الفصل الثامن عشر
استيقظت على صوت هديل تهزني :
ـ علا ارجوك ما الذي حدث لك ؟
ـ صباح الخير هديل .
ـ مساء النور يا صديقتي . تحركي ! ما هذا المرض الذي يطرحك في السرير لثلاثة أيام ؟!
ـ هديل ، اتركيني لانام قليلاً !
سحبت هديل الغطاء وهي تحثني على الاستيقاظ. خلال تلك الفترة ، كانت خالتي توقظني لأتناول الدواء والحساء واعود لأنام من جديد. لم يضايقني احد، بالعكس . وكنت لا اقوَ على النزول الى الطابق الأسفل .
حضر الطبيب لغرفتي ومعه طارق وقال اني اعاني من التهاب القصبات الهوائية وكتب لي مجموعه من الحقن . وحسب توصياته فيجب عليّ الراحه التامه .
طارق كان يدخل أحيانا ليطمئن علي هو و والدته وهديل . حاولت ان اترك السرير فانا اكره ان أكون طريحه الفراش ولكن جسدي كان متعبا . لكن اليوم اشعر وكأني افضل قليلا وتلك الفتاه تسحب الغطاء وتحاول اجباري على ترك السرير.
ـ هديل ، لمَ لا تذهبين لمراجعة دروسك وانا سأغادر السرير فور خروجك .
ـ لا يكفي يا علا . انا افتقدك كثيرا .
ـ انا مريضه ، ابتعدي ستصابين بالعدوى !
كيف سأقنع هديل الان ان تبتعد ؟ فانا لا اريد لطارق ان يغضب . يكفى انه وعدني بالحمايه ! يجب ان احترم مشاعره وابتعد عن اخته .
ـ لا تخافي ، لن أصاب بالعدوى . طارق هو من اخبرني ان اصعد لأوقظك .
ـ طارق ؟!
ـ اجل يا علا ، ولم التعجب ؟ انه يقول اني الوحيده القادره على أيقاظ جيش بأكمله .
ضحكت لها بعفويه فأكملت :
ـ لقد قال لي بالحرف الواحد اني قادره على تغيير الطبيعه وحذف كلمه سبات من قاموس الحيوانات المسكينه ان صادفتهم في طريقي !
وهنا لم احتمل منظر هديل تجلس على سريري وهي تشابك اقدامها ، وتُصنع بوجهها حركات مثيره للضحك ، فأخذت اقهقه .
ـ النوم خساره للبشريه فما فائده النوم ؟ ها اخبريني !
هززت رأسي غير قادره على الاجابه من بين ضحكاتي .
ـ لو استطيع فقط اختراع دواء يمكن الانسان من قضاء كل وقته مستيقظا لكنت قد حققت اكبر انجاز في عالم الأرض .
ـ لولا النوم لما ضحكت علا وشاهدنا الابتسامه تزين وجهها من جديد !
توقفت ضحكاتي ورفعت نفسي لأجلس وانا استمع لطارق وهو يتكلم بثبات قرب باب غرفتي . كنت خائفه من وجود هديل قربي ولكنها هي من دخل غرفتي .
ـ كان جسد علا محتاجا للراحه ، والنوم قد جدد لها نشاطها بالكامل .
التفت لي وبابتسامه لطيفه سألني :
ـ كيف حالك اليوم ؟
ـ الحمد لله . بخير .
صوت خافت هامس أجاب فضحك لي طارق بمرح .
ـ سيكون عليك ان ترحميني من مساعدة اختي التي تملك عقلا بحجم النمله من اليوم فصاعدا .
حسنا ، لقد كنت متعجبه . لم استوعب كلماته وها هو يكمل علّ الامر يتوضح .
ـ لا اريد أي ازعاج منك يا هديل . وانت يا اخي علاء ، انا اعتمد عليك .
اخي علاء !! آخر مره نطق طارق بهذا الاسم عندما ضربت خالد ، وعندما قال لي انه فخور بي وانني شجاعه . نظرت له باستغراب وذهول شديد فغمز لي بعينه بمرح :
ـ هل أكل الفأر لسانك يا اخي علاء ؟!
ـ لربما فعل اثناء سباتها الطويل !
اجابت هديل وهي تضحك .
ـ انت اخي طارق وهي اخي علاء وانا البنت الوحيده بينكما .
ـ هذا رائع .
تكلم طارق واستدار خارجا وسط ذهولي الشديد . وقبل ان يصل الباب تكلمت أخيرا :
ـ اخي طارق ..
استدار نحوي :
ـ نعم ؟
فنطقت وكم كانت كلماتي صغيره بل صغيرة جدا أمام كل ما فعله . دموعي انسابت ببطء وانا انظر له بكل امتنان وعرفان بالجميل :
ـ شكرا لك .. شكراً لك على كل شيء .
