٢٩) أطـلال.

Start from the beginning
                                    

"سمعتُ بهذا مؤخرًا..". 
 
أجبتُه بذلك كاسيًا صوتي بذات الجدية. 
 
"هل تعلم أنه مات مقتولًا؟". 
 
رفعتُ رأسي إليه مشدوهًا، فأومأ مؤكدًا كلامه، وأردف: 
 
"اقتحم بيته لص وطعنه حين اعترض سالم طريقه، هذا ما نشرته الصحافة، لكن هناك أقاويل أخرى". 
 
"أقاويل؟". 
 
نظر لي بتمعنٍ وقال: 
 
"يقولون أن زوجته قتلته". 
 
ترصدني مترقبًا رد فعلي الذي جاهدتُ ليكون هادئًا، قال بهدوء: 
 
"قل لي، هل كان لهجومك عليه آنفًا علاقة بزوجته؟". 
 
غرقتُ بأنظاري في ذلك السائل القاني الذي لم أرتشف شيئًا منه ودون أن أجيبه. 
 
"لم تحتمل وطأة ما يُقال عنها فجاءت هي وأبناءها لهذه المدينة، وهي مدينتها الأم حسب ظني. ". 
 
"ألسنة الناس لا ترحم...". 
 
"مروان، أريدك أن تعتني بعائلة المغدور..". 
 
"لماذا تطلب هذا مني؟". 
 
"لأنك الوحيد الذي عليه فعلها..". 
 
تدافعت في ذهني مشاهد متفرقة، وتذكرت ما كنت قد نسيته تمامًا لأكثر من أسبوع، الطفلان، المتجر، والمظلة المغمورة بالماء، ومحادثة مشابهة مع البائع، و... 
 
هل يمكن؟ 
 
اتسعت حدقتاي وأسندتُ جبيني بيدي وذهني يصول ويجول في الاحتمالات. 
 
"ما بك؟". 
 
رفعتُ رأسي إليه وسألته بوجل: 
 
"هل لديها ولدان؟ وتسكن في حي البساتين؟". 
 
"لستُ متأكدًا بشأن أولادها، ولكنها تسكن ذلك الحي كما قلت". 
 
هززتُ رأسي وقلت هامسًا: 
 
"لا تكف تلك المرأة عن إدهاشي..". 
 
غادر رافع، وانغمستُ في العمل طوال ساعات ذلك النهار الطويل واضطررتُ للعودة للبيت حين غربت الشمس، اعتدتُ أن أكون آخر المُغادرين، وآخر التواقين للعودة للبيت، فلا أحد يتلهف لعودتي، لا أحد يغمرني في أحضانه سوى الوحدة التي اعتدتُها وألِفتُها، هذه حياتي منذ سنوات، وحيدٌ يعيش على أطلال ماضيه.
 
عدتُ للبيت قرابة العاشرة، وظلال الليل تهيمن على المدينة، دخلتُ للبيت أجر خطاي بتعب، علقتُ معطفي، وسرتُ نحو الطابق العلوي يحفني الصمت من كل جانب، دخلتُ غرفتي وخلعتُ سترتي لأضعها على ظهر كرسي المكتب، جلستُ على الكرسي بنِيةِ الكتابة، ووقع بصري على شيء بُني نتأ من إحدى الأدراج، فتحت الدرج فسقط ذلك الشيء أرضًا، التقطتها، المفكرة الجلدية، نعم، ما زلت أحتفظ بها، فتحتها فأفلتت من بين صفحاتها صورتين واستقرت في حضني، رفعتُهما لمستوى بصري وعانقتُ من فيهما بعينيّ، همستُ بحنين: 
 
"كيف حالكما؟". 
 
باتت مشاهدة الصور القديمة إحدى هواياتي، أتأمل قسماتهما الضاربة في البُعد وأتحدث معهما ولا يبادلني الحديث سوى الصمت، لا شيء غيره بات يجيبني، لا شيء غيره يحتضن أسئلتي وأجوبتي.

"هل اشتقتُما لي مثلما اشتقتُ لكما؟ ".

صار المجال الذي أعطيه لهما مضاعفًا، فواحد زائد واحد يساوي اثنين، أردفتُ بصوتي الهامس العاتب:

"لقد كبرت، وأنتما لم تكبرا، صرتُ طويلًا ونبتت لي لحية وأنتما ما زلتما طفلَين.. ".

الصور لا تتحدث، ولكن بدا لي أنهما يودّان الكلام غير أن حاجز الزمان أخرسهما للأبد.

"لم أعُد أبكي، لم يبقَ لي دموعٌ لأذرفها، ولو أن الذكرى تنساب مع الدموع ولا تعود لبكيتُ لآخر عمري، ولكن لا جدوى من البكاء".

تبادر لذهني ذلك الحلم الذي رأيته في ذات الليلة التي التقطنا فيها هذه الصور، تلك الشابة المُتألقة، وكلماتها التي لم تغادر ذهني.. كُن قويًا.. لا تبكِ كثيرًا، أسفٌ أيتها الشابةُ الغريبة، لكني بكيت حتى انحفرت أخاديدٌ على خدَّيّ، ولكن أين وعدكِ لي بمسح أحزاني! ما دمتِ قد تنبأت بأتراحي، ألا تتنبأي بأفراحي؟ أعدت الصورتين للمفكرة ووضعتُها جانبًا..

سأنتظرك..
 
أعددت ورقة وكلماتٍ لأكتبها، ماذا أكتب؟ راودتني فكرة الكتابة لها لكن عقلي لم يتعمق في تفاصيل الرسالة، لم أكتب لها منذ مدة، لم يكن ذهني المشوش ليسعفني على انتقاء الكلمات.
 
زفرتُ بتعبٍ وأنا أنقر سطح المكتب بقاعدة القلم، هل أعتذر على انقطاعي؟ أم أسألها عن حالها وحسب؟ هل أخبرها أنني قابلتُ ولدَيها مصادفة؟ أم أخبرها بأنني مللتُ التظاهر بأنني حي؟ 
 
أسندتُ ظهري للكرسي ورفعتُ رأسي للأعلى، ليست أول مرةٍ أكتب لها فَلِمَ هذه الحيرة!  
 
قررتُ أنني لن أكتب، وعوضًا عن ذلك سأزور حيها لأتأكد من شكوكي، أو ربما لألمحها من بعيد، ابتسمتُ بسخرية حيال الفكرة الأخيرة. 
 
هل ما زلتَ تحبها؟ 
 
وددتُ أن أضحك على تلك الفكرة، لكن فكي المتصلب لم يقوَ على إطلاق الضحكات، أغمضت عينيَّ مُستحضرًا منظر ذلك الفتى والفتاة وهما جالسان على كرسي الحديقة، يتحدثان ويضحكان، كانا نصفَ ممتلئين، والنصفُ الآخر منهما يغمره الخواء، هل بقي منكما شيءٌ يا تُرى؟ 

..

-----------

أخيرًا عُدنا للحاضر.. 🖤

كانت رحلةً طويلةً ومُتعبةً فعلًا..

توقعاتكم لما بقي من أحداث؟

أراكم الاثنين بإذن الله 💜

أشِقّاءWhere stories live. Discover now