٣١) مُفاوضات.

Beginne am Anfang
                                    

 
"إن كنت ستتلكأ فابقَ هنا". 
 
"لمَ لا تدع فارس ينوب عنك؟". 
 
"هذا مستحيل". 
 
تنهد وهو يراقبني وأنا أهم بالمغادرة، يفقد صبره أحيانًا لكنه يلبث صامتًا ويتبعني دون اِعتراض. 
 
أوقفت السيارة بعد أن استغرقت نصف ساعة في الطريق أمام سورٍ طوبي، ترجلت من السيارة، وتبعني عاصم وعبرنا من بوابة السور المفتوحة وسرنا على الممر المؤدي لباب المبنى حيث يقف مدير الميتم واثنين إلى جانبَيه، هبط درجات المدخل قبل أن أصلها وصافحني بمودة. 
 
"إنه لشرف لنا أن تأتي بنفسك أيها المدير، أعذرنا لو بدر منــ.. 
 
"لا داعي لهذه المقدمات". 
 
ابتسم ابتسامةً يداري بها جملته المبتورة وأفسح لي كي أدخل وهو خلفي. 
 
حلقت ببصري في الردهة، الجدران عارية والأرضية مبلطة بالأسود والأبيض، وطلاء السقف كما لو لم يتغير منذ نشأة البناء، نظرتُ للمدير وقلت: 
 
"مثيرٌ للاشمئزاز". 
 
تدارك دهشته من كلامي سائلًا بحيرة: 
 
"لم أفهم!". 
 
"هل تظن أن هذا المكان التعيس جيدٌ لتنشئة الأطفال!", 
 
لم يتنحنح عاصم هذه المرة إذ نال ما كفاه لليوم، أجاب أحد الرجلين اللذين كانا مع المدير: 
 
"لقد قدم المدير كل ما لديه للعناية بالأطفال، فالمساعدات الحكومية بالكاد تطرق أبوابنا". 
 
"سأصدقك لو قلت هذا قبل عشرين سنة، حين كانت الأعين غافلةً عما يجري داخل الأسوار". 
 
"هل جئت لتقديم المساعدة أم إعطاءنا محاضرة نحن في غنى عنها!". 
 
قال بحنق وصوته يعلو، فهدأه المدير ونظر لي وقال: 
 
"أرجو أن تعذر مساعديَّ يا سيد مروان". 
 
"أين هم؟". 
 
سألتُه غير مبالٍ باندفاع مساعده قبل ثوانٍ فأشار بيده للأعلى وهو يقول: 
 
"خشينا أنهم سيُحدثوا جلبةً ويزعجوا حضرتك". 
 
وصلتني كلماته الأخيرة وأنا أصعد الدرج، لحق بي عاصم وتبعنا المدير ومساعدَيه، كلما اقتربت من الطابق العلوي علا صخب الأطفال، لكن موجةً من الهدوء اعترتهم حين رأوني، تجمدت ملامحهم وسكنت حركاتهم وهم ينظرون إلي بانبهار، هذه العيون التي لا تتطلع للغد، والملابس الرثة التي اهترأت لكثرة الغسل، رؤيتهم أعادتني عشرين سنةً للوراء، حين وطأت قدميَّ ذلك الميتم للمرة الأولى. 
 
اقترب مني أحد الأطفال وشد طرف كم معطفي وعيناه تتأملانه بغبطة. 
 
"يزن!". 
 
ارتعد حين وصله اسمه مغلفًا بتلك النبرة الساخطة وتراجع للخلف، لطالما نشأ أطفالٌ مرعوبين من أسمائهم التي لا تُلفظ إلا بجلفة، نظرتُ لصاحب تلك الصرخة الذي كان المساعد الآخر للمدير، فأحسّ بفداحة ما فعله من الشرر الذي تطاير من عينيّ. 
 
"يا لها من عناية!". 
 
تأسف المدير نيابةً عن مساعده وأعدت بصري لذلك الطفل لكني لم أرَه إذ تجمع حولي باقي الأطفال وتداخلت وجوههم ببعضها، تقدم المساعد ليبعدهم عني لكن المدير أوقفه بإشارةٍ من يده، جثوتُ أمام الأطفال على إحدى ركبتيّ وعكفت الأخرى لأكون في نفس مستواهم. 
 