ابتسم لي بصفاء وخرج واغلق الباب خلفه تاركا هديل معي ونحن لوحدنا في غرفتي ، وهذا ساعتها عنى لي الكثير .
مرت عشرة أيام واستعدت نشاطي وصحتي بالكامل .
اليوم بعد الغداء وبينما ذهب والداه لأخذ قيلوله وهديل أيضا بعد أن استيقظت مبكرا لتدرس ، طلب مني طارق صنع الشاي فدخلت المطبخ ودخل خلفي . صوت نعل حذائه وهو يسير كأنه انغام الموسيقى ، كأنني اجلس في مسرح ضخم استمع لأشهر المقطوعات . يا إلهي ، انا احب هذا الرجل . انا اعشق حتى خطوات اقدامه !
صحوت من شرودي على الشاي يغلي فأسرعت لإطفاء النار وسكبت له القليل من الشاي في كوب . كان يفكر فأنا احفظ حركاته هو يريد التكلم معي ، ولكن ياترى هل تراجع عن حمايتي؟ هل سيعيدني لعائلتي ؟
ـ تفضل الشاي .
ابتسم لي وهو يتناول القدح وقبل ان اسال عن طعم الشاي ، كان قد بصقه في القدح .
ـ سيئ ؟! سأصنع لك واحدا جديدا !
ارتفع حاجبي في توسل له وعندما مررت من قربه لاصنع له شاياً جديداً ، امسك يدي .
ـ اجلسي علا . لم يكن الشاي إلا ذريعه لأتكلم معك .
جلست وانا اترقب . هل هو موضوع اعادتي لأهلي من جديد ؟ وقبل ان ياخذني عقلي في متاهات قاطعني :
ـ توقفي عن الخوف . لقد قررت انك بحاجه لعلاج.
اي علاج هذا الذي يتكلم عنه ؟ ارتفع حاجابي بتساؤل .
ـ علا ، زميلتي استاذه في الجامعه وهي تحمل شهادة الدكتوراه في الطب النفسي .
انتقضت واقفة من على الكرسي :
ـ انا لست مجنونه !
ـ اجلسي علا ودعيني اكمل .
ـ لا اريد !
مررت من جانبه وانا احاول الخروج من المطبخ ولكن يده قبضت على معصمي بقسوه لا أفهمها. لربما لا يقصدها وربما يقصدها ، لا اعلم .
وقف ليطغي طوله على ضآلتي قبل ان يقول :
ـ ما الذي لا تريدينه بالضبط؟ لا تريدين التخلص من رواسب الماضي ؟! ام لا تريدين العيش بسلام ؟!
صمت مطبق مني وانا احاول افلات معصمي من قبضته .
ـ أجيبي يا علا ! هل تعتقدين ان ما مررت به شئ طبيعي ، وخاصه بالنسبه لعمرك الصغير ؟!
وطبعا لم اجب ولم انظر نحوه .
ـ غدا هو الموعد الاول ، الساعه السابعة مساءا . سنذهب معا ولن يكون لك اي عذر بالتخلف .
ترك يدي وغادر المطبخ . أخذت ادلك معصمي الذي يأن . هل يعلم طارق ان قبضته تلك كادت ان تهشم لي عظام يدي ؟ ثم .. انا بخير . لمَ يصر على ان يذكرني بالماضي ؟!
وحان الموعد الاول وانا جاهزه قبل الوقت بنصف ساعة ، كما امر فطارق فهو سيدي ولا اجرؤ على عصيان أوامره . ثم من انا لاقرر ؟ انا مجرد فتاة تُباع وتُشترى .
اقترب مني وانا اقف قرب سيارته وهو يفتح لي الباب الخلفي ، حيث من حسن حظي ان والدته ستذهب معنا لتزور صديقتها المريضه .
ـ لا تكتئبي هكذا ، سيريحك العلاج .
دسست نفسي في المقعد الخلفي دون ان انظر له . انا الان افكر في مشكله خروجي من البيت الى العالم الخارجي . اعلم اني في دوله مجاوره، لكن فلاح يسافر هنا كثيرا ولربما شاهدني . احتمال بعيد جدا ولكنه قابل للحدوث خاصه مع حظي العاثر .
ـ لمَ لا ترحمي دماغك الصغير من كثره التفكير ؟
نظرت له ببطء وقبل ان اجيب فتحت خالتي الباب وجلست قرب طارق .
اخرج طارق السياره وانا اذوب في مقعدي خوفا ونزل ليغلق الباب خلفه وانا لا استطيع السيطره على تنفسي . وعندما بدأت السيارة بالتحرك تظاهرت بالنوم حتى استلقي على المقعد واخفي رأسي فلا يراني احد .
