنها شعرت بأنها ستتشنج إذا لم تقلب تلك الصفحة، ولكنها زفرت في استسلام وطوت دفة الكتاب قبل أن تفعل ذلك.

-"ماذا نفعل الآن؟"

تساءلت إيفا، عندها لم تتلكأ جينوا في إعطائها جوابا بسيطا شافيا..

-"سنخبر الجميع، أريد أن أتذاكى عليهم."

اهتز حاجبا إيفا في تحيُّر أشد، لتعقب في وجه جينوا ببعض الاندفاع..

-"لماذا أنتِ مستعجلة، ستبوحين بكل شيء؟"

-"طبعا!"

تناولت جينوا الكتاب من الطاولة، ثم نفضت صفحاته عبثيا وتابعت بثقة شديدة..

-"من حقهم أن يعلموا، ووالداك لم يمانعا إخباري، إذن لن يمانعا أن يعرف 'الحراس الآخرون'. أما هذا الكتاب سوف نأخذه أيضا-"

قطعت جينوا كلامها وانشغلت بتتبع قصاصة من الورق وقعت من الكتاب لما نفضت أوراقه.

تدلت تلك القصاصة ببطء بين طبقات الهواء حتى استقرت على الأرض قريبا من جينوا، فمدت يدها لالتقاطها.

وهناك، لم تشعر بنفسها إلا وهي تجفل.

-"ما تلك الورقة يا جينوا؟"

-"ويلي، هذا عظيم!"

ضجت جينوا في سعادة، ثم اعتدلت وسارعت لإعادة القصاصة إلى مكانها بين صفحات الكتاب.

أتمت قولها بنبرة غامضة، وعيناها مثبتتان على غلاف الكتاب ذي اللون البني الشبيه بالخشب المحترق..

-"أشعر أنني أعرف كل شيء!"
.
.
.
.......
5259 كلمة 📕

Continua llegint

You'll Also Like

2.5K 521 23
ماذا لو كان العالم واقعاً تحت رحمة الشياطين ونحن مخدوعين؟ ماذا لو كان هناك مخلوقات خيالية تعيش معنا؟ هل سنعيش في وئام ام في خصام؟ ماالذي يخبئه لنا عا...
64.6K 3.8K 77
تنتقل كايتلنيل مع ممن تبقى من عائلتها لمدينة جديدة لتكتشف في أول يوم في الجامعة مجموعة غريبة من الطلاب يتحدثون بالكثير من الأسرار المخيفة و الدموية...
724K 42.8K 50
هي الأفضل لكنها الأسوأ إنها مثالية لكن متناقضة هي جيدة لكن الظلام داخلها هي ألفا قوية ولن تقبل سوى بالفا يستطيع مجاراتها رفضت البحث عنه خشية أن تض...
84.7K 7.6K 43
.. "اسرق ما تشاء طالما هي أمور حسية" .. نشرت في يوم الثلاثاء : الموافق : ٢٦ يونيو ٢٠١٨م ١٢ شوال ١٤٣٩هـ انتهت في يوم الخميس : الموافق : ٧ فبراير ٢٠...