٣١) مُفاوضات.

Start from the beginning
                                    

"بلى، سيأتي". 
 
كادت عينا المدير تقفزان من محجريه وكَذا مساعدَيه، رمقني الصغير بأملٍ وليدٍ يخشى الانطفاء وتمتم: 
 
"هل سأراه!". 
 
"نعم، ستراه". 
 
ابتسم بفرحٍ غامرٍ جلَّى طيف الحزن الذي أخمد عينيه وعانقني بامتنان، أفضِّل الموت على أن أخذل آمال هذا الصغير. 
 
... 
 

"أعلم أنك تود مساعدته، لكني لا أنصحك بهذا". 
 
قال المدير ذلك ونحن في مكتبه بعد أن أنهينا مناقشة المشروع الذي سيقوم عليه المصنع، أسندتُ ظهري للخلف وقلتُ وأنا أعقد يديَّ لصدري: 
 
"وفِّر نصائحك". 
 
شبك يديه خلف ظهره وطرق الأرض بقدميه وهو يمشي بهوادةٍ حتى النافذة، غاصت عيناه في ستار الليل الذي ابتلع معالم الفناء الخلفي، رأيتُ انعكاس وجهه على زجاج النافذة وشعرت أن سحنته السمحة تنال نصيبها من ظلام الليل الذي خيَّم على كل شيء. 
 
"ربما يكون أفضل لهما لو بقيا مفترقين". 
 
"لأيِّ شيءٍ بنيتَ هذا الافتراض!". 
 
"الناس ليسوا سواسية". 
 
"ماذا تعني؟". 
 
أدار جسده ناحيتي موليًّا ظهره للنافذة وقال وهو ينظر لعينيّ مباشرةً: 
 
"هل تظن أن شقيقه سيكون مثلك؟". 
 
رفعتُ حاجبي ولم أجب سؤاله المُريب ليُردف تاليًا: 
 
"الأخُ الحنون العطوف الذي قلب الدنيا حين كادوا يفرقونه عن أخيه". 
 
ارتفع حاجبي الآخر وخرج سؤالي مُرتابًا: 
 
"مَن تكون؟". 
 
"من أكون؟ هذا لا يُهم، نحن نتحدث عنك لا عني". 
 
"تلك القصة لا يعرفها سوى أربعة أشخاص، وأجزم أنك لم تكن منهم". 
 
هز كتفيه ومرر بصره بيني وبين عاصم الواقف بسكونٍ وراء مقعدي ثم قال: 
 
"الكلام يتسرب هنا وهناك أحيانًا". 
 
"مر على ذلك وقتٌ طويل، لا يُعقل أن ذاكرتك الهرِمة تحتفظ بذكرى لا تعنيك، إلا إن كان لك صلة وثيقة بالحادثة". 
 
ضحك ضحكةً مكتومة وقال: 
 
"أنت مثلما تقول الشائعات، لا أحد يستطيع الالتفاف عليك، دعني أعرفك على نفسي مرةً أخرى". 
 
ودون أن أعقب على قوله "مرة أخرى"، راقبته وهو يذرع الغرفة حتى وقف بين يديّ وقال: 
 
"أنا أبو دانة، الرجل الذي كان سيكفل أخاك قبل سبع عشرة سنة". 
 
لم يُدهشني كلامه، نلتُ ما كفاني من المفاجآت، أردف: 
 
"لم ننجب أطفالًا أنا وزوجتي، لكن قلبي بقي متعلقًا بالأطفال ففتحتُ هذا الميتم وقدمتُ له كل ما أملك، صحيحٌ أن ما قدمته ليس كافيًا، لكني قدمت لهم ما استطعت من الحب، راقبهم فقط وستشعر أنهم إخوة". 
 
ابتسم حين استشعر التساؤلات العديدة التي أكنها فقال: 
 
"أنت تتساءل عن ابنتي دانة وعما حدث لزوجتي صحيح؟". 
 
"أرحتني من عناء السؤال". 
 
ازدادت ابتسامته توسعًا وحزنًا وقال: 
 
"دانة مجرد لقب، وزوجتي انفصلت عني منذ أكثر من عقد بإصرارٍ مني، كانت تمثل أنها لا تُبالي، لكن ولعها بالأطفال يبين بجلاء في عينيها، لدرجة مكنت من عاش معها لسنوات أن يلحظه، لقد تزوجت بعدي وأنجبت أطفالًا، أنا سعيد لأجلها". 
 
أردف بعد هُنيهة: 
 
"أشكرك يا مروان، حبك النقي وتعلقك بأخيك جعلني أدرك شيئًا". 
 
صمت هنيهة ثم أردف: 
 
"الطفل الذي يُسقى الحب في سنواته الأولى سيعيش مالئًا من حوله حُبًا". 
 