ـ علا ، ما بك يا ابنتي ؟
خالتي تتكلم وانا ابكي بصمت اخاف الخروج من جدران البيت . سور الحديقه بالنسبه لي هو اقصى مكان امن استطيع السير فيه ، لكن ان اتجاوزه الى العالم الخارجي ؟!
العالم الذي شاهدت وجهه المظلم والظالم . لا ! لا اريد !
- انها نائمة ، لماذا ضغطت عليها يا طارق ؟ لو كنت تركتها لتتعافى تماماً .
ـ انا افكر في مصلحتها يا امي .
صوت الباب يفتح والخاله سميه تودعنا بدعاء وتوصي طارق بان يعتني بي .
ـ علا اهدئي ، اعرف انك لست نائمة .
لم اجرؤ على ان اجيبه . نحن لوحدنا باتجاه عياده الدكتورة وهو يتجاهلني لباقي الطريق .
انا أخاف من ان تكتشف كذبتي . مؤكد ستعرف كل شيء عني . انا وفي المقابل استاذه جامعيه تحمل شهادة الدكتوراه في الطب النفسي . الكفة لصالحها هذا موكد . ستجيد التلاعب بالكلمات وعندها سأنفجر وأقول كل شيء . كيف سأتصرف ؟ اريد حماية نفسي من كشف هويتي. لا اريد الخروج من جنه طارق ! ان أعيش كفتاة عاديه طبيعيه هذا اقصى ما أتمنى ، فليته يتركني. انا لا احتاج العلاج ! وماذا لو شاهدني ..
ـ هل ستفكرين طويلاً بعد ، لأنني اقف بالسياره منذ خمس دقائق استمع لاضطراب تنفسك .
ـ لا اريد !
ـ ستفعلين علا لمصلحتك ، انت ستتعالجين لتشفي من جراحك .
ّفتح باب السياره واستقام خارجاً .
اعتدلت في جلستي عندما فتح لي الباب . مد يده فتجاهلتها . خرجت وقبل ان يخطو خطوة .. خطوة واحده بعيدا عني ، تمسكت بذراعه بكلتا يدي نظر لي بتعجب وعندما شاهد خوفي ابتسم لي وربت على يديّ
ـ لا تخافي لن اتركك ابداً .
من سوء حظي كان المصعد معطل ، ونحن سنستخدم السلم للصعود للطابق الخامس . انا التصق بطارق وكأنه توأمي السيامي . اقف خلفه عندما اسمع صوت خطوات على السلم وأمرغ رأسي في قميصه من الخلف ويداي تحيطان بيداه . لا اريد لأحد ما ان يراني .
ـ يا الهي انت مصابه بالرهاب أيضا !
لم اجب ولكني ظللت ساكنه حتى ابتعدت الأصوات فأخذت انظر الى اعلى السلم وانا خائفة من كل هؤلاء الأشخاص الذين يصعدون وينزلون . خطوات من جديد فأسرعت امسك يده وانا انوي الاستداره خلفه
والالتصاق به ولكنه اوقفني . وبحركه مباغته وضع يده على صدري يتحسس نبضات قلبي المتسارعة .
ـ اهدئي ، سيقتلك خوفك ! انت شاحبه جدا .
ـ لست خائفة .
ـ اسمعيني جيدا ، دكتوره فاتن ستساعدك على التخلص من هذا الألم .
دخلت العياده بعد رحله العذاب الطويله وانا اصعد السلالم . توقف طارق امام المكتب ليملأ بعض المعلومات باليد اليمنى بينما يده اليسرى كانت محتجزة بين يداي الصغيرتان بكل قوة .
جلسنا على الاريكة متجاورين وانا انظر الى اقدامي ، أحاول إخفاء وجهي بأي طريقة وطارق يراقبني . لم تمض ثواني حتى خرجت الدكتوره . اسمع أصوات حذائها عالي الكعبين وهو يطرق على الأرض ، فيستفزني ويزيد من صداعي .
ـ مرحبا أستاذ طارق ، لقد شرفتني بزيارتك .
وقف طارق لاستقبالها ووقفت انا أيضا ، وانا ما أزال انكس رأسي . ارتجف ودقات قلبي تنبض في رأسي قبل ان تنبض بين اضلعي .
ـ اهلا بك دكتوره فاتن ، لقد جئت اليوم ومعي قريبتي التي اخبرتك عنها .
دفع جسدي للأمام قليلا وهو يقول :
ـ علا اقدم لك دكتوره فاتن .
تجاهلت حركته وعدت اتمسك به . طارق ينزعني الان من الأمان الذي أحاط بي داخل جدران بيته. اشعر وكأنني طفله خائفه . انا فعلا خائفة حد الجنون وصداع رأسي يكاد يطحن دماغي .
كان الاثنان يراقباني ، اشعر بنظراتهما معا فيزيد انكماشي .