"هل أنتم بصحةٍ جيدةٍ أيها الصغار؟". 
 
انشرحت وجوههم واتسعت ابتساماتهم حين طرقت مسامعهم نبرتي الدافئة وأجابوني بإيماءاتٍ فرِحة، لم تغِب عني نظرات الدهشة التي اعتلَت أوجه أولئك الثلاثة إثر تحولي المفاجئ، اقترب أحد الصغار من يميني وقال وهو يرفع لعبةً على شكل سيارة: 
 
"إنها لا تعمل كيفما حاولت إصلاحها". 
 
"أرِني". 
 
قلت وأنا أتناول منه اللعبة، كانت قديمةً منزوعة الطلاء لا مكان لها إلا في سلة المهملات، قلت وأنا أتفحصها وأحدجُ أولئك الثلاثة بنظرةٍ نارِيَّة: 
 
"ألم تطلب منهم لعبةً جديدة؟". 
 
قال باستياء: 
 
"ولكنها الشيء الوحيد الذي بقي لي من أمي". 
 
وقر صدى كلماته في قلبي عميقًا، تجاهلتُ تلك المشاعر التي مَلَّها قلبي وأنا أسأله عن اسمه فأجاب: 
 
"شادي". 
 
"هل تسمح لي باستعارة لعبتك يا شادي؟". 
 
"لماذا؟". 
 
"لا تقلق، سأصلحها وأعيدها لك مثلما كانت، اتفقنا؟". 
 
ابتسم ابتسامةً واسعةً وأومأ بحماس، بعثرت شعره القصير وقلت: 
 
"أحسنتَ بحفاظك عليها". 
 
شعرتُ بنقرٍ خفيفٍ على كتفي الأيسر فنظرتُ لصاحب تلك اليد الصغيرة الذي قال بخجل: 
 
"كان أبي يفعل لي هذا". 
 
قال مشيرًا لما فعلته لشادي، فمددت يدي وبعثرت شعره بحنان وقلت له: 
 
"عليك أن تكبر وتدرس بجد ليكون أبوك فخورًا بك". 
 
ازداد التمام الأطفال حولي واخترقت أصواتهم الصاخبة طبلة أذني، لكني لم أتزحزح من مكاني، أستمع إلى شكاويهم وأجيب أسئلتهم البريئة، ولمحتُ من بينهم ولدًا ضئيلًا بدا أصغرهم، طلبت منهم أن يُفسحوا له مجالًا ليقترب مني فأذعنوا لي واقترب بخطى بطيئة وعيناه مصوبتين نحو قدميه، رفعتُ رأسه لينظر إلي ورأيت عينين أخمد الحزن وهجهما، سألته: 
 
"ما اسمكَ يا بطل؟". 
 
احمرت وجنتاه وقطب حاجبيه وذكرتني رؤيته هكذا بطفلٍ كان لا يطيق الابتعاد عن جناحي، تمتم بصوتٍ خفيض: 
 
"يوسف". 
 
"يا له من اسمٍ جميل!". 
 
"أخي من سمَّاني به". 
 
قال بصوتٍ متهدج ثم احمر وجهه وتغضنت ملامحه وأصدر أنينًا مكتومًا متألمًا تحول لنشيجٍ عالٍ، أحطته بذراعي ومسحت على شعره الناعم. 
 
"لا بأس عليك". 
 
تقدم المدير وهو يقول: 
 
"لقد وصل هذا الطفل قبل أشهرٍ قليلة، كانت خالته تعتني به هو وشقيقه لكنها تعرضت لظروفٍ لم تسمح لها بالعناية باثنين". 
 
أبعدت الصغير عني قليلًا لأرى وجهه المندى بالدموع، مسحت دموعه التي لم تتوقف بإبهامي وأنا أقول له: 
 
"هل تريد أن يرى أخوك هذه الدموع تغطي وجهك!". 
 
"لـ لكه لـ ليس هنا". 
 
تكلم بأسى بين شهقاته فأجبته بابتسامة: 

أشِقّاءWo Geschichten leben. Entdecke jetzt