كاميليا

By nahla1986

4.4K 154 107

في ليلة واحدة تغيّر كلّ شيء... مع أول قطرة دماء تلاشت مع حبيبات تراب أرضها الآمنة لفظت براءتها الطفولية أنفاس... More

كاميليا...القسم الثاني والأخير

كاميليا...القسم الأول

2.5K 83 66
By nahla1986




بدأت الحكاية بذرّة تربة حمراء، تلتها قطرة من إكسير سماوي عجيب ترافق مع نفحة عذبة تمازج فيها قليل من الضعف وبعضاً من الرحمة...

وعندها..عندها فقط خطّت الحياة أوّل ملامحها...

وأعلن أول نفس لآدم عن أوّل معجزة شهدها الكون...معجزة "الخلق"...

حينئذ تتابعت سلسلة المعجزات إلى عدد لا حصر له وأخذت البشرية بالإستحواذ على كل بقعة على وجه البسيطة...فتنوعّت واختلفت لتشكّل أنماطاً متميّزة وخاصة...بأعراقها...بأشكالها...بألسنتها...بعاداتها وتقاليدها...وبإيمانها...

ترامت أطراف سيطرة البشر في شتّى أنحاء الأرض، فتباعدت معها أطباعهم ومآربهم..فشرعت ذاكرتهم بنسيان أصلهم الواحد وأخذت بالتبدل رويداً رويداً لتتمحور حول مفهوم شريعة لا تمت لوجودهم بصلة..إلّا أنّهم آثروا اعنتاقها لتمسي المرجع الأوحد الذي لا غنى لهم عنه...ألا وهو "شريعة الغاب"...حيث البقاء للأقوى...والهلاك للأضعف...

فأضحى للألوان أحكام...للأعراق مراتب...للألسنة أفضليات...وللإيمان أشكال...

وقسّمت حظوظ الشعوب وأنصبتهم تحت قوانين سنّها من جبل من تراب...وروي من ماء...ونشأ من فراغ...

وبات الإنسان دمية متحرّكة تعبث بها أنامل جشع من عيّنوا أنفسهم آلهة في الأرض حين عميت أبصارهم...وصمّت آذانهم عن إله السماء الأوحد...

فحلّت بهم لعنة أبدية لازال يدفع ديّتها أجيال الحاضر...والمستقبل...

فمتى الخلاص؟؟؟

أم هو السؤال...هل هناك من خلاص؟؟؟

كم من الوقت بمقدور المرء تحمّله من دون أن يحظى بنفسٍ يقيه من السقوط مغشيّاً عليه؟؟؟

لعلّه يعدّ سؤالاً ساذجاً لكثيرين بيد أنّ الإجابة عنه كانت بالنسبة لها حدّاً فاصلاً ومصيرياً منوط بإرادتها التي بدأت تنال منها علائم الإنهيار...فما لبثت أن ضمّت قبضتها الصغيرة المتحجرة بقسوة وبنظرات لم تحد يمنة أو يسرة، تابعت تحديقها المثابر في المشهد الساكن أمامها، لكنّ خطوة وجلة خرقاء ولدت من حماس طفولي طائش عبثت بصمت الطبيعة المهيب فعاثت فيها عاصفة فوضوية نظّمها سرب من طيور أبي الحناء الذي أجفل ذلك الوعل الذي أدرك وفي اللحظة الأخيرة ماهية الخطر المتربص به في هيئة نصل مدبب لمع معدنه من بين أغصان الأجمة المتشابكة، فسارعت قوائمه بنهب الأرض بسرعة ضاهت تلك التي انطلق بها الرمح الذي وقع صريعاً خالي الوفاض بعد انتظار دام طويلاً...

اتسعت عيناها المغزليتين وفغرت فاها بإرتياع قبل أن تنقلّ ناظريها بين الرمح المسلتقي أرضاً بخيبة وظهر الرجل المتصلّب أمامها، فازدردت لعابها بصعوبة وسحبت نفساً احترق صدرها شوقاً له ثمّ عادت لتغلق عينيها بقوّة ولملمت كلّ ما ملكته من جلد وهمست بحذر :"أنا آسفة " قوبل اعتذارها بالصمت لوهلة حتى كادت أن تلفت وتعود أدراجها إلّا أنّ صوتاً عميقاً هادئاً أوقفها قائلاً بهدوء :"كلمة سهلة..أليس كذلك؟؟" التفتت لتنظر في وجه الرجل الضخم الذي نهض من مكانه ووقف بكل وقارته ورصانته التي كانت تنطق بها عيناه الدافئتين رغم جبروت هالته الفريد...فاقتربت منه مطأطئة رأسها بإحترام تشرّب ببعض من القلق وأجابت بحسرة :"لا...ليست سهلة يا أبي...فهي لن تصلح ما حدث ولن تعود بالزمن إلى الخلف لتمنحني الفرصة كي أكفّر عن خطئي، لكنّها جلّ ما أملك!!" تأمّل الرجل رأس الفتاة المكسي بقلنسوة صوفية منسوجة من ألوان عشوائية كانت الغلبة فيها للأحمر والتوت شفتاه بإبتسامة صغيرة قبل أن يحضن ذقنها المنكسّة نحو الأسفل ويرفع بها وجهها مجبراً إيّاها على النظر إليه ومطلقاً تنهيدة خافتة حين لمح ندى مقلتيها المتلألئ وسألها بلطف :"هل هي دموع الأسف أم الخوف يا ويندلين؟؟" أفلتت شهقة حادة من حنجرتها التي كانت تئن ألماً وأجابت بقهر :"بل هي دموع الخيبة يا أبي!! لقد كنت تتربص بذلك الوعل منذ فترة وقد تسببت بتصرفي الأرعن ذاك بخسارتك لصفقة مربحة فيه!!" لاحت عاطفة مبهمة على تقاسيم وجهه المنحوتة بقسوة وانحنى قبالتها حتّى يواجه حجم قامتها الضئيلة مريحاً بكفيه العريضين على كتفيها المرتعشين وردّ بنبرة حازمة :" ليست هذه بخسارة تستوجب تفريطنا بدموع لا تستحقها!! أجل لقد هرب ذلك الصيد منّي، لكن هناك الكثير من الفرائس بإنتظار صبري ورمحي ...لا أريد أن أشهد على دمعة واحدة تنحدر بسهولة من عين ابنتي، فهي غالية وثمنها لا يمكن لشيء على هذه الأرض إيفاءه..هل تسمعينني يا ويندلين؟!!" افترّ ثغرها عن ابتسامة عريضة اكتسحت وجهها البريء بأكمله فإغتنمت إحدى دموعها الفرصة لتلقي بنفسها خارج حصن عينيها المنيع فكان نصيبها أن تحطّ على إبهام خشن الملمس ما كان منه إلّا أن أزالها من الوجود حين إحتوى صاحبه وجنتيها متابعاً بثبات :"لم أغضب منك يا وجه الملاك لإعتقادي بأنّك السبب خلف إفساد صيدي..لكنّي لست مرتاحاً لعدم إدراكي لوجودك وملاحقتك لي طيلة هذا الوقت!! أنت تعلمين بأنّ الغابة ليست بمكان آمن لطفلة مثلك وقد حذّرتك مراراً وتكراراً من ذلك!!" قطّبت حاجبيها وبدأت بشائر التمرّد والسخط تظهر على محياها وهي تعترض بعصبية :"لست طفلة صغيرة يا أبي!! أنا في العاشرة من عمري وقادرة تماماً على مرافقتك إلى الغابة وحتّى إن سمحت لي فسأريك ما الذي أعرفه عن استخدام الرمح!!" زفر الرجل بحدّة وهمّ يقف على قدميه مجيباً بصرامة :"كفّي عن مجادلتي في كلّ مرّة أنهاك فيها عن القدوم إلى هنا يا ويندلين!! مازلت صغيرة والصيد على أيّ حال لم يخلق للفتيات أفهمتِ؟!!!" ومضى متجهاً خارج الغابة نحو القرية، فبدأت تهرول لتلحق به هاتفة بصوت لاهث :"ومن الذي حدّد ما الذي يمكن أو لايمكن للفتيات فعله يا أبي؟؟ هه؟!! دائماً تقول لي لأنّك فتاة لا يجوز..وخطر عليك..وليس بإستطاعتك!!! ما الفرق بيني وبين الصبية في سنّي الذين يرافقون آباءهم في رحلات صيدهم؟؟!!" تابع طريقه بخطوات واسعة وقد على وجهه الجمود وكأنّ سيل كلماتها الحانقة لم يلقى مسامعه المنشودة فتأجج صدرها بنار غضبها الجامح واندفعت لتتسمّر في طريقه وتصرخ بأعلى صوتها بأوداجها المحتقنة البارزة قائلة :"لم لا تجيبني يا أبي؟!! لم تتفادى إجابتي عن سؤالي هذا في كلّ مرّة أطرحه عليك؟!! ألأنّك كنت تريدني أن أكون صبيّاً تفتخر به وتعتمد عليه في إعانتك في عملك ومسؤولياتك؟!!" توقفّت لتلتقط أنفاسها الملتهبة قبل أن تضيف بيأس جشن مشيرة بإصبع مرتعش إلى رأسها :" انظر..لقد قمت بإخفاء شعري الطويل..وإن أردت بإمكاني قصّه ببساطة وستأذن لي أمّي إن أصررت!! كما أنّني أتدرّب كلّ يوم لتحسين مهارتي في الرمي..أعلم بأنّ الرمح مازال ثقيلاً بعض الشيء لكنّي أستعيض عنه مبدئياً بالسكاكين!! وإن شئت فأساعدك أيضاً في حرث الأرض..أنا قويّة يا أبي فقط امنحني الفرصة كي أبرهن نفسي لك!!" ساد الأجواء هدوء مفاجئ تخلله بضع هاجسات وهمسات متفرقة انبثقت من شتّى أعماق غياهب الغابة الدهماء..فأسبلت جفنيها علّها تنجح بإستجماع شتات نفسها التي بعثرتها عاصفتها الثائرة، وحينئذ لم تشعر إلّا ببرودة مباغتة تغلغلت في قبّة رأسها عندما انتزعت قلنسوتها بخفّة لينسدل شلّال خصلات شعرها الجعداء الداكنة على كتفيها ويرتاح أخيراً على طول ظهرها في انتظار نسمات الخريف الماجنة...ففتحت عيناها على اتساعهما بصدمة لتجد والدها جاثياً في مواجهتها حاملاً بين أصابعه ذلك النسيج الصوفي الذي حاكته أنامل والدتها لها بإبتسامتها الحانية التي لم تكن تخلو من بعض الغموض...رفعت يدها تتلمسّ شعرها الطليق وهي تهمس بإستنكار :"لمَ فعلت هذا يا أبي؟؟" التقط خصلة داعبت وجنتها المخملية المتوردة وعلّق بشرود :"لطالما تذمرّت أمّك من نظرات نسوة القرية في كلّ مرّة تترك شعرها حرّاً من دون أن تجمعه بضفيرتها المعهودة..ولطالما كنت أغيظها بأنّهن على حق فهي المختلفة الوحيدة بينهن..ذات لفائف الذهب الأسود، إلى أن جاء من يشاركها الهم وينافسها على مكانها في قلبي في الوقت ذاته!!" أخذت تتأمّله بنجلاويها الحائرتين، فمنحها ابتسامة تقطر عاطفة وأردف قائلاً :" عندما حملت أمّك بك..كان الأمر أشبه بنجم مضيء، يظهر في سماء كلّ ليلة وتحاولين بإستماتة كي تمدّي يدك لتحصلي عليه وتفشلين في كلّ مرّة..وفي ليلة ما تعاودين الكرّة..وتنجحين!! فتبسطي راحة كفّك ليخطف نوره بصرك ويملأ عالمك المظلم القاحل بأمل كان أشبه بالمستحيل!!" أشرق محياها بفضول دمث وسألت بلهفة :"وماذا حدث بعدها؟؟" انحسر شبح بسمته وغامت عيناه بأسى ذكريات مضت مجيباً بنبرة متحشرجة :"حريق...سعير التهم كلّ شيء وقف صامداً في وجهه إلى أن أمسى رماداً منثوراً" صمت برهة غافلاً عن نظرات الفتاة الجزعة إلى أن هزّ رأسه نافضاً عنه غبار ماض لازال جرحه طازجاً لم يندمل، ثمّ مسح وجهه بكفهّ بسرعة وعاد ليقبض على كتفيها الهشين مضيفاً بفخر :"وبعدها ولدت عنقائي بوجهها الذي لم تبخل عليه الشمس بقبلها البرونزية وعينيها اللتان شهدت انعكاس الجنّة من عمقهما...ولدتي أنت يا صغيرتي لأكون أنا أوّل من يلمسك بيدي المعفرتين برماد شعب بأسره...فأضحيت هبّة الإله لي وأغلى ما لدي على الإطلاق!!" ارتجفت شفتاه بإنتهاء كلماته، فأسند جبهته السمراء على جبهتها الرقيقة وهمس بتهدّج :"تذّكري دائماً بأنّي أكثر الآباء فخراً في العشيرة كلّها..فمن حظي بفتاة..يكون قد حظي بالأبدية يا ويندلين...فأنت أبديتي يا ابنتي!!"