ـ تفضلا للمكتب لنجلس براحتنا .
دفعني طارق لأدخل فتصلبت مكاني غير قادره على الحركه . رأسه ينخفض نحوي وهو يهمس :
- علا ، لندخل .
هززت رأسي نافيه . صوت الكعب على الارضيه من جديد ولكنه هذه المره يبتعد ببطء وطارق يتكلم من جديد وهو يمسكني :
ـ هيا تحركي .
دخلنا الغرفه واغلق طارق الباب خلفه . جلسنا على الاريكه وانا اضع يدي بين ساقي ، لا أجرؤ على رفع رأسي ، وهما يتكلمان عن الجامعه وعن القرارات التي استحدثت موخراً، وكأنني غير موجوده . وهذا كل ما كنت اتمناه ساعتها .. ان اختفي من الوجود ! ان اصبح كيانا شفافا فلا يراني احد .
عدت اقرض اصابعي وانا انفث غضبي على ظفري الصغير . لم انتبه ان الاحاديث توقفت الا بعد حين .
ـ علا ، كيف حالك ؟
لم اجب ، وحتى اني لم ارفع رأسي لأنظر لها .
ـ قريبتك جميله جدا يا أستاذ طارق .
ـ جميله من الداخل والخارج يا دكتوره .
رفعت رأسي لأنظر له فشاهدته يبتسم لي وهو يهمس
ـ هل تنوين احراجي امام زميلتي ؟
فهمست له بصوت أوطأ من ان يصل لها :
ـ اخبرتك اني لا اريد !
صمتت بعدها وعدت لأنكس رأسي لتقول الدكتوره :
ـ ما الذي تخافين منه يا علا ؟
ـ انا لست خائفة .
رفعت رأسي بوجهها بتحدٍ لأواجه صوتها المتحدي :
ـ اشعر وكأنك خائفه مني ، فهل شكلي يخيفك ؟!
ارتفع صوتي دون اعي :
ـ اخبرتك اني لا أخاف !
ـ ما الذي يحدث اذن ؟
ـ انا لا اريد .
وصمتت ..
ـ وهل كنت مجبره على المجي هنا ؟!
ـ اجل .
ـ لماذا لم ترفضي المجي اذن ؟!
ابتسمت لها بتهكم :
ـ وهل املك خيارا ؟!
ـ طبعا . كل انسان له حق الاخيار .
ـ هذه الأشياء لا تحدث في العالم الحقيقي .
ـ لمٓ لم تقولي لا وترفضي بكل بساطه ؟
ـ لأنني ملك يمـ ..
وقطعت جملتي . انها تحاول استدراجي ! عدت لصمتي من جديد ولكني لمحت الدكتوره وهي تهز رأسها لطارق وكأنها توافق على شيء ما .
وقف طارق وهو يَقُول :
ـ سأجري اتصالا هاتفيا . لو سمحت دكتوره .
ـ بالطبع تفضل .
وقفت بسرعه وقلبي عاد ليدق بسرعه وانا اتمسك بطارق بعنف دون ان أتكلم .
ـ هل انت طفله لتتشبثي به بهذه الطريقة ؟!
ـ انا لست طفله ولا اريد ان ابقى هنا .
ـ ما الذي تخافينه ؟!
ـ انا لا أخاف ابدا، ولكنّي لا اريد .
وقبل ان تتكلم مجددا رفعت رأسي ونظرت لها عيوني توسطت عيونها بكل تحدٍ قبل ان اكمل :
ـ ثم اني لا أتذكر شيئا .
ـ ربما انت لا تريدين ان تتذكري !
ـ وما الفرق ؟ في كلا الحالتين لن أقول لك شيئاً .
ـ هل تظنين اني سأكشف اسرارك امام طارق ؟
ـ ليس لدي أية اسرار .
التفت نحو طارق الذي كان يقف صامتا قبل ان أقول :
ـ ألم تكن تنوي المغادره ؟
توجهت نظراته نحو الدكتوره فأجابته بإشارة من رأسها :
ـ أراك غدا أستاذ طارق .
ـ حسنا ، الى اللقاء غدا .
كان طارق صامتا طوال الطريق، وانا أيضا . اعلم انه غاضب مني ولكني اظن بانني احسنت التصرف . مؤكد لن ترغب بمقابلتي مجددا .
وصلنا البيت فنزلت انا وذهب هو لوالدته. ركضت الى غرفتي احتضن وسادتي وانا خائفه ارتعش . اول خروج لي من محيط الأمان الذي يحيط بي مر بسلام . ولكن هل سيكتفي طارق بهذا؟!
طرقت هديل الباب وهي تخبرني ان العم خليل يناديني .
ـ اجلسي يا ابنتي .
ما الذي يحدث اليوم يا ترى ؟ وما الذي يريده والد طارق مني ؟!.
يتبع...