جلس خلف مكتبه وشبك يديه فوقه وقال: 
 
"علمتُ ذلك اليوم أنك فقدت والديك وأنت في الخامسة وانتقلت للميتم بعدها بسنتين، ورغم قسوة الظروف لم ينضب حبك ولا عاطفتك، لا تعلم كم كانت دهشتي حين قدمت عرضك لنا، هل كانت مصادفة! أم حكم القدر! يؤسفني حقًا ما حصل لأخيك، لا يحق لي أن أتكلم ولكن دعني أخبرك شيئًا". 
 
أضاف بكلماتٍ بطيئة: 
 
"كل ما يذهب يمكن أن يعود". 
 
"هل أنهيتَ محاضرتك؟". 
 
أومأ فقلتُ وأنا أضع ساقًا فوق الأخرى: 
 
"لنعد إلى موضوعنا، ستتواصل مع خالة يوسف كما طلبتُ منك". 
 
"لك كل التقدير يا سيد مروان، لكنك لا تستطيع إجباري على الإذعان لطلبك". 
 
"وماذا لو طلبتُ نقل حضانة الصغير إلي!". 
 
لم تخفَ على ملامح الدهشة التي حاول عبثًا إخفاءها وأجزم أن الواقف خلفي يحمل على وجهه تعبيرًا مُشابهًا. 
 
"لا أعتقد أنك تستطيع أن تعتني بطفل في غمرة أشغالك". 
 
قال أخيرًا وسمعت همهمةً تؤيده من عاصم. 
 
"سأعتني به وأحرص على تعليمه وتنشئته حتى يصبح راشدًا". 
 
"بل تريد إعادته لخالته، ألستُ مُصيبًا". 
 
"لماذا تُزعجك هذه الفكرة!". 
 
"أخبرتك، قد لا يكون شقيق يوسف مثلما كنت". 
 
"وماذا تعرف عني! لا تُتعب عقلك المتهالك بتفاصيل تزيده تهالكًا، اعتبرني المسؤول الأول عما سيؤول إليه حال الصبي". 
 
تنهد بتعب وفرك بين عينيه. 
 
"لا أعرف لماذا تصر على إقحام نفسك بأمورٍ لا علم لك بعواقبها، فاليكُن، سأتكلم مع خالته وأحدد موعدًا لتقابلها". 
 
"كان عليك الانصياع باكرًا". 
 
.... 

ركبنا السيارة، أنا وعاصم الذي بقي صامتًا طوال ذلك الوقت، أدرتُ المحرك وأرسلتُ له نظرةً سريعة لأرى وجهًا جامدًا.
 
"بالمناسبة، لمَ لم تأتِ بسيارتك!". 
 
لم يُجب، إذًا فمزاجه متعكرٌ حقًا، تكلم باقتضاب بعد انطلاقنا بدقائق: 
 
"لقد تماديت". 
 
"إذًا فقد جئتَ لتقديم محاضرة لي". 
 
أردف متجاهلًا ما قلت: 
 
"عليك أن تفصل بين عملك وعاطفتك". 
 
"تعلم أنني لا أحب أن يُملي علي أحد ما أفعل". 
 
"لا جدوى من الكلام معك". 
 
"دعنا نلتزم الصمت إذًا". 
 
.... 
 
 
عدتُ للبيت بعد أن أوصلت عاصم واستنشقت الهواء بملء رئتيّ ما إن ترجلت من السيارة، بعد امتلائها بالجو المشحون الذي عقب صمتنا طوال الطريق. 
 
رأيتُ ظرفًا نتأ طرفه من صندوق البريد، لم أُعِره اهتمامًا وصعدت الدرج الأمامي لأدخل، ولكن شيئًا ما جعلني أتوقف وأعود لالتقاط الظرف، نظرت لاسم المُرسل، ورسمتُ ابتسامةً ساخرة، مرّت ثلاثة أسابيع على لقائنا، أخرجت الرسالة وقرأتها. 
 
أعدتها للظرف، ورفعت أنظاري للسماء، لنصف القمر الذي شق السواد مثل بتلة ياسمين، تريد رؤيتي، ولا أملك الشجاعة للقائها، ظننتُ أنني أحكمتُ وِثاق قلبي في آخرِ لقاء، وسأقف أمامها بعنجهيةٍ حمقاء، وملامحَ مُستعارة، وبكلماتٍ مسروقةٍ أنهي كل ما لم يبدأ، وأترك بقاياي عندها، ثم أغيب عن ناظِرَيها.. 
 
خطوتُ على العشب الرطب الذي يغطي أرضية الحديقة التي تحيط البيت، وصعدت الدرج الأمامي وأنا أحشر الرسالة في جيب معطفي بإهمال. 
 
سألقاها للمرة الثانية..  والأخيرة.. 
 
..
..
..

أشِقّاءWhere stories live. Discover now