أخذت آخر رقاقة خشبية تتهادى بكسل إلى أن استقرّت مع قريناتها المكوّمة فوق العشب الذابل بخنوع أمام نسمات حملت معها وعيداً بشتاء لن يرحم...

ارتفع طرف شفتيه الأيمن بشبه ابتسامة راضية عن صنيعة أنامله المنحوتة بعناية من خشب الجوز الأسود المرمي أمامه كمؤونة الحطب التي أرسله والده لتأمينها كجزء من مسؤولياته التافهة التي اعتاد تكليفه بها في كلّ مرّة يريده أن يغيب عن وجهه لسبب لن يفصح له عنه...سحب نفساً عميقاً مغمضاً عينيه بتسليم قبل أن يفرغ مافي صدره بزفرة حارّة أودع فيها كلّ ما كان يحزّ في قلبه من مرارة وخذلان ثمّ نهض نافضاً بيديه ما بقي علقاً من نشارة عن بنطاله واتجّه نحو منزله ليفتح الباب بعناية فاستقبله مشهد أمّه المنكبّة على طاولة المطبخ وهي تعارك بقبضتيها كرة ضخمة من العجين المتماسك أمام ضرباتها الماهرة المدروسة...وقف يراقبها بهدوء مستنداً بثقل هيكله الممشوق الذي كان لا يزال يتمتّع ببعض نحول صبياني إلى أن لمعت مقلتا عينيه الخضراوين بمكر، فدفع بنفسه مبتعداً عن الباب بخطوات رشيقة خافتة حتّى تسلّلت ذراعاه حول خصرها لتقفز المرأة من مكانها مطلقة صرخة مجفلة حادة وهي تضرب ساعديه بيديها الممغبرتين بالطحين بذعر ما لبث أن تحوّل إلى سخط حين اخترقت ضحكته المرحة أذنيها وهو يقول مهدئاً :"هذا أنا يا أمّي..ألم تعتادي علي إلى الآن؟!!" أدارت رأسها لتنظر إلى وجهه المتغضّن تسلية ودفعته بمرفقها مجيبة بغضب مفتعل :"ألن تكفّ عن حركاتك هذه يا ماتيو؟؟ ظننت بأنّك قد كبرت عن ألاعيبك هذه..لكن من الواضح بأنّني مخطئة!!" منحها نظرته المتوسلة المعتادة التي صمّمها خصيصاً لتذيب قلبها الرؤوم بسرعة قياسية وسألها معاتباً :"وهل تريدينني أن أكبر يا أمي؟؟ ظننت بأنّك تتمنين أن أبقى صغيرك إلى الأبد؟!!" عقدت حاجبيها قليلاً متأملة وجهه الذي أقسمت بأنّه يكاد يعود لطفل في السادسة لا لشاب يافع في السادسة عشر من عمره ثمّ زفرت بإستسلام وألقت بذراعيها حوله وجذبته إلى صدرها بقوّة هامسة بحنان جارف :"ومن قال بأنّك ستكبر في عيني أمّك يا حبيبي؟!! حتّى لو كبرت لتغدو كهلاً يغزو رأسك الشيب وعشت لأراك حينها فلن أتوقف عن رؤيتك كطفلي الصغير!!" ابتسم بدفء وشدّد من احتضانه لجسدها الهش الضئيل قبل أن يبتعد وقد اكتست وجنتيه حمرة الإحراج وليدة بوادر الرجولة التي بدأت بالتسربل إلى روحه وكيانه شيئاً فشيئاً، فتنحنح قليلاً مشيحاً بوجهه عن نظرات والدته المتفهمة وهو يمسح ظاهر عنقه بتشتت ليفطن بعدها بالثقل الذي كان يحمله في باطن كفّه، فمدّ بده باسطاً راحته معلّقاً بتردد :"هذه لك يا أمّي..لقد انتهيت لتوّي من صنعها" كان يتحاشى النظر إليها، فاكتفى بالتركيز على تلك المنحوتة الخشبية الداكنة التي استغرقت منه وقتاً وجهداً ليس باليسير لإنهائها علّه يفلح ببثّ بعض الفرحة النادرة الوجود في قلبها...مضت عدة ثوان من دون أن تظهر أيّ ردة فعل أو حتّى كلمة منها، فرفع رأسه ليصدم برؤية سيل الدمع المنهمر بغزارة على وجنتيها الشاحبتبن وقد تسمّر ناظراها على الزهرة المتفتحة بحرّية فوق راحته فعقد حاجبيه وهمس بقلق جزع :"أمّي؟!!" سرّت داخلها قشعريرة تكشّفت بوضوح من ارتعاش كتفيها فهزّت رأسها وكأنّها تحاول انتشال نفسها من غشية وعيها المباغتة وأخذت تمسح آثار دموعها بظاهري كفيها بسرعة قبل أن ترتسم على ثغرها ابتسامة دامعة كسيرة وهي تمدّ يداها لتلتقط المنحوتة بلطف بالغ مجيبة بعذوبة ملأها الفخر :" هل صنعتها بنفسك يا صغيري؟؟!" تأمّلها بشكّ لبرهة ثمّ أومأ مجيباً بلامبالاة مزيّفة :"إنّها شيء بسيط يا أمي..فإنّي أعلم مدى حبّك لهذه الزهرة وحزنك عليها حين تخلّص أبي منها في حديقة المنزل خلال إحدى ثورات غضبه" كانت تداعب بتلاتها القاسية الملساء بشرود وقد مالت شفتاها بمرارة عندما علّقت قائلة :" لم يدمرّها والدك عن عبث يا بني فلطالما بغض الكاميليا واستغلّ الفرصة ذات يوم ليفرّغ عن مقته فيها" شخص ماتيو في والدته التي بدت وكأنّها تحادثه وهي تبعد عنه أميالاً طويلة أودعتها في عالم آخر تماماً فسألها مشوشاً :"ما الذي تعنيه بأنّه لم يدمرها عبثاً وبأنّه يبغضها؟؟ إنّها مجرّد زهرة يسرّ منظرها كلّ من رآها، فلمَ وجودها يؤرقه في أيّ شيء؟؟" تنّهدت المرأة بتعب وهي تتخذّ الكرسي القابع إلى جانبها مأوى لبدنها المنهك وأجابت بأسى :"قد تكون الكاميليا مجرّد زهرة جميلة عادية، بيد أنها تحمل خلف مظهرها الرقيق هذا رمزية نهضت بأرواح بائسة كثيرة وبعثت داخلها أملاً مقاوماً حتى آخر رمق رغم ضعفه...فهي تنبت بألوان شتّى أبرزها الأحمر والزهري والأبيض لكلّ لون منها معنى وقيمة خاصة تتراوح ما بين الحب..الإخلاص..الوفاء..والسلام المنشود بين أصناف البشر بأجمعها..تنمو في في الشتاء القارس حيث يخمد نبات الأرض ولا تحتاج إلّا لقليل من الدفء والنور لتزهر وتتفتح..إنّها زهرة تحدّت كلّ من آمن بالمستحيل ورضي بالواقع المظلم كحقيقة لا هروب منها!!" اقتحم صفير الماء المغلي داخل القدر النحاسي الباهت خلوة كلماتها فرمش بأهدابه كمن يحاول استحضار حروفه التائهة إلى أن استجمع أفكاره وردّ بإستنكار :"مازلت لا أفهم يا أمي!! ما دخل ماقلته بتصرّف أبي؟!!" رمقته بشهلاويها اللتين خطّهما إجهاد تخطّى سنينها ثمّ نهضت لتحضن برقّة وجنته المخشوشنة بلحية خجولة وهمست بتهدّج :"أصلّي كي لا يأتي اليوم الذي تفهم فيه ما قصدته يا بني" والتفتت متوجهة ناحية القدر لتحركّه برتابة هادئة..

زفر بعصبية متوترة ومضى صوب الباب بخطوات مترددة ليقول بخفوت :"سآخذ دانتي في جولة لبعض الوقت يا أمي..لن أتأخر" وصفق الباب خلفه بقوّة أعلمتها بالأثر الذي تركته كلماتها في نفس ابنها الأصغر، فصدرت عنها شهقة مخنوقة وغمغمت بحرقة :"ليس هناك من أمّ ترغب برؤية براءة فلذة كبدها تقضي في المهد..سامحني يا حبيبي على مواربة باب الجحيم أمام عينيك بيدي!!"

تماوجت نغمات عذبة بعشوائية حالمة وتغلغلت بشقاوة بين ذرّات الريح الدمثة لتحملها معها إلى بقاع الأرض الواسعة حيث المجهول الذي تطوق روحها لإستكشافه في كلّ يوم يمضي...

كانت تشعر بتمكّن البرودة من أناملها المتيبسة حول تلك القطعة من البرونز العتيق الذي بقي صامداً في وجه الزمن بصلابة يحسدها عليها الكثير من الآلات اللامعة الحديثة التي تحاول جاهدة خطف إهتمامها في كلّ مرّة تتقاطع طرقها مع حانوت الآلات الموسيقية..لا..ليس لديها ما هو أغلى من الهارمونيكا خاصتها فهي إرث أبيها لها وإرث والده له من قبلها..

سحبت نفساً طويلاً ومالت بالآلة المستطيلة جانباً لتستدّق النغمة إلى لحن أرقّ وقعاً على الأذن ضمّاً في طيّاته شجناً فريداً أجبرها على إسبال جفنيها والغياب بعيداً بيد أنّ صوت حوافر مسرعة من خلفها انتزعتها من صفوتها عنوة فاستدارت بحدّة إلى الخلف لتتوسع عيناها عند رؤية حصان بني ثائر ينهب الأرض بحوافره وهو يحاول القذف بفارسه المتمسّك بلجامه بقوّة رغم حركاته العنيفة المتقافزة إلى الخلف بجنون..

أفلتت الهارمونيكا من أصابعها لتتدلى من رباطها المتعلّق حول عنقها وهرعت نحوه ملوّحة بذراعيها أمامه موشوشة بهمسات هادئة :"اهدأ أيّها الجميل..ششش..لا عليك..أنت بخير" عادت تمتم بالعبارات ذاتها على ذات الوتيرة إلى أن شعرت به يتنحنح نافثاً أنفاسه المستعرة بلهيب متمرد فمدّت يدها تتلمسّ عنقه المختلجة بتردد فابتعد عنها بإعتراض في بادئ الأمر إلّا أنّها تابعت المسح بكفّها بهدوء ترافق مع كلماتها الخافتة حتّى أخذ يستكين رويداً رويداً ولكز وجهها بخطمه الضخم برفق لتقهقه بجذل طفولي قطعه صوت كان مصدره صهوة الجواد هاتفاً بسخط :"هيه أنت!! ماذا تظنّ نفسك فاعل هنا؟!! ابتعد عن حصاني في الحال!!" رفعت رأسها لتنظر في صاحب الصوت الجلف لولا شعاع الشمس الفج الذي ضرب مقلتيها واضطرها إلى حمايتهما بساعدها وهي تهتف بغيظ :" إن كنت تريد التحدّث فانزل من علوّ ركبك وتكلّم معي وجهاً إلى وجه!!" فوصل إلى مسامعها صوت قدمين يحطّان على الأرض بحركة واحدة فأبعدت ذراعها عن عينيها لتجد أمامها شاب في مقتبل العمر..ممشوق القوام ذو خصر نحيل..جالت بناظريها على هيئته إلى أن التقت بعينيه...لم يكن اختلاف ألوان عيون ذوي "الوجه الشاحب" يثير دهشتها أو إعجابها بشيء، فالأمر لا يتخطى كونه تنوّعاً يتميّز به أي بشري..لكنّ الأخضر الذي سكن مقلتي هذا الشاب نجح في الإستحواذ على فضولها على نحو غريب غير مسبوق..أهما خضراوين فعلاً كما بدوا في النظرة الأولى، أم أنّ ذهب الشمس قد التحم معهما فغدوا ينافسان لمعان العسل في شهده؟؟ عقدت حاجبيها في تركيز واقتربت منه علّها تتمكّن من حلّ تلك الأحجية العجيبة..فتقدّم بدوره خطوة نحوها ممسكاً جنبي خصره قائلاً بنزق :"هل انتهيت من التأمّل بي أيّها الصبي؟!! ألا يكفي تدخلك السافر بيني وبين حصاني؟!!" ضيّقت عيناها بشراسة مجيبة بتحدّ واضح :" لولا تدخلّي السافر كما تنعته لكنت الآن تئن ألماً على الأرض في أحسن الأحوال..أمّا أسوءها كما تعلم فهو ما تستحقه!!" اختلجت تعابير وجهه لتتحوّل إلى غضب جارف فانقضّ يمسك بسترتها الصوفيّة المزركشة بشدّة حتّى شعرت بنفسها ترتفع عن الأرض وبأنفاسه الحارّة ضاربة وجهها بلارحمة وهو يزمجر من بين أسنانه قائلاً :"وتملك الجرأة كي تتشدّق بصفاقتك أيّها المتحذلق!!" حدجته بنظرة بإزدراء ما لبثت أن تحوّلت إلى وحشيّة دفعت بها قبضتيه عنها بكلتي بيديها بكلّ ما تملكه من قوّة فهوت على الأرض لتسقط على مؤخرتها بألم تجاهلته وهبّت منتصبة قبالته بقامتها الضئيلة هاتفة بنقمة :"من الجلي بأنّك لا تستحقّ جوادك هذا أيّها الفظ المغرور وإلّا لعرفت كيفية التعامل معه والسيطرة على فورته التي في الأساس سببها أنت!!"

أخذ يحدّق فيه مصدوماً، فما صدر عن ذلك الفتى ضعيف البنية بما يكفي ليؤذيه بدفعة واحدة بسيطة منه قد أصاب كبد الحقيقة التي لم يشأ الإعتراف بصحتّها..أجل، لم يكن جديراً اليوم بإمتطاء عزيزه دانتي وهو بهذا المزاج العكر والأفكار الخطرة التي تركته أمّه ليقع تحت رحمتها بعد كلماتها تلك...طاف بناظريه على الولد الذي لم يبدو أكبر من تسع أو عشر أعوام على أبعد تقدير برداءه الصوفي الفضفاض..وجهه الناعم الصغير..وجنتيه المتوردتين..من الغضب أم من النسيم الصعيقي..هذا ما لم يستطع الجزم به..إلّا أنّ أكثر ما استدعى حيرته هو عيناه المغزليتان الحادتان المشتعلتان بمزيج من التحدي والعدائية بيد أنّهما تخفيان في عمق أجيجهما الترابي غموضاً أسره وترك في نفسه فضولاً لإكتشاف ماهيته.. التفت ليلقي نظرة على حصانه الذي خمد لهيب تمرّده وبات يجترّ بعض النباتات المجاورة بسكينة، فأغمض عيناه وأطلق تنهيدة انبثقت من جوفه بتوتر وفتحهما ثانية مؤكداً النظر به ليعترف أخيراً قائلاً بمضض :"لا يسعني سوى أن أقرّ لك بصحّة قولك، فأنا لم أكن بحالة تسمح لي بالسيطرة عليه وأنا بالكاد أستطيع السيطرة على نفسي..دانتي حصان وديع ولم يتصرّف بهذه الطريقة معي من قبل!!"

أخذها كلامه على حين غرّة، فلم تكن تنتظر من ذلك الشاب الجاحد المتعجرف بأن يتراجع عن موقفه ويعترف بخطئه، لذا كانت تشحذ لسانها وطبعها الناري كي تضعه عند حدّه..لكنّ كلماته النادمة هذه أدهشتها وتركتها لتستحضر سرعة بديهيتها المعهودة للحظات إلّا أنّها عندما فشلت في ذلك أطرقت برأسها وسألت بجديّة مغيّرة دفّة الحديث :"اسمه دانتي؟!!" انحنت شفتاه للأسفل بابتسامة صغيرة وأومأ برأسه إيجاباً :"أجل..إنّه جوادي منذ أن كنت في السادسة من العمر" عضّت على شفتها لثوانٍ تأمّلته فيها بدقّة علّها تستنبط شيئاً مما يدور في خلده ثمّ سألته مجدداً :"هل أنت من أسميته؟؟" نظر إليها قليلاً قبل أن يلتفت متوجهاً إلى حيث كان الحصان منهمكاً بإلتهام كلّ ما وجده أمامه وأخذ يربت عليه بلطف جعله يميل نحوه بدلال مصدراً صهيلاً خفيضاً نمّ عن رضاه وأجابها بحنين :"كانت ولادته عسيرة للغاية راحت ضحيّتها والدته التي كانت إحدى أغلى الفرس عند أبي..فجنّ جنونه ولم يكترث لمصير المهر المولود حديثاً والذي كان في أمسّ الحاجة إلى الرعاية خاصّة بعد رحيل أمّه!!" صمت لبرهة وتابع بدفء :"أذكر عندما رأيته أوّل مرّة.. كان يحاول الوقوف على قوائمه المرتجفة بإصرار لم أشهده عند أيّ من الأمهرة الأخرى..لطالما هوى أرضاً بعد كلّ محاولة فاشلة، إلّا أنّه لم يستسلم قط وكافح مراراً حتّى نجح في الوقوف..كنت أراقبه دائماً وأشهد تطور حركاته إلى أن قطعت عهداً عليه وعلى نفسي بأن لا أتخلى عنه..وبات أهلاً ليحمل اسم دانتي الصنديد الثابت الذي لا يقهر حتّى يلفظ أنفاسه الأخيرة!!" تسمّرت في مكانها كالمسحورة بعد إنتهاءه.. ولم تكن لتتخلّص من تلك التعويذة الغريبة لولا توجهه بالكلام إليها مردفاً بدماثة :"أشكرك على تدخلك في الوقت المناسب، فعلى الأغلب قد قمت بإنقاذ حياتي وبإعادة دانتي إلى صوابه..أنت فتى تملك موهبة استثنائية في التعامل مع الخيل!!" تحاشت الإلتقاء بعينيه بعد أن شعرت بحرارة شديدة تضطرم في وجنتيها جمعت ما بين الخجل من إطراءه الصريح وما بين كدرها من استمراره بمخاطبتها بصيغة الذكر..يبدو بأنّ طول الشعر أو قصره هو ما يحدد جنس الإنسان في هذه الأرجاء..نفضت عن ذهنها خواطرها التافهة، ألم ترغب بأن يعاملها الجميع على أساس كونها ذكراً لا أنثى؟!! أليست من يصرّ على اعتمار قلنوستها لتخفي خصلات شعرها الأدعج الطويل؟!! فما الذي حدث الآن؟؟ وما الذي قلب موازينها لدرجة أن تتمنى الإفصاح عن هويّتها الحقيقية من دون الحاجة إلى التنكر بلباس لا يعكس ما شاء القدر أن تكون؟!! زفرت بعصبية وهي تجيب على مديحه بخفوت :"لا داعي لتشكرني..يكفي أن لا تمتطيه وأنت لست على سجيتك، فسوف تؤذيه وبالنتيجة ستؤذي نفسك أيضاً، فأرواحهم تتقمّص كلّ عاطفة تترك أثراً في أنفسنا..لا تنسى هذا!!"

طفق يشخص مليّاً بالفتى الذي انقلب حاله على نحو مباغت فتغيّرت تصرفاته..لكن لم يسعه إلّا بأن يعجب بالطريقة التي يحمل بها نفسه وبكلماته التي تضمّ حكمة أكبر من سنّه بكثير فسأله بفضول :"أدعى ماتيو..ما اسمك أنت؟!" تبدّلت ملامحه المرتبكة نوعاً ما بسرعة البرق إلى أخرى حذرة مجيباً بتلعثم :"لا يهم فلا أعتقد بأنّ طرقنا ستتقاطع مجدداً..وداعاً!!" وهمّ لينطلق بإندفاع مريب لولا إيقافه له بإلتفاف أصابعه حول ساعده وهو يهتف بإستغراب :"انتظر!! لما العجلة ؟؟ ما الذي جرى؟!!" وسحبه إليه بسهولة لينظر في عينيه الجزعتين عن قرب مستفهماً إلّا أنّه سرعان ما تجمّد مكانه فاغراً فاه مصعوقاً وهو يحدّق معقود اللسان في وجه الفتى..أو بالأحرى من ظنّه طيلة الوقت فتى..وهو في الواقع فتاة صغيرة فضحتها براءة أنوثة عينيها الوجلتين..صوت لهاث أنفاسها الرفيعة المتقطعة..وتلك الخصلة اللولبية الدهماء التي فلحت بتحرير نفسها من عقال خيوط الصوف المتشابكة فتهادت على كتفها بصمت خشية أن تبوح بسرّ صاحبتها الثمين...فارتخت قبضته عن ساعدها وعاد بخطوة إلى الخلف متمتماً بإعتذار تائه :"اعذريني..لم أنتبه" لكن تقاسيم وجهها المتأرجحة ما بين مذعورة ومرتاعة أكدّت له بأنّ كلماته لم تصل لمسامعها فكاد يكرر اعتذاره لكنّ الثوان خانته وهاهو يقف معدوم الحيلة يراقب طيفها الضئيل وهو يبتعد تدريجياً ليواكب انصهار شمس الغروب الغائرة بين أحضان الأفق الشاسع..

أقفلت الباب خلفها بقوّة وأراحت على كاهله ظهرها المرتعش وهي تعمل بإستماتة على استرجاع أنفاسها المتقطعة بعد ما كان أشبه بماراثون طويل إجتازته بسرعة قياسية وكأنّ وحوش البسيطة بأجمعها قد اتفقت على ملاحقتها لتنهشها وتضع حدّاً لوجودها..

لقد اكتشف ما حاولت إخفاءه بعناية منذ البداية..فضحها خجلها الأنثوي الطفولي وخذلتها قلنوستها المتينة، فرفعت يدها لتخلعها عن رأسها بحدّة مطلقة العنان لخصلاتها المتمردة..ازدردت لعابها بصعوبة ودفعت نفسها عن الباب ملقية بجسدها فوق سريرها الخشبي لتدفن وجهها في كنف وسادتها على أمل بأن تكون ملاذ دموعها التي لم تدري بعد سبباً لها..ترى هل هو الخيبة؟؟ الإحراج؟؟ الخذلان؟؟ أم هو سبب مغاير تماماً لم تدري ماهيته بعد..وعند هذه الفكرة رفعت رأسها وشرعت تمسح بحزم الآثار التي خلّفها الملح على وجنتيها بظاهري كفيها وهي تتمتم بعزيمة :"أيّا كان السبب فهو لا يستحق إسراف دمعة واحدة منك يا ويندلين..لقد قطعت وعداً بذلك!!"

اشتدّت قبضة أصابعها على حامل الجردل الحديدي وهي تتأمّل السماء الكحلية الداكنة بتوجس أعلن سيطرته على قلبها بلا رحمة..

لطالما لاحقتها الأقاويل المتهامسة التي كانت تشيد بقوة حدسها الذي لا يخيب تارة و الذي تذمّ به و بشؤمه تارة أخرى...فاعتبرها العديدون ملكة من الله عليها الإعتزاز بها واحتواءها..بينما لعنها آخرون في السرّ والعلن وتحاشوا لقاءها أينما حلّت خشية من قدر لا يد لها فيه سيحلّ بهم مهما قالوا أو فعلوا...

ارتعشت شفتاها بشجن صامت وبسطت راحتها فوق صدرها حيث يقبع خافقها المجنون خلف قفص يأبى أن يهبه حريّته المنشودة، فبعث بلوعته كعبرات تجمّعت في مقلتيها راجية الخلاص من قدر محتوم، حينئذ تسلّلت إلى أذنيها همسة طفولية عذبة تسألها بقلق :"ما الأمر يا أمّي؟؟ لقد قلت بأنّك ستضعين بعض الماء للدجاجات في القن وتأخرّتي..حتّى أبي قد تأخرّ أيضاً فقد غابت الشمس ولم يعد إلى الآن!!" بلّلت المرأة شفتيها الجافتين بطرف لسانها واستدارت لترى ابنتها تقف خلفها وقد اعتلى ملامحها جزع ارتشفته من سكون والدتها المريب والذي ازداد حالما قرأت ما تخفيه عيناها النديتين من وراء ابتسامة صوريّة لم تنجح بخداعها ولو للحظة واحدة.. أودعت ما تحمل الأرض واقتربت لتجثو قبالتها وترفع راحتها حاضنة وجنتها الناعمة مجيبة بحنان :"ليس هناك من شيء يا حبيبتي..فأنت تعرفين أمّك وشرود أفكارها حقّ المعرفة..أمّا أباك فسيصل قريباً لا تؤرقي نفسك بالقلق عليه" حدّقت ريّان بتمعّن في تقاسيم وجه أمّها الجميل لوهلة قبل أن تردّ بوجل :"لا تحاولي عبثاً يا أمّي فهما حاولت لن تستطيعي إقناعي بعدم وجود الخوف الذي يتربّص بك" لم تتغيّر تعابيرها وبدت كمن كان ينتظر إجابة كهذه منها، فبدأت تداعب بسبابتها حاجب ابنتها الدقيق كعادتها عندما تشعر بالضياع وسط هواجسها ويقينها ثمّ نهضت ملتقطة يدها بثبات وقالت بهدوء :"هيّا بنا لننتظر والدك في المنزل فالريح باردة..وهناك ما أريد أن أحكيه لك"

"لقد فاض الكيل بي و بلغ السيل الزبى!! وعلى هذه المهزلة أن تنتهي الليلة..وإن كان لديكم شكوك أو مخاوف فأنا على أتمّ استعداد بأن أنجز الأمر بمفردي!!!" هدر الرجل بجمع الرجال المتحملق أمامه بترقب مشوّب بحنق بان على محيا كلّ منهم..فأخذ ينقّل بصره الحاد بين وجوههم واحداً تلو الآخر إلى أن هتف أحدهم بقوّة متقدّماً بضع خطوات :"وماذا عسانا نفعل؟؟ فذلك الهندي وأتباعه ممن يصفون أنفسهم ب "السكان الأصليين" لن يتراجعوا عن موقفهم بتسليمنا قطع أراضيهم حتى لو رفعنا ثمنها..هل لديك طريقة لإجبارهم على الإخلاء والنزوح منها؟!!" خلّف سؤاله صمت مهيب خيّم على الأجواء المشحونة بكيان لم يشأ أحد أن يقرّ بوجوده حتّى وضع قائدهم حدّاً له قائلاً بحقد شوّه ملامحه :"منذ زمن ليس ببعيد، لم يفكّر أجدادي وأجدادكم مطوّلاً كي يستولوا على ما هو حقّ لهم ولنسلهم من بعدهم..فما عمّر وحرث بسيل من العرق والدم لا يؤخذ إلّا بهما!!!" بدأ الرجال يتبادلون نظرات ملأهما خليط من الشكّ والتردد، فتابع القائد بنبرة أشبه بالوعيد :"قد منحنا هؤلاء الهمج الكثير والكثير من الرحمة والتساهل حتّى اختلط عليهم الأمر وآمنوا بحريّتهم في تراب لا ملك لهم فيه..لذا وجب الحساب الذي حذّرناهم منه مراراً وتكراراً..فمن معي؟؟!!" تفشّت جلبة من الهمهمات بينهم لبعض الوقت استغّله الرجل لدراسة تفاصيل حركاتهم بتركيز، فاقترب منه شاب متوسط القامة بجسد ممتلئ نوعاً ما و همس جانبه بتوتر ظاهر :"ما الذي تنوي فعله يا أبي؟؟ أنا لا أفهم ما الذي يحدث هنا؟!!" جاءه الرد الساخر من شاب بالكاد يكبره ببضعة أعوام ذو طول فارع وجسد ضخم مفتول العضلات وهو يقول بإستخفاف :"بالطبع لم تفهم شيئاً يا ميلو، فأنت لا تملك دماغاً في رأسك المستدير هذا" التفت الرجل ليحدجهما بنظرة أسكتتهما في الحال، ثمّ عاد ليلتفت إلى الجمع في انتظار نتيجة مداولاتهم إلى أن أعلن رجل منهم بتصميم :"أنا معك يا ألاستير..وجب علينا تلقين أولئك المتوحشين درساً ليكونوا عبرة لأمثالهم ممن يطمعون في سلبنا وأولادنا أراضينا!!" على بعده صوت آخر هاتفاً :"وأنا معكم..انتهى عهد الرحمة ولا شفقة بعد اليوم!!" توالت بعدها الأصوات الداعمة واحداً بعد الآخر لتلتوي شفتاه بابتسامة صفراء مقيتة بعثت بقشعريرة باردة في جسد الشاب المدعو ميلو، فشرع يجول بناظريه على حشد الغوغائيين الذين ازدادت معالم وجوههم شراسة مع ازدياد أعدادهم من الموافقين على خطّة والده التي لم يكن على دراية بتفاصيلها بيد أنّه كان على يقين من كونها سيئة..سيئة للغاية!! فبدأ في الإنسحاب رويداً رويداً من دون أن يفطن له أحد ثمّ شرع بالإبتعاد مهرولاً بأقصى سرعته وهو يهمس بإرتياع منقطع الأنفاس :"عليّ أن أخبر ماتيو..سيعلم ما الذي يجب فعله!!"

أسدلت الستار عن مقلتيها وتركت نفسها تستمتع بسكينة إلى فرقعة أشلاء الحطب المحترق بلهيب نارٍ تفحمّه بلا هوادة..ولم تشعر إلّا بأنامل رفيعة ناعمة تتخلّل خصلاتها المبعثرة بفوضوية فوق حجر أمّها الدافئ ثمّ بكلماتها وهي تستهلّ حديثها قائلة بخفوت :"رأيت طفلة هزمت بحسنها نجم أيزيس فأنارت بضياءها ظلمة الأرض وطغت بعذب بمناغاتها على ترنيم عندليب الحدائق وهديل حسون الغابات..ذات حلقات أبنوسية زيّنت رأسها الدائري الصغير وبشرة خلقت لتكسر أساطير المخمل والحرير..أمّا عيناها فتركتا في نفس كلّ من رآهما حيرة وبلبلة...فهل تراهما أقرب إلى لوز الشجر..أم إلى مغزل الصوف؟!! وماذا عن مقلتيها؟؟ هل تسكنهما سماء الليل الدعجاء؟؟ أم تربة الأرض الخصبة بعد السقاء؟؟ كبرت هذه الطفلة بين ذراعي والديها فاجتمع فيها شمسهما وقمرهما وباتت ضحكتها جنّتهما في حياتهما الفانية..فلم تزداد إلّا بهاء وفطنة يوماً بعد يوم لتغدو مدعاة فخرهما وضمانة سعادتهما" رفعت جفنيها لتحدّق في السقف الكوخ المستدق وهي تحثّها على المضي سائلة :"وماذا حدث للفتاة؟؟" غامت عينا المرأة بأسى خامد لتتجمد أناملها المدفونة بين تلافيف شعر ابنتها وأجابت بوجوم :"رأيت كيف شاءت الأقدار بأن تكمل الفتاة مسيرة عمرها وحيدة بحثاً عن خلاص قد يهلكها يوماً" ثمّ أخفضت بصرها لتلتقي بنظرات صغيرتها المضطربة فابتسمت بهدوء في محاولة لتهدئة روعها وبدأت برسم أنفها برقّة مردفة بأمل :"لكنّي لمحت نوراً غامضاً يلاحقها أينما حلّت وقد كان كفيلاً لكي يغشي بصرها في كلّ مرّة تحاول فيها أن تقع من المتاعب والخطر..كانت تدري بوجوده بيد أنّها أدارت ظهرها له في العديد من المرّات..رفضته..وأبعدته..إلى أن ضاقت ذرعاً به فاستدارت لتواجهه..وعندها توقّف عالمها للحظات كانت أكثر من كافية لتزرع ابتسامة قد جافتها سنوات طويلة..فاختفت معه وتحوّل عندها كلّ شيء إلى دخان أبيض" هبّت ريان لتواجه أمّها وتسألها بحماس مفرط :"إلى أين رحلت؟؟ وماذا فعل بها ذلك النور يا أمّي؟!" اتسّعت ابتسامة المرأة وهزّت كتفاها لتجيب ببساطة :"هذا ما لايعلمه إلّا الله يا ويندلين..قد قلت لك كلّ ما رأيته" تغضّنت ملامح وجهها بظرافة وهي تتأفف هاتفة :"وهل كان ذلك الوقت المناسب لتستفيقي يا أمّي؟!! يا ليتك لم تحكي لي منامك فسيأكلني الآن الفضول لمعرفة مصير الفتاة!!" انحنت المرأة لتحيط بوجنتي ابنتها براحتيها وتلثم جبينها هامسة بحنان :"ستعرفين يا طفلتي..سيأتي الوقت المناسب وسينجلي فضولك هذا"

كم مضى من الوقت وهو يعيد الجملة المخطوطة على الورق العتيق الأصفر نفسها من دون أن يفقه حرفاً واحدا منها؟!! زفر بملل واعتدل من وضعيته المستلقية على فراشه قبل أن يرمي الكتاب من يده بلامبالاة متمتماً بضيق :"يا لك من أبله!! تلقيت لتوّك أكبر درس في حياتك من طفلة لا تتجاوز التاسعة تركتك تبدو كالغبي!!" أخذّ يمشطّ شعره الداكن بأصابعه بعصبية ثمّ هزّ رأسه نافضاً عن نفسه غبرة أفكاره السخيفة وعاد يفتح كتابه على أمل بأن يمنّ عليه سلطان النوم بزيارة مبكرة، لكنّ صوت جلبة عنيفة صادرة من الطابق السفلي انتزعته بقوّة من خلوته فاندفع خارج الغرفة نحو السلم بسرعة ليصطدم بجسد أخيه المرتعد الذي كان يتلعثم بكلمات غير مفهومة وقد شحب وجهه وتعرّق جبينه رغم برودة الجو اللاسعة خارجاً..فأمسك بكتفيه بثبات وسأله بقلق :"ما الذي حدث يا ميلو؟؟ هل هو أبي أم دويل؟؟" كانت ألينا تحدّق بهما بذعر شلّ لسانها وأطرافها في انتظار ردّ ميلو على ماهية المصيبة التي حوّلت أوسط أبناءها إلى طفل صغير هلع..عمّ سكون لم يتخلله سوى شهقات الشاب الخائفة وهو يشخص في وجه أخيه الأصغر بعينين لا تريان، فعاد ميران ليهزّه بشدّة هاتفاً هذه المرة بغضب على وشك الخروج عن سيطرته :" تكلّم يا ميلو!!! ما الذي حصل؟!!" ازداد شحوب الشاب وانهار ما تبقى له من قوّة ليجيب بحشرجة :"لقد حشد والدنا ومعه أخانا دويل الناس لمداهمة الفلاحين من الهنود..لم..لم يفصح بشكل واضح عن نيّته لكنّي أشتّم رائحة دمّ سيسفك يا أخي..أرجوك افعل شيئاً وحاول أن تردعه عن البطش بهؤلاء المساكين فهو يحبك وقد يسمع منك!!" لم تفلح حتّى شهقة أمّه الحادة من انتشاله من الجحيم الذي رمته تلك الكلمات التي تفوّه بها ميلو داخله...دماء ستسفك..مداهمة بيوت..مهاجمة الفلاحين..ارتخت قبضتيه عن كتفي أخيه وتسمّر مكانه للحظات حدّق فيها إلى الفراغ غير أنّه سرعان من تيّقظ إلى الواقع رهيب الذي ينتظر كلّ من يسكن هذه القرية في هذه الليلة الملعونة وهمّ مندفعاً إلى الخارج لولا الحاجز الذي وقف أمامه حائلاً بينه وبين الباب والذي لم يكن سوى والدته التي هتفت فيه بهيسترية :"لا وألف لا..إن أردت أن تعبر هذه العتبة فعليك أن تتجاوز جثتي أوّلاً!!" أغمض عينيه بألم وأطرق رأسه نحو الأرض ليستجمع كلّ ما ملكته سنواته السادس عشر من شكيمة وصلابة وسألها بمرارة :"هل تريدين أن يعيش ابنك سالم الجسد إلى جانبك وأنت تعلمين تماماً بأنّه سيحظى بحياة خاوية تجلد روحه مع كلّ نفس يدخل صدره بسياط اللوم والندم على ما كان بإستطاعته فعله أو محاولة فعله لكنّه كان جباناً رعديداً آثر القبوع مكانه خوفاً على حياته البائسة الملطّخة بالدم والعار؟!!" أخذت تحدّق مصعوقة بوجهه المتحجّر كما لم تره من قبل لتنهمر دموعها بصمت وهي تهمس بلوعة :"أتسألني بأن أفسح لك المجال كي ترمي بشبابك تحت أقدام وحشيّة وجهل والدك ومن تبعه؟؟ أتريد منّي أن أفرّط بفلذة من كبدي قرباناً لعقيدة لا وجود لها لا على وجه أرض ولا في سابع سماء؟!!" ختمت عبارتها منتحبة بحرقة ودفنت وجهها بين كفيها لتجهش بنشيج مزّق نياط قلبه فدنا منها ليضمّ هيكلها المرتعش الضئيل بين ذراعيه وهمس لأذنها بأسى :"لقد ربيتني على أن لا أسكت عن الظلم مهما كلّف الأمر..وعلمتني بأنّ من سمح لقطرة دماء بريئة بأن تروي أرضاً فسيأتي اليوم الذي سيكفّر به عنها بروحه ومن يحب مهما دارت السنين وتغيّرت الأحكام والقوانين..فميزان السماء لا يكترث بقرينه المشوّه على الأرض..دعيني أمضي يا أمّي وإلّا سندفع ثمن تلك الأرواح التي ينوي أبي التضحية بها غالياً!!" رفعت رأسها تمعن النظر بوجه سلامها الجميل فمررت أناملها ككفيف يحاول حفظ تفاصيل معجزة لا أمل له بإبصارها وهمست بتسليم منهك :"حفظ الله روحك لأمّك..وحماك من لعنة والدك العمياء يا حبيبي!!" التقط يدها يلثمها بقوّة وهرع خارجاً ليختفي في عتمة الليل الدامس...

انزلق الكوب من بين يديها واصطدم بقوّة على الأرضية لينسكب ما كان يحويه من الحليب الدافئ الأبيض فالتفت الرجل يرمق زوجته المتسمرّة أمامه فأسرعت ويندلين إليها وانحنت لترفع الكوب المعدني معلّقة ببساطة :"لا تقلقي يا أمّي سأحضر خرقة وسأقوم بتنظيفه بنفسي!!" واختفت، فاقترب الرجل من المرأة التي أنذرت تعابير رعب في وجهها بشرّ قريب عندها أمسك برأسها مجبراً إيّاها على النظر في عينيه وسألها بيقين يخشاه :"ماذا رأيت يا كايا؟!!" أدارت نحوه مقلتيها المخضبتين بحمرة الحسرة وأجابت بكلمة واحدة وصفت قدر شعب بأسره :"الهلاك!!" وقبل أن تتاح له الفرصة بأن يتفوّه بحرف اخترقت صرخة نسائية متوسلة الأجواء الساكنة على نحو مباغت لتتابع بعدها صرخات شتّى تراوحت ما بين مستغيثة باكية وحانقة ثائرة..فاندفع وفتح الباب على مصراعيه ليجد أمامه عدداً كبيراً من ذوي الوجوه الشاحبة وهم يعيثون في مساكن عشيرته وأناسها خراباً وتنكيلاً من كلّ حدّ وصوب، فانطلق يصرخ مهتاجاً :"ما الذي تفعلونه أيّها الأنذال؟!! توقفوا عليكم اللعنة!!" وانقضّ على من كان يقوم بجرّ امرأة على الأرض بعنف من شعرها فبطحه على الأرض وأخذ يلكمه بقبضته التي بدت كما لو أنّها صهرت من فولاذ إلّا أنّ صوتاً جهورياً طغى على الهرج والمرج هاتفاً ببرود رهيب :" إنّه لموقف نبيل منك يا آلو أن تدافع عن شرف وحرمة بيت جارك وابن عشيرتك..لكن أليس من الأجدر لك بأن تقوم بحماية شرفك أنت أوّلّاً!!" تجمّدت أوصاله وأعلنت كلّ خليّة في جسده عن عصيانها لأوامره قبل أن يستدير ببطء خوفاً من حقيقة واقعة قد تذهب بما تبقّى لديه من رباطة جأش ليرتطم بصره بمشهد من انقسمت روحه بين جسديهما علّها تكون كافية ليعيشا عمراً مديداً لا تمسّه لا يد شر ولا ضنك الحياة...كانت زوجته تقف جامدة بشموخ وجلد رغم ضغط ذراع الرجل المؤلم حول جذعها النحيل بتعابير لا تنمّ إلّا عن قوّتها وشدّة بأس إرادتها، بيد أنّ عيناها كانتا تناشدانه بصمت كسير لم يلمحه منذ اليوم الذي فقدا فيه كلّ شيء..ازدرد لعابه بصعوبة وحطّ بناظريه على طفلته التي كانت تجاهد لكبح رعشاتها الهلعة ودموعها المتجمعة بلهفة كي تنحدر على وجنتيها الباردتين لتبثّ فيهما من دفئها الباهظ..حطّ بتركيزه على أصابع الرجل الغليظة التي كانت تعتصر كتفيها بلا رحمة فباتت القشّة الأخيرة التي أطاحت بصوابه فانبثقت من أعماقه زئيراً جائشاً وكاد يطال الرجل لولا تكالب اثنين من الرجال عليه وطرحه أرضاً لكنّ السيطرة عليه كانت كمن يحاول السيطرة على وحش مسعور فانضمّ إليهما آخر لينجح بتثبيته وسط أنفاسه المضطربة المتردة، فاقترب الرجل منه وانحنى إلى أن أمسى على مرمى من نظره وهمس بغل دفين :"أريدك بأن تتلفتّ حولك وتنظر جيّداً إلى أبناء جنسك وهم يتساقطون ضحية طموحك الأخرق وأحلامك التي لا وجود لها إلّا في أساطيركم التافهة..هل تظنّ فعلاً بأنّ عبارة (السكان الأصليين) هذه تعني شيئاً؟؟ إنّها مجرّد ترهات أطعمكم إيّاها أجدادكم كي يخلّدوا ذكراهم المندثرة في عقولكم التي لا تتسع لفكرة واحدة..لم يترك عنادك وتمردّك على أسيادك خياراً لنا سوى إزاحتكم عن طريقنا وممتلكاتنا وإلى الأبد!!" اختلجت عضلات جسده وهو يكابد بشراسة كي يتحرّر من قيده البشري ليفشل فشلاً ذريعاً ويصرخ بلوعة وهو يراقب الرجل يقترب من زوجته ببطء متعمّد متوعداً كالمهووس :"لا تقترب منها أيّها الوغد!!! إيّاك أن تمسّ شعرة من رأسها!! ألاستير..هل تسمعني؟!!! أنهشك بأسناني أيّها الجبان!!! دعها واقتلني أنا!!! دعها!!!" توقّف قبالتها ليلتقط بيده خصلة لولبية ويجيبه بنزق :"بالطبع ترغب بجنون أن تنهش لحمي بأسنانك يا آلو..ليس عندي ذرّة شكّ في هذا..أو ليست هذه نقطة الخلاف بيننا؟! فأنت همجي مكانك بين الحيوانات..لكن لا تقلق فلا رغبة لي بإمرأتك حتّى لو كانت مقبولة الشكل بالمقارنة بأمثالها، لذا شرفك سيبقى بخير إن كان الأمر مهمّاً جدّاً لك!!" ثمّ استلّ سكينه المغمود داخل جيبها الجلدي المربوط بإحكام حول فخذه وتأمّلها قليلاً متابعاً بهدوء :"أمّا دمها فهو حلال علي يا آلو" وبحركة خاطفة غرس السكين في صدرها لتتسّع عيناها بصدمة لوهلة ويتلاشى لمعان مقلتيها الدعجاوين رويداً رويداً إلى أن أسبلت جفناها وارتخى جسدها ليتركها الرجل من خلفها فتخرّ على الأرض وتلفظ أنفاسها الأخيرة على بعد همسة واحدة على مرأى من عينيه الجاحظتين ألماً وحرقة حوّلاه إلى كسيح متبلّد الروح والقلب فهمس بصوت ميّت لشعرها الذي افترش الأرض فداعب أنفه الممرّغ بالوحل :"سامحيني يا حبيبة!!" بيد أنّ صوت نشيج طفولي ضعيف اخترق غمام حداده ودفعه لرفع وجهه عالياً ليرى وحيدته ترتعش بين براثن الشاب الأرعن كورقة شجر خريفية محتضرة وقد تسمّرت عيناها الغائرتين على جثمان أمّها المرمي بلا حراك..لم تصدر أيّ صوت حتّى نسي بأنّ طفلته التي كان يخشى على براءتها من منظر طائر جريح قد شهرت لتوّها مقتل أمّها بدم بارد..فحوّل انتباهه إلى عدوّه الذي ابتسم له برضى شيطاني ملوّحاً بسكينه التي لازالت تقطر من دم زوجته الراحلة ليقول أخيراً :"لست أنا من يترك عملي ناقصاً يا آلو..فلا تجزع لقد حان دورك وآخر من بقي من ذريّتك اللعينة!!" حدّق به لثوان قليلة ثمّ أدار رأسه ليهتف بويندلين بأعلى صوته :"اركضي يا ويندلين!!!" انتفض جسدها عندما ملأ صوت هتاف والدها اليائس كيانها فما كان منها إلّا أن غرست أسنانها في ساعد آسرها إلى أن اقتحم طعم الدم لسانها فأصابتها صيحته المتألمة بصمم لحظي لم تعره اهتماماً واستغّلت فرصة إفلاته لها لتتحدّى قدماها الريح في سباق حياتها الأوّل..فلاحقتها صرخات والدها الهادرة :"اركضي يا ويندلين وإيّاك والنظر إلى الخلف...اهربي يا ابنتي!!!" وفجأة توقفت كلماته ليستبدلها تهديد هائج هاتفاً بقسوة :"لا تعد إلّا وتلك الشقيّة معك يا دويل..امضي أيّها الأخرق!!" تردد صدى عباراتهم المتضاربة بين جدران وعيها الغائب فباتوا مجرد رطانة لغوية مبهمة لا معنى لها في عقلها الزائغ..فمضت هائمة على وجهها لتنساب وسط ظلام لا قرار له...

كانت كلّ عضلة داخله تئن وتستجدي رأفته احتجاجاً على حركاته الحادة اللامبالية بقدرتها الحقيقية واستحالة إنجازها لما طلب منها فعله في وقت قصير...لكنّه أمسى منفصلاً عن كلّ واقع فرض نفسه في حياته مهما بلغت بساطته وأهميته عدا مهمّته التي ضربها القدر على رأسه كالصاعقة والتي للمفارقة المريرة تمثّلت في وجوب سعيه لإنقاذ وحقن دماء مجموعة من الأبرياء العزّل الذي لا همّ لهم سوى توفير لقمة العيش لأنفسهم وأولادهم وذرّة من تراب تستر تشردّهم وضياع هويّتهم..لكن في الوقت ذاته تتمثّل في إنقاذ من هم من دمه ولحمه من إثم لن يغسل عاره ويندثر أثره مهما خلت الأزمان وتوالت العصور بعده...بدأ حريق أنفاسه المحتدمة في صدره يزداد سعيراً كلّما اقترب من ضوضاء النواح والعويل الذي تقشعر له الأبدان إلى أن لمح ألسنة النار المترافقة بأدخنة سوداء ملأت الأجواء السقيمة فباتت أقرب منها إلى الجحيم...فتجمّد مكانه بغتة يحدّق مفجوعاً بجموع الناس بين رجال ونساء وأطفال وهم يتضاربون متهافتين ما بين محاولات لوأد الألهبة المتراشقة في كل الأرجاء..وما بين إخراج من بقي محشوراً بلا حول ولا قوّة في زوايا البيوت المنسية في خضّم هذه الكارثة التي لم تكن في حسبان أحد فيهم..فاندفع يجول بعينيه المسهورتين في الأنحاء بحثاً عن ما يمكنه فعله إلى أن التقطت أذناه صيحة مكلومة صدرت من امرأة شابّة تلطم وتنوح بين أيدي اثنين من النساء أمام كوخها الصغير الذي كانت تتآكله النيران بلا هوادة..فهرع صوبها لتلنقط أذنه جملة واحدة :"طفلي..طفلي في الداخل!! دعوني أذهب إليه ليختلط رماده برمادي..طفلي!!!" فالتفت بسرعة ليصنع قراره في الثانية ذاتها وبخطوتين متقافزتين دلف إلى الداخل فتكالبت عليه حمم صغيرة من الخشب المتناثر بيد أنّه لم يشعر بلسعة واحدة منها هجومها الذي طال كلّ قطعة من جسده..أخذ يتقدّم غير آبه لرئتيه اللتين كانت تتشنجّان بإستغاثة لذرّة من هواء أصبح ضرورة ملّحة لعدم استسلامهما لقدرهما المحتوم...بدأ يضرب بذراعيه الغمامة السوداء التي أخذت بالإزدياد كثافة كلّما مضى خطوة واحدة حتّى أعلن جسده الهزيمة أخيراً فهوى على ركبتيه بقوّة فلقت الخشب المتفحّم تحته فأغمض عيناه بشدّة في محاولة يائسة للفظ دموعه التي تمازجت بين الألم واليأس حتّى طرق باب أسامعه صوت بكاء رضيع موهون فأشرق وجهه وشحذ كلّ مالديه من طاقة لينهض من سقطته متتبعاً الصوت الهزيل إلى أن وجد الطفل يلوّح بقبضتيه الصغيرتين من عمق مهده فسارع يضمّه بين ذرعيه مستعيناً ببطانيته ليحميه من ألسنه النار الطائشة و انطلق نحو الخارج لتستقبله المرأة هاتفة بسعادة من وهب الروح من جديد :"كاليان!!!" فمنحها ماتيو ابتسامة دامعة بين نوبة سعاله الشديدة وسلّمها إيّاه هامساً بلطف :"إنّه بخير..لم يطل مهده النار حتّى" أخذت تستنشق رائحة ابنها التي تعشّق بها عبق الدخان والخراب ثمّ رفعت رأسها لتقول بإمتنان مكسور :"لا يؤخذ أحد في وزر آخر..بنو قومك هم من سلبوا حياتي وحياة عشيرة بأكملها في لحظات قليلة..وأنت أعدتها بأخرى..كان الله في عون قلبك الذي سيحيا بين من خلقوا من دونه!!" رمقها بألم وصدمة وهي تستدير لتمشي وحيدة وتختفي بين الأنقاض المنتشرة فوق الأرض القاحلة وعندها اقتربت منه عجوز منهكة متمايلة على عكازّها القصبي وخاطبته قائلة بصوتها الأجش :"لا تقف ساكناً مشولاً هكذا يا بني..فمهمّتك الأصعب لم تبدأ بعد، ومازال لديك روح أخرى تنتظرك للتكفير عن ذنب لم تقترفه يداك..لكن اقترفه دمك!!" عقد حاجباه بإضطراب وسأل بحسرة :"وهل بقي من شيء لأفعله يا خالة؟! فالدماء قد سالت فعلاً ولم أستطع أن أحول دون ذلك!!" مدّت يدها التي حملت في تجاعيدها تضاريس تاريخ بحاله وغطّت بها قبضته الملوّثة بالرماد والدم وأجابت بهدوء :" هناك من ينتظرك لتكون أمله الأخير..فامضي يا بني ولا تدعه ينسلّ من بين أصابعك!!"

أخذت خطواتها بالتباطئ شيئاً فشيئاً كلّما زاد تعبها وتشرّب عقلها حقيقة زوال كلّ ما جعل لحياتها طعماً ومغزى...لم تكن تدري لما تهرب، فما الإستمرار من دون همسات أمّها الشجيّة كلّ صباح وحكايا رؤياها عندما تسرّح لفائف شعرها كلّ مساء..لم الرغبة في أن تسحب نفساً آخر من دون وصايا والدها وكلماته التي تقطر فخراً بوجودها على وجه هذه الدنيا البائسة؟!

"فمن حظي بفتاة، يكون قد حظي بالأبدية يا ويندلين..أنت أبديتي يا ابنتي!!"

توقفت عن سعيها الأعمى نحو خلاص مطموس المعالم، فجثت على الأرض بعد أن أدركت معنى كلمات والدها التي رمت على كاهلها أمانةً ثقيلةً لا طاقة لكتفيها الهشين على حملها..فرفعت يداها المعفرتين بالتراب لتدفن وجهها فيهما مطلقة العنان لدموعها وشهقات لوعتها هامسة بتهدّج :"لمَ حكمت علي يا أبي بحياة حيث لا أنت ولا أمّي؟!! لمَ رميت علي بثقل وصيّة ستجعلني أتمنّى الموت في كلّ لحظة ولا أطاله؟!!" وحينئذ التقطت أذناها طقطقة غصن يابس فالتفتت بحدّة لتجد ذلك الرجل الذي احتجزها بين يديه وهي تقف شاهدة على إعدام أبويها، فهبّت على قدميها متراجعة بتعثر إلى الخلف، فكشّر الرجل عن ابتسامة صفراء غاضبة قائلاً بتشفٍ ظاهر :"هل خلت بأنّي سأتركك وشأنك أيتّها القذرة الصغيرة؟؟" ثمّ رفع ساعده الذي سال منه الدم من ثقبين دقيقين وتابع بحنق :"وهل أترك من تسبب بسيلان قطرة واحدة من دمي الذي يساوي عشيرتك بأجمعها يفلت من العقاب؟! هه؟؟" تسارعت خطواتها العكسية حتّى عقدت عزمها واستدارت لتنهب التراب المتطاير حول نعليها يلاحقها صوت دعساته المنذرة لها بموت مؤكد،فنظرت من خلفها تتحقق أين كان عنها لتتزايد خفقات قلبها مع تقليصه للمسافة التي تفصله عنها أكثر وأكثر..فعادت تستكشف الطريق أمامها لتصطدم بقوّة بحائط بشري فارتدت إلى الوراء بعنف كاد يودي بها أرضاً لولا يدين انتشلتاها من منتصف سقطتها وقامتا بتثبيتها بحزم على قدميها..فرفعت وجهها لتلتقي بحجرين من الكوبالت القاتم كانتا تحدّقان بها بإنهزام غريب..فارتجفت شفتاها وهمست بيأس تائه :"غابت الشمس وغاب معها الذهب في عينيك..فانتهى كلّ شيء" اتسعّت مقلتاه بتشتت قبل أن يصله صوت دويل اللاهث هاتفاً بظفر :"لقد جئت في وقتك يا أخي لتمسك بهذه الحقيرة!!" شخصت به بألم مصدوم هامسة بإستنكار :"أخاك؟!!" شدّد من قبضته على ذراعيها ودفعها خلف ظهره بحسم قائلاً بلهجة آمرة :"لا تتحركي من مكانك!!" قطّب الشاب حاجبيه بعدم فهم واقترب سائلاً بحيرة :"ما الذي تفعله يا ماتيو؟؟ لمَ تخفيها خلف ظهرك؟؟ أم أنّك تريد التباهي أمام أبي بصيدك السهل؟!!" تحجرّت ملامح وجهه ودنا برويّة من أخيه مجيباً بإشمئزاز :"صيد؟؟ أبات البشر حيوانات نقوم بإصطيادها يا دويل؟؟" تبدّلت ملامحه وسحبه من ياقة قميصه الملطّخ هامساً بسخط :"اسمعني أيّها المتحذلق، إن كنت على وشك في تلقيني درساً في القيم الخلبيّة التي تآمن بها فاعفني من ذلك لأنّي لست في مزاج يسمح لي بتحمّلك!! هيّا ابتعد من اغرب من أمامي ولا تعطّلني عن مهمّتي!!" أومأ ماتيو برأسه قليلاً ثمّ لم يلبث أن باغته بلكمة قويّة طرحته أرضاً بأنفٍ ينزف بغزارة وقبل أن تتسنى له الفرصة بإستجماع نفسه من دهشته بادره ماتيو بلكمة أخرى وهو يصرخ بجنون :"مهمّتك أيّها النذل الجبان!!! مهمّتك التي مفادها إزهاق وتشريد أرواح بريئة لا ذنب لها سوى أنها تواجدت في أرض كثر طامعوها؟!!" جاءه الرد مستعجلاً على هيئة لكمة شحن فيها جمّ ثورته وبغضه أودعته على ظهره ليستغلّ الشاب الفرصة ويعتليه منهالاً عليه بقبضته صارخاً بهيستيرية :"عليك أن تشكر أبانا أيّها الجاحد الذي فعل ما فعله كي يضمن حقّه وحقنّا من همج قد يغافلونا في يوم الأيام ويستولوا على كلّ ما هو ملكنا!!" أوقفه بضربة على معدته من ركبته تركته يتلوّى ألماً وانتصب واقفاً وهو يمسح دماء وجهه بساعده وأجابه بإنهاك :"إنّها أرض شاسعة تكفينا وتكفي شعوباً كثيرة لتملأها..لكنّ لغة الدم هي الأسهل أليس كذلك؟؟" وانحنى ليردف بخواء في وجه أخيه المتغضن :"قل لألاستير بأنّه لم يعد له ابن اسمه ماتيو..فقد مات مع أوّل طعنة سكين غرزها الليلة!!" وكال له بلكمة قاضية كانت كفيلة لتغييبه عن عالم الوعي ريثما ينتهي..ونهض ليرى طيف الفتاة يبتعد عن مرمى نظره، فاندفع يتعقبها بذعر هاتفاً :"انتظري!! لا تهربي منّي..أقسم لك بأنّي لن أؤذيك..انتظري فالمكان خطير!!!" مضت عدّة دقائق كاد يفقد الأمل فيها من العثور عليها بين أحراش الغابة الكثيفة لولا أن جذب نظره لمعانٌ غامض فتوجّه نحوه ليرى جسد الفتاة المرمي على الأرض وقد تدلّت من رباط ملتفّ حول عنقها تلك الهارمونيكا النحاسية القديمة التي كانت أوّل ما لفت انتباهه لها في أوّل مرّة تقاطعت طرقهما المتناقضة معاً..فمدّ يده ليزيح بأنامله برقّة خصلات شعرها التي أخفت وجهها البريء خلفها، فأسبل جفنيه بقهر ثمّ دسّ ذراعيه تحتها ليرفعها إليه..فارتاح رأسها المكدوم على صدره وهمس لأذنها بحرقة :"لست الوحيدة التي فقدت جذورها وبقيت يتيمة بلا أهل أو وطن..فمنذ هذه الليلة نتشاطر المصير نفسه"

" اتركها!!! ما تزال طفلة، دع في قلبك قليل من الرحمة!!" جاءه صوت مرتبك جزع ،فالتفت ليرى رجلاً هنديّاً في منتصف العمر ينظر إليه برهبة متصنّعاً الجلد والشكيمة..فاقترب منه مشيراً برأسه على الفتاة الغائبة بين ذراعيه وقال بهدوء :"خذها وارحل من هنا واعتني بها كما لو كانت ابنتك..وحاول قدر المستطاع أن تنتزع الليلة من ذاكرتها المسمومة" أمعن الرجل النظر به بشك وهو يستلم جسد الصغيرة ليجيبه في النهاية :"كان والدها قائدنا الذي انتهى كلّ شيء لنا هنا من بعده..أبسط ما أستطيع فعله هو العناية بها فقد كان يحبّها حبّا جمّا!!" هزّ رأسه بشرود وشرع بالإبتعاد عنهما ليوقفه الرجل قائلاً :"أنت شاب جيد يا بني..ليمنحك الله السكينة التي أهدرها ذووك من الوجوه الشاحبة!" فذبل وجهه بإبتسامة مريرة وأكمل طريقه الجديد الذي خطّه له القدر..

بعد سنوات عشر...

تعالى أصوات الباعة المهللين من حوانيتهم في يوم السوق المفتوح المنتظر كلّ يوم أحد من أوّل شهر ،لتزداد حشود المتسوقين المتلهفين لرؤية سلع طال انتظار انخفاض أسعارها..فما بين خضار وفاكهة حملت في تنوّعها ما خفي عن العامّة في سائر الأيّام..أقمشة نقشت ونسجت وصلت حديثاً من المشرق البعيد مصاحبة لحلي جمعت ما بين فرادة الشكل وغرابته لتتهافت عليها النسوة بعيون متلألئة بحماس وغبطة..وبين ما حفره أبرع النحاتين وما أخرجته أيدي أمهر القزّازين..وفجأة ظهر شاب وسط ازدحام العامّة مباعداً بينهم ليفسح الطريق المغلق لنفسه بإضطراب غير مكترث لشائم كلّ من طالته يداه الدافعتين لكلّ ما صادفته في مساره..لم يمض وقت طويل حين بلغ غايته منقطع الأنفاس أمام حلبة مضمار واسعة متاخمة للسوق المكتظ فجال بعينيه في المكان بسرعة حتّى وقع ناظراه على الشخص المنشود فهرول نحوه هاتفاً بحماس :" ها أنت هنا!!! متأسف جدّاً يا ماتيو فقد سرقني الوقت ولم أستفق إلّا منذ قليل فجئتك على عجل!!" نقر الشاب أمامه بإصبعه على قبعته العريضة الدائرية لتكشف عن ابتسامة المكتومة ونظرة لامبالية من خضراوين داكنين وعلّق ببساطة :"وهل تكون جيمي إن لم تتأخر؟!! قد يختلط علي الأمر وتصيبني الريبة من تقمصّ أحدٍ لشخصك المميّز إن فعلتها وأتيت باكراً يا عزيزي!!" أطرق الشاب رأسه قليلاً وعبث بشعره الأشقر بتوتر قبل أن يعود ويضع قبعته محاولاً إدارة دفّة الحديث عن نفسه قائلاً وهو يتلّفت يمنة ويسرة :"أرى بأنّ العديد قد وصلوا..يبدو بأنّ فكرة اقتناء ريو الجامح في حال نجاح أحدهم بترويضه ناجحة للغاية!!" رمق ماتيو الحظيرة الساكنة خلفه وأجاب بشرود :"يذكرّني ريو بدانتي كثيراً..فقد يظهر للجميع على أنّه جامح كالمسعور..بيد أنّ جلّ ما يحتاجه هو فارس يفهمه..لذا فكائن من كان بقدرته ترويضه، فبالتأكيد سيكون جديراً به وسأكون بدوري مطمئناً على ريو معه!!" أومأ جيمي موافقاً على الرغم من عدم استيعابه للكثير مما يقوله صديقه لكنّه يثق بقوله الحق دائماً، وهذا ما جعله يتنحنح محدّقاً به بتردد.. فحدجه ميران بنظرة جانبية وسأله بإمتعاض :"هيّا فرّغ مافي جعبتك يا جيمي..ما الأمر؟!!" سحب الشاب نفساً عميقاً وقال أخيراً :"لقد التقيت البارحة ليلاً بأخيك ميلو يا ماتيو" لم تتغيّر تعابير وجهه لولا تلك العضلة المدفونة في فكّه والتي تشنجت بوضوح على مرأى منه فضرب بالإرتباكه عرض الحائط وأردف بإلحاح :"لقد اشتاقت أمّك لك..وميلو أيضاً، لكنّه ناشدني كي تذهب لرؤيتها في أقرب وقت ممكن..فقد مضى وقت طويل مذ التقيت بها آخر مرّة..!!" توقفّ عن سيل كلماته مجفلاً حين قاطعه بصوت ارتطام قبضته بالسور الخشبي قبل أن يجيب بغضب :"أنت تعلم تماماً ما الذي حدث في آخر مرّة رأيت فيها أمي!! لقد خلّت بقسمها لي ورتبّت زيارتي في الوقت الذي كان متواجداً به في المنزل كي يراني!! كيف أثق بأنّها لن تعيد الكرّة؟؟هه؟؟ هل قلت ذلك لميلو؟؟!!" زفر جيمي بقلّة حيلة وأجاب مهدئاً :"أتفهم موقفك تماماً يا ماتيو..لكنّها أمّك وهي ضحية مثلك فما عساها أن تفعل أمام أوامر والدك الصارمة؟!! لا تظلمها وتعاقبها على ذنب لا دخل لها فيه!!" أغمض عينيه بألم وهمّ كي يجيبه بيد أنّ صوت صاحب الحلبة الصاخب انتشله من أفكاره المتلاطمة هاتفاً بحماس مفتعل مفرط :"من يملك الجرأة على ترويض هذا الشرس؟؟ من سيحظى بهذا الأسود ذو السلالة الأصيلة والتي تعود إلى أحصنة ملوك وسلاطين بلا فارس؟؟ إن كان لدى أحدكم الثقة والقدرة فليقترب ويجرب حظّه وخبرته!! هيّا يا قوم فالحصان ريو في انتظار فارسه!!" كان الرجل يصدح ببشاشة غريبة وهو يشير إلى الحصان الذي خرج من حظيرته وهو يعاند قوّاده بطريقة بردّت من عزيمة الكثير ممن تجمهر فضولاً وحماساً..فكان تارة يقف على حافريه الخلفيين احتجاجاً على جرّه من لجامه وتارة أخرى يحاول طرح الرجل أرضاً بحركة مباغتة لم يحسب لها حساباً..فاقترب جيمي من ميران وهمس في أذنه بقلق :"ماذا لو تسبب حصانك بإصابة أحدهم أو أسوأ مقتله؟؟ ما نوع المصيبة التي زججت بها نفسك؟!!" أجابه ماتيو ببساطة مائلاً بجسده على السور جانبه :"كلّ مسؤول عن نفسه..وها هو الحصان أمام أعينهم..ليس هناك من شيء أخفيه عن العلن" خلع جيمي قبعته وأخذ يقبض على حفنات من شعره القصير بعصبية حالما رأى أوّل المحاولين يدخل الحلبة بخيلاء هاتفاً :"سترى كيف يروّض جواد مثله!!" فلم يكد يعتلي صهوته حتّى قذف به أرضاً في اللحظة التي تلتها..ليتابع بعدها الشبان والرجال واحداً تلو الآخر رحلوا بوضعيات مختلفة تراوحت ما بين العرج على قدم واحدة و المشي بإنحناء شديد في الظهر سيتطلب وقتاً كي يبرأ من ألمه...فمال جيمي نحو ميران هامساً بيأس :"ألن تأمر بإيقاف التحدّي يا ماتيو؟؟ نحن على هذه الحال منذ ساعات، ما الذي تنتظره..أن يقتل أحد منهم؟!!" أخذ يرتشف من كوبه مجيباً بثقة :"أنتظر فارساً يليق بريو..سيأتي حتّى لو تأخّر فهذه هي فرصته!!" هزّ جيمي رأسه بإستسلام وهو ينظر إلى القادم الجديد وهو يتوجّه ببطء نحو الحلبة..فهتف صاحب الحلبة بجملته المعهودة :"ولدينا الآن متسابق جديد..هل يا ترى سيكون بإمكانك أن تنجح بما فشل به من سبقك من الرجال؟!!" فرفع القادم رأسه منتزعاً قبعته بسلاسة لينزلق من تحتها ضفيرة كثيفة طويلة لتجيب صاحبتها بثبات :"لمَ لا..فأنا لست برجل!!"

يتبع في القسم الثاني...

Continue Reading

You'll Also Like

8.4K 481 21
မချစ်မနှစ်သက်ဘဲအတင်းလက်ထပ်သိမ်းပိုက်ခဲ့သောနန်းထိုက်အပေါ်မုန်းတီးနာကျည်းနေသောနောင်တစ်ယောက်၊ သူမတို့၂ယောက်ကြားကမုန်းတီးမှုတွေကအချစ်စစ်ကြောင့်မုန်းရိပ်တ...
15.7K 532 29
Book 2 of 'Call me, I'm waiting {Joseph Morgan}' Victoria Tonkin, twin sister of Phoebe Tonkin as been left in a coma after a cheating incident betw...
The Lost Son By USSMontana

Historical Fiction

26.1K 306 11
Izuku Yagi doesn't look like his twin sister or either one of his parents. He's bullied by his sister, the bakagou twins, the todoroki twins, Iida